المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: [فيمن أصابه أذى ومكر أن عليه أن يصبر وأن التمكين سيكون له بعد صبره] - مجموع رسائل ابن رجب - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى

- ‌فصل: [فيمن أراد بالنصيحة للعلماء النصح لله ورسوله ومن أراد التنقص والذم وإظهار العيب وكيفية معاملة كلٍّ منهما]

- ‌فصل: [في الفرق بين النصح بالعيوب للرجوع عنها والتوبيخ والتعيير بالذنب]

- ‌فصل: [في عقوبة من عير أخاه بالذنب]

- ‌فصل: [فيمن يظهر النصح ويبطن التعيير والأذى وأن ذلك من صفات المنافقين]

- ‌فصل: [فيمن أصابه أذى ومكر أن عليه أن يصبر وأن التمكين سيكون له بعد صبره]

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌الباب الأولفي ذكر عبادتِهِ واجتهادِهِ وتهجُّدِهِ وبكائِهِ وإخفائِهِ لذلك

- ‌الباب الثالثفي ذكرِ زُهدِهِ في الدُّنْيَا وقناعتِهِ باليسيرِ وبُعدِهِ من الإسراف

- ‌الباب الرابعفي ذكر حلمه وكظمِهِ الغَيْظَ

- ‌الباب الخامسفي ذكر كلامه في قِصَر الأمَل والمبادرةِ قبل هجومِ الموتِ بالعملِ

- ‌الباب السادسفي ذكر صلابتِهِ في الدين وقوتِهِ في تنفيذ الحق واجتهادِهِ عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواعظِهِ لأبيه في ذلك

- ‌الباب السابعفي ذكر هوان نفسه عليه في ذات الله ورضاه بكل ما يناله من الأذى في تنفيذ أوامر الله عز وجل

- ‌الباب الثامنفي ذكر شدةِ حذرهِ من الظلمِ وتنزهه من ذلك

- ‌الباب التاسعفي ذكر مرضِهِ ووفاتِهِ رضي الله عنه

- ‌الباب العاشرفي ذكر سنه ومقدار عمره

- ‌فصلوهذه نبذةٌ مختصرةٌ من سيرةِ والدِ عبد الملكِ أبي حفصٍ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ونَفَعَ بها

- ‌فائدة:

- ‌فصل: [في وصف حال المفقود الَّذِي يجوز أن تتزوج زوجته]

- ‌فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته

- ‌إحداهما

- ‌الصورة الثانية

- ‌وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء:

- ‌الزكاة للقرابة

- ‌فصل: [في أنواع الخاتم]

- ‌فصل: [في حكم اتخاذ خاتم الذهب والحديد والصفر النحاس]

- ‌[حكم خاتم العقيق]

- ‌ونحن نذكر أحاديث التختم بالعقيق ونبين حالها

- ‌فصل: [في فص الخاتم]

- ‌[نقوش خواتيم الأكابر والأعيان]

- ‌فصل [حكم نقش صورة الحيوان عَلَى الخاتم]

- ‌فصل [في جواز التختم في اليمين واليسار]

- ‌فصل: [في حكم التختم في السبابة والوسطى]

- ‌فصل [في جعل فص الخاتم مما يلي الكف]

- ‌فصل [في وزن خاتم الفضة المتخذ للتحلي]

- ‌فصل [في حكم دخول الخلاء بالخاتم المكتوب عليه ذكر الله]

- ‌فصل[هل يمس الخاتم الَّذِي عليه ذكر الله مع الحدث]

- ‌فصل[فيما يفعل المتوضئ أو المغتسل الَّذِي في يده خاتم]

- ‌فصل [فيما إذا أصاب الحاتم نجاسة]

- ‌فصل [في حكم الصلاة بالخاتم المحرَّم]

- ‌فصل [في عد الآي والركعات في الصلاة بالخاتم]

- ‌فصل [فيما إذا مات الرجل وفي يده خاتم هل ينزع]

- ‌فصل [في حكم زكاة الحلي]

- ‌فصل [في حكم رمي الجمرة بفص الخاتم]

- ‌فصل [في حكم بيع الخواتم]

- ‌فصل

- ‌فصل [في بيع الخواتم بالسَّلم]

- ‌فصل [استصناع الخواتم]

- ‌فصل [إذا ظهر في الخاتم عيب بعد شرائه]

- ‌فصل [في استئجار الخاتم للتحلي]

- ‌فصل [في وقف الحلي]

- ‌فصل [في إتلاف الخاتم]

- ‌ إحداهما:

- ‌الحالة الثانية:

- ‌فصل [الشفعة في شراء الخاتم]

- ‌فصل

- ‌فصل [حكم لُقطة الخاتم الذهب والفضة]

- ‌فصل [في سرقة الخاتم]

- ‌فصل [الهبة في الخاتم]

- ‌[شعر]

- ‌[شعر]

- ‌[شعر]

- ‌فصل في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

- ‌فصل

- ‌فصل

الفصل: ‌فصل: [فيمن أصابه أذى ومكر أن عليه أن يصبر وأن التمكين سيكون له بعد صبره]

‌فصل: [فيمن أصابه أذى ومكر أن عليه أن يصبر وأن التمكين سيكون له بعد صبره]

وَمَنْ بُلي بشيء من هذا الأذى والمكر فليتقِ الله ويستعين به ويَصْبِرُ، فإنَّ العاقبة للتقوى. كما قال تعالى بعد أن قصَّ قصةَ يوسُف وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر والمخادعة:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} (1).

وقال تعالى حكايةٌ عنه أنه قال لإخواته: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2) الآية.

وقال تعالى في قصَّة موسى عليه السلام وما حصل له ولقومه من أذى فرعونَ وكيده، قال لقومه:{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (3).

وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود وبالُه عَلَى صاحبه، وقال تعالى:{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (4).

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} (5) الآية.

والواقع يشهد بذلك، فإنَّ من سبر أخبار الناس، وتواريخ العالِمَ، وقفَ من أخبارِ مَنْ مَكَرَ بأخيه فعادَ مكرُهُ عليه، وكان ذلك سببًا لنجاتِهِ وسلامتِهِ عَلَى العَجَبِ العجاب.

ولو ذكَرْنَا بعضَ ما وقع من ذلك لطال الكتابُ واتَّسع الخطابُ، والله الموفق للصواب، وعليه قصْدُ السبيل، وهو حَسبُنا ونعْمَ الوكيل، وصلَّى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا.

(1) يوسف: 21.

(2)

يوسف: 90.

(3)

الأعراف: 128.

(4)

فاطر: 43.

(5)

الأنعام: 123.

ص: 417

جزءٌ فيه الكلام على حديث يتبع الميت ثلاث

ص: 419

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر يا كريم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد المصطفى وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

في "الصحيحين"(1) من رواية عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلَاثٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» .

ورواه عمران القطان، وحجاج بن حجاج، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبد إلا له ثلاثة أخلاء، فأما خليلٌ فيقول: ما أنفقت فلك، وما أمسكت فليس لك، فذلك ماله، وأما خليلٌ فيقول: أنا معك، فَإِذَا أتيت باب الملك رجعت وتركتك، فذلك أهله وحشمه، وأما خليلٌ يقول: أنا معك حيث دخلت، وحيث خرجت، فذاك عمله. فيقول: إِن كنت لأهون الثلاثة عليَّ"(2).

ويروى نحو هذا من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا (3) وموقوفًا.

وتفسير هذا: أن ابن آدم في الدُّنْيَا لا بُدَّ له من أهل يعاشرهم، ومال يعيش به، فهذان صاحبان يفارقانه ويفارقهما.

فالسعيدُ من اتخذ من ذلك ما يعينه عَلَى ذكر الله تعالى، وينفعه في الآخرة.

فيأخذ من المال ما يبلغ به إِلَى الآخرة، ويتخذ زوجة صالحة تعينه عَلَى إيمانه.

(1) أخرجه البخاري (6514)، ومسلم (2960).

(2)

أخرجه أبو داود الطيالسي (3/ 20)، والحاكم (1/ 74، 371)، والبزار (3229 - كشف).

(3)

أخرجه البزار (3226 - كشف الأستار)، والحاكم (1/ 74 - 75، 372).

ص: 421

فأمَّا من اتخذ أهلاً ومالاً يشغله عن الله تعالى، فهو خاسرٌ، كما قالت الأعراب:{شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} (1).

وقال تعالى: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2).

وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} (3).

قال الحسن وهو في جنازة: ابن آدم، لئن رجعت إِلَى أهل ومال، فإن الثوى فيهم قليل.

وفي حديث: "ابن آدم، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلَاقِيهِ، وَكُن كَيفَ شِئْتَ، وَكَمَا تَدين تُدان"(4).

فَإِذَا مات ابن آدم، وانتقل من هذه الدار لم ينتفع من أهله وماله بشيء، إلا بدعاء أهله له واستغفارهم، وبما قدَّمه من ماله بين يديه.

قال الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (5).

(1) الفتح: 11.

(2)

المنافقون: 9.

(3)

سبأ: 37.

(4)

روي من عدة طرق:

حديث علي: أخرجه الطبراني في "الأوسط"(4845).

وحديث جابر: أخرجه الطيالسي (1755).

وحديث سهل بن سعد: أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(746)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 324 - 325)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 108)، والسهمي في "تاريخ جرجان"(83)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 253).

وحديث أنس: أخرجه ابن حبان في "المجروحين"(3/ 44).

(5)

الشعراء: 88 - 89.

ص: 422

وقال تعالى {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} (1).

فأمَّا إِنَّ خلف من يدعو له من أهله، أو قدَّم شيئًا من ماله فإنَّه ينتفع به.

كما في "صحيح مسلم"(2) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ".

فأهله لا ينفعه منهم بعد موته إلا من استغفر له ودعا له، وقد لا يفعل.

وقد يكون الأجنبيُّ أنفع للميت من أهله، كما قال بعض الصالحين: وأين مثل الأخ الصالح؟! أهلك يقتسمون ميراثك، وهو قد تفرَّد بحزنك، يدعو لك، وأنت بين أطباق الأرض.

فمن الأهل من هو عدو كما قال الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (3).

ومنهم من يشتغل عن الميت بحصول ميراثه كما قيل:

تمرُّ أقاربي جنبات قبرى

كأنَّ أقاربي لا يعرفوني

وذووا الميراث يقتسمون مالي

ولا يألون إِن جحدوا ديوني

وقد أخذوا سهامَهُم وعاشوا

في لله أسرع ما نسوني

قال الحسن: أزهد الناس في عالم جيرانه، وشر الناس لميت أهلُه يبكون عليه ولا يقضون دينه.

(1) الأنعام: 94.

(2)

برقم (1631).

(3)

التغابن: 14.

ص: 423

يشير إِلَى أنهم يفعلون ما يضرّه ويتركون ما ينفعه؛ فالبكاءُ إذا كان معه ندبٌ أو نوحٌ أو تسخط يُعذَّب به الميت.

وإنَّما يبكون لفقد حظوظهم منه، فبكاؤهم عَلَى أنفسهم لا عَلَى ميتهم.

احتُضر بعضُ الصالحين فبكى أبواه وولده، فسألهم عن بكائهم، فذكر أبواه ما يتعجَّلانه من فقده ووحشتهم بعده.

وذكر ولده ما يتعجلون من فقده ويُتمهم بعده، فَقَالَ: كلُّكم بكى لدنياي، أما منكم من يبكي لآخرتي؟!

أمَا منكم من يبكي لما يلقاه في التراب وجهي؟!

أمَا منكم من يبكي لمسائلة منكر ونكير إياي؟!

أما منكم من يبكي لمقامي بين يدي ربي؟!

ثُم صرخ صرخةً فمات رحمه الله.

وأكثر الورثة لا يُوفون دين مورِّثهم، فيتركونه مرتهنًا محتبسًا بدينه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم مات منهم ميت:"إِنَّ صَاحِبَكُمْ مُحْتَبَسٌ بِدَيْنِهِ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ أَوْ فُكُّوهُ"(1) أو كما قال.

وبكل حال فليوطِّن الإنسان في الدُّنْيَا نفسه عَلَى مفارقة أهله كما قيل:

أيا فرقة الأحباب لابد لي منك

ويا دار دنيا إنني راحلٌ عنك

ألا أيّ حي ليس بالموت موقنًا

وأَيُّ يقين منه أشبه بالشك

ولا ينتفع الميت بعد موته بأهله ولا غيرهم، إلا بالاستغفار له ودعائهم وترحمهم، أو صدقتهم عنه.

(1) أخرجه أحمد (5/ 11 و13، 20)، وأبو داود (3341)، والنسائي من حديث سمرة.

ص: 424

وينتفع بزيارة من زاره ويسلم عليه ويستأنس بذلك.

وقد وصَّى عمرو بن العاص، أن يقيموا عَلَى قبره بعدَ دفنه بقدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها وقال: أستأنس بكم، وانظر ما أراجع به رسل ربي.

وفي "سنن أبي داود"(1): "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت قال: سلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل".

وأمَّا إقامتهم عنده بعد ذلك فلا ينتفع به.

ضربت امرأة الحسن بن الحسن بن علي عَلَى قبره بالبقيع فسطاطًا سنة، ثم نزعته بعد السنة وانصرفت، فسمعوا هاتفًا بالبقيع يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ أفاجابه مجيبٌ من الناحية الأخرى: بل يئسوا فانقلبوا.

لمَّا دُفن داود الطائي حضر جنازته أهلُ الكوفة، وأثنى عليه ابن السماك بأعماله الصالحة، والناس يصدِّقونه عَلَى قوله: فقام أبو بكر النهشلي (2) فَقَالَ: اللهمَّ لا تكله إِلَى عمله، فأعجب الناس قوله فلمَّا انصرفوا قال ابن السماك: يا داود رجعنا وتركناك، ولو أقمنا ما أنفعناك ثم أنشأ يقول:

انصرف الناس إِلَى دورهم

وغُودر الميت فى رمسه (3)

مرتهن النفس بأعماله

لا يرتجي الإطلاق عن حبسه

لنفسه صالح أعماله

وما سواها فعلى نفسه

ومع هذا فالمؤمن يبشَّرُ في قبره بصلاح ولده من بعده؛ لتقرَّ عينه.

وأعمال الأحياء تُعرض عَلَى أقاربهم من الموتى فيسرون بالأعمال الصالحة، ويدعون لأهلها بالتوبة والزيادة.

وتسوءهم الأعمال السيئة، ويدعون لأهلها بالتوبة والمراجعة.

(1) برقم (3221) من حديث عثمان بن عفان.

(2)

في "الأصل": النهلي. وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.

(3)

الرمس: القبر. "اللسان" مادة: (رمس).

ص: 425

وفي ذلك آثارٌ وأحاديثٌ كثيرة قد ذكرت في "أهوال القبور" في موضع آخر.

وتنزل الملائكة عند موت المؤمن بالبشرى له، ويقال له: لا تخف مما أنت قادمٌ عليه، ولا تحزن عَلَى من خلَّفت من أهلك؛ فإنَّ الله يتكفَّل بهم، فتقرّ عين المؤمن بذلك.

فهذا أحد الأخلاء الثلاثة، وهو الأهل يصلون مع خليلهم إِلَى باب الملك وهو اللَّحد، ثم يرجعون عنه.

وأمَّا الخليل الثاني وهو المال، فيرجع عن صاحبه أولاً ولا يدخل معه قبره، ورجوعه كنايةٌ عن عدم مصاحبته له في قبره ودخوله معه.

وقد فسَّر بعضهم المال الراجع بمن يتبعه من رقيقه، ثم يرجعون مع الأهل فلا ينتفع الميت بشيء من ماله بعد موته، إلا بما كان قدَّمه بين يديه؛ فإنه يقدم عليه وهو داخلٌ في عمله الَّذِي يصحبه في قبره.

فأما ما خلَّفه وتركه، فهو لورثته لا له، وإنَّما كان خازنًا لورثته.

وفي "صحيح مسلم"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟.

وفيه أيضاً (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ

مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ ".

وفي "صحيح البخاري"(3) عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: مَا مِنَّا إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ. قَالَ: فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» .

(1) برقم (2958).

(2)

برقم (2959).

(3)

برقم (6442).

ص: 426

فلا ينتفع العبدُ من ماله إلا بما قدَّمه لنفسه، وأنفقه في سبيل الله- عز وجل.

فأمَّا ما أكله ولبسه فإنه لا له ولا عليه، إلا أن يكون فيه نيةٌ صالحةٌ.

وقيل: بل يثاب عليه مطلقًا.

فأمَّا ما أنفقه في المعاصي فهو عليه لا له، وكذلك ما أمسكه ولم يؤد حق الله عز وجل منه؛ فإنه يمثَّلُ له شجاعًا أقرع، يتبعه وهو يفرُّ منه، حتى يأخذ (بلهزمتيه) (1) ويقول: أنا مالك! أنا كنزك، ويلقمه يده فيقضمها قضم الفحل (2).

وإن كان المكنوز ذهبًا أو فضةٌ جُعل صفائح، فأحمي عليها، ثم كُوي بها جبينه وجبهته وجنبه.

لا تدخر غير التقى فالمال لا يدخرُ

فأخر لأمر بنا اعتدلوا واعتبروا

فمن تحقَّق هذا، فليقدِّم لنفسه من ماله ما يحبُّ، فإنه إذا قدَّمه كان له وبين يديه، ينتفع به في دار الإقامة.

وإذا خلَّفه كان لغيره لا له، وقد يكون هو ممن يحبسه عن النفقة في سبيل الله، فيراه يوم القيامة في ميزان غيره، فيتحسر عَلَى ذلك، فيدخل هو بماله النار، ولدخل وارثه به الجنة! ".

فالعاقل هو من قدم من ماله ما يحبه، فيفوز به في دار الإقامة؛ فإن من أَحَبّ شيئًا استصحبه معه، ولا يدعه لغيره، فيندم حين لا ينفعه الندم.

ذكر ابن أبي الدُّنْيَا من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير مرسلاً "أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما لي لا أَحَبّ الموت؟ قال: لك مال؟ قال: نعم، قال: فقدمه؛ فإن قلب المرء مع ماله، إِنَّ قدمه أَحَبّ أن يلحق به، وإن أخره أَحَبّ أن يتأخر معه"(3).

(1) لهزمتيه: يعني شدقيه. "اللسان" مادة: (لهزه).

(2)

أخرجه البخاري (1403)، ومسلم (987).

(3)

أخرجه ابن المبارك في كتاب "الزهد"(634)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 359).

ص: 427

وقال بعض الملوك لأبي حازم الزاهد: ما بالنا نكره الموت؟ قال: لتعظيمك الدُّنْيَا، جعلت مالك بين عينيك فأنت تكره فراقه، ولو قدمته لآخرتك لأحببت اللحوق به.

قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1).

كان ابن عمر لا يعجبه شيء من ماله إلا قدمه لله، حتى إنه كان يومًا راكبًا عَلَى ناقة فأعجبته، فنزل عنها في الحال وقلدها وجعلها هديًا لله عز وجل.

وكان له جارية يحبها حبًّا شديدًا، فأعتقها وزوجها بمولاه نافع، فولدت لنافع أولادًا، فكان ابن عمر ربما أخذ بعض أولادها فشمه، وقال: واهًا لريح فلانة -يعني: أم ذلك الولد (2).

دخل رجل عَلَى أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فَقَالَ: با أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: إِنَّ لنا بيتًا نوجه إِلَيْهِ صالح متاعنا". قال: إنه لا بد لك من متاع، ما دمت هاهنا قال: إِنَّ صاحب المنزل لا يدعنا فيه.

يا جامع الأموال بادر صرفها

واعلم بأن الطالبين جثاث

خذ من تراثك ما استطعت فإنما

شركاؤك الأيام والأحداث

لم يقض حق المال إلا معشر

نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا

ما كان فيه فاضلاً عن قوته

فليعلمن بأنه ميراث

(1) آل عمران: 92.

(2)

أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(4/ 167)(طبعة دار صادر) قال: أخبرنا محمد ابن يزيد بن خنيس، قال: سمعت عبد العزيز بن أبي داود، قال: أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كانت له جارية .... فذكر القصة.

وذكر القصة الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 66)، وابن حجر في "الإصابة"(4/ 187) طبعة دار الجيل بتحقيق البجاوي.

قلت: في إسناده محمد بن يزيد بن خنيس المكي، قال الحافظ في "التقريب": مقبول. أي حيث يتابع وإلا فهو ضعيف، ولم يتابعه أحد عَلَى ما وقفت عليه، وعبد العزيز بن أبي رواد: صدوق ربما وهم. فالإسناد ضعيف، والله أعلم.

ص: 428

قال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار لا ينفعانك حتي يفارقانك.

وقيل لبعضهم: جمع فلان مالاً، قال: هل جمع عمرًا ينفقه فيه؟ قالوا: لا. قال: ما جمع شيئًا.

جمعت مالاً ففكر هل جمعت له

يا جامع المال أيامًا تفرقه

المال عندك مخزون لوارثه

ما المال مالك إلا حين تنفقه

من قدم اليوم شيئًا قدم عليه غدًا، ومن لم يقدم شيئًا قدم عَلَى غير شيء، فطال فقره في دار الإقامة.

قال {بعض} (1) السَّلف: ابن آدم، إِنَّمَا تسكن يوم القيامة فيما بنيت، وتنزل يومئذ علي ما نقلت في حياتك من متاعك.

دخلت امرأة عَلَى عائشة قد شلت يدها فقالت: يا أم المؤمنين، بتُّ البارحة صحيحة اليد فأصبحت شلاء! قالت عائشة: وما ذاك؟ قالت: كان لي أبوان موسران، كان أبي يعطي الزكاة ويقري الضيف ويعطي السائل ولا يحقر من الخير شيئًا إلا فعله، وكانت أمي امرأة بخيلة ممسكة، لا تصنع في مالها خيرًا، فمات أبي ثم ماتت أمي بعده بشهرين، فرأيت البارحة في منامي أبي وعليه ثوبان أصفران، بين يديه نهر جارٍ، قلت: يا أبه ما هذا؟ قال: يا بنية، من يعمل في هذه الدُّنيا خيرًا يره، هذا أعطانيه الله تعالى. قلت: فما فعلت أمي؟ قال: وقد عماتت أمك؟! قلت: نعم، قال: هيهات! عدلت عنا، فاذهبي فالتمسيها ذات الشمال، فملت عن شمالي، فَإِذَا أنا بأمي قائمة عريانة متزرة بخرقة، بيدها شحيمة تنادي: والهفاه، واحسرتاه، واعطشاه.

فَإِذَا بلغها الجهد دلكت تلك الشحيمة براحتها ثم لحستها، وإذا بين يديها نهر جار، قلت: يا {أماه} (1) ما لك تنادين العطش وبين يديك نهر جار؟! قالت: لا أترك أن أشرب منه. قلت: أفلا أسقيك؟ قالت: وددت أنك فعلت، فغرفت لها غرفة فسقيتها، فلما شربت نادى مناد من ذات

(1) ليست في "الأصل" والسياق يقتضيها.

ص: 429

اليمين: ألا من سقي هذه المرأة شلت يمينه مرتين- فأصبحت شلاء اليمين، لا أستطيع أن أعمل بيميني. قالت لها عائشة: وعرفت الخرقة؟ قالت: نعم يا أم المؤمنين، وهي التي رأيتها عليها، ما رأيت أمي تصدقت بشيء قط، إلا أن أبي نحر ذات يوم ثورًا، فجاء سائل فعمدت أمي إِلَى عظم عليه شحيمة فناولتها إياه، وما رأيتها تصدقت بشيء إلا أن سائلاً جاء يسأل، فعمدت أمي إِلَى خرقة فناولتها إياه.

فكبرت عائشة- رضي الله عنها وقالت: صدق الله وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (1).

أخرجه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الترغيب والترهيب" من طريق أبي الشيخ الأصبهاني الحافظ بإسناد حسن.

من خرج إِلَى سفر من أسفار الدُّنْيَا بغير زاد، ندم حيث يحتاج إِلَى الزاد، فلا ينفعه الندم وربما هلك. فكيف بمن رحل إِلَى سفر الآخرة مع طوله ومشقته بغير زاد؟!

السّقم في جسمي له تزداد

والعمر ينقص والذنوب تزاد

ما أبعدْ سفرتي وما لي زاد

ما أكثر بهرجي ولي نقَّاد

كان عليّ رضي الله عنه يقول في الليل: آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

وبكى أبو هريرة عند موته وقال: إِنَّمَا ابكي عَلَى بعد سفري وقلة زادي.

إذا شكا من قلة الزاد من زاده كثير فكيف يقول من لا زاد له؟!

يا جامع المال ما أعددت للحفر

هل يغفل الزاد من أضحى عَلَى سفر

(1) الزلزلة: 7 - 8.

ص: 430

قال ابن السماك: ما بكوا لسكرة الموت، إِنَّمَا بكوا لحسرة الفوت، خرجوا من دار لم يتزودوا منها، وقدموا عَلَى دار لا زاد لهم فيها.

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

وأبصرت بعد الموت من قد تزودا

ندمت عَلَى أن لا تكون شركته

وأرصدت ما قد كان من قبل أرصدا

أما الخليل الثالث: فهو العمل، وهو الخليل الَّذِي يدخل مع صاحبه قبره فيكون معه فيه، ويكون معه إذا بعث، ويكون معه في مواقف القيامة، وعلى الصراط، وعند الميزان، وبه تقتسم المنازل في الجنة والنار.

قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (1).

وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (2). قال بعض السَّلف: في القبر.

يعني أن العمل الصالح يكون مهادًا لصاحبه في القبر، حيث لا يكون للعبد من متاع الدُّنْيَا فراشٌ ولا وسادٌ ولا مهاد؛ بل كل عامل يفترش عمله ويتوسده من خيرٍ أو شر.

فالعاقل من عمر بيته الَّذِي تطول إقامته فيه، ولو عمره بخراب بيته الَّذِي يرتحل عنه قريبًا لم يكن مغبونًا؛ بل كان رابحًا.

قال وهب بن منبه: قال لقمان لابنه: يا بني، لكل إنسان بيتان: بيتٌ غائبٌ، وبيتٌ شاهد؛ فلا يُلهينّك بيتك الشاهد الَّذِي فيه عمرك القليل، عن بيتك الغائب الَّذِي فيه عمرك الطويل.

(1) فصلت: 46.

(2)

الروم: 44.

ص: 431

وقال بعض السَّلف: اعمل للدنيا عَلَى قدر مكثك فيها، واعمل للآخرة عَلَى قدر مكثك فيها.

وقال بعضهم: لابن آدم بيتان: بيتٌ عَلَى الأرض، وبيتٌ في بطن الأرض، فعمد إِلَى الَّذِي عَلَى وجه الأرض، فزخرفه وزيّنه، وجعل فيه أبوابًا للشمال، وأبوابًا للجنوب، ووضع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه، ثُم عمد إِلَى الَّذِي في بطن الأرض فأخربه؛ فَإِذَا قيل: هذا البيت الَّذِي أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري. قِيلَ لَهُ: والذي أخربته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي. قال: تقرُّ بهذا عَلَى نفسك وأنت رجلٌ تعقل؟!

كان عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه في المقابر في جنازة ومعه شاب من أقاربه فيه بعض غفلة، فَقَالَ عثمان: اطلع إِلَى بيتك، فاطلع في القبر. فَقَالَ له: ما ترى؟ قال: أرى بيتًا ضيقًا مظلمًا، ليس فيه طعامٌ ولا شرابٌ ولا زوجة، وقد تركت بيتًا فيه طعامٌ وشرابٌ وزوجة، قال: فإن هذا والله بيتك. قال: صدقت، أما والله لو رجعت نقلت من ذلك إِلَى هذا.

قال الحسن: تبع رجلٌ من المسلمين جنازة أخيه، فَلَمَّا دُلي في قبره قال الرجل: ما أرى تبعك من الدُّنْيَا إلا ثلاثة أثواب، أما والله لقد تركتُ بيتي كثير المتاع، أمَا والله إِن أقالني اللهُ حتى أرجع لأقدِّمنَّه بين يدي. قال: فرجع فقدمه -والله- بين يديه، وكانوا يرون أنه كان عمر بن عبد العزيز.

وكان ينشد هذه الأبيات كثيرًا:

من كان حين تصيبُ الشمسُ جبهته

أو الغبارُ يخاف الشين والشَّعثا

ويألف الظل كي تبقى بشاشته

فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثا (1)

(1) الجدث: القبر. "اللسان" مادة: (جدث).

ص: 432

في ظل مقبرةٍ غبراء مظلمة

يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا

تجهزي بجهاز تبلغين به

يا نفسُ قبل الردئ لم تخلقي عبثا

فالمؤمن يأتيه عمله الصالح في قبره في أحسن صورة، فيبشّره بالسعادة من الله، والكافر بعكس ذلك.

والأعمال الصالحة تُحيط بالمؤمن في قبره؛ في "صحيح ابن حبان"(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالصَّوْمُ عَنْ شِمَالِهِ، وَفِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: لَيْسَ قِبَلِي مَدْخَلٌ

" وذكر سائر الأعمال كذلك، وقال في الكافر: "يؤتى من هذه الجهات فلا يوجد شىء فيجلس خائفًا مرعوبًا".

قال عطاء بن يسار: إذا وضع الميت في لحده، فأول شيء يأتيه عمله، فيضرب فخذه الشمال فيقول: أنا عملك. فيقول: فأين أهلي وولدي وعشيرتي وما خولني الله؛ فيقول: تركت أهلك وولدك وعشيرتك وما خوّلك الله وراء ظهرك، فلم يدخل معك قبرك غيري. فيقول: يا ليتني آثرتك عَلَى أهلي وولدي وعشيرتي وما خولني الله، إذ لم يدخل معي غيرك.

قال يزيد الرقاشي: بلغني أن الميت إذا وضع في قبره احتوشته (2) أعماله، ثم أنطقها الله، فقالت: أيها العبدُ المنفردُ في حفرته، انقطع عنك الأخلاء والأهلون، فلا أنيس لك اليوم غيرنا، ثم بكى يزيد وقال: طوبى لمن كان أنيسه صالحًا، والويل لمن كان أنيسه وبالاً.

(1) كما في "الإحسان"(3133).

(2)

أي جعلوه وسطهم. "اللسان" مادة: (حوش).

ص: 433

تزوَّد قرينًا من فعالك إِنَّمَا

قرين الفتى في القبر ما كان يفعلُ

وإن كنت مشغولاً بشيءٍ فلا تكن

بغير الَّذِي يرضى به اللهُ تُشغلُ

فلن يصحبَ الإنسانُ من بعد موته

إِلَى قبره إلا الَّذِي كان يعمل

ألا إِنَّمَا الإنسان ضيفٌ لأهله

يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل

انتهى والحمد لله وحده وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا (1).

(1) كتب في الهامش: فتنبه أيها الغافل لأمرك قبل أن ترهن بعملك في قبرك، وتزود لطول سفرتك بك في حفرتك، وتأهب بتحويل عدتك قبل مدتك، قبل حلول الآجال، وورود الأهوال قبل القيامة، قبل أن تحاط في قبرك بالأعمال، وينصرف مشيعوك بالآمال، يتحدثون في قسمة ما خلفت من العقار والأموال.

والحمد لله -تعالى- طالعت هذه الرسالة الشريفة فوجدتها نافعة مفيدة، رحمة الله تعالى لمؤلفها ولمن طالعها آمين.

ص: 434

صدقة السر وفضلها

ص: 435

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر يا كريم

فصل في صدقة السر

وفي فضلها نصوصٌ كثيرة، فمن القُرآن قولُه:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1).

ومن السنة حديث: "رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ"(2).

وحديث: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ» (3).

وحديث أنس: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ فَخَلَقَ الجِبَالَ

" الحديث، وفي آخره: "قِيلَ: {فَهَلْ} (4)"مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ، يَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ بِيَمِينِهِ فَيُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ"(5).

وحديث أبي ذر، وزاد: ثم شرع بهذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (1).

(1) البقرة: 271.

(2)

أخرجه البخاري (1423)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه أبو داود (1333)، والترمذي (2919) وقال: هذا حديث حسن غريب، والنسائي (3/ 225)، (5/ 80)، وأحمد (4/ 151، 158، 201) من حديث عقبة بن عامر.

(4)

زيادة يقتضيها السياق.

(5)

أخرجه الترمذي (3369)، وأحمد (3/ 124) وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه.

ص: 437

وحديث: "وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ عز وجل وتدفع ميتَة السوء" خرّجه الترمذي (1)، وابن حبان (2).

وحديث أبي طلحة، لما تصدق بحائطه وقال: صلى الله عليه وسلم "لَوْ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّهُ لَمْ أُعْلِنْهُ" خرّجه الترمذيّ (3) في تفسيره.

واختلفوا في الزكاة: هل الأفضل إسرارها أم إظهارها، فروي عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، قال:"جعل الله صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفًا". خرَّجه ابنُ جرير. وفي رواية قال: "وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها".

وقال سفيان الثوري في هذه الآية: هذا في التطوع.

وعن يزيد بن أبي حبيب: إِنَّمَا نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر.

قال ابنُ عطية: وهذا مردود، لا سيّما عند السَّلف الصالح؛ فقد قال ابنُ جرير الطبري: أجمع الناس أنَّ إظهار الواجب أفضل.

قال المهدوي: وقيل المُراد بالآية فرض الزكاة والتطوع، وكان الإخفاءُ فيها أفضل في مُدة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ساءت ظنونُ الناس بعد ذلك، فاستحسن العُلَمَاء إظهارَ الفرائض؛ لئلا يظن بأحد المنع.

قال ابنُ عطية: وهذا القول مخالف للآثار، قال: ويحسن في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها، وصار إخراجُها عُرضة للرياء. هذا الَّذِي تخيَّله ابنُ عطية ضعيف. فلو كان الرجلُ في مكان يترك أهلُه الصلاة، فهل يُقال: إِنَّ الأفضل أن لا يُظهر صلاته المكتوبة؟!

(1) برقم (664) من حديث أنس. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

(2)

كما في "الإحسان"(3309) من حديث أنس.

(3)

برقم (2997) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 438

وقال النقاش: إنّ هذه الآية نسخها قولُه تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً

} (1) الآية. انتهى ما ذكره.

ودعوى النسخ {ضعيفة} (2) جدًّا، وإنما معنى هذه الآية كمعنى التي قبلها أن النفقة تقبل سرًّا وعلانية.

وحُكي عن المهدوي أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (3) رخّصت في صدقة الفرض عَلَى أهل القرابات المشركين.

قال ابنُ عطية: وهذا عندي مردود.

وحكي عن ابن المنذر نقل إجماع من يحفظ، أنه لا يُعطى {أهل} (4) الذِّمة من صدقة المال شيئًا.

قلتُ: رُوي عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (5): إِنَّ المساكين أهل الكتاب. وإسنادُه لا يثبت.

وروى الثعلبي بإسناده عن سعيد بن سويد الكلبي يرفعه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الجهر بالقراءة والإخفاء. فَقَالَ: هي كمنزلة الصدقة {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (6).

وروى الثعلبي في تفسيره، عن أبي جعفر في قوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} قال: هي الزكاة المفروضة {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قال: يعني التطوع. هذا تفسير غريب. تم.

(1) البقرة: 274.

(2)

في الأصل: "ضعيف". والمثبت أنسب للسياق.

(3)

البقرة: 272.

(4)

ليست في الأصل، والصواب إثباتها.

(5)

التوبة: 60.

(6)

البقرة: 271.

ص: 439

نزهة الأسماع في مسألة السماع

"أحكام الغناء والمعازف"

ص: 441

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، رب يسر وأعن يا كريم

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ المتقن المحقق زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي [تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته بمنه وكرمه. آمين](*).

سُئلت عن السماع المحدث، وما يتضمنه من سماع الغناء وآلات اللهو، هل هو محظور أم لا؟ وهل ورد في حظره دليل صريح أم لا؟ وعن سماعه من المرأة الأجنبية، وعمّن يفعله قربة وديانة.

فأجبت والله والموفق:

هذه المسائل قد انتشر فيها من الناس المقال، وكثر القيل فيها والقال، وصنّف الناس فيها تصانيف مفردة، وذكرت في أشاء التصانيف ضمنًا، وتكلم فيها أنواع الطوائف، من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية. ثم منهم من يميل إِلَى الرخصة، ومنهم من يميل إِلَى المنع والشدَّة.

واستيفاء الكلام في ذلك يستدعي تطويلاً كثيرًا، ولكن سنشير -إِنَّ شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه- إِلَى نكتٍ مختصرةٍ وجيزة، ضابطة لكثير من مقاصد هذه المسائل، ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شر أنفسنا، وأن يجعل قصدنا بذلك بيان الحق الَّذِي بعث به رسوله، وأن يزيد المهتدي منا ومن إخواننا المسلمين هدى، وأن يُراجع بالمسيء إِلَى الحق الَّذِي يرتضيه، في خير وعافية. بمنه ورحمته آمين.

فنقول: سماع الغناء وآلات الملاهي عَلَى قسمين:

فإنه تارة يقع ذلك عَلَى وجه اللعب واللهو، وإبلاغ النفوس حظوظها من الشهوات واللذات.

(*) في "نسخة": متعنا الله والمسلمين بطول حياته وختم لنا وله بالخير، إنه عَلَى كل شيء قدير.

ص: 443