الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الانحراف عن التوحيد:
تمهيد:
ألمحنا في أكثر من موضع: أن الله تعالى قد خلق الإنسان على فطرة التوحيد والإسلام متهيئا لقبول الدين، فلو ترك على فطرته لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين هو دين الفطرة السليمة، وإنما يعدل عنه من يعدل عنه إلى غيره لآفة النشوء والتقليد، فلو سلم من هذه الآفات لم يعتقد غيره1.
فهذه الفطرة قد تنحرف عن الخط المستقيم، وعن الهدي الرباني، عندما تتضافر جملة من عوامل الانحراف، ويأخذ هذا الانحراف صورا ثلاثا هي: الشرك، والكفر، والنفاق.
وسنقف لكل واحد من هذه الانحرافات فقرة نوضح فيها معناه وأنواعه؛ لنخلص بعد ذلك إلى الفرق بينها ونسبة كل منها إلى الآخر.
أولا: الشرك
تعريفه في اللغة:
"الشين والراء والكاف؛ أصلان، أحدهما يدل على مقارنة وخلاف انفراد
…
وهو أن يكون الشيء بين اثنين، لا ينفرد به أحدهما. يقال: شاركت فلانا في الشيء؛ إذا صرت شريكه. وأشركت فلانا؛ إذا جعلته شريكا لك"2.
1 انظر: "تفسير البغوي": 6/ 270 والمراجع المشار إليها في حاشيته، "معالم السنن" للخطابي: 7/ 83-88.
2 "معجم مقاييس اللغة": 3/ 365، والنقاط في النص تشير إلى كلام محذوف عن الأصل الثاني اختصارا.
وقال الحرالي: "الشرك: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس معه أمره"1.
وقال الجوهري: "الشرك: الكفر. وقد أشرك فلان بالله، فهو مشرك ومشركيّ بمعنى واحد"2.
وقال ابن منظور: "أشرك بالله: جعل له شريكا في ملكه -تعالى الله عن ذلك- والشرك: أن يجعل لله شريكا في ربوبيته -تعالى الله عن الشركاء والأنداد- والاسم الشرك. وإنما دخلت التاء في قوله: "لا تشرك بالله" لأن معناه: لا تعدل به غيره فتجعله شريكا له
…
ومن عدل به شيئا من خلقه فهو كافر مشرك؛ لأن الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا نديد"3.
وفي الاصطلاح الشرعي: يطلق لفظ الشرك على نوعين؛ أحدهما
إثبات شريك لله تعالى وهو الشرك الأكبر. والثاني: مراعاة غير الله في بعض الأمور، وهو الشرك الأصغر4.
أ- الشرك الأكبر:
وهو أن يتخذ مع الله تعالى، أو من دونه، إلها آخر، يعبده بنوع من أنواع العبادة، فيسوي بين الله تعالى وبين الأنداد. وهذا أعظم الشرك والظلم، ولا يغفره الله لصاحبه إن مات عليه؛ لأنه يناقض أصل التوحيد، ويخرج صاحبه عن الملة ويحبط عمله ويخلّده في النار5.
1 "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي، مادة شرك "مخطوط بدار الكتب المصرية".
2 "الصحاح" للجوهري: 4/ 1593، 1594.
3 "لسان العرب": 10/ 449، 450.
4 انظر: "مفردات القرآن" ص259، 260، "بصائر ذوي التمييز": 3/ 313-315.
5 انظر: "مدارج السالكين: 1/ 339-344، "شرح القصيدة النونية" للهراس: 1/ 134 وما بعدها "معارج القبول" للشيخ حافظ حكمي، 2/ 475-485.
وأصل هذا الشرك ومنشؤه:
هو تسوية غير الله بالله تعالى، أو هو تشبيه غير الله بالله سبحانه وتعالى في صفة من الصفات التي يختص بها، من صفات العظمة والكمال، مما لم يعهد في جنس الإنسان. وذلك أن الذي يعبد كائنا ما فيدعوه من دون الله -أو مع الله- لا يفعل ذلك إلا لاعتقاده أن عنده صفة يستحق من أجلها الدعاء، فهو يسمع دعاءه ويستجيب له.
ومن يطلب الشفاعة من غير الله تعالى؛ يعتقد أن الشافع يملك شيئا مع الله؛ فلذلك يطلب منه، وكأنه -كذلك- يشبِّه الله تعالى بالمخلوقات، حيث يرى أن بعض أموره في الدنيا تقضى بوساطة من صاحب مكانة، فيظن أن الله تعالى كذلك يحتاج إلى وساطة، سبحانه وتعالى.
ومن يخاف كائنا من الكائنات، إنما يخاف منه لاعتقاده أنه يقدر على أن يجلب له نفعا أو يدفع عنه ضرا، وهذا مما اختص الله تعالى به.
ومن يتخذ حكم أحد من البشر شرعا وقانونا، ويتلقى أوامره ونواهيه شريعة واجبة الاتباع، إنما يفعل ذلك لاعتقاده أن هذا الحاكم له سلطة الأمر والنهي الواجبة الاتباع، كسلطة الله تعالى على خلقه
…
وهكذا1.
ولئن كان الشرك في القديم -غالبا- يتخذ صورة واحدة، وهي الخضوع للأصنام أو الطواف حولها، والسجود لها، والذبح عندها.. فإن عبادة الأصنام ليست إلا لونا واحدا من ألوان الشرك وأنواعه، فمنهم من كان يحلل ويحرم من تلقاء نفسه، أو يزعم أن له سلطة التحليل والتحريم، فيمنع أنواعا من التصرفات أو
1 انظر: حجة الله البالغة للدهلوي: 1/ 124-126، "المصطلحات الأربعة في القرآن" للمودودي ص14، 15.
المآكل أو غيرها، ومنهم من كان يعبد الجن، ومنهم من كان يعبد الملائكة، ومنهم من كان يعبد الكواكب والنجوم، كما حكى الله تعالى عنهم في مواضع من كتابه الكريم1.
ولئن كانت الأصنام -فيما سبق من عصور الجاهلية- تظهر بصورة مادية محسة، يتخذونها من خشب أو ذهب أو فضة على صورة إنسان، وقد تتخذ من حجر فتسمى عندئذ وثنا2، لئن كان كذلك، فإن الأصنام قد تظهر في عصور أخرى بصور عديدة ومظاهر شتى؛ قد تكون مذهبا من المذاهب الفكرية الجاهلية كالديمقراطية أو الوطنية أو القومية
…
وقد تكون مذهبا اقتصاديا كالرأسمالية والاشتراكية
…
وقد تكون أهواء وشهوات يخضع لها الناس، فلا يهوون شيئا إلا عبدوه3، وقد حكى الله تعالى ذلك عن أقوام فقال:
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] .
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .
وقد تكون الأصنام مجموعة من القيم الاجتماعية، أو القيم المادية التي تسيطر على الناس فيخضعون لها، ويتحركون بحركتها، فتكون لهم دينا ومذهبا:
1 انظر: "خصائص التصور الإسلامي" ص39-41، "ماذا خسر العالم؟ " للندوي ص62-64 وبتوسع:"بلوغ الأرب" للآلوسي.
2 انظر: "كتاب الأصنام" لابن السائب الكلبي، ص33.
3 انظر: "تفسير البغوي": 6/ 85، "تفسير ابن كثير": 6/ 122، 7/ 253.
"تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"1.
ونجد لهذه الأصنام من القيم المادية مُثُلا كثيرة في الحياة الأوروبية المعاصرة -ومن ورائها في حياة من تشبه بهم المسلمين- نشير إليها بمقتطفات عن المستشرق الأوروبي "ليوبولدفايس" من مفكري الحضارة الغربية، وممن عاش في ظلها، ثم أدركته هداية الله فأسلم وتسمى باسم "محمد أسد"، يقول في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق":
"إن الاتجاه الديني مبنيّ دائما على الاعتقاد بأن هناك قانونا أدبيا مطلقا شاملا، وأننا نحن البشر مجبرون على أن نخضع أنفسنا لمقتضياته. ولكن المدنية الغربية الحديثة لا تقر الحاجة إلى خضوع ما إلا لمقتضيات اقتصادية أو اجتماعية أو قومية. إن معبودها الحقيقي ليس من نوع روحاني، ولكن الرفاهية، وإن فلسفتها الحقيقية المعاصرة إنما تجد قوة التعبير عن نفسها من طريق الرغبة في القوة، وكلا هذين موروث عن المدنية الرومانية القديمة".
"
…
وهكذا أصبح المال إلها جديدا في الغرب يعبد من دون الله، وقامت في
1 أخرجه البخاري في الجهاد: 6/ 81، وفي الرقاق: 11/ 253.
عواصم أوروبا أسواق المال والبورصة، مثل ريجنت ستريت في لندن ووول ستريت في نيويورك. ثم جعل كهان هذا الإله الجديد يستغلون الناس بكل سبيل، يجمعون من شعوب الأرض دريهماتهم القليلة ليخزنوها ملايين في صناديقهم الحديدية. ولما زاد شَرَههم إلى المال أخذوا يثيرون الحروب بين الأمم ثم يبيعون المتحاربين كلهم سلاحا، لا يهمهم من مات، ولا يهمهم من قتل، ولا من خربت أرضه ودياره، ولا من جاع أو عطش أو عري أو ظل جاهلا، ما داموا يجمعون المال في صناديقهم ليزيدوا به نفوذهم السياسي والعسكري في العالم، ثم ليستخدموا هذا النفوذ من جديد في سبيل قناطير جديدة من الأموال، وهكذا دواليك".
"إن الأوروبي العادي -سواء كان ديمقراطيا أم فاشيا، رأسماليا أم بلشفيا، صانعا أم مفكرا- يعرف دينا إيجابيا واحدا هو التعبد للرقي المادي، أي: الاعتقاد بأن ليس في الحياة هدف آخر سوى جعل هذه الحياة نفسها أيسر فأيسر".
"إن هياكل هذه الديانة إنما هي المصانع العظيمة ودور السينما والمختبرات الكيماوية وباحات الرقص وأماكن توليد الكهرباء. وأما كهنة هذه الديانة فهم الصيارفة والمهندسون وكواكب السينما وقادة الصناعات وأبطال الطيران
…
"1.
أنواع الشرك الأكبر:
وفيما يلي إيجاز لبعض أنواع الشرك الأكبر:
1-
شرك الدعاء:
ومعنى الدعاء: سؤال العبد ربه تبارك وتعالى العناية، واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية
1 "الإسلام على مفترق الطرق" مقتطفات من ص35-48، ترجمة الدكتور عمر فروخ، وبعض المقتطفات عن المترجم نفسه.
واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل وإضافة الجود والكرم إليه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"الدعاء هو العبادة"1.
ومعناه: أنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة، بل هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة؛ لدلالته على الإقبال على الله عز وجل والإعراض عما سواه2.
والدعاء يشمل دعاء العبادة والثناء، ودعاء المسألة والطلب؛ ويراد بهما في القرآن الكريم هذا تارة، وهذا تارة، ويراد بهما مجموعهما، وهما متلازمان.
فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو دفع ضر، إذ الذي يدعى لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر.
ودعاء العبادة والثناء: هو ما يقصد به العبد ثناء على الله تعالى بما هو أهله، تذللا له، وانكسارا بين يديه، سبحانه وتعالى.
ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، ودعاء المسألة متضمّن لدعاء العبادة، وهما متلازمان لا بد من اجتماعهما، ولا يكفي أحدهما عن الآخر3.
فإذا توجه الإنسان بواحد من هذين النوعين لأحد غير الله تعالى، كأن يدعو
1 أخرجه أبو داود: 2/ 141، والترمذي: 9/ 311، 312، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "كتاب التفسير": 2/ 253، وابن ماجه: 2/ 1258، والطيالسي ص108، وصححه الحاكم: 1/ 490، ووافقه الذهبي، وابن حبان برقم "2396""من موارد الظمآن"، والإمام أحمد: 4/ 267، وابن أبي شيبة: 10/ 200، وانظر:"فتح الباري": 11/ 94، "الفتوحات الربانية" لابن علان: 7/ 191.
2 انظر: "شأن الدعاء" للخطابي ص4، 5، "الفتوحات الربانية": 7/ 192.
3 "فتاوى شيخ الإسلام": 1/ 243، 244، 8/ 109، "بدائع الفوائد" لابن القيم: 3/ 2-5.
ميتا أو غائبا، أو أن يقول للميت أو الغائب: ادع الله لي
…
فهذا كله لون من ألوان الشرك، حتى ولو كان ينطق بالشهادتين ويصلي ويصوم، إذ شرط الإسلام -مع التلفظ بالشهادتين- أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله، فما أتى بهما حقيقة، فمجرد التلفظ لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما1.
ولهذا تواردت الآيات القرآنية الكريمة في النهي عن دعاء غير الله تعالى، كقوله:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس: 106، 107] .
أما الله تعالى وحده فهو الذي يستجيب الدعاء؛ ولذا فهو وحده الذي يستحق الدعاء والثناء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] .
والإنسان بفطرته، حتى ولو كان من أكثر الناس كفرا وإلحادا، لا يملك في وقت الشدة والاضطرار إلا أن يرفع يديه للسماء ويدعو: يا رب:
1 انظر: "مجموع الفتاوى": 1/ 313، 350-358، 27/ 72-87، "تيسير العزيز الحميد" ص219-233، وفيه نقول عن علماء المذاهب الأربعة في تحريم الدعاء لغير الله تعالى، "ضوابط التكفير" تأليف عبد الله القرني، ص114-123.
2-
شرك العبادة والتقرب:
والصورة الواضحة الجلية لهذا النوع من الشرك هي ما كان معروفا من عبادة الأصنام والأوثان وإعطائها بعض خصائص الألوهية؛ ولذلك كانوا يطوفون حولها ويتمسَّحون بها، ويذبحون لها وينذرون، كي تقربهم إلى الله تعالى مكانة ومنزلة، وكأنهم يعتقدون أن الله تعالى بحاجة إلى هذه الواسطة، يستمدون بها من الله رزقا أو عطاء أو شفاعة أو قضاء حاجة من الحاجات:
"فهؤلاء كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السموات والأرض، ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق بالعبادة، وفي إخلاص الدين كله لله بلا شريك، وإنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه، ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها، ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة -وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة- ليست عبادة لها في ذاتها، وإنما هي زلفى وقربى لله؛ كي تشفع لهم عنده في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا.
وهو انحراف عن الفطرة واستقامتها إلى هذا التعقيد والتخريف، فلا الملائكة بنات الله، ولا الأصنام تماثيل الملائكة، ولا الله سبحانه وتعالى يرضى بهذا الانحراف، ولا هم يقبل فيهم شفاعة، ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق.
.. وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء والمشايخ حول الأضرحة تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة -أو تماثيل الملائكة- تقربا إلى الله بزعمهم، وطلبا للشفاعة عنده
…
وهم يكذبون على الله بأن هذه العبادة تشفع لهم عنده. وهم يكفرون بهذه العبادة، ويخالفون فيها عن أمر الله الواضح الصريح"1.
ونرى صورة أخرى لذلك عند أولئك الذين يخشون -في دخيلة أنفسهم- غضبة الذين يعظمونهم من ولاة وشيوخ وعظماء، ولا يخشون غضبة الله، والذين يعتقدون فيمن يعظمونهم أنهم أقرب ضرا ونفعا من الله، سواء كانوا ملوكا وعلماء ورؤساء2!
3-
شرك الشفاعة:
وهذا اللون من الشرك نتيجة لازمة لشرك التقرب، فالذي يعبد الأصنام والأولياء إنما يفعل هذا -كذلك- كي تشفع له عند الله تعالى في التجاوز عن الذنوب والجرائم3، وفي تحقيق الآمال والوصول إلى الرغبات؛ ظنا منه أن الأصنام أو الأولياء أو غيرهم يملك هذه الشفاعة، ويستحق أن تستجاب شفاعته وطلبه من الله تعالى!
ومن يفعل ذلك فما قدر الله حق قدره؛ لأنه سبحانه وتعالى غنيّ عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه ومحتاج لا يملك نفعا ولا ضرا. ولذلك كان هذا العمل شركا، تعالى الله عنه:
1 "في ظلال القرآن" المجلد الخامس ص3037، وانظر:"تفسير ابن كثير": 7/ 75.
2 "مقرر التوحيد" 2/ 28، 29، وزارة المعارف، الرياض.
3 "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير: 2/ 485، وانظر:"مجموع الفتاوى": 1/ 124.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43] .
ولهذا نفى الله تعالى نفيا قاطعا أن يكون ذلك طريقا صحيحا للتقرب إليه، وبيّن أن هذا اللون من الشفاعة منفيّ غير مقبول عنده سبحانه:
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] .
{أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] .
{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] .
وإذا كانت تلك شفاعة شركية غير مقبولة، فإن هناك شفاعة شرعية جعلها الله تعالى لمن يشاء ويرضى عنه فيشفع. وإلى هذه الشفاعة أشارت الآيات القرآنية الكريمة، وشرطت لها شروطا ثلاثة1:
1-
أن تكون الشفاعة في شيء يقدر عليه الشافع. فالميت والغائب لا يملك أحد منهما شيئا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] .
1 انظر بالتفصيل: "مجموع الفتاوى": 1/ 86، 87، 113-125، 179-181، 14/ 299-345، ومواضع أخرى في "تيسير العزيز الحميد" ص273 وما بعدها "الشفاعة" تأليف مقبل بن هادي ص12، 13، "ضوابط التكفير" ص108-114.
2-
أن يكون المشفوع له مسلما يرضى الله تعالى الشفاعة له، فلا شفاعة للكافرين:
{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] .
{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
3-
أن يأذن الله للشافع بأن يشفع، وأن يقول صوابا:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
{لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] .
{لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] .
وقد ادخر الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنواعا من الشفاعة يوم القيامة، تنال -إن شاء الله- من مات من أمته لا يشرك بالله شيئا، حسبنا هنا الإشارة إليها1، ونسأل الله سبحانه أن يشفِّع فينا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
ولا يغيبنّ عن البال أن الكلام السابق في الشفاعة غير المشروعة لا يدخل فيه الشفاعة في أمور الدنيا المباحة مما يجوز أن يشفع فيه الإنسان، كأن يسعى في أمر فيترتب عليه خير لمن يشفع له. ففي الحديث الصحيح:"اشفعوا تُؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء"2.
1 انظر التفصيل والأحاديث الواردة في الشفاعة في: "جامع الأصول" لابن الأثير: 11/ 475-490، "شرح العقيدة الطحاوية""229-239"، "الشفاعة" للوادعي ص17 وما بعدها.
2 أخرجه البخاري في التوحيد: 13/ 448، ومسلم في البر: 4/ 2026.
4-
شرك الطاعة والاتباع:
تقدم فيما سبق أن توحيد الألوهية مترتب على توحيد الربوبية، فإن الله سبحانه وتعالى هو وحده خالق الكون ومالكه، وهو الذي يسيّره ويصرف شئونه، فينبغي كذلك أن يكون متفردا بالحكم، أمرا ونهيا، تحليلا وتحريما، وينبغي على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله، ويحكموا به، وأن يطيعوه سبحانه في كل ما حكم به، فإن ذلك مقتضى العبادة وأصلها ومعناها وحقيقتها.
ولذلك اتفق العلماء على أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد يستحق أن ينفذ حكمه على الخلق إلا من كان له الخلق والأمر سبحانه وتعالى "فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الله الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له. أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا، لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجَب عليه أن يقلب عليه الإيجاب؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن: الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته"1.
وقد أوسع هذا المعنى شرحا العز بن عبد السلام رحمه الله في "قواعد الأحكام" حيث قال في "قاعدة: فيمن تجب طاعته، ومن تجوز طاعته، ومن لا تجوز طاعته":
1 "المستصفى" للغزالي: 1/ 83. وهذا موضع اتفاق كما سبق، ويبحثه علماء الأصول تحت عنوان: الحاكم. انظر: "الإحكام" للآمدي: 1/ 76، "مسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت": 1/ 25، "شرح الكوكب المنير": 1/ 484، "مباحث الحكم عند الأصوليين"، ص162، 163، "المشروعية الإسلامية العليا""28-37".
"لا طاعة لأحد من المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته كالرسل والعلماء، والأئمة والقضاة، والولاة، والآباء والأمهات والسادات والأزواج، والمستأجرين في الإجارات على الأعمال والصناعات. ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل؛ لما فيها من المفسدة الموبقة في الدارين أو في إحداهما، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنسانا على أمر يبيحه الإكراه، فلا إثم على مطيعه. وقد تجب طاعته لا لكونه آمرا، بل دفعا لمفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بُضع، ولو أمر الإمام أو الحاكم إنسانا بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه، فهل له فعله، نظرا إلى رأي الآمر، أو يمتنع نظرا إلى رأي المأمور؟ فيه خلاف، وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به. فإذا كان مما ينقض حكمه به فلا سمع ولا طاعة. وكذلك لا طاعة لجَهَلَة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون في الشرع".
"وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه وما من ضير إلا هو سالبه، وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا بأولى من البعض؛ إذ ليس لأحد منهم إنعام بشيء مما ذكرته في حق الإله. وكذلك لا حكم إلا له.. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} "1.
وقد تواردت النصوص القرآنية الكريمة مؤيدة لهذا المنطق السليم، فهي تلزم البشر باتباع ما جاء من عند الله تعالى، وتحرم عليهم تحريما قاطعا اتباع ما يخالفه:
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106] .
1 "قواعد الأحكام": 1/ 157، 158، وبعض الألفاظ مصححة من النسخة الخطية، وهو تحت الطبع بتحقيقي، إن شاء الله تعالى.
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] .
وقد أقسم الله تعالى بنفسه على أن أحدا لن يؤمن حتى يحكم بما جاء به الرسول في كل أمر، وأن ينتفي عن صدره الحرج والضيق من قضاء الرسول وحكمه، وأن يسلم وينقاد:
وغير ذلك من الآيات والنصوص القاطعة التي توجب الحكم بما أنزل الله، وتحكم بالكفر والفسق والظلم على كل من يخالف حكم الله تعالى1.
ولذلك كان كل من أطاع مخلوقا في تحريم الحلال أو تحليل الحرام مشركا شرك الطاعة والانقياد أو الاتباع، وقد حكم الله تعالى على اليهود والنصارى بالشرك؛ لاتباعهم الأحبار والرهبان واتخاذهم أربابا من دون الله، فقال:
1 انظر بالتفصيل: "الإسلام وأوضاعنا السياسية"، لعبد القادر عودة رحمة الله ص51-55، "الحكم بغير ما أنزل الله وصلته بالعقيدة" ص15 وما بعدها، وفيه عدد كبير من المراجع والمصادر.
2 انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 1/ 97، 98، 14/ 328، "تيسير العزيز الحميد" ص543.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بيانا واضحا ماهية العبادة التي وقع فيها هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وفسّرها بأنهم أطاعوهم في معصية الله، واستحلوا ما أحلوه لهم من الحرام، وحرموا ما حرموه عليهم من الحلال، واستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم:
عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال:"يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك! " قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة" فقرأ هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال: فقلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال:"أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " قال: قلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم"1.
فقد كان عدي رضي الله عنه يظن أن العبادة هي التقرب إلى الأحبار والرهبان بالركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك، فقال: إنا لسنا نعبدهم. فصحح له النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم العبادة بأنها طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم، وبذلك جعلوا أنفسهم أربابا من دون الله، ومن أطاعهم في ذلك كان عابدا لهم من دون الله2.
1 أخرجه الطبري من طرق: 14/ 210، 211، واختصره الترمذي: 8/ 492-494. وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه البغوي في "التفسير": 4/ 39، والبيهقي في "السنن": 10/ 116، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" ص437، وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي: 4/ 174، "الكافي الشاف" لابن حجر ص75.
2 انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص551، "مفاهيم ينبغي أن تصحح"، ص110، 111"، واقرأ الفصل بكامله عن مفهوم "لا إله إلا الله".
وهذا أيضا ما فسر به الآية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عندما سُئل عنها فقال: أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا أحله الله حرموه، فتلك كانت ربوبيتهم.
وقال: انطلَقوا إلى حلال الله فجعلوه حراما، وإلى حرام الله فجعلوه حلالا، فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم، ولو قالوا لهم:"اعبدونا" لم يفعلوا1.
والصورة الواضحة أو المثال القريب لهذا اللون من الشرك، هو التحاكم إلى القوانين الوضعية التي ارتضاها البشر لأنفسهم بمعزل عن دين الله وشريعته2.
وهذا اللون من الشرك هو الذي يعم وجه الأرض اليوم؛ فأما الأرض غير الإسلامية فقد حوت كل صنوف الكفر والشرك، ومن أبرزها شرك الطاعة في التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله، واتخاذ الأرباب المختلفة من دون الله.
وأما الأرض الإسلامية فقد وقع من أهلها في هذا النوع من الشرك كل من رضي بشريعة غير شريعة الله، مجلوبة من الشرق أو الغرب، وكل من رفع راية للتجمع أو للجهاد غير راية الإسلام، من قومية أو وطنية أو علمانية أو غيرها من الرايات التي لم يأذن بها الله.
وهؤلاء وهؤلاء يقيمون أربابا -وإن كانت غير محسوسة- ويعبدونها من دون الله.
1 "تفسير الطبري" 14/ 211، 212.
2 انظر بالتفصيل: "مجموع الفتاوى": 3/ 267، "تفسير ابن كثير": 3/ 122، 123، "عمدة التفسير": 4/ 146 وما بعدها، "تحكيم القوانين" للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، "الحكم بغير ما أنزل الله وصلته بالعقيدة".
فالذي ينادي بالقومية أو الوطنية ويتخذ ذلك ذريعة لإقامة وطن لا تحكم فيه شريعة الله، هو في الواقع يتخذ القومية أو الوطنية ربا يعبده من دون الله، سواء في ذلك من يقيم هذه الراية ومن يرضى بها؛ لأن الأول يصدر باسمها تشريعات تحل وتحرم بغير ما أنزل الله، والآخر يتلقى منها ويطيعها ولا يتوجه بالتلقي والطاعة إلى الله.
والذي ينادي بوجوب إفطار العمال في رمضان لأن الصيام يضر بالإنتاج المادي، يتخذ الإنتاج المادي في الحقيقة ربا يعبده من دون الله؛ لأنه يطيعه مخالفا أمر الله.
والذي ينادي بخروج المرأة سافرة متبرجة مخالطة للرجال باسم التقدم والرقي وباسم التحرر، يتخذ التقدم والرقي والتحرر في الحقيقة أربابا معبودة من دون الله؛ لأنه يحل باسمها ما حرم الله، ويطيعها من دون الله.
والذي يدعو إلى إبطال شريعة الله أو تبديل الأحكام الإسلامية التي تصون الأخلاق والأعراض لكي نبدو في نظر الغرب متحضرين غير متخلفين، يتخذ الغرب وتقاليده أربابا معبودة من دون الله، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ لأن الغرب وتقاليده أثقل في حسه من أوامر الله، وأولى بالاتباع والطاعة من أوامر الله!
وهكذا نجد صورا متعددة من شرك الطاعة والاتباع تعمّ حياة الناس اليوم دون أن يتبينوا ما هم واقعون فيه من الشرك، مع أن كتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة حاسمة في هذا الأمر: أن العبادة هي التلقي من الله في كل شأن من شئون الحياة. وكما نتلقى من الله شعائر التعبد، فنعبده سبحانه وتعالى بما تعبَّدنا به من صلاة وصيام وزكاة وحج، كذلك نتلقى منه أمور حلالنا وحرامنا، أي: الشريعة التي تحكم أمور حياتنا في الصغيرة وفي الكبيرة سواء؛ لأن الله تعبدنا بتنفيذ
شريعته كما تعبدنا بالصلاة والصوم والزكاة والحج، وكلها سواء، واعتبر التوجه في هذه أو تلك لغير الله شركا، وقال عن الذين يفعلون ذلك:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .
وقد أمرنا الله بمفاصلة الواقعين في الشرك:
لذلك ينبغي علينا أن نتبين طريقنا جيدا في وسط هذا الشرك الذي يعم اليوم وجه الأرض، وأن نجتهد ونتحرى ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وألا نتخذ أربابا -محسوسة أو غير محسوسة- نتوجه لها بالعبادة من دون الله1.
1 مقرر "التوحيد" للأستاذ محمد قطب: 2/ 34-36، طبعة وزارة المعارف، الرياض.
5-
شرك المحبة والنصرة أو الولاء:
إن من مقتضيات التوحيد وأصول العبادة أن نفرد الله تعالى بالمحبة الخاصة التي لا تصلح إلا له، وهي "حب طاعته، والانقياد لأمره"1، وهي محبة العبودية التي تستلزم الذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة لله تعالى وإيثاره على غيره.
فإذا توجه الإنسان بهذه المحبة لغير الله تعالى كان مشركا شرك المحبة. ومن هنا جاء التقريع للمشركين الذين جعلوا لله تعالى أندادا ونظراء يحبونهم كحبه، ويعبدونهم معه:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] .
ولأن الإسلام يربط بين المسلمين برباط الأُخوّة الإيمانية حيث يلتقون كلهم على عقيدة التوحيد، فإن المسلم ينبغي أن يحب المسلم لإسلامه وإيمانه، وبذلك يكتمل عنده الإيمان ويجد حلاوته، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان"2.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان -إن كثرت صلاته وصيامه- حتى يكون كذلك"3.
1 "الوسيط في تفسير القرآن"، للواحدي: 1/ 136.
2 أخرجه أبو داود: 7/ 51، والإمام أحمد: 3/ 348، والبغوي في "شرح السنة": 13/ 54، وصححه الحاكم: 2/ 164. وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم "380"، "مرقاة المفاتيح" للقاري: 1/ 107، "مجمع الزوائد": 1/ 190.
3 "المصنف" لابن أبي شيبة: 13/ 368، "الزهد" لابن المبارك ص120.
فإذا كانت هذه المحبة لأعداء الله، كانت كفرا وشركا وموالاة للكافرين ونصرة لهم، وهذا نقض للميثاق ولكلمة التوحيد وخروج على مقتضيات الإيمان، وسنجتزئ ببعض الآيات القرآنية الكريمة التي تقرر ذلك تقريرا واضحا حاسما:
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مزيد بيان في فقرة خاصة عن "الولاء والبراء".
ب- الشرك الأصغر:
أما الشرك الأصغر، فهو مراعاة غير الله تعالى معه في بعض الأمور1، فهو شرك عملي، وسمي "أصغر" مقارنة بالشرك الأكبر.
وهذا الشرك يتنافى مع كمال التوحيد، فلا يُخرِج صاحبه من الإيمان، ولكنه معصية من أكبر المعاصي؛ لما فيه من تسوية غير الله تعالى بالله في هيئة العمل. ومن الأمثلة عليه:
1 "المفردات" للراغب الأصفهاني ص260.
الرياء اليسير، وهو أن يفعل الشيء يقصد به رؤية الخلق وملاحظتهم له، فلا يكون عمله خالصا لله تعالى، وهذا يحبط العمل الذي يرافقه، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه وموافقا لشرعه:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] .
وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"1.
والحلف بغير الله؛ لأن في ذلك تعظيما للمحلوف به، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حلف بغير الله؛ فقد أشرك" وفي لفظ: "فقد كفر"2.
ومنه الشرك في الألفاظ، كقول الرجل:"ما شاء الله وشئت" و"هذا من الله ومنك" و"أنا بالله وبك" و"ما لي إلا الله وأنت"
…
وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده3.
وهذا الشرك قد يكون خفيا دقيقا لا يتبينه كثير من الناس، فينبغي ملاحظته وعدم التساهل فيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل"4.
والشرك الأصغر له أنواع كثيرة ليس هذا مجال بيانها، كما أن الوسائل المنافية للتوحيد أو كماله، كالتوسل، والبناء على القبور، والغلوّ في الأشخاص وتقديسهم، واتخاذ التماثيل، ورفع الصور وتعظيمها، والاحتفالات والأعياد البدعية، كل هذه الوسائل نجدها مفصلة مع أدلتها وأقوال العلماء فيها في مظانها5.
1 أخرجه مسلم: 4/ 2289. قال النووي رحمه الله: "ومعناه: أنا أغنى عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئا ل ي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير. والمراد: أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، ويأثم به" "شرح النووي على مسلم": 18/ 116.
2 أخرجه أبو داود: 4/ 357، والترمذي: 5/ 135، 136، والحاكم: 1/ 18، والبيهقي: 10/ 29. وانظر: "تلخيص الحبير" لابن حجر: 4/ 168.
3 "مدارج السالكين": 1/ 344.
1 أخرجه الإمام أحمد: 4/ 403، وأبو يعلى: 1/ 60، 61، والمروزي في "مسند أبي بكر" ص53 وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وللحديث شواهد يصح بها. انظر تعليق الشيخ الأرناءوط على "مسند المروزي" ص53، 54.
2 ومن ذلك كتاب "التوحيد" للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وشروحه، ومن أكثرها فائدة وأعظمها:"تيسير العزيز الحميد" و"فتح المجيد"، ففيهما الغَنَاء والكفاية.
ثانيا: الكفر
تعريفه في اللغة: هو الجحود، وأصله من الكَفْر وهو الستر والتغطية؛ يقال: كفرت الشيء: إذا غطيته. ومنه قيل لليل: كافر؛ لأنه يستر الأشياء بظلمته، وسمي الزارع كافرا لأنه يستر الحب بالتراب.
ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] يريد بالكفار: الزراع. سماهم بذلك؛ لأنهم إذا ألقوا البذر في الأرض كفروه، أي: غطوه وستروه، فكأن الكافر ساتر للحق، أو ساتر لنعم الله عز وجل.
وليس الكافر اسما لليل أو الزارع، ولكنه وصف لهما، كما قال الشاعر:
فتذكرا ثَقَلا رَثِيدا، بعدما
…
ألقت ذُكَاء يمينها في كافر1
1 البيت لثعلبة بن صعير المازني. والضمير في قوله: "فتذكرا" للنعامة والظليم. والثقل: بيض النعام المصون. ورَثَد المتاع فهو مرثود ورثيد: وضع بعضا فوق بعض ونضده. وعنى بذلك بيض النعام، وهي تنضده وتسويه بعضه إلى بعض. وذكاء: هي الشمس. وألقت يمينها في كافر: بدأت بالمغيب. انظر تعليق الشيخ محمود شاكر على "تفسير الطبري": 1/ 255، "لسان العرب": 5/ 147.
والكُفْر: ضد الإيمان، سمي بذلك لأنه تغطية وستر للحق. وكذلك كفران النعمة: جحودها وسترها، وهو ضد الشكر.
ويقال: كفر بالله، يكفر كفرا، وكفورا، وكفرانا. ويقال: أكفر فلانا: دعاه كافرا.
وتستعمل كلمة "الكفر" في الدين أكثر من استعمالها في كفران النعمة، و"الكفران" في جحود النعمة، و"الكفور" فيها جميعا. و"الكافر" -عند الإطلاق- متعارف فيمن يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة، أو يجحدها جميعها1.
وفي الاصطلاح الشرعي:
الكفر: خلاف الإيمان وضده2، أو هو: "رد الحق بعد معرفته. ومعنى هذا: أن الذي يرد الحق جهلا، أو يفعل شيئا من الكفر جاهلا ظانا أنه من الإسلام، وأنه فعل ما لا يضاد الإيمان، فليس بكافر، حتى تقوم الحجة عليه ويعلم الحق فيرده
…
وكذلك لا يكون كافرا من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا
1 انظر هذه المعاني اللغوية في: "الزاهر" للأزهري ص379، "معجم مقاييس اللغة": 5/ 9، "لسان العرب": 5/ 144، "الكليات" للكفوي 4/ 112، "تفسير الطبري": 1/ 255، "تفسير البغوي": 1/ 64، "المصباح المنير" للفيومي: 2/ 535، مفردات غريب القرآن للأصفهاني ص434، "غريب القرآن" لابن قتيبة: 1/ 13، 14 من كتاب "القرطين" لابن مطرف الكناني، "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي، مادة "كفر""مخطوط"، "المُغْرِب" للمطرّزي: 2/ 224-226.
2 "كشاف اصطلاحات الفنون": 5/ 1251، "طبعة الهند".
رسول الله، ثم يفعل مناقضا للإيمان، جاهلا به غير عالم أنه مخرج له من الإيمان، فإن علم ورَدّ وكابر وجحد فقد كفر"1.
وأصل الكفر في الدين هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحد من رسله -عليهم الصلاة والسلام- أو لشيء مما جاءوا به، إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوما من الدين بالضرورة "وهو ما ظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة في حكمه بالنصوص الواردة فيه، كوجوب الصلاة وتحريم الخمر والزنا، وسمي ضروريا؛ لأن كل واحد يعلم أن هذا الأمر من الدين".
ولا خلاف في أن هذا القدر كفر، ومن صدر عنه فهو كافر، إذا كان مكلفا مختارا، غير مختل العقل، ولا مكره. وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم من الدين بالضرورة للجميع، وتستّر باسم "التأويل" فيما لا يمكن تأويله؛ كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع
…
وإنما يقع الإشكال في تكفير من قام بأركان الإسلام الخمسة المنصوص على إسلام من قام بها، إذا خالف المعلوم ضرورة للبعض أو الأكثر
…
وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التكذيب، أو التبس علينا ذلك في حقه، وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية
…
ولذلك لا يجوز أن يسرع الإنسان إلى التكفير، فقد جاءت النصوص الشرعية الكثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية تحذر من ذلك بوجوه متعددة2.
1 "الحد الفاصل بين الإيمان والكفر" ص64.
2 "إيثار الحق على الخلق"، لابن الوزير، ص376-405 بتصرف، وانظر:"جامع الفصولين"، لابن قاضي سماونة: 2/ 297-315، "مراتب الإجماع" لابن حزم ص167-177، "التشريع الجنائي الإسلامي"، لعبد القادر عودة: 2/ 707- 719، وفيه إشارة إلى مراجع كثيرة في فقه المذاهب، "الغلو في الدين وأثره في حياة المسلمين المعاصرة"، تأليف عبد الرحمن بن معلى المطيري ص261-263.
والكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر1.
أ- فالكفر الأكبر:
ما يضادّ الإيمان من كل وجه، ويخرج صاحبه عن الدين والملة، ويوجب له الخلود في النار. قال الله تعالى:
ويسمى هذا النوع من الكفر -كذلك- الكفر الاعتقادي، وهو الذي يأتي في النصوص الشرعية مقابلا للإيمان، فيكون ضده. وإذا أطلق لفظ "الكفر" فإنه ينصرف إلى هذا النوع، وهو الكفر الأكبر الذي يحبط العمل، ولا يغفره الله لصاحبه إذا مات عليه.
أنواع الكفر الأكبر:
ويتنوع هذا الكفر إلى ستة أنواع؛ من لقي الله بواحد منها لم يغفر له، وهي2:
1-
كفر الإنكار:
وهو أن ينكر بقلبه ولسانه، بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد. قال الله عز وجل:
1 انظر: "تعظيم قدر الصلاة": 2/ 527، "شرح العقيدة الطحاوية" ص323، "مدارج السالكين": 1/ 335.
2 انظر: "الزاهر"، ص380، 381، "تفسير البغوي": 1/ 64، "الأشباه والنظائر" لمقاتل بن سليمان، ص95-97، "مدارج السالكين": 1/ 337-339، "الصلاة" لابن القيم ص55-58، "الكليات" للكفوي: 4/ 114.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] .
أي: كفروا بتوحيد الله وأنكروا معرفته، وبإنكار وجود الله يصبح الرجل ملحدا1.
2-
كفر الجحود:
وهو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقر ولا يعترف بلسانه، فهو كفر جاحد، مثل كفر اليهود، حيث جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكتموا أمره ووجود صفته في كتبهم، فقال الله تعالى عنهم:
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] .
قال ابن القيم رحمه الله:
"وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، وإرساله الرسول.
والخاص المقيد: أن يجحد فرضا من فروض الإسلام، أو تحريم محرَّم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرا أخبر الله به عمدا، أو تقديما لقول
1 يقول أبو هلال العسكري في "الفروق اللغوية" ص189:
"الفرق بين الكفر والإلحاد: أن الكفر اسم يقع على ضروب من الذنوب، فمنها الشرك بالله، ومنها جحد النبوة
…
والإلحاد: اسم خُصّ به اعتقاد نفي القديم "الله" مع إظهار الإسلام، وليس ذلك كفر الإلحاد، ألا ترى أن اليهودي لا يسمى ملحدا، وإن كان كافرا، وكذلك النصراني
…
".
من خالفه عليه لغرض من الأغراض.
وأما جحد ذلك جهلا، أو تأويلا يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرِّقوه ويَذَروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا"1.
3-
كفر العناد، وهو أن يعرف الله بقلبه ويعترف ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل الإيمان أو يدين به، فهو كفر إباء واستكبار، مثل كفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله، ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار.
ومن هذا: كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقَدْ إليه، إباء واستكبارا، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه، إذ قالوا:
{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] .
وهو كفر أبي طالب أيضا، فإنه صدّقه ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحميّة وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم ويشهد عليهم بالكفر، وقال:
ولقد علمت بأن دين محمد
…
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذارُ مسبَّة
…
لوجدتني سَمْحا بذاك مبينا
ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع والعناد في عصرنا الحاضر: الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية، وتطبيق القوانين الوضعية بدلا منها.
1 "مدارج السالكين": 1/ 338، 339.
والأصل في الإسلام: أن الحكم بما أنزل الله واجب، وأن الحكم بغير ما أنزل الله محرم، ونصوص القرآن الكريم صريحة قاطعة في هذه المسألة. فالله -جل شأنه- يقول:
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] .
ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .
ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] .
ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] .
ويقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] .
ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]
…
ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء في أن كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب له الطاعة، وأن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين، ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أيا كانت.
ومن المتفق عليه: أن من يستحدث من المسلمين أحكاما غير ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدُق عليهم ما وصفهم به الله تعالى من الكفر
والظلم والفسق، كلٌّ بحسب حاله؛ فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا؛ لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه، فهو كافر قطعا، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم، إن كان في حكمه مضيعا لحق أو تاركا لعدل أو مساواة، وإلا فهو فاسق.
ومن المتفق عليه: أن من رَدَّ شيئا من أوامر الله أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة ترك القبول، أو الامتناع عن التسليم. ولقد حكم الصحابة بارتداد مانعي الزكاة، واعتبروهم كفارا خارجين عن الإسلام؛ لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرسول -ولم يسلم بقضائه وحكمه- فليس من أهل الإيمان، قال جل شأنه:
4-
وأما كفر الشك؛ فإنه لا يجزم فيه بصدق الرسول ولا يكذبه، بل يشك في أمره. وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها. وأما مع التفاته إليها ونظره
1 "التشريع الجنائي الإسلامي"، لعبد القادر عودة رحمه الله: 2/ 708-710، وأشار إلى:"أحكام القرآن" للجصاص: 2/ 214، "إعلام الموقعين" لابن القيم: 1/ 57، 58، "روح المعاني" للآلوسي: 6/ 140، "تفسير الطبري": 6/ 119، "تفسير القرطبي": 6/ 100، "تفسير المنار": 6/ 405، "التشريع الجنائي": 1/ 225، 227.
وانظر: "عمدة التفسير" عن الحافظ ابن كثير، للشيخ أحمد شاكر: 4/ 156-158، تعليق الأستاذ محمود شاكر على "تفسير الطبري": 10/ 348، 349، "تفسير البغوي": 3/ 61-64، "أضواء البيان" للشنقيطي: 4/ 90-92، "تحكيم القوانين" للشيخ محمد بن إبراهيم، ص4 وما بعدها.
فيها، فإنه لا يبقى معه شك؛ لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعها، فإن دلالتها على الصدق واضحة جلية، كدلالة الشمس على النهار.
5-
وأما كفر الإعراض: فأن يُعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم:"والله أقول لك كلمة، إن كنت صادقا فأنت أجلّ في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أكلمك".
6-
وأما كفر النفاق، فهو أن يظهر بلسانه الإيمان، وينطوي بقلبه على التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر. وسيأتي في فقرة لاحقة بيان لأقسامه إن شاء الله.
هذا، وتقدم أن مأخذ التكفير تكذيب الشارع، وليس مخالفته مطلقا. ومن ينكر رسالة النبي مثلا كافر لا مشرك، ومن أخلّ بالاعتقاد وحده فهو منافق، وبالإقرار بالحق فهو كافر، وبالعمل بمقتضاه فهو فاسق، ومن عبد مع الله غيره فهو مشرك
1.
الكفر الأصغر:
وإن كان الكفر الأكبر كفرا بأصل الإيمان والتوحيد، فإن الكفر الأصغر هو مخالفة لحكم من أحكام الشريعة، ومعصية عملية لا تُخرج عن أصل الإيمان، وإنما توجب لصاحبها الوعيد بالنار دون الخلود فيها، وسميت كفرا؛ لأنها من خصال الكفر2.
1 "الكليات": 4/ 114، وانظر فيما سيأتي ص358.
2 انظر: "فتح الباري" لابن حجر: 1/ 83، 84، "شرح النووي على صحيح مسلم": 2/ 49، 50، "مدارج السالكين": 1/ 335، 336.
وهذا النوع من الكفر يسميه بعض العلماء: الكفر العملي، الذي يقابل الكفر الاعتقادي، وهو أيضا: كفر النعمة، فهو كفر مقيَّد بأحدهما وليس كفرا مطلقا.
"وقد سمى الله تعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه، مؤمنا بما عمل وكافرا بما ترك العمل به، فقال تعالى:
فأخبر -سبحانه- أنهم أقرّوا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه. وهذا يدل على تصديقهم به
…
ثم أخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا وأخرجوهم من ديارهم، فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب.
ثم أخبر أنهم يفدون من أُسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه.
فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي.
وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا في قوله: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"1.
ففرّق بين قتاله وسبابه، وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفرا،
1 أخرجه البخاري في الإيمان: 1/ 110، ومسلم: 1/ 81.
ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي. وهذا الكفر لا يُخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق وشارب الخمر من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان"1.
وتواردت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، تسمي بعض الأعمال أو المعاصي كفرا، وأن صاحبها لا يكفر بارتكابها، بل يكفر بالشرك أو الكفر الأكبر، كقوله2 عليه الصلاة والسلام:
"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"3.
"لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فقد كفر"4.
"اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت"5.
ثالثا: النفاق
تعريفه في اللغة:
النون والفاء والقاف أصلان صحيحان في لغة العرب، يدل أحدهما على انقطاع شيء وذهابه، ويدل الآخر على إخفاء شيء وإغماضه، ومتى حُصِّل الكلام فيهما تقاربا.
1 "كتاب الصلاة" لابن القيم، ص55، 56 بتصرف يسير. وانظر:"مدارج السالكين": 1/ 335-337.
2 انظر نماذج أخرى لهذه الأحاديث مع شرحها وتوجيهها في: "فتح الباري": 1/ 83-87، "شرح النووي على مسلم": 2/ 41-63، "الإيمان" لأبي عبيد القاسم بن سلَّام ص84-98، "الإبانة" لابن بطة: 2/ 723-755.
3 أخرجه البخاري: 1/ 110، ومسلم: 1/ 81.
4 أخرجه البخاري: 12/ 54، ومسلم: 1/ 81.
5 أخرجه مسلم: 1/ 82.
ومن الأصل الثاني، يقال: النَّفَق، وهو سَرَب في الأرض له مَخْلَص إلى مكان آخر.
والنافقاء: موضع يرقِّقه اليربوع من جحره، فإذا أُتي من قِبَل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وخرج. ومنها اشتقاق النفاق؛ لأن صاحبه يكتم خلاف ما يُظهر، فكأن الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء.
ويمكن: أن الأصل في هذا الباب واحد، وهو الخروج.
ونافَقَ في الدين: ستر كفره وأظهر إيمانه. ونافق اليربوع: أخذ في نافقائه.
وسمي المنافق منافقا؛ لأنه يستر كفره ويغيِّبه، فشبِّه بالذي يدخل النفق، وهو السَّرَب، فيستتر به، أو لأنه نافق كاليربوع، فهو يدخل في النافقاء ويخرج من القاصعاء. وهكذا يفعل المنافق، يدخل في الإسلام ثم يخرج منه على غير الوجه الذي دخل فيه1.
وقد تكرر في القرآن الكريم والحديث الشريف ذكر "النفاق" وما تصرف منه اسما وفعلا، وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وإن كان أصله معروفا في اللغة العربية.
في الاصطلاح الشرعي:
والنفاق: هو الدخول في الدين والإيمان من باب أو وجه "وهو التلفظ بالشهادتين" والخروج عنه من باب أو وجه آخر. وعلى ذلك نبّه الله تعالى بقوله عن
1 انظر: "معجم مقاييس اللغة": 5/ 454، 455، "ترتيب القاموس المحيط": 4/ 419، "لسان العرب": 10/ 358، 359، "الصحاح" للجوهري: 4/ 1560، "غريب الحديث" لأبي عبيد: 3/ 13، "النهاية" لابن الأثير: 5/ 98، "شرح السنة" للبغوي: 1/ 71، 72.
المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون من الدين والشرع، ولا يطلق اسم النفاق على من يظهر شيئا، ويخفي غيره إلا الكفر والإيمان.
والمنافق هو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه1.
فالمنافق كالضب أَلِف المراوغة والخداع، فالضب يدخل جحره من باب واضح ثم يهرب إذا شعر بالخطر من باب خفي آخر تتعذر رؤيته. وكذلك يفعل المنافق؛ يدخل في الإسلام من باب ظاهر، فينطق بالشهادتين، ويصلي مع الناس
…
ثم يخرج من الإسلام من باب آخر من الصعب مشاهدته، ولو شاهده الناس عند نقضه للإيمان وخروجه عن الإسلام لأُقيم عليه حد الردة2.
أنواع النفاق:
وهذا النفاق نوعان: نفاق أكبر، وهو نفاق الاعتقاد، ونفاق أصغر، وهو النفاق العملي، وفيما يلي إيجاز لهذين النوعين:
1-
النفاق الأكبر، أو نفاق الاعتقاد: وهو -كما سبق- أن يُظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فيعصم بذلك دمه وماله وعِرْضه، فيتخلص من القتل والعذاب العاجل، ويصبح ظاهرا في عِدَاد المسلمين ويُحسَب منهم، وهو في حقيقة أمره باطنا منسلخٌ من الدين كله مكذبٌ به، لا يؤمن بالله ولا بكلامه الذي أنزله على رسوله، فليس معه من الإيمان شيء، كالمنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا النفاق يوجب لصاحبه الخلود في النار، بل هو في الدرك
1 انظر: "مفردات القرآن" للراغب ص502، "لسان العرب"، الموضع السابق، "الفروق اللغوية""189".
2 انظر: "مساجد الضرار بين القديم والحديث" كتبه محمد سرور زين العابدين، ضمن "كتاب النفاق" للشيخ الدوسري ص107.
الأسفل منها، وهو أعظم كفرا من صاحب الكفر الواضح المستبين1.
قال الله تعالى مبينًا مصير المنافقين، وعقوبتهم في الآخرة:
{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] .
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] .
وليس من غرضنا هنا أن نقف طويلا عند ظهور حركة النفاق في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دون مكة المكرمة، والأسباب التي أدت إلى ذلك، ولا بيان المواقف الكيدية والمؤامرات التي قام المنافقون بها، وحسبنا فقط الإشارة إلى أن خطورتهم قد بلغت غايتها، وأنها أشد من خطورة الكافرين الواضحين الذين أفصحوا عن عداوتهم وكفرهم وجاهروا بذلك؛ ولذلك جاءت الآيات القرآنية الكريمة ترسم صورة واضحة لهم من خلال صفاتهم ومواقفهم، وما تكاد سورة مدنية تخلو من الإشارة إليهم والحديث عنهم2.
وفي زمننا هذا خلق كثير من الناس، يقتفون أثر المنافقين -الذين عرفهم العهد النبوي، وكان على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول- فهم على نهجهم في
1 "مدارج السالكين": 1/ 347، "تفسير ابن كثير": 1/ 72، 73، "أعلام الحديث" للخطابي: 1/ 166، "الإيمان" لابن تيمية: 50، 51، "شرح السنة": 1/ 76.
2 انظر بالتفصيل أبحاثا مهمة في: "مدارج السالكين": 1/ 347-359، "النفاق: آثاره ومفاهيمه" للشيخ عبد الرحمن الدوسري ص9 وما بعدها، "سيرة الرسول" لدروزة، 2/ 73-120، وفي تفسير ابن كثير رحمه الله وقفات رائعة عند الآيات المتعلقة بالنفاق والمنافقين، و"في ظلال القرآن" في مواضع كثيرة يكشف عنها: "مفتاح كنوز في ظلال القرآن" ص425-427، "أصول الدعوة" لزيدان ص382-390.
سلوكهم وأقوالهم وعقائدهم. ومن أبرز هذه النماذج المعاصرة: الباطنيون الذين يبطنون شيئا ويظهرون شيئا آخر
…
وأتباع الأحزاب والمنظمات الجاهلية التي تنادي بتحكيم غير شريعة الله؛ كالشيوعية والرأسمالية، والقومية والعلمانية
…
والملأ من أعوان الطواغيت الذين هم من كبار المسئولين والمستشارين والمساعدين، فلا قيمة للطاغوت لولا الملأ، فبهم يستبدّ ويبطش، وبهم يفرض على المسلمين غير شريعة الله، وبهم يوالي أعداء الله ويبيح المحرمات، وبهم يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف1
…
وإذا كان الأمر بهذه الخطورة، فهل نستطيع اليوم أن نحكم على إنسان بعينه بهذا النفاق؟
يقول الإمام الخطابي رحمه الله:
"كان رسول الله لا يواجه المنافقين بصريح القول، ولا يسميهم بأسمائهم، فيقول: فلان منافق، وإنما يشير إليهم بالأمارة المعلومة على سبيل التورية عن التصريح. وكان حذيفة بن اليمان يقول: إن النفاق إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بعد زمانه كفر
…
أو يقول: ولكنه الكفر بعد الإيمان2.
ومعنى هذا القول: أن المنافقين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا قد أسلموا، إنما كانوا يظهرون الإسلام رياء ونفاقا، ويسرون الكفر عقدا وضميرا. فأما اليوم وقد شاع الإسلام واستفاض، وتوالد الناس عليه، فتوارثوه قرنا بعد قرن، فمن نافق منهم بأن يظهر الإسلام ويبطن خلافه فهو مرتدّ؛ لأن نفاقه كفر أحدثه بعد قبول الدين، وإنما كان المنافق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما على كفره
1 "مساجد الضرار بين القديم والحديث" ص119-121 باختصار.
2 أخرجه البخاري: 13/ 69.
الأول، فلم يتشابها"1.
وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئا فإنه يؤاخذ به، ولا يترك لمصلحة التألف لعدم الاحتياج إلى ذلك2.
2-
النفاق الأصغر، أو النفاق العملي: وهو ترك المحافظة على أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا، فيشبه في هذا النفاق الأكبر، إذ فيه مخالفة القول للواقع ولكنه ليس في الاعتقاد؛ ولذلك لا يتنافى مع أصل التوحيد والإيمان ولا يخرج صاحبه عن الدين، وإن كان يستحق الوعيد كسائر المعاصي.
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النوع في أحاديث كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام:
"آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"3.
"أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"4.
فهذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، ولكنه ليس على كفرهم أو اعتقادهم، بل على عملهم، فهو
1 "أعلام الحديث" للخطابي: 1/ 166-168 تحقيق د. محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود.
2 "فتح الباري" لابن حجر: 13/ 74.
3 أخرجه البخاري في الإيمان: 1/ 89، ومسلم في الإيمان: 1/ 78.
4 البخاري، ومسلم في الموضع السابق نفسه.
نفاق عمل؛ لأن نفاق التكذيب إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد عهده إنما هو كفر أو إيمان1.
وقد يجتمع نفاق العمل مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمُل، فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ فإن الإيمان ينهى المؤمن عن تلك الصفات التي سبقت، فإذا كملت في العبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا2.
النسبة بين الشرك والكفر:
وبعد أن بيّنّا معنى الشرك والكفر والنفاق، يمكن أن نحدد العلاقة أو النسبة بين هذه الألفاظ الثلاثة عند استعمالها جميعها في سياق واحد، وعند انفراد كل منها عن الآخر:
يطلق الله تعالى على المشركين اسم الكفر ويصفهم به، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] .
1 انظر: "أعلام الحديث" للخطابي: 1/ 166، "شرح السنة" للبغوي: 1/ 76، 77، "الإبانة الكبرى" لابن بطة: 2/ 685-704، "شرح النووي على صحيح مسلم": 2/ 46-48، "فتح الباري": 1/ 90، 91، "مدارج السالكين": 1/ 347، "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للقاري: 1/ 125-128، "سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي": 7/ 385، 386.
2 "كتاب الصلاة"، لابن القيم ص59.
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] .
{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] .
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151] .
كما يطلق على الكفار من أهل الكتاب وغيرهم اسم الشرك ويصفهم به، كما في قوله تعالى:
{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31، 32] .
فالذين فرقوا دينهم هم اليهود والنصارى الكفار1.
وقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسمي كل من كان كافرا بـ "المشرك"، وقد كان في الكفار من لا يُثبت إلها أصلا، أو كان شاكا في وجود. وكان فيهم -عند البعثة- من ينكر البعث والقيامة، وكان فيهم عابدو الأوثان. وعابدو الأوثان لم يكونوا يقولون في أوثانهم: إنهم شركاء لله في الخلق والتدبير -كما سبق في أكثر من موضع- وبذلك يثبت وقوع اسم الشرك على الكافر
1 انظر: "تفسير الطبري": 21/ 42، "تفسير البغوي": 6/ 271، "المحرر الوجيز": 12/ 259، "الدر المنثور": 6/ 271.
من جهة الإطلاق الشرعي، فوجب اندراج كل كافر تحت اسم المشرك1.
وقد تقدم في الاستعمال اللغوي -كذلك- أن كل كافر هو في الحقيقة مشرك، واليهود والنصارى يندرجون تحت اسم "المشركين"؛ لأنهم أشركوا فقالوا: عيسى ابن الله. ولذلك روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية، وقال: أي شرك أعظم ممن يقول: عيسى هو الله أو ولد الله؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا2.
وباستقراء استعمالات الكلمات الثلاث: "الكفر والشرك والنفاق" في القرآن الكريم اسما أو وصفا، نجد أن كل لفظ منها قد يرد مفردا مستقلا في السياق، وقد يرد مقترنا بالآخر. وهنا نجد أن هذه الألفاظ إذا اجتمعت في سياق واحد دل كل منها على معنى غير ما يدل عليه الآخر، وإذا انفردت دخل في كل لفظ معنى اللفظ الآخر.
فلفظ الكفر: إذا ذكر مفردا في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] .
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] .
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 136] .
1 انظر: "تفسير الفخر الرازي": 6/ 61-63، "كشاف اصطلاحات الفنون": 4/ 147، 148.
2 انظر: "أحكام القرآن"، لابن العربي: 1/ 157، "الكليات" للكفوي: 3/ 70، 71.
فهذه النصوص كلها وأمثالها يدخل فيها المنافقون الذين هم في الباطن كفار، ليس معهم من الإيمان شيء، كما يدخل فيها الكفار المظهرون للكفر، بل المنافقون في الدرك الأسفل من النار، كما أخبر الله تعالى في كتابه الكريم1.
ويدخل فيه أيضا المشركون، الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى، كالوثنيين، كما في قوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .
فقد نهى عن التمسك بعصمة الكافرة، ولم يكونوا متزوجين حينئذ إلا بمشركة وثنية.
ولفظ المشرك، يذكر مفردا كما في قوله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] .
والأكثر من العلماء يذهبون إلى أن الشرك يتناول الكفار من أهل الكتاب أيضا، فكل من جحد رسالته صلى الله عليه وسلم فهو مشرك.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .
فقد دلت الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى -في الجملة- فلو كان كفر اليهود والنصارى ليس بشرك، لوجب أن يغفر الله تعالى لهم -في الجملة- وذلك باطل2.
وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] .
1 "الإيمان" لابن تيمية ص49، 50.
2 "تفسير الفخر الرازي": 6/ 61.
وأكثر الفقهاء يحملونه على الكفار جميعا1.
ثم قد يقرن لفظ الكفر بالنفاق في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، كما في أول سورة البقرة، حيث ذكر الله تعالى آيتين في صفات الكافرين وبضع عشرة آية في صفات المنافقين "الآيات: 6-20".
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] .
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 68] .
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، [التحريم: 9] .
ويقرن الكفر والشرك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105] .
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1] .
ويقرن لفظ المشركين أيضا بأهل الكتاب فقط، كما في الآيتين السابقتين ونحوهما من الآيات الكريمة.
وقد يقرن بالملل الخمس2، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
1 "مفردات القرآن" للراغب ص260.
2 "الإيمان" لابن تيمية ص52، 53.
هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] .
وعندئذ ينصرف لفظ المشرك إلى من ليس له كتاب من المجوس والوثنيين من العرب، ولفظ أهل الكتاب إلى اليهود والنصارى، وهكذا يجتمع الكل في وصف الكفر ثم يخصّهم التقسيم بأسماء معينة لكل منهم1.
والخلاصة فيما سبق: أن هذه الألفاظ إذا جاءت مفردة، يدخل في كل لفظ منها معنى اللفظ الآخر، وإذا جاءت في سياق واحد يختص كلٌّ منها بمعناه.
ولذلك وضع بعض العلماء تقسيما للكفر، يشمل الأصناف التالية:
إن الكافر إن أظهر الإيمان فهو المنافق.
وإن أظهر كفره بعد الإيمان فهو المرتد.
وإن قال بالشريك في الألوهية فهو المشرك.
وإن تدين ببعض الأديان والكتب المنسوخة فهو الكتابي.
وإن ذهب إلى قِدَم الدهر وإسناد الحوادث إليه فهو الدهري.
وإن كان لا يثبت وجود الباري سبحانه فهو المعطِّل أو الملحد.
وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ينطق بعقائد هي كفر بالاتفاق فهو زنديق2.
1 انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي: 1/ 157.
2 انظر: "كشاف اصطلاحات الفنون"، للتهانوي: 5/ 1251، 1252، وراجع:"الفروق اللغوية"، للعسكري ص190، 191، ففيه تفصيل للفرق بين الكفر والشرك والإلحاد في الاستعمال اللغوي والشرعي.