المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أعجبه نحو الرجل أمره بالصلاة". وقال ثابت: "كان رسول الله صلى - مجموع رسائل ابن رجب - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى

- ‌فصل: [فيمن أراد بالنصيحة للعلماء النصح لله ورسوله ومن أراد التنقص والذم وإظهار العيب وكيفية معاملة كلٍّ منهما]

- ‌فصل: [في الفرق بين النصح بالعيوب للرجوع عنها والتوبيخ والتعيير بالذنب]

- ‌فصل: [في عقوبة من عير أخاه بالذنب]

- ‌فصل: [فيمن يظهر النصح ويبطن التعيير والأذى وأن ذلك من صفات المنافقين]

- ‌فصل: [فيمن أصابه أذى ومكر أن عليه أن يصبر وأن التمكين سيكون له بعد صبره]

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌الباب الأولفي ذكر عبادتِهِ واجتهادِهِ وتهجُّدِهِ وبكائِهِ وإخفائِهِ لذلك

- ‌الباب الثالثفي ذكرِ زُهدِهِ في الدُّنْيَا وقناعتِهِ باليسيرِ وبُعدِهِ من الإسراف

- ‌الباب الرابعفي ذكر حلمه وكظمِهِ الغَيْظَ

- ‌الباب الخامسفي ذكر كلامه في قِصَر الأمَل والمبادرةِ قبل هجومِ الموتِ بالعملِ

- ‌الباب السادسفي ذكر صلابتِهِ في الدين وقوتِهِ في تنفيذ الحق واجتهادِهِ عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواعظِهِ لأبيه في ذلك

- ‌الباب السابعفي ذكر هوان نفسه عليه في ذات الله ورضاه بكل ما يناله من الأذى في تنفيذ أوامر الله عز وجل

- ‌الباب الثامنفي ذكر شدةِ حذرهِ من الظلمِ وتنزهه من ذلك

- ‌الباب التاسعفي ذكر مرضِهِ ووفاتِهِ رضي الله عنه

- ‌الباب العاشرفي ذكر سنه ومقدار عمره

- ‌فصلوهذه نبذةٌ مختصرةٌ من سيرةِ والدِ عبد الملكِ أبي حفصٍ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ونَفَعَ بها

- ‌فائدة:

- ‌فصل: [في وصف حال المفقود الَّذِي يجوز أن تتزوج زوجته]

- ‌فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته

- ‌إحداهما

- ‌الصورة الثانية

- ‌وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء:

- ‌الزكاة للقرابة

- ‌فصل: [في أنواع الخاتم]

- ‌فصل: [في حكم اتخاذ خاتم الذهب والحديد والصفر النحاس]

- ‌[حكم خاتم العقيق]

- ‌ونحن نذكر أحاديث التختم بالعقيق ونبين حالها

- ‌فصل: [في فص الخاتم]

- ‌[نقوش خواتيم الأكابر والأعيان]

- ‌فصل [حكم نقش صورة الحيوان عَلَى الخاتم]

- ‌فصل [في جواز التختم في اليمين واليسار]

- ‌فصل: [في حكم التختم في السبابة والوسطى]

- ‌فصل [في جعل فص الخاتم مما يلي الكف]

- ‌فصل [في وزن خاتم الفضة المتخذ للتحلي]

- ‌فصل [في حكم دخول الخلاء بالخاتم المكتوب عليه ذكر الله]

- ‌فصل[هل يمس الخاتم الَّذِي عليه ذكر الله مع الحدث]

- ‌فصل[فيما يفعل المتوضئ أو المغتسل الَّذِي في يده خاتم]

- ‌فصل [فيما إذا أصاب الحاتم نجاسة]

- ‌فصل [في حكم الصلاة بالخاتم المحرَّم]

- ‌فصل [في عد الآي والركعات في الصلاة بالخاتم]

- ‌فصل [فيما إذا مات الرجل وفي يده خاتم هل ينزع]

- ‌فصل [في حكم زكاة الحلي]

- ‌فصل [في حكم رمي الجمرة بفص الخاتم]

- ‌فصل [في حكم بيع الخواتم]

- ‌فصل

- ‌فصل [في بيع الخواتم بالسَّلم]

- ‌فصل [استصناع الخواتم]

- ‌فصل [إذا ظهر في الخاتم عيب بعد شرائه]

- ‌فصل [في استئجار الخاتم للتحلي]

- ‌فصل [في وقف الحلي]

- ‌فصل [في إتلاف الخاتم]

- ‌ إحداهما:

- ‌الحالة الثانية:

- ‌فصل [الشفعة في شراء الخاتم]

- ‌فصل

- ‌فصل [حكم لُقطة الخاتم الذهب والفضة]

- ‌فصل [في سرقة الخاتم]

- ‌فصل [الهبة في الخاتم]

- ‌[شعر]

- ‌[شعر]

- ‌[شعر]

- ‌فصل في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

- ‌فصل

- ‌فصل

الفصل: أعجبه نحو الرجل أمره بالصلاة". وقال ثابت: "كان رسول الله صلى

أعجبه نحو الرجل أمره بالصلاة".

وقال ثابت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشبع من الصلاة".

وفي رواية عن أنس أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «الْجَائِعُ يَشْبَعُ وَالظَّمْآنُ يَرْوَى وَأَنَا لَا أَشْبَعُ مِنْ حُبِّ الصَّلَاةِ» (1). خرَّجه عبد الله بن أحمد في الزهد.

وعن أبي هريرة قال: "كان داود عليه السلام كثير الصلاة لا يفتر".

وكان ثابت البناني لا يقدر أن يَقَرّ من الصلاة حبًّا لها، وكان يقوم الليل أربعين سنة ويدعو في السحر: اللهم إن كنت أذنت لأحد من خلقك أن يصلي في قبره فاجعلني منهم، فلما مات وسُوي اللَّبن عَلَى لحده، سقطت منه لبنةٌ، فنظروا إِلَيْهِ قائمًا يصلي في قبره.

كان محمد بن النضر الحارثي لا يفتر من الصلاة، فكان إذا خرج حاجًّا فنزل الناس، قام يصلي، ثم إذا قرب ارتحالهم تقدم عَلَى رأس ميل يصلي حتى {إذا سمع حس} (*) الإبل فإذا أدركته تقدم عليها يصلي حتى تلحقه فلا يزال كذلك حتى يصلي العصر ثم يركب في وقت النهي عن الصلاة.

وكان كرز بن وبرة لا يفتر عن الصلاة، وكان إذا حج ونزل الناس منزلاً، توارى عن الناس يصلي في موضع لا يرونه، فإذا سمع بحركة الناس للسير، جاء إِلَى رفقته فاحتبس عنهم يومًا عند الرحيل، فطلبه بعض رفقته فوجده قائمًا يصلي في يوم شديد الحر وغمامة تظله، فاجتهد به حتى حلف له أن لا يخبر بما رأى منه أحدًا حتى يموت.

[شعر]

كم أكتم حبكم عن الأغيار

والوجد يذيع في الهوى أسراري

كم أستركم هتكتمو أستارى

من يخفي في الهوى لهيب النار

(1) ذكره الديلمي في "الفردوس"(2622) عن أنس.

(*) من الحلية (8/ 220).

ص: 751

قوله: "أحسن عبادة ربه" إحسان العبادة إتقانها وإكمالها والإتيان بها عَلَى أكمل الوجوه. والحاصل عَلَى ذلك أن يعبد العبد ربه كأنه يراه كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بذلك، وكان يقول في دعائه:"أسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك" وعلَّم معاذ بن جبل أن يقول: "اللهم أعني عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"(1).

قوله: "وإطاعته في السر" طاعة العبد لربه في السر دليل عَلَى قوة إيمانه وإخلاصه لربه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه خشيته في السر والعلانية (2) وأفضل النوافل إسرارها، ولذلك فضلت صلاة الليل عَلَى نوافل الصلاة وفضلت صدقة السر عَلَى صدقة العلانية.

وفي الحديث "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة (3).

(1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(690)، وأبو داود (1522)، والنسائي في "الكبرى"(9937)، والبزار (2661 - البحر الزخار) وابن خزيمة (751) وابن حبان (2020، 2021 - إحسان)، والطبراني في "الكبير"(20/ 110، 250)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 407)، (3/ 307) كلهم من حديث معاذ بن جبل. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 172) من حديث ابن مسعود وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير عمرو بن عبد الله الأودي، وهو ثقة.

(2)

أخرجه أحمد (4/ 264)، وابن حبان (1971 - إحسان) من حديث عمار بن ياسر مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4516)، وعبد الله بن أحمد في "السنة"(468) عن عمار بن ياسر موقوفًا، ولفظ الحديث: اللهم إِلَيّ أسألك خشيتك في الغيب والشهادة.

(3)

أخرجه أحمد (4/ 151، 158)، والترمذى (2919)، والنسائي في "الكبرى" (2342) وابن حبان (734 - إحسان) والبيهقي في "السنن الكبير" (3/ 13) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ومعنى هذا الحديث أن الَّذِي يسر بقراءة القرآن أفضل من الَّذِي يجهر بقراءة القرآن، لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنَّما معنى هذا عند أهل العِلْم لكي يأمن الرجل من العُجب؛ لأنّ الَّذِي يسر العمل لا يُخافُ عليه العجب ما يُخافُ عليه من علانيته.

ص: 752

قال بعض السَّلف: ما أعتد بما ظهر من عملي، وحب الإسرار بالطاعة من علامات المحبين لمولاهم.

قال مخلد بن الحسين: ما أَحَبّ الله عبدٌ فأحب أن يعرف الناس مكانه.

وقال أحمد بن أبي الحواري: مَن عَبَدَ الله عَلَى المحبة لا يحب أن يرى خدمته سوى محبوبه.

واطَّلع عَلَى بعض أسرار المحبين مع الله، فعلم بذلك، فدعا لنفسه بالموت، وقال: إنما كانت المعاملة تطيب حيث كانت سرًّا بيني وبينه، فمات.

سئل بعضهم عن شيء من أسراره مع مولاه فأنشد:

من سارروه فأبدى السر مجتهدًا

لم يأمنوه عَلَى الأسرار ما عاشا

وجانبوه فلم يظفر بودهم

وأبدلوه من الإيناس إيحاشا

لا يصفون مذيعًا بعض سرهم

حاشا ودادهم من ذاكمو حاشا

المحبون يغارون عَلَى الأسرار من اطلاع الأغيار.

نسيم صبا نجد متى جئت حاملاً

تحيتهم فاطو الحديث الركبِ

ولا تذع السر المصون فإنني

أغار على ذكر الأحبة من صحبِ

قوله: "وكان غامضًا في الناس لا يشار إِلَيْهِ بالأصابع" يدل عَلَى فضل العبد التقي الخفي.

وفي حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد الغني التقي الخفي"(1).

وفي حديثه أيضاً: "خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي"(2).

(1) أخرجه مسلم (2965).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 172، 180، 187)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(7/ 84)، وعبد بن حميد في "المنتخب"(137)، وأبو يعلى في "مسنده" (731) من حديث سعد ابن أبي وقاص. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 81): وفيه محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة، وقد وثقه ابن حبان وقال: روى عن سعد بن أبي وقاص.

ص: 753

وفي حديث معاذ المرفوع (1): «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ» خرّجه ابن ماجه.

وخرَّج من حديثه مرفوعًا أيضاً: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ؟ قلت: بَلَى. قَالَ: رَجُلٌ ضَعِيفٌ مُسْتَضْعَفٌ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يَؤُبهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» (2).

وفي حديث آخر: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» (3).

=قلت: وضعفه ابن معين، ويقية رجالهما رجال الصحيح. اهـ. وانظر العلل لابن أبي حاتم (2/ 143) برقم (1926)، وعلل الدارقطني (4/ 393) برقم (652).

(1)

أخرجه ابن ماجه (3989). قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(4/ 178): هذا إسناد فيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف، رواه الحاكم من طريق عياض بن عباس عن عيسى به، وقال: لا علة له.

قلت: هو عند الحاكم (1/ 44) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرج في الصحيحين، وقد احتجا جميعًا بزيد بن أسلم عن أبيه عن الصحابة، واتفقا جميعًا عَلَى الاحتجاج بحديث الليث بن سعد عن عياش بن عباس القتباني، وهذا إسناد مصر صحيح ولا يحفظ له علة.

(2)

أخرجه ابن ماجه (4115) من حديث معاذ. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(4/ 214): هذا إسناد فيه سويد بن عبد العزيز وقد ضعفوه، وله شاهد من حديث حارثة بن وهب رواه الشيخان، ورواه البخاري وغيره من حديث أنس، ورواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه الطبراني في "الأوسط"(861) من طريق أسامة بن ريد عن حفص بن عبد الله ابن أنس عن جده أنس.

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حفص إلا أسامة. وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 264) من طريق آخر عن أنس وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله ابن موسى التيمي، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح غير جارية بن هرم، ووثقه ابن حبان عَلَى ضعفه.

ص: 754

قال ابن مسعود (1): كونوا ينابيع العِلْم مصابيح الظلام، جُددُ القلوب خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون عَلَى أهل الأرض.

كان قاسم الجوعي يقول لأصحابه: اغتنموا من زمانكم خمسًا إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئًا لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئًا لم تعطوا به. وأوصيكم بخمس أيضاً: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مُدحتُم لم تفْرحوا، وإن ذُممتُم لم تجزعوا، وإن كُذِّبتُم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا.

طوبى لعبدٍ طوبى لعبد بحبل الله معتصم

عَلَى صراط سويٍّ ثابت قدمه

رثُّ اللباس جديدُ القلب مستترٌ

في الأرض مشتهر فوق السماء اسمه

ما زال يحتقر الأولى بهمته

حتى ترَّقت إِلَى الأخرى به هممه

فذاك أعظم من ذي التاج متكئًا

عَلَى النمارق مختلفًا به خدمه

ما زال الصادقون من العُلَمَاء والصالحين يكرهون الشهرة ويتباعدون عن أسبابها، ويحبون الخمول، ويجتهدون عَلَى حصوله.

وقال بعضهم: ما اتَّقى الله من أَحَبّ الشهرة.

وكان أيوب السختياني يقول: ما صدق عبدٌ إلا أَحَبّ أن لا يشعر بمكانه.

ولما اشتهر بالبصرة كان إذا خرج إِلَى موضع يتحرى المشي في الطرقان الخالية، ويجتنب سلوك الأسواق والمواضع التي يعرف فيها.

وكان سفيان الثوري لما اشتهر يقول: وددت أن يدي قُطعت من إبطي، وأني لم أشتهر ولم أُعرف.

ولما اشتهر ذكر الإمام أحمد، اشتد غمه وحزنه، وكثر لزومه لمنزله، وقل خروجه في الجنائز وغيرها، خشية اجتماع الناس عليه.

(1) أخرجه الدارمي في "سننه"(256)، والبيهقي في "الشعب"(1729) مع اختلافٍ فى بعض الألفاظ.

ص: 755

وكان يقول: طوبى لمن أخمل الله ذكره. وكان يقول: لو قدرت عَلَى الخروج من هذه المدينة -يعني بغداد- لفعلت حتي لا أذكر عند هؤلاء -يعني الملوك. فكان إذا مشي معه أحد من أقاربه يعرفه الناس، أبعده عنه لئلا يعرف به، وكان لا يدع أحدًا يمشي معه في الطريق ولا يتبعه، فإن تبعه أحد وقف حتى ينصرف الَّذِي معه.

وكان ابن مسعود يقول لمن تبعه: لو تعلمون ما أغلق عليه بابي لم يتَّبعني منكم أحد (1).

ورأى عمر قومًا يتبعون رجلاً فعلاهم بالدَّرة وقال: إن خفق النعال خلف الأحمق، قل ما يُبقي من دينه (2).

مشى قومٌ مع معروف إِلَى بيته، فلما دخل قال لهم: مشيُنا هذا كان ينبغي لنا أن نتقيه، أليس جاء في الخبر:"أنَّه فتنة للمتبوع مذلة للتابع".

وكان بعض العُلَمَاء في مجلسه فقام، فاتبعه جماعة فأعجبه ذلك، فرأى تلك الليلة في منامه قائلا يقول: سيعلمُ من يُحبُّ أن يُمشى خلفه غدًا.

ورئي سفيان في النوم بعد موته فقِيلَ لَهُ: ما فعل الله بك؟

قال: غفر لي. قِيلَ لَهُ: هل رأيت شيئًا تكرهه؟ قال: نعم، الإشارة بالأصابع -يعني قول الناس هذا سفيان.

الإشارة إِلَى الرجل بالأصابع فتنة، وإن كان في الخير.

وفي الحديث "كَفَى بِالْمَرْءِ شَرًّا أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينهِ أَوْ دُنْيَاهُ، إِلَّا مَن عَصَمَهُ اللَّهُ"(3).

(1) أخرجه الدارمي في "سننه"(532).

(2)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(9/ 12) بلفظ: أن خفق النعال، دون ذكر "فعلاهم بالدرة".

(3)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 232) من قول إبراهيم والحسن.

ص: 756

كان بعض التابعين إذا جلس إِلَيْهِ أكثر من ثلاثة أنفس قام خوف الشهرة.

وكان علقمة يكثر الجلوس في بيته فقِيلَ لَهُ: ألا تخرج فتحدث الناس.

فَقَالَ: أكره أن يوطأ عقبي ويقال: هذا علقمة، هذا علقمة.

كان كثير من الصادقين من السَّلف يجتنب لباس الثياب التي يُظنُّ بأصحابها الخير، إبعادًا لهذا الظن عن أنفسهم.

وكان ابن محيريز يدعو فيقول: اللهم إني اسألك ذكرًا خاملاً.

وقال مطرف: انظروا قومًا إذا ذكروا ذكروا بالقراءة، فلا تكونوا منهم، وانظروا قومًا إذا ذكروا ذكروا بالفجور فلا تكونوا منهم، وكونوا بين ذلك.

وهذا هو الذكر الخفي المشار إِلَيْهِ في حديث سعد، وهو من أعظم نعم الله عَلَى عبده المؤمن، الَّذِي رزقه نصيبًا من ذوق الإيمان، فهو يعيش به مع ربه عيشًا طيبًا، ويحجبه عن خلقه حتى لا يُفسدُوا عليه حاله مع ربه، فهذه هي الغنيمة الباردة، فمن عرف قدرها وشكر عليها فقد تمت عليه النعمة.

وقد ورد في بعض الآثار أن العبد يسأل عن شكر هذه النعمة يوم القيامة.

تواريت من دهري بظل جناحه

فعيني ترى دهرى وليس يراني

فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت

وأين مكاني ما عرفن مكاني

كم بين حال هؤلاء الصادقين وبين من يسعى في ظهوره بكل طريق، باستجلاب قلوب الملوك وغيرهم، لكن إذا حقت الحقائق تبين الخالص من البهرج.

ص: 757

شعر:

إذا اشتبكت دموع في خدود

تبين من بكى ممن تباكى

رائحة الإخلاص كرائحة البخور الخالص، كلما قوي ستره بالثياب، فاح وعبق بها، ورائحة الرياء كدخان الحطب، يعلو إِلَى الجو ثم يضمحل وتبقى رائحته الكريهة. كلما بليت أجسام الصادقين في التراب فاحت رائحة صدقهم فاستنشقها الخلق.

كما اجتهد المخلصون في إخفاء أحوالهم عن الخلق، وريح الصدد تنم عليهم. كم يقول لسان الصادق: لا لا، وحاله ينادي: نعم نعم، ولسان الكاذب يقول: نعم نعم، وحاله ينادي عليه: لا لا.

كما اجتهد الإمام أحمد عَلَى أن لا يذكر، وأبى الله إلا أن يُشهرهُ ويقرن الإمامة باسمه عَلَى ألسنة الخلق شاءوا أو أبوا، وكان في زمانه من يعطي الأموال لمن ينادي باسمه في الأسواق ليشتهر، فما ذكر بعد ذلك ولا عرف.

خمول المحبين لمولاهم شهرة، وذلُّهم بين يديه عزُّ، وفقرٌ أليه الغنى الأكبر.

شعر:

تذلل أرباب الهوى في الهوى عزٌّ

وفقرهم نحو الحبيب هو الكنزُ

وسترهم فيه السرائر شهرة

وغير تلاف النفس فيه هو العجزُ

قوله: "وكان رزقه كفافًا فصبر عَلَى ذلك" هذا خير الرزق كما سبق في حديث "خير الرزق ما يكفي".

ص: 758

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا"(1)

وقد فسر طائفة من المفسرين قوله تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (2) بهذا، وقالوا: المراد رزق يوم بيوم.

في "صحيح مسلم"(3) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من هُدي إِلَى الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنَّعه الله به".

وخَرَّج الترمذي والنسائي (4) من حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قاله: "طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَع".

وفي "المسند" و {سنن ابن ماجه (5) عن أنس مرفوعًا "ما من غني ولا فقير إلا وَدَّ يوم القيامة أنَّه أوتي قوتًا".

وفي الترمذي (6) عن أبي أمامة مرفوعًا "عرض عَلَيَّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبًا فقلت: لا يا رب، ولكن أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك"} (7).

وفي سنن ابن ماجه (8) "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إِلَى رجل يستمنحه ناقة

(1) أخرجه البخاري (6460)، ومسلم (1055) من حديث أبي هريرة.

(2)

طه:131.

(3)

برقم (1054).

(4)

أخرجه الترمذي (2349) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنساني في "الكبرى" كما في تحفة الأشراف (8/ 261) برقم (11033).

(5)

أخرجه أحمد (3/ 117، 167)، وابن ماجه (4140) وقال السيوطي: هذا حديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأعله بنفيع، فإنه متروك، وهو مخرج في مسند أحمد، وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه الخطيب في تاريخه. (حاشية ابن ماجه).

(6)

أخرجه الترمذي تحت رقم (2347) قال: وبهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن.

(7)

ما بين المعقوفتين تكرر بالأصل.

(8)

برقم (4134) من حديث نقادة الأسدي. قال في الزوائد: في إسناده البراء، قد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: مجهول، وباقي رجال الإسناد ثقات. وليس لنقادة شيء في بقية الكتب الستة سوى هذا الحديث الَّذِي انفرد به ابن ماجه. (انظر حاشية ابن ماجه).

ص: 759

فردَّه، ثم بعث إِلَى آخر فبعث إِلَيْهِ بناقة، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَ فُلَانٍ -لِلْمَانِعِ الْأَوَّلِ- وَاجْعَلْ رِزْقَ فُلَانٍ يَوْمًا بِيَوْمٍ -لِلَّذِي بَعَثَ بِالنَّاقَةِ» .

وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا من حديث أبي هريرة مرفوعا "اللهم من أجبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده". (1)

وفي الترمذي وابن ماجه (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» .

وخرَّجه الطبراني (3) وزاد في أوله "ابن آدم جمعتُ عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك، لا بقليل ولا من كثير تشبع" وزاد في آخره، "فعلى الدُّنْيَا العفاء".

وقال عمر (4): كونوا أوعية الكتاب ينابيع للعلم، وسلوا الله رزق يوم بيوم، وعدوا أنفسكم في الموتى، ولا يضركم أن لا يكثر لكم".

والكفاف من الرزق هو ما ليس فيه فضل لأنّ يكتفي به صاحبه من غير فضل.

وجاء من حديث ابن عباس (5) مرفوعًا: "وإنَّما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه" خرَّجه ابن أبي الدُّنْيَا.

والمراد أن من اكتفى من الدُّنْيَا باليسير وقنعت به نفسه، فقد كفاه ذلك واستغنى به وإن كان يسيرًا.

قال أبو حازم: إن كان يغنيك ما يكفيك، فإن أدنى ما في الدُّنْيَا يكفيك،

(1) وأخرجه البيهقي في "الشعب"(1475) مطولاً من حديث عبد الله بن سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرة، وقال البيهقي: عبد الله بن سعيد غير قوي في الحديث.

(2)

أخرجه الترمذي (2346)، وابن ماجه (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الحطمي. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية، وحيزت: جُمعت.

(3)

في "الأوسط"(8875) من حديث عمر، وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به أسد بن موسى.

(4)

أخرجه عبد الله بن أحمد في "العلل"(4719)، والبيهقي في "الشعب"(10608)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 51).

(5)

ذكره الديلمي في "الفردوس"(1/ 342).

ص: 760

وإن كان لا يغنيك ما يكفيك، فليس في الدُّنْيَا شيء يكفيك.

قال بكر المزني: يكفيك من الدُّنْيَا ما قَنَعَت به، ولو كف تمر وشربة ماء.

وقال الإمام أحمد: قليل الدُّنْيَا يكفي، وكثير ما يكفي يُعني، إن من اكتفى من الدُّنْيَا كفاه منها القليل، ومن لم يكتف لم يكفه الكثير.

كما قال بعضهم، شعر:

حقيق بالتواضع من يموتُ

ويكفي المرء من ديناه قوتُ

وقال آخر:

يكفي الفتى خلق وقوت

ما أكثر القوت لمن يموت

وقد مدح في هذا الحديث من صبر عَلَى كفاف عيشه وقنع به، فأما الراضي بذلك فهو أعلى منزلة من الصابر القانع.

وقد قيل: إن الفقير الراضي، أفضل من الفقير الصابر، والغني الشاكر بالإنفاق.

وفي الحديث أنَّه عليه السلام كان يقول في دعائه: "رضني بما قسمت لي"(1).

وفي حديث آخر: "إذا أراد بعبد خيرًا أرضاه بما قسم له وبارك له فيه".

شعر:

إذا رضيت بميسور من القوت

أصبحت في الناس حرًّا غير ممقوت

(1) أورده الهيثمي في المجمع (10/ 181) عن ابن عمر بنحوه وقال: رواه البزار، وفيه أبو مهدي سعيد بن سنان، وهو ضعيف في الحديث.

ص: 761

ياقوت نفسي إذا ما تم عفوك لي

فلست آسى عَلَى دُرٍّ وياقوت

قوله: "عجلت منيته، قلَّت بواكيه، قلَّ تراثه" يعني أنَّه يعجل له الموت عَلَى هذه الصفة، وهي أن يكون من يبكي {عليه} (*) قليلاً، وذلك لقلة عياله كما سبق، وأن يكون تراثه قليلاً، ويعني بتراثه الَّذِي يخلفه من الدُّنْيَا، وبذلك فسَّره الإمام أحمد وغيره.

وهذا الكلام يحتمل أن يكون إخبارًا عن حال هذا المؤمن، ويحتمل أن يكون دعاء له من النبي صلى الله عليه وسلم، فاقتضى هذا الكلام أن المؤمن إذا كان عَلَى حالةٍ حسنة من حسن عبادةٍ وخمولٍ وقناعةٍ باليسير، فإنَّه يغبط بتعجيل موته عَلَى هذه الحالة، خشية أن يفتن في دينه ويتغير عما عليه.

ولهذا المعنى شُرع تمني الموت وطلبه، خشية الفتنة في الدين. وفي "المسند" مرفوعًا (1)"لا يتمنين الموت إلا من وثق بعمله". فمن كان عَلَى حالةٍ حسنةٍ في دينه فإنَّه يغبط بموته قبل تغير حاله.

كان أبو الدرداء إذا مات الرجل عَلَى الحالة الصالحة قال: هنيئًا لك، يا ليتني مكانك، فقالت له أم الدرداء في ذلك فَقَالَ: هل تعلمين يا حمقاء، أن الرجل يصبح مؤمنًا ويمسي منافقًا، يسلب إيمانه وهو لا يشعر، فأنا لهذا الميت أغبط مني لهذا بالبقاء والصلاة والصوم.

وقيل: ما تحب لمن تحب؟ قال: الموت. قِيلَ لَهُ: فإن لم يمت؟ قال: قلة المال والولد.

وكان ابن مسعود يتمنى الموت، فقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: لو أني أعلم أني أبقى عَلَى ما أنا عليه لتمنيت البقاء عشرين سنة.

ورأى أبو هريرة شبابًا يتعبدون فَقَالَ: ليت الموت ذهب بهؤلاء.

(*) في الأصل: "عَلَى" وما أثبته موافق للسياق.

(1)

(2/ 350) من حديث أبي هريرة بنحوه.

ص: 762

وكان داود الطائي يبكي ويقول: أخاف أن يطول عمري.

وسبب هذا أن من أطاع الله أَحَبّ لقاءه؛ كما قال الصديق في وصيته لعمر: إن أنت حفظت وصيتي لم يكن غائب أَحَبّ إليك من الموت، ولابد لك منه وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1).

وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2). ومن أراد الله به خيرًا عسَّلهُ، فاستعمله بعمل صالح قبل موته فيقبضه عليه، إِنَّمَا الأعمال بالخواتيم.

وقوله "قلَّت بواكيه" لما كان هذا المؤمن خفيف الحاذ قليل العيال، لم يكن له عند الموت كبير أحد يبكي عليه، خلاف من له أهل وولد وخدم وحشم وعشيرة، فإنَّه يكثر بواكيه مع قلة غناهم عنه، بل يزيد بكاؤهم في عذابه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"(3) فإنهم كثيرًا ما يفعلون ما لا يجوز من النياحة واللطم، وتحريق الثياب، وإتلاف الأمول، والتسخط لقضاء الله، وذلك كله يعذب به الميت ويتألم به.

ولهذا أوصى كثير من السَّلف أهلهم أن لا يبكون عليهم.

لما احتضر هشام بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية بكى أهله، فَقَالَ لهم: جاد عليكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، ترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما حمل، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر له.

وقال الحسن: شر الناس لميت أهله يبكون عليه ولا يقضون دينه، فهم يفعلون معه ما يضره، ولا يفعلون ما ينفعه في قبره، وكثر من يكي عَلَى

(1) البقرة: 94.

(2)

الجمعة: 6.

(3)

أخرجه البخاري (1286)، ومسلم (928) من حديث ابن عمر.

وأخرجه البخاري (1290)، ومسلم (927) من حديث عمر بن الخطاب.

ص: 763

الميت عند موته، إِنَّمَا يبكي لفقد حظه منه، إما من نفعه الحاصل له به من مال أو غيره، أو لفقده الأنس به ونحو ذلك من حظوظ الباكين، ولا يبكون رحمة لما هو فيه، وبكاء الرحمة هو بكاء العارفين دون بكاء الحزن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى:"إِنَّمَا هذه رحمة، وإنَّما يرحم الله من عباده الرحماء"(1).

احتضر بعض (الصالحين)(2) فبكى أبواه وولده وأهله وصبيانه، فسألهم ما الَّذِي أبكاهم؟ قال أبواه: نبكي لفراقك، وما نتعجل من الوحشة بعدك.

وقال ولده: نبكي لفراقك وما يُتعجَّلُ من اليتم بعدك. فَقَالَ: كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من ييكي لما يلقى في التراب وجهي؟ أما فيكم من يبكي لمسائلة منكر ونكير؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي ربي؟ ثم صرخ صرخة فمات رحمه الله.

فمن قلت بواكيه كان ذلك أقرب إِلَى رحمته.

وقد روى صالح المري عن الحسن قال: إن الله إذا توفى المؤمن ببلاد غربة لم يعذبه رحمة لغربته، وأمر الملائكة فبكته لغيبة بواكيه عنه.

وفي الحديث "إن من مات في غير مولده قِيسَ به إِلَى منتهى أثره في الجنة".

وقد تبكي السماء والأرض عَلَى المؤمن لفقد عمله الصالح.

وقد قال طائفة من السَّلف في قوله عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} (3) قالوا: إن السماء والأرض تبكي عَلَى المؤمن. فَقَالَ علي: يبكي عَلَى المؤمن مصلاه الَّذِي كان يصلي فيه من الأرض، وبابه الَّذِي كان يصعد فيه قوله وعمله، ولم يكن ذلك لآل فرعون، فلذلك لم (تبك)(4)

(1) أخرجه البخاري (1284) من حديث أسامة بن زيد بلفظ "هذه رحمة

".

(2)

كان مكانها في الأصل: "العارفين" ووضع فوقها حرف "ح" وكتب في الهامش "الصالحين" صح فكأن الأولى خطأ أو أنها نسخة والحاء "خاء"، والله أعلم.

(3)

الدخان: 29.

(4)

في الأصل: "تبكي" وما أثبتناه هو الأصوب.

ص: 764

عليهم السماء والأرض.

وقيل: إن في التوراة أن الأرض تبكي عَلَى المؤمن أربعين صباحًا.

فكلما قلت بواكي الميت المؤمن من بني آدم، كان أقرب إِلَى بكاء غيرهم عليه.

وقد سُمع نياحة الجن وبكاؤهم عَلَى جماعة من سلف الأمة منهم: عمر ابن الخطاب، والحسين بن علي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم.

كان للمأمون ولد يسمى عليًّا وكان شديد الترف، فألقى الله في قلبه الزهد في الدُّنْيَا، فهرب من أبيه وخرج إِلَى البصرة وتنكر ولبس الخشن، وكان يصوم النهار ويقوم الليل، ويحمل عَلَى رأسه للناس بالأجرة ما يتقوت به، ويبيت في المساجد يتخللها حتى لا يفطن به، فمرض في بعض المساجد، فلما اشتد مرضه دخل خانًا بالبصرة، فاكترى فيه بيتًا وألقى نفسه عَلَى بارية فلما آيس من نفسه، دعا صاحب الخان، فناوله خاتمه ورقعة مختومة فَقَالَ له: إذا مت فاخرج إِلَى صاحبكم -يعني الأمير- بالبصرة فأه خاتمي وعرِّفهُ موضعي وناولُه هذه الرقعة. فلما مات خرج الرجل إِلَى باب الأمير، فأدى النصيحة فأدخله فأراه الخاتم، فلما نظر إِلَيْهِ عرفه فَقَالَ: ويلك أين صاحب هذا الخاتم؟ قال: في الخان ميت، وناوله الرقعة مختومة مكتوب عليها: لا يفكها إلا المأمون أمير المؤمنين، فأرسله الأمير ميتًا في دجلة إِلَى المأمون، وكتب إِلَيْهِ يعرفه قصته وأنه وجده في غرفة عَلَى بارية في بعض الخانات، ما تحته مهاد ولا عنده باكية، مسجي مغمض العينين مستنير الوجه طيب الرائحة، وبعث معه الخاتم والرقعة، ففكها المأمون فإذا فيها: يا أمير المؤمنين اقرأ سورة الفجر إِلَى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (1) فاعتبر بها، واعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

(1) الفجر: 14.

ص: 765

قوله "قل تراثه" فسره الإمام أحمد وغيره ميراثه بعد موته، يعنيان ما يخلف من الدُّنْيَا بعده يكون قليلاً نزرًا يسيرًا، هذه سنة الأنبياء عليهم السلام كما في حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (1) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف إلا آلات الجهاد؛ ففي الصحيح عنه أنَّه لم يخلف إلا سلاحه وبغلته وأرضًا جعلها صدقة (2).

ولما احتضر أبو بكر الصديق قال لعائشة رضي الله عنها: "يا بنية إنا ولينا أمر المسلمين فلم نأخذ لهم دينارًا ولا درهمًا، ولكنا أكلنا من حريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم عَلَى ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من مال المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إِلَى عمر. فلما جاء الرسول إِلَى عمر بذلك، بكى عمر، وقال: رحم الله أبا بكر، لقد اتعب من بعده.

ولما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: لا تتهموا الخازن فإني لا أدع إلا إحدى وعشرين دينارًا، وصَّى منها بوفاء ديون، فلم يبق لورثته سوى أربعة عشر دينارًا، هذا وجميع مملكة الإسلام تحت يديه.

ودخلوا عليه في مرض موته وعليه قميص قد اتسخ جيبه وتحرق، فَقَالَ مسلمة بن عبد الملك لأخته -وهي زوجة عمر: ناوليني قميصًا سوى هذا حتى يلبسه أمير المؤمنين فإن الناس يدخلون {عليه} (3). فَقَالَ عمر:

(1) أخرجه أبو داود برقم (3641)، والترمذي برقم (2682)، وقال: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل، هكذا حدثنا محمود بن خداش بهذا، وإنَّما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن الوليد بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش، ورأي محمد بن إسماعيل هذا أصح. اهـ.

وأخرجه ابن ماجه برقم (223) عن أبي الدرداء مطولاً.

(2)

أخرجه البخاري في عدة مواضع منها (2873).

(3)

في الأصل: عَلَى، وما أثبته أنسب للسياق.

ص: 766

دعها يا مسلمة فما أمسى ولا أصبح لأمير المؤمنين ثوب سوى الَّذِي ترى علَيَّ.

وكان يحيى بن أبي كثير من العُلَمَاء الربانيين، وكان حسن اللباس حسن الهيئة، فمات ولم يخلف سوى ثلاثين درهمًا كفنوه بها.

وكان الأوزاعي قد وصل إِلَيْهِ في حياته من ملوك بني أمية وبني العباس أكثر من سبعين ألف دينار (*)، فأنفقها كلها في سبيل الله وفي الفقراء، فمات ولم يخلف سوى سبعة دنانير.

ومات الإمام أحمد ولم يخلف سوى قطعًا في خرقة، كان وزنها دون نصف درهم، وترك دينًا (عليه)(**) وُفِّيَ من أجرة عقارٍ خلفه.

وكان محمد بن أسلم الطوسي من العُلَمَاء الربانيين، فمات ولم يخلف سوى كسائه يراناء لوضوئه، فتصدقوا به.

ووصى معروف أن يتصدق عند موته بقميصه الَّذِي عليه، وقال: أَحَبّ أن أخرج من الدُّنْيَا كما دخلت إليها عريانًا.

وقال سفيان: يعجبني أن يموت الرجل ولا يخلف كفنًا.

مات بعض الفقراء ولم يخلف كفنًا، فقالت له زوجته: نفتضح إذا لم تخلف كفنًا. فَقَالَ: لو خلفت كفنًا لافتضحت.

قال يحيى بن معاذ: لا تكن ممن يفضحه في الدُّنْيَا ميراثه وفي الآخرة ميزانه.

لابن آدم في ماله عند مماته مصيبتان عظيمتان يُسْلَبُهُ كله ويسأل عنه كله. فهو حينئذ يجمع لمن لا يحمده ويقدم عَلَى من لا يعذره.

(*) في الأصل: دينارًا.

(**) في الأصل: "عَلَى"، وما أثبته أنسب للسياق.

ص: 767

يا نفس توبي فإن الموت قد حانا

واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا

أما ترين المنايا كيف تلقطنا

لقطًا وتُحلق أخرانا بأولانا

في كل يوم لنا ميت نشيعه

نرى بمصرعه آثار موتانا

يا نفس مالي وللأموال أتركها

خلفي وأخرج من دنياي عريانا

أبعد خمسين قد قضيتها لعبًا

قد آن أن تقصري قد آن قد آنا

ما بالنا نتعامى عن مصائرنا

ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا

نزداد حرصًا وهذا الدهر يزجرنا

كان زاجرنا بالحرص أعرانا

أين الملوك وأبناء الملوك ومن

كانت تخر له الأذقان إِذعانًا

صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا

مستبدلين من الأوطار أوطانًا

خلوا مدائن كان العز مفرشها

واستفرشوا حفرًا غُيرًا وقيعانا

يا راكضًا في ميادين الهوى مرحًا

ورافلا في ثياب الغي نشوانًا

مضى الزمان وولى العمر فى لعب

يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا

تم آخره والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

ص: 768