الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العوامل الخارجية:
كانت تلكم هي أهم العوامل والمؤثرات الداخلية في نشأة علم العقيدة واستقلاله عن العلوم الأخرى. وهنا نشير إلى العوامل الخارجية التي ساهمت في نشوء وتطور التدوين في الجانب العقائدي، وهي احتكاك المسلمين بغيرهم من أصحاب الديانات والمذاهب الفلسفية، عن طريق اللقاء المباشر والجدل مع أصحابها، أو عن طريق الترجمة التي بدأت في عهد الدولة الأموية، ثم اتسعت في عهد الدولة العباسية.
وكان للخليفة المأمون أثر كبير في هذا، حيث فعل ما لم يفعله السابقون، وهو أنه ترجم الكتب الخاصة بالإلهيات والأخلاق وأمثال ذلك مما سموه بـ "ما وراء الطبيعة".
وليس من غرضنا هنا أن نعرض بالتفصيل لحركة النقل والترجمة وأثرها والمنهج الذي سارت عليه والطريق الذي اتخذته. وحسبنا إشارة سريعة إلى الاحتكاك المباشر بين المسلمين وغيرهم عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وتهيأت الأسباب لهذا الاحتكاك المباشر بين المسلمين واليهود من جهة، وبين المسلمين والنصارى من جهة ثانية، وكذلك بين المسلمين والمجوس، ثم بينهم وبين الفلسفة اليونانية وغيرها.
فاليهود الذين عاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، وهم الذين كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج ببعثة نبي جديد، هم الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وناصبوه العداء من اللحظة الأولى، وتنوّعت وسائلهم في الصد عن الدعوة، والمماطلة والجدال، وإلقاء الشبهات، والحرب الفكرية والنفسية.
وكان القرآن الكريم يتولى مناقشتهم والرد عليهم وبيان مؤامراتهم، كما أوضح
تحريفهم لكتبهم، ورسم صورة صادقة لطبيعتهم ونفسيتهم.
وبعد أن خرج اليهود من الجزيرة العربية، قاموا بدور كبير في عدائهم لهذا الدين -ومنهم من دخل فيه ظاهرا وهم على حقد وضغينة- وقد بدأ اتصالهم بالمسلمين لإثارة الفتنة، فكان لعبد الله بن سبأ دوره في الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت مظاهر الفتنة في نشر فكرة الإمام المعصوم والوصي والرجعة التي تلقفتها عنهم الفرق الباطنية، وأثاروا الجدل بين المسلمين حول الذات الإلهية والصفات، ومعروف عنهم التشبيه والتجسيم كما هو في كتبهم، وقد انتقلت هذه الأفكار إلى التراث الإسلامي مما عرف بـ "الإسرائيليات" في كتب التفسير والحديث.
وأثاروا أيضا بين المسلمين الجدل حول الجبر والاختيار وغير ذلك من أمور عقائدية، وعندئذ قام المسلمون بالرد على مفتريات اليهود وشبهاتهم وناقشوا عقائدهم، واصطنعوا لذلك منهجا يقوم على النظر والدليل، فكان بعد ذلك هذا التراث الإسلامي من كتب العقيدة والرد على اليهود.
وأما النصارى؛ فقد بدأ الجدال بينهم وبين المسلمين في الحبشة أولا، عند الهجرة الأولى للمسلمين، في حقيقة المسيح، وفي الكلمة وغيرها، وفي مسائل تدور حول العقيدة الإسلامية في المسيح. ثم وَفَدَ نصارى نجران إلى المدينة، وجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، قال الله تعالى:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] .
ثم وصل الإسلام إلى الشام والعراق ومصر، فبدأت النصرانية تنازعه نزاعا،
فكريا شديدا1. وثار الجدل حول طبيعة المسيح، وحول مسائل الألوهية، وفكرة الجوهر والعَرَض، والأقانيم الثلاثة، والوحدانية، وفكرة الخطيئة والصلب. وبلغ الجدل ذروته من الشدة بعد "يوحنا الدمشقي""طبيب الأمويين الذي وضع للنصارى أصول الجدل مع المسلمين" على يد "يوحنا النقيوسي" المصري الذي رحل إلى الحبشة وبدأ يرسل رسائله إلى أقباط مصر، يحاول فيها مناقشة العقائد الإسلامية، والحيلولة دون اعتناقهم الإسلام ثم تتابع النقاش في عهد العباسيين2.
وساعد هذا الجدل على توجيه أنظار المسلمين إلى معالجة مسائل جديدة، ومشكلات عقائدية ظهرت على سطح المجتمع الفكري. وقد يكون علم الكلام أيضا -كما سمي في فترة من الزمن- نتيجة التأثر بالكلام النصراني أو اللاهوت.
وكان لترجمة كتب الفلسفة اليونانية والرومانية وإقبال بعض المسلمين عليها، أثر في بعض المسلمين الذين فتنوا بها، فحاولوا التفلسف في ضوئها وتأثروا بها منهجا وموضوعا حين راحوا يفسرون تعاليم الإسلام في ضوء هذه الفلسفة، وحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام، وفسّروا القرآن على ضوء الفكر اليوناني، على
1 انظر: "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" د. على سامي النشار: 1/ 62.
2 وكان لعلماء المسلمين مناقشات لمذاهب المسيحيين، وتركوا لنا تراثا ضخما في هذا المجال يتمثل فيما كتبه ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" والجويني في "شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل" والغزالي في "الرد الجميل" والقرطبي في "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام" وابن تيمية في "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" وابن قيم الجوزية في "هداية الحيارى" وأبو الفضل المالكي في "المنتخب الجليل" والميورقي في "تحفة الأريب" والبغدادي في "الفارق بين المخلوق والخالق" والقرافي في كتابه "الأجوبة الفاخرة" وأبو عبيدة الخزرجي في كتابه "بين الإسلام والمسيحية" وابن معمَّر في "منحة القريب المجيب في الرد على عُبَّاد الصليب" وكلها مطبوعة، وأمثالها كثير.
حد تعبير العلامة المفكر محمد إقبال رحمه الله. ومع أن هذه الفلسفة وسَّعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام، فإنها غشَّت على أبصارهم في فهم القرآن1.
وقام فريق من العلماء المسلمين يزيِّفون آراء الفلاسفة وتهافتهم، ويقيمون صرح التفكير الإسلامي على أسس مغايرة لما حاوله الفلاسفة، وكان نتيجة ذلك كثير من الكتب في الجانب العقائدي.
وليست هذه الفلسفة هي كل ما اتصل به المسلمون وردوا عليه، فهناك أيضا المذاهب الغنوصية الشرقية2.
يقول الدكتور علي سامي النشار: "وقد قابل الإسلام هذه المذاهب في جميع البلاد التي دخلها بلا استثناء. فقابلها في العراق، وفي إيران، وقابلها في مصر في شكل الأفلاطونية المحدثة.
وقد بدأ غنوص تلك المذاهب يهدم الإسلام منذ قوّض الإسلام عقائد تلك المذاهب وطقوسها القديمة، وكانت من أخطر المذاهب الهدامة التي جالدت الإسلام
…
حاربته بالسيف والقلم، وهاجمته بقوة وعنف. على أن هذه الدعوة ما زالت آثارها حتى الآن تتمثل في غلاة الشيعة وفي الإسماعيلية وفي البهائية"3.
1 "تجديد الفكر الديني في الإسلام" ص8، 9. وقد أوضح المقريزي أثر ترجمة كتب الفلسفة على المسلمين فيما نقلناه عنه سابقا في ص57.
2 "الغنوص" أو "الغنوسيس" كلمة يونانية الأصل معناها: المعرفة، غير أنها أخذت بعد ذلك معنى آخر اصطلاحيا، هو التوصل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا. أو هو تذوق تلك المعارف تذوقا مباشرا بأن تلقى في النفس، فلا تستند على الاستدلال أو البرهنة العقلية.
انظر: "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام": 1/ 186، 187، "المعجم الفلسفي" ص133.
3 "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام": 1/ 62، 63.
واتصل المسلمون بهذه المذاهب وناقشوا أصحابها وردوا عليها، ومن خلال المناقشة والرد كانت تتضح كذلك الجوانب العقدية التي يدعو الإسلام إليها، فنشأت الكتابة في العقيدة الإسلامية.
نتائج وملاحظات:
ومن هذا العرض الموجز للعوامل المؤثرة في نشأة علم العقيدة وتدوينه يمكن أن نقول: إن هذه النشأة كانت "استجابة لضرورة طبيعية ملحة، تمثلت في مشكلات سياسية واجتماعية نجمت في حياة المسلمين، وباتت تهدد باستفحالها المطرد البناء الديني، الذي قام عليه المجتمع الإسلامي. كما تمثلت في تحديات دينية وفلسفية مع الأديان والفلسفات القديمة، باتت تروج بين المسلمين وتهدد بنية العقيدة الإسلامية. فهذه المشكلات والتحديات، دفعت الفكر الإسلامي في سبيل الدفاع عن مرجعيته العقدية إلى أن يتجه إلى معالجة تنظيرية، فكانت نشأة علم العقيدة بمنزلة الاستجابة لتحديات ناجمة من صميم واقع المسلمين"1.
وهذا مما يدعو إلى التأكيد على وجوب الالتفات إلى التحديات الفكرية والعقدية والمشكلات المعاصرة ومناقشتها وبيان ما فيها من خطورة على العقيدة الإسلامية، بدلا من الإغراق في دراسة أمور ومشكلات تاريخية لا وجود لها في حياتنا المعاصرة على الأعم الأغلب.
ونجد أمثلة على هذه الكتابات المعاصرة فيما قدمه الأستاذ سيد قطب رحمه الله عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" والأستاذ محمد قطب -حفظه الله- في كتبه وبخاصة "مذاهب فكرية معاصرة"، وفي سلسلة الشيخ محمد سرور زين العابدين -حفظه الله- عن "قضايا العصر على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة"
…
1 "في فقه التدين؛ فقها وتنزيلا" للدكتور عبد المجيد النجار: 2/ 25، 26.
ولئن كانت مواجهة تلك العوامل أمرا ضروريا، فإن بعضها قد سبب انحرافا في المنهج الذي سلكه بعض العلماء، متمثلا في "علم الكلام"، الذي وقف منه علماء السلف موقفا متشددا، على ما سنلمح إليه فيما يأتي، إن شاء الله تعالى.
وفي هذا يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:
"ولقد وقع -في طور من أطوار التاريخ الإسلامي- أن احتكت الحياة الإسلامية الأصيلة المنبثقة من التصور الإسلامي الصحيح، بألوان الحياة الأخرى التي وجدها الإسلام في البلاد المفتوحة، وفيما وراءها كذلك، ثم بالثقافات السائدة في تلك البلاد.
واشتغل الناس في الرقعة الإسلامية، وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد، واستسلموا لموجات الرخاء
…
وجدّت في الوقت ذاته في حياتهم من جراء الأحداث السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأي والمذهبية، كان بعضها في وقت مبكر منذ الخلاف المشهور بين علي ومعاوية.
اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية التي تجمعت حول المسيحية، والتي ترجمت إلى اللغة العربية
…
ونشأ عن هذا الاشتغال الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي في عهد العباسيين، وفي الأندلس أيضا، انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامي الأصيل، التصور الذي جاء ابتداء لإنقاذ البشرية من مثل هذه الانحرافات، ومن مثل هذه الاتجاهات وردها إلى التصور الإسلامي الإيجابي الواقعي، الذي يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة للبناء، والتعمير، والارتفاع والتطهير، ويصون الطاقة أن تنفق في الثرثرة، كما يصون الإدراك البشري أن يُزَجّ به في التيه بلا دليل.
ووجد جماعة من علماء المسلمين أن لا بد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك،
بردود وإيضاحات وجدل حول ذات الله -سبحانه- وصفاته، وحول القضاء والقدر، وحول عمل الإنسان وجزائه، وحول المعصية والتوبة
…
إلى آخر المباحث التي ثار حولها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي، ووجدت الفرق المختلفة: خوارج وشيعة ومرجئة، قدرية وجبرية، سنية ومعتزلة
…
إلى آخر هذه الأسماء.
كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فُتِن بالفلسفة الإغريقية -وبخاصة شروح فلسفة أرسطو، أو المعلم الأول كما كانوا يسمونه- والمباحث اللاهوتية "الميتافيزيقية" وظنوا أن "الفكر الإسلامي" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله؛ أو مظاهر أبهته وعظمته؛ إلا إذا ارتدى هذا الزي -زي التفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات!
وكما يفتن منا اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها، فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية، وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو! "1.
1 انظر: "خصائص التصور الإسلامي" للأستاذ سيد قطب ص11، 12.