الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [في الفرق بين النصح بالعيوب للرجوع عنها والتوبيخ والتعيير بالذنب]
(*)
ومِنْ هذا الباب أن يُقال للرجل في وجهه ما يكرهُه، فإنْ كان هذا عَلَى وجه النُّصح فهو حسنٌ، وقد قال بعضُ السَّلف لبعض إخوانه:"لا تَنْصحْني حتى تقول في وجهي ما أكرهُ".
فَإِذَا أخبر الرجل أخاه بعيبه ليجتنبه كان ذلك حسنًا، ويحق لمن أُخبر بِعيب من عيوبه أن يعتذر منها؛ إِن كان له منها عُذر، وإن كان ذلك عَلَى وَجْه التَّوبيخ بالذنبِ فهو قبيحٌ مذمومٌ.
وقيل لبعض السَّلف: "أتحب أن يُخبرك أحدٌ بعيوبك؛ فَقَالَ: إِن كان يريدُ أن يُوبِّخني فلا".
فالتوبيخ والتعييرُ بالذنب مذمومٌ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُثرَّب الأمَةُ الزانيةُ مع أمره بجلدها (1)، فتُجلد حَدًّا ولا تُعيَّر بالذنب ولا تُوبَّخ به. وفي الترمذي وغيره مرفوعًا:«مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» (2). وحُمِل ذلك عَلَى الذنب الَّذِي تاب منه صاحبه.
قال الفُضيل: "المؤمن يستُرُ وينصَحُ، والفاجر يهتكُ ويُعَير".
(*){ليست في الأصول} .
(1)
أخرجه البخاري (2152)، ومسلم (1703) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه الترمذي (2505) من طريق خالد بن معدان عن معاذ بن جبل به. وقال: قال أحمد: من ذنب قد تاب منه. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل. ونقل البرذعي قول أبي زرعة الرازي في "سؤالاته" (1/ 584) وقد سئل عن هذا الحديث وغيره من رواية ثور عن خالد بن معدان عن معاذ: كلها مناكير، لم يقرأها عَليَّ، وأمرني فضربتُ عليها.
فهذا الَّذِي ذكره الفُضيل من علامات النُّصح والتعيير هو أن النُّصح يقترنُ به السترُ، والتَّعيير يقترنُ به الإعلانُ، وكان يقال: "من أمر أخاهُ عَلَى رءوس الملأ فقد عيَّره، أو هذا المعنى.
وكان السَّلفُ يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عَلَى هذا الوجه، ويُحبُّون أن يكون سرًّا فيما بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النُّصح، فإن الناصح ليس له غَرَضٌ في إشاعة عُيوب من ينصحُ له، وإنما غرضُهُ إزالةُ المفسدةِ التي وقع فيها.
وأما الإشاعة وإظهار العيوب فهو ممَّا حرمه الله ورسوله، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} (1) الآيتين.
والأحاديث في فَضْل السرِّ كثيرة جدًا.
وقال بعضُ العُلَمَاء لمن يأمر بالمعروف: "اجتهد أن تستر العُصاة، فإن ظهور عوراتهمْ وَهَنٌ في الإسلام، وأحقُّ شيءٍ بالستر: العَوْرة". فلهذا كان إشاعةُ الفاحشة مُقترنة بالتعيير، وهُما من خِصَال الفُجار، ولأن الفاجر لا غَرَض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للمعائب والنقائص، إِنَّمَا غَرَضُهُ في مُجردِ إشاعة العيب في أخيه المؤمن، وهتْك عرضه، فهو يُعيد ذلك ويُبديه، ومقصودُهُ تنقُّص أخيه المؤمن في إظهار عُيوبه ومساوئه للناس ليُدخلَ عليه بذلك الضَّرَرَ في الدُّنْيَا.
وأما الناصحُ فَغَرضُهُ بذلك إزالةُ عيب أخيه المؤمن باجتنابه له، وبذلك وَصَفَ اللهُ تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
…
} (2) الآية.
ووصف بذلك أصحابه فَقَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (3).
(1) النور: 19 - 20.
(2)
التوبة: 128.
(3)
الفتح: 29.
ووصف المؤمنين بالتواصي بالصحر والتواصي بالمرحمة.
وأما الحامل للفاجر عَلَى إشاعة السوء (وَهتكِهِ)(*) في القسوة والغلظة، ومحبة إيذاء أخيه المؤمن، وإدخال الضر عليه، وهذه صفةُ الشيطان الَّذِي يُزيِّن لبني آدم الكفر والفسوق والعصيانَ ليصيروا بذلك من أهل النيران، كما قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (1).
وقال بعدَ أن قصَّ علينا قصَّته مع نبي الله آدمَ عليه السلام ومَكرهُ به حتى توصَّل إِلَى إخراجه من الجنة: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} (2).
فشتَّان بين مَنْ قصدُهُ النصيحة وبين مَنْ قَصْدُهُ الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا عَلَى من ليس من ذوي العقول الصحيحة.
…
(*) الهتكة: "نسخة".
(1)
فاطر: 6.
(2)
الأعراف: 27.