الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دور العقل ومكانته:
وبعد أن تعرفنا على المصدر الرئيسي للعقيدة الإسلامية "وهو الوحي"، نُلمع إلماعات سريعة إلى دور العقل ومكانته، ومجاله في الإسلام.
العقل في اللغة:
والعقل في اللغة العربية يطلق على القيد الذي يقيَّد به البعير؛ لئلا يندّ، وسميت الملكة التي يتميز بها الإنسان "عقلا"؛ تشبيها لها بالقيد، على عادة العرب في استعارة أسماء المُحَسَّات للأمور المعنوية.
وتستخدم كلمة "عقل" ومشتقاتها في اللغة بمعانٍ متعددة أصلها واحد، وهو حُبْسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة، أو الإمساك والاستمساك1.
ونستطيع أن نخرج من الاستعمال اللغوي لكلمة "العقل" بملاحظات ونتائج، نوجز أهمها فيما يلي:
1-
أن العقل ملكة معنوية، وليست شيئا حسيا، وبها يتميز الإنسان.
2-
هذه الملكة تمنع صاحبها عما لا يليق وتزجره، فكأنها تقوم بعملية إيجابية وأخرى سلبية، وكلتاهما تُطلقان أحكاما قيمية على الفعل.
3-
هذه الملكة كاشفة لصاحبها عما ينبغي أن يفعله، وعندئذ كأنه يتحصن بها.
4-
وفيها جماع الأمر والرأي، وتدعو للتثبت في الأمور.
1 انظر معاني العقل واستخدامه في اللغة: "الصحاح" للجوهري: 5/ 1769، "معجم مقاييس اللغة": 4/ 69-74، "لسان العرب": 11/ 458-466، "تعريفات الجرجاني" ص196-198، "الكليات" للكَفَويّ: 3/ 216-220.
5-
العقول متفاوتة بحسب فطرة الله التي فطر الناس عليها، باتفاق العقلاء.
إطلاقات كلمة "العقل":
وقد عُنِي علماء الشريعة عند حديثهم عن التكليف ومقاصد الشريعة ومكارمها بالحديث عن العقل وأنواعه ومنازله وتنوع أسمائه بحسب ذلك؛ فهو يطلق على أمرين:
1-
القوة الفطرية التي أودعها الله تعالى في الإنسان، وخلقه عليها متهيئا بسببها لقبول العلم، وهذا هو محل التكليف ومناط الأمر والنهي، وبه يكون التمييز والتدبير، وهو العقل الفطري الغريزي.
2-
ويطلق كذلك على العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة الفطرية، وهذا هو العقل المستفاد، وإليه الإشارة في القرآن الكريم في كل موضع ذمّ الله تعالى فيه الكفار بعدم العقل1، كقوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] .
وقد عني علماء اللغة ببيان أسماء العقل وتنوعها بحسب مقاماته، مع بيان الفروق بينها في الاستعمال2.
وليس من غرضنا هنا تقديم دراسة كاملة عن العقل، فحسبنا هذه الإشارات
1 انظر بالتفصيل: "مفردات القرآن"، ص342، "الذريعة إلى مكارم الشريعة" للراغب أيضا، ص56، 57، "الحجة في بيان المحجة": 1/ 319، 320، "بصائر ذوي التمييز" للفيروزآبادي: 4/ 85، "أدب الدنيا والدين" للماوردي ص19-24.
2 انظر: "الذريعة" للراغب ص59-61، "الفروق اللغوية" للعسكري ص66، 67، "الكليات": 3/ 219، 220، 253، "تأملات في وسائل الإدراك" د. محمد الشرقاوي ص15 وما بعدها، وراجع كلمة: النُّهى، والحِجْر، والحِجَا، واللب، والفؤاد، والقلب في:"المفردات" للراغب، و"بصائر ذوي التمييز".
لنخلص بعدها إلى قيمة العقل، ومكانته في الإسلام.
قيمة العقل في الإسلام:
ينوِّه الإسلام تنويها كبيرا بالعقل، ويُعلي من مكانته وقيمته، ويحفل به وبوسائل الإدراك -بعامة- ونجد شاهدا على ذلك في الآيات القرآنية الكريمة التي تنزلت بشأنه. وينبئك عن هذا أن مشتقات كلمة "العقل" تكررت في القرآن الكريم حوالي سبعين مرة. وأما الآيات التي تتصل بالعمليات العقلية وتحث على النظر والتفكر والتدبر والتبصر في آيات الله في الأنفس والآفاق، وفي حوادث التاريخ، وأحكام التشريع، وتتوجه بالخطاب لأولي الألباب
…
فقد بلغت من الكثرة حدا أعطى الإسلام ميزة بين كل المذاهب والشرائع.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد:
"والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه. ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه".
"ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة. بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته".
"فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما
يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة
…
"1.
فإذا تلمسنا الشواهد على ذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تحث على العلم وتبيّن فضله ومكانته، وترسم منهج البحث والنظر، وتدعو للتبصر والفهم والفقه
…
وجدناها تأخذ مساحة أوسع في كتب الحديث الشريف، وتجعل الإسلام -بحق- دين العلم والعقل كما أنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
مكانة العقل في الإسلام:
ونوجز فيما يلي الكلام على مكانة العقل في الإسلام، بخطوط سريعة وكلمات موجزة تشير إلى ما وراءها من اهتمام وعناية:
فالعقل هو هبة الله العظمى ومنحته لهذا الإنسان، به أكرمه وميزه على سائر المخلوقات، فأعطاه المفتاح الذي يفتح به أبواب الملكوت ويدخل ساحة الإيمان بالله الذي سخّر للإنسان كل ما في السموات والأرض. ولذلك امتن الله تعالى على الناس بهذا العقل، وجعله موضوع المسئولية، فقال:
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] .
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] .
ولذلك جعل الله تعالى العقل مناط التكليف وسببا له، فالخطاب الشرعي لا يتوجه إلا للعاقل؛ لأن العقل أداة الفهم والإدراك، وبه تتوجه الإرادة إلى الامتثال؛ ولذلك قال بعض السلف:"العقل حجة الله على جميع الخلق".
1 "التفكير فريضة إسلامية" ص7، 8.
ومن هنا جاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ترفع القلم -أي: التكليف والمؤاخذة1 - عمن فقدوا مناط التكليف وهو العقل، بسبب الجنون أو ما يأخذ حكمه، فقال صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم"2.
وفي لفظ آخر: "وعن المعتوه حتى يعقل"3.
والبحث في هذا نجده مفصلا عند علماء الأصول في مبحث الأهلية وعوارضها، أو في مبحث المحكوم عليه.
ولذلك شرع الإسلام من الأحكام ما يحافظ فيها على العقل باعتباره واحدا من الضروريات الخمسة، التي أُنزلت الشرائع للمحافظة عليها، وهي: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال.
فأوجب الإسلام العلم، وكل ما به قوام الحياة، وهي تعود على العقل بالحفظ، وحرم كل ما يُذهب العقل أو يزيله؛ كالخمر والمخدرات وسائر المسكرات؛ ولأنها تصيب العقل بآفة تجعل صاحبه عبئا على المجتمع ومصدر شر وأذى للناس.
ويحث الإسلام العقل على العمل فيما خُلق له، وفي المجال الذي يستطيعه، فلا يجوز إهماله ولا تعطيله؛ فهو يحث على النظر والتدبر والتأمل والتفكر في آيات
1 انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": 6/ 288-291، "عون المعبود": 12/ 72، 73.
2 أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان. انظر:"صحيح الجامع الصغير" للألباني، برقم "3512".
3 أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، وصححه الحاكم وابن خزيمة. المرجع السابق برقم "3514".
الله تعالى المقروءة، والمنظورة، في الأنفس والآفاق، وفي مجال عالم الشهادة. والآيات الكريمة في ذلك كثيرة تعزّ على الحصر.
ويرسم الإسلام للعقل المنهج الصحيح للعمل والتفكير، ويرفع من أمامه العوائق والموانع التي تعطله عن وظيفته؛ كاتباع الظن والأوهام والخرافة، أو الخضوع لسيطرة العادات والتقاليد، أو تقليد الآباء والمشايخ والطغاة
…
وبذلك يتحرر العقل حرية حقيقية كاملة، ويقوم بعملية التثبت والتبين قبل الإقدام أو الاعتقاد والتصديق:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] .
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .
ثم يحيل الإسلام على العقل -مع أدلة أخرى- في القضايا الكبرى الرئيسية؛ فهو يهدي -عند النظر الصحيح- إلى معرفة الله تعالى ووحدانيته، ويقيم الأدلة على صحة النبوة والبعث بعد الموت، فيكون إدراك هذه القضايا إدراكا كليا عاما وقبولها بالعقل1.
وشواهد ذلك من القرآن والسنة وكلام العلماء كثيرة، لا يتسع المقام للإفاضة
1 قال الإمام السمعاني: "إن الله تعالى أسّس دينه وبناه على الاتباع، وجعل إدراكه وقبوله بالعقل". انظر "الحجة في بيان المحجة" للأصفهاني: 1/ 317.
فيها. فحسبنا هذه الإشارة نختم بها هذه الفقرة عن قيمة العقل، ومكانته في الإسلام1.
دور العقل في العقيدة:
وقد يدفع هذا القول بعض الناس ليظن أن هذه العناية بالعقل والإعلاء لمكانته تبيح لنا أن نجعل منه مصدرا نستقي منه العقيدة، أو نجعله حاكما عليها، يقبل منها ما يدركه، ويرفض ما لا يدركه أو ما لا يحيط به علما.
وهذه قضية منهجية جدّ خطيرة، تحتاج إلى فضل بيان، توضع فيه الأمور في نصابها الصحيح دون إفراط ولا تفريط:
"لو كان الله سبحانه، وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها، يعلم أن العقل البشري، الذي وهبه الله تعالى للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده، يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب، ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ، ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم، وتبليغهم عن ربهم
…
".
"ولكن لما علم الله -سبحانه- أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى -بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط- وقاصرة كذلك عن
1 انظر بالتفصيل: "المقاصد العامة للشريعة"، ص344 وما بعدها. "مذاهب فكرية معاصرة" ص53 وما بعدها. "خصائص التصور الإسلامي" ص54 وما بعدها. "منهج المدرسة العقلية في التفسير" 1/ 29-39. "المدخل إلى الثقافة الإسلامية" ص226-230. "عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي"، ص26 وما بعدها.
رسم منهج للحياة الإنسانية، يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة، وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة. لما علم الله -سبحانه- هذا قضت حكمته ورحمته أن يبعث للناس بالرسل وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 1 [الإسراء: 15] ".
إذن ما هي وظيفة العقل البشري؟ وما هو دوره في العقيدة الإسلامية؟
يقول الأستاذ سيد قطب، رحمه الله:
"إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة "الوحي"، ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام، وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ومنهج النظر الصحيح، وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة.
وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض، بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، وبعد أن يفهم المقصود بها، أي: المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص"2.
ويؤكد هذا المعنى ويزيده وضوحا، فيقول:
إن العقل البشري ليس هو الذي يصنع مقومات التصور الإسلامي -كما هو الحال في الفلسفة- إنما هو الذي "يتلقاها" من مصدرها الرباني، و"يدركها"
1 "في ظلال القرآن"، المجلد الثاني ص806. وانظر:"الله في العقيدة الإسلامية"، للبنا رحمه الله، ص29-31.
2 "الظلال"، نفسه، ص807.
صحيحة، حين يتلقاها وهو متجرد من أية "مقررات" سابقة في هذا الباب -سواء من مقولاته الذاتية، أو من مقولات العقائد المحرفة، ولو كان لها أصل رباني- وعليه أن يتقيد فيما يتلقاه من ذلك المصدر الصحيح بالمدلول اللغوي أو الاصطلاحي للنص الذي وردت فيه هذه المقومات -بدون تأويل- ما دام النص محكما، وأن يصوغ من هذا المدلول مقرراته هو ومنهجه في النظر أيضا. فليس له أن يرفض هذا المدلول أو يؤوله -متى كان متعينا من النص- بحجة أنه غريب عليه أو صعب التصور عنده، أو أن منطقه لا يقره! فهو -العقل البشري- ليس حَكَما في صحة هذا المدلول أو عدم صحته -في عالم الحقيقة والواقع- وإنما هو حكم فقط في فهم دلالة النص على مدلوله -وفق المفهوم اللغوي أو الاصطلاحي للنص- وما دل عليه النص فهو صحيح، وهو الحقيقة، سواء كان من مألوفات هذا العقل ومسلماته أم لم يكن
…
ويستوي في هذه القاعدة العقيدة والشريعة:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وصدق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه""أخرجه أبو داود".
ومن ثم، فإن محاكمة التصور الإسلامي أو محاكمة مقوماته التي يقوم عليها -ومنها ما هو غيب، كالملائكة والجن والقدر، والقيامة، والجنة والنار- إلى العقل البشري ومقرراته الذاتية، منهج غير إسلامي.
وهذا لا يعني أن التصور الإسلامي مناقض أو مصادم للعقل البشري. فإن مقرراته كلها نوعان: نوع الإدراك البشري قادر على تصوره -عند تلقيه من المصدر الرباني- ونوع هو غير قادر على إدراكه ولكن منطقة ذاته يسلم بأن طبيعته أكبر من حدود إدراكه، وأن "وجود" ما هو أكبر من حدود إدراكه داخل في قدرة الله
تعالى، وأن إخبار الله عن وجوده هو بذاته برهان هذا الوجود، برهان صحة الإخبار..
ومن ثم لا يقع التناقض أو التصادم أبدا، متى استقام العقل البشري والتزم حدوده!
"وحيثما حاول العقل البشري أن يسلك طريقا غير هذا الطريق، طريق التلقي من المصدر الرباني بدون مقررات سابقة لها فيما يتلقى، والالتزام بمدلول النص متى كانت دلالته اللغوية أو الاصطلاحية محكمة..
نقول: حيثما حاول العقل البشري أن يسلك طريقا غير هذا الطريق، جاء بالخبط والتخليط الذي لم يستقم قط في تاريخ الفكر البشري.. يستوي في الخبط والتخليط تلك الجاهليات الوثنية التي انحرفت عما جاء به الرسل -صلوت الله وسلامه عليهم- والجاهليات اللاهوتية التي أدخلت على الأصل الرباني الإضافات والتأويلات التي اصطنعها العقل البشري -وفق مقولاته الذاتية- أو اقتبسها من الفلسفة، وهي من مقولات هذا العقل أصلا. والجاهليات الفلسفية التي استقل الفكر البشري بصنعها، أو أضاف إليها تأثرات من الديانات السماوية!
"ولقد حدث في تاريخ الفكر والاعتقاد أن أخذ بعض "المعتقدين" لعقيدتهم من الفلسفة، وأن أخذ بعض "الفلاسفة" لفلسفتهم من العقيدة.. وكان من وراء هذا وذلك ظاهرة لم تتخلف قط
…
إنه حيثما أخذت الفلسفة من العقيدة أفادت واهتدت إلى بعض جوانب الحقيقة. وحيثما أخذت العقيدة من الفلسفة خسرت وأصيبت بالتخليط والانحراف والتعقيد!
ولا تبدو هذه الظاهرة واضحة كما تبدو في تلك الصورة الكابية المعقدة الكئيبة التي تسمى: "الفلسفة الإسلامية" أو في "علم الكلام".. البعيدة عن طبيعة
العلاقة بين العقل والوحي:
ولعلنا على ضوء ما سبق نستطيع أن نحدد العلاقة بين الوحي والعقل أو الصلة بينهما. وعلى هذا نفهم ما ورد عن تظاهر العقل والشرع، وعن التكامل بينهما كقولهم:
"العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل. فالعقل كالأُسّ والشرع كالبناء. ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس.
وأيضا: فالعقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر1
…
فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان، بل متحدان
…
والعقل بنفسه قليل الغناء، لا يكاد يتوصل إلا إلى معرفة كليات الشيء دون جزئياته، والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته، ويبين ما الذي يجب أن يعتقد في شيء شيء، وما الذي هو مَعْدَلة في شيء شيء.
وعلى الجملة: فالعقل لا يهتدي إلى تفاصيل الشرعيات، والشرع تارة يأتي بتقرير ما استقر عليه العقل، وتارة بتنبيه الغافل وإظهار الدليل، حتى يتنبه لحقائق المعرفة. وتارة بتذكير العاقل حتى يتذكر ما فقده، وتارة بالتعليم، وذلك في
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العقل شرط في معرفة العلوم وكمال الأعمال وصلاحها، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس" وإذا انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورا حيوانية، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما يحصل للبهيمة" "مجموع الفتاوى" 3/ 338، 339.
الشرعيات وتفصيل أحوال المعاد. فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة، والدال على مصالح الدنيا والآخرة. ومن عدل عنه فقد ضل سواء السبيل"1.
ويبقى أن نؤكد هنا -مرة أخرى- على أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين أحكام العقل الصريح والنصوص الشرعية الصحيحة -وفق المنهج الذي سلف في بيان حدود العقل- وهذه المسألة التي وضع لها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه الضخم "درء تعارض العقل والنقل" أو "موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول".
وما قد يظهر من خلاف ذلك، فينبغي عند ظهوره ألا نعارض نصوص الشرع بما قد نراه بعقولنا وآرائنا وأقيستنا؛ فإن العقول -كما رأينا- تتفاوت، وليس هناك العقل المطلق الكامل الذي نحاكم إليه هذه النصوص. كما أن العقل نفسه محدود بحدود الزمان والمكان والكيفية، وبحدود وظيفته، ولا يستطيع أن يحيط بغير المحدود الذي يحيط به الشرع أو الوحي.
ولذلك قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: "من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم".
"وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو أن العقل مع النقل
1 "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" ص140-142 باختصار، وهو بنصه في "معارج القدس في مدارج النفس" ص57-59، وراجع:"الحقيقة في نظر الغزالي" د. سليمان دنيا ص280، 281، "مدخل إلى العقيدة الإسلامية" ص151-152.
كالعامي المقلد مع العالم المجتهد. بل هو دون ذلك بكثير؛ فإن العامي يمكنه أن يصير عالما، ولا يمكن العالم أن يصير نبيا رسولا"1.
1 "شرح العقيدة الطحاوية"، ص201، 202. وانظر:"الحجة في بيان المحجة": 1/ 317 وما بعدها، "فتاوى ابن تيمية": 5/ 28-30، 16/ 440، 463، 469، "مفتاح دار السعادة" لابن القيم: 2/ 112 وما بعدها، "الموافقات": 1/ 87، "مقدمة ابن خلدون": 2/ 825، "قواعد المنهج السلفي" د. مصطفى حلمي ص253-257، "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" د. يوسف العالم، ص344-350.