الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
الغيبية:
تقوم العقيدة الإسلامية على الإيمان بأصول لا تخضع للحس المباشر أو غير المباشر، وإنما تقع في مجال عالم الغيب، وهو العالم الذي غاب عن حواسنا ولا تقتضيه بداهة العقول.
فالإيمان بالله سبحانه وتعالى هو إيمان بالغيب؛ لأن ذات الله تعالى غيب
بالقياس إلى البشر، والإيمان بالآخرة وما يتصل به، هو كذلك إيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة إيمان بالغيب والإيمان بالقدر
…
كل هذا غيب يؤمن به المؤمن الذي يريد الهداية:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} [البقرة: 2، 3] .
والإيمان بالغيب نزعة فطرية فطر الله تعالى الإنسان عليها، لا ينكرها إلا جاحد قاصر العقل والعلم. ولذلك فإن التنكر لعلم الغيب من قِبَل الماديين، يبدو في مفهوم العلم الحديث نفسه جهلا وضلالا وبعدا عن العلم والحق؛ لأن العلم المادي لا يستطيع أن يحكم على عالم الغيب؛ لأنه خارج عن مجاله، فلا يجوز علميا إنكار شيء لأجل أنه مغيَّب عنا أو غير مُحَس، أو لأنه غير قابل للتفسير، وكم من الأمور التي يتلقاها الناس بعامة والعلماء بخاصة، يتلقونها بالتسليم وهم لم يروها ولم يحسوها1.
ولذلك فإن كل ما تدعو إليه العقيدة الإسلامية وتقوم عليه من هذه الأمور الغيبية غير متناقضة مع العقل، وليس عنده وسيلة لإنكارها والتكذيب بوجودها، وليس فيها شيء يضطر الإنسان إلى رفضه والتخلي عنه بعد بلوغه أي مرحلة من مراحل الارتقاء العقلي والعلمي. بل الذي يقتضيه العقل على خلاف ذلك: أنها هي الصواب الذي لا يشوبه الخطأ
…
أما الإيمان والتصديق بهذه الأمور الغيبية "المغيبات" فهما مرتهنان بطمأنينة الضمير وشهادة الوجدان. وكل ما للعقل من الدخل في شأنهما هو أن الأمور التي يكون التصديق بها مخالفا للعقل، فإن صراعا يقوم في شأنها بين العقل والوجدان، ولا يكون إيمان الإنسان بها إلا ضعيفا. وأما
1 انظر: "عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي" ص57-64.
الأمور التي لا يكون التصديق بها مخالفا للقياس العقلي، أو التي يساعد العقل على التصديق بها، فإن الضمير يزداد طمأنينة في شأنها، وذلك مما يقوي الإيمان ويزيده أصالة ورسوخا1.
ولذلك فإن الطريق لمعرفة عالم الغيب والتصديق به إنما يكون عن طريق الخبر الصادق الذي يأتينا عن طريق الوحي، كما يكون عن طريق الآثار التي تدل عليه، والفطرة السليمة تتلقى معرفة ذلك بالتسليم والتصديق2.
وهذه الخاصية للعقيدة الإسلامية تميزها عن المذاهب الفكرية المادية التي تتنكر للغيب ولا تؤمن إلا بما تقع عليه الحواس، ويخضع للتجربة الحسية، على ما ذهب إليه المذهب الوضعي التجريبي الذي عُرف به الفيلسوف الأسكتلندي "هيوم" والذي نشأت عنه الفلسفة الوضعية3. كما أن "ماكس مولر" أيضا يذهب إلى أنه لا شيء يتحقق في عقيدة الإنسان ما لم يكن قد أتى من قبل عن طريق حواسه4.
وبذلك يكون الإنسان الأوروبي، "وكل مذهب مادي كذلك" قد سجن نفسه بطريقة تحكمية في حدود حواسه اءلخمس، منذ عهد النهضة الأوروبية5.
كما أن هذه الخاصية للعقيدة الإسلامية لها آثارها الضخمة في حياة الإنسان، فالإيمان بالغيب ارتقاء بالإنسان إلى المستوى الذي يليق بإنسانيته ويميزه عن المخلوقات التي لا تدرك إلا ما تدركه بحواسها. وهو -كذلك- سبيل للتقدم العلمي وسعة الأفق في النظر والفكر، وفيه ضمانة أكيدة لاستقامة نفس المؤمن ونظافة سلوكه، عندما يشعر برقابة الله تعالى عليه، وأنه -سبحانه- يعلم السر وأخفى، فهو يعبد الله كأنه يراه، فيرتقي إلى مرتبة "الإحسان".
ومن هنا كانت الأحكام الدينية ضابطا لسلوك الإنسان المؤمن، وطريقا لتنمية الوازع الداخلي "الوجدان" وهذا ما تفتقده المذاهب والقوانين البشرية التي لا تستطيع أن تضبط سوى الأمور الظاهرية. ولعل في هذا إشارة إلى الحكمة من ربط الأحكام التشريعية بتقوى الله تعالى، وبالخوف من عقابه.
1 "الحضارة الإسلامية: أسسها ومبادئها" للمودودي ص116، 117.
2 "عالم الغيب والشهادة" ص37.
3 انظر عن هذا المذهب ومناقشته: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي ص233-237، "الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان" د. محمد عبد الله دراز ص84-86، "العلمانية: نشأتها وتطورها" د. سفر الحوالي ص377-380.
4 "نشأة الدين" ص70، 71.
5 "تأملات في سلوك الإنسان" تأليف ألكسيس كاريل، ترجمة د. محمد القصاص ص162.