المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التزام العقيدة، والنهي عن البدع: - مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية

[عثمان ضميرية]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات:

- ‌تقاريظ وكلمات:

- ‌مقدمة:

- ‌تمهيد عام:

- ‌خلافة وهداية:

- ‌طريقان للهداية:

- ‌حاجة البشرية إلى الرسالة:

- ‌الرسالة الخاتمة:

- ‌العقيدة والشريعة:

- ‌الصحابة يتلقون الدين منهجا كاملا:

- ‌علم العقيدة وعلم الشريعة:

- ‌الصلة بين العقيدة والشريعة:

- ‌ضرورة ومحاذير:

- ‌أهمية العقيدة وأثرها:

- ‌علم العقيدة

- ‌مدخل

- ‌أولًا: نشأة علم العقيدة

- ‌العوامل الداخلية

- ‌العوامل الخارجية:

- ‌ثانيًا: التطور التاريخي لتدوين العقيدة

- ‌مدخل

- ‌ الفقه الأكبر:

- ‌ الإيمان:

- ‌تعريف الإيمان في اللغة:

- ‌تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي:

- ‌المؤلفات في الإيمان:

- ‌ السنة:

- ‌تعريف السنة في اللغة:

- ‌تعريف السنة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌ علم التوحيد:

- ‌تعريف التوحيد في اللغة:

- ‌المعنى الاصطلاحي للتوحيد:

- ‌دلالة كلمة التوحيد على العقيدة:

- ‌تطور استعمال كلمة التوحيد:

- ‌مؤلفات في علم التوحيد:

- ‌ الشريعة:

- ‌تعريف الشريعة في اللغة:

- ‌إطلاقات كلمة الشريعة اصطلاحيًا

- ‌مؤلفات فلي الشريعة

- ‌ العقيدة:

- ‌ أصول الدين:

- ‌ التصور الإسلامي:

- ‌مصطلحات وتعريفات

- ‌أولًا: أهل السنة والجماعة

- ‌مدخل

- ‌عناصر في تعريف الجماعة:

- ‌معنى جماعة المسلمين:

- ‌تسمية أهل السنة والجماعة:

- ‌ثانيا: السلف

- ‌ثالثا: أهل الحديث

- ‌الحديث في اللغة:

- ‌تعريف أهل الحديث:

- ‌إطلاق خاص:

- ‌وسطية أهل السنة والجماعة:

- ‌مصادر العقيدة

- ‌مدخل

- ‌أولا: القرآن الكريم

- ‌ثانيا: السنة النبوية

- ‌دور العقل ومكانته:

- ‌التزام العقيدة، والنهي عن البدع:

- ‌التوحيد

- ‌مدخل

- ‌توحيد الربوبية:

- ‌توحيد الألوهية:

- ‌توحيد الأسماء والصفات:

- ‌جوانب من توحيد الألوهية

- ‌أولًا: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌شروط كلمة التوحيد:

- ‌نواقض لا إله إلا الله:

- ‌ثانيا: العبادة وانواعها

- ‌مفهوم العبادة وأنواعها:

- ‌أنواع العبادة:

- ‌أركان العبادة وأصولها:

- ‌دعوة الرسل إلى توحيد العبادة

- ‌الانحراف عن التوحيد:

- ‌عقيدة الولاء والبراء

- ‌مدخل

- ‌الولاء والبراء في النصوص الشرعية:

- ‌مفهوم الولاء والبراء:

- ‌مفهوم الولاء في الشرع:

- ‌البراء في اللغة:

- ‌مفهوم البراء في الشرع:

- ‌الفرق بين التسامح والبر وبين المودة للكفار:

- ‌موقف الكفار من الإسلام والمسلمين:

- ‌من مظاهر الولاء للكفار:

- ‌خصائص العقيدة الإسلامية

- ‌التوفيقية

- ‌ الغيبية:

- ‌ الشمول:

- ‌ التكامل:

- ‌ التوازن:

- ‌المراجع والمصادر:

- ‌باب: الفهارس

- ‌فهرس الأحاديث النبوية:

- ‌فهرس الأبحاث:

الفصل: ‌التزام العقيدة، والنهي عن البدع:

‌التزام العقيدة، والنهي عن البدع:

تمهيد وإحالة:

إن النصوص الشرعية التي تقدمت في وجوب التزام الكتاب والسنة والاعتصام بهما -عند الحديث عن مصادر العقيدة- تستلزم من جهة أخرى الحذر من الأهواء والبدع المخالفة للشرع، تلك التي تغلق أبواب الرحمة، وتصدّ عن الهدى والسبيل، وتؤدي إلى الضلالة والفتنة، وتفرق الأمة الواحدة فتجعلها شيعا وأحزابا، مع ما ينتظر صاحبها من إثم عند الله تعالى، وحرمان لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا.

أدلة النهي عن البدع؛ والتحذير من الابتداع:

وقد تضافرت النصوص الشرعية -قرآنا وسنة- على ذمّ البدع وبيان آثارها، وعلى هذا اجتمعت كلمة السلف من الأمة، كما أن النظر العقلي -أيضا- يؤيد هذا أو يزيده بيانا وتأكيدا. فاجتمع لنا من الأدلة ما ينهض للتنديد الشديد بالبدع والتحذير منها، مما نجعله في شعب ثلاث من النصوص وأخرى من الأدلة العقلية1.

أولا: فمن القرآن الكريم، قوله تعالى:

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] .

1 انظر بالتفصيل: "الاعتصام" للشاطبي: 1/ 46-140، فقد فصَّل القول في ذلك وبيَّنه أعظم بيان.

ص: 197

وهذه الآية من أعظم الشواهد على ذلك، فقد جاء تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الذين يجادلون في آيات الله بترك الآيات المحكمة واتباع المتشابه، وهذا يصدق على كل صاحب بدعة، ويدخل فيهم ما ذكره بعضهم كالخوارج وأتباع ابن سبأ، بل ويدخل فيهم كل المبتدعة من غير هذه الأمة حتى قال قتادة رحمه الله: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية، فلا أدري من هم؟

ثم قال: إن اليهودية لَبدعة، وإن النصرانية لبدعة، وإن الحرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة، ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي1.

وقال تعالى:

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] .

فالصراط المستقيم: هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة. و"السبل": هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الطريق المستقيم، وهم أهل البدع، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ما يفسر ذلك2، وعلى هذا قول مجاهد حيث فسرها بالبدع والشبهات.

1 انظر: "الاعتصام" للشاطبي: 1/ 53-65، "تفسير الطبري": 6/ 186-195، "تفسير البغوي": 2/ 9.

2 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: $"هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال:"هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآية.

أخرجه الدارمي: 1/ 67، والحاكم: 2/ 318، وأخرجه الطبري: 12/ 230، والآجري ص10، واللالكائي: 1/ 80، 81، وابن أبي عاصم: 1/ 13، والإمام أحمد في "المسند": 1/ 435، والبغوي في "التفسير": 3/ 205، وفي "شرح السنة": 1/ 196، 197. وانظر:"مجمع الزوائد": 7/ 22، "تفسير ابن كثير": 2/ 191.

ص: 198

ومنها قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] .

{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31، 32] .

فقد روي في تفسيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "يا عائشة، إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة"1.

وكل من ابتدع بدعة في الدين فهو داخل في هذه الآية؛ لأنهم إذا ابتدعوا بدعة تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا، وقد تقرر هذا في آيات كثيرة، حسبنا منها ما ذكرناه..

ثانيا: ومن السنة أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، تكاد تعز على الحصر، نذكر فيما يلي بعضا منها:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ"2. وفي لفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد" 3.

1 عزاه ابن كثير لابن مردويه وقال: "وهو غريب ولا يصح رفعه"، ثم قال:"والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا تفرق". "التفسير": 2/ 197.

2 أخرجه البخاري: 5/ 301، ومسلم: 3/ 1343.

3 أخرجه مسلم: 3/ 1344.

ص: 199

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"1. وفي رواية: "وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار" 2.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا"3.

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا. فقال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"4.

ثالثا: أجمعت كلمة علماء الأمة منذ عهد الصحابة والتابعين:

ومن بعدهم على التحذير من الابتداع في الدين، وذم المبتدعة، وبيان أخطار البدعة:

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيها الناس! قد سُنت لكم السنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تضلوا يمينا وشمالا.

1 أخرجه مسلم: 2/ 592.

2 أخرجه النسائي من حديث جابر نفسه: 3/ 188، 189.

3 أخرجه مسلم: 4/ 2060.

4 تقدم تخريجه فيما سبق ص93 وتعليق 2.

ص: 200

وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: يا معشر القراء استقيموا؛ فقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن أخذتم يمينا وشمالا فقد ضللتم ضلالا بعيدا.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به. إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.

وقد قال في خطبته لما تولى الخلافة: أيها الناس! إنما أنا متبع ولست بمبتدع.

وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبدا

وإن اقتصادا في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنة. وانظروا أن يكون عملكم -إن كان اجتهادا واقتصادا- أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم.

وفي عهد التابعين كذلك كثر التحذير من البدع، لما رأوها بدأت تذر قرنها وتنتشر، فقال الحسن البصري: صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا -صلاة وصياما- إلا ازداد من الله بعدا.

وعن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها، أحب إليَّ من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.

وعن الفضيل بن عياض: اتبع الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق

ص: 201

جـ- أن المبتدع معاند للشرع ومشاقّ له؛ لأن الشارع قد عين للعبد منهجا يسير عليه، ويلتزم به، فيما يفعله وما يجتنبه، وهو سبحانه الذي يعلم ما يصلح للعبد وما لا يصلح، والعبد لا يعلم ذلك حقيقة على وجه التفصيل:

{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 139] .

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .

{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14] .

والمبتدع رادّ لذلك كله ومخالف له؛ لأنه يزعم أن ثم طرقا أخر غير ما عينه الشارع، فكأنه يزعم أنه يعلم ما يعلمه الشارع، بل قد يفهم من هذا أنه يزعم أنه علم ما لم يعلمه الشارع.

وهذا إذا كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين.

د- أن المبتدع قد جعل نفسه مضاهيا للشارع، ونظيرا له، حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابا، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع، وكفى بذلك ضلالة وإثما وخطرا!

هـ- أن الابتداع اتباع للهوى؛ لأن العقل إن لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في اتباع الهوى من الضلال، والانحراف، وكل من لم يتبع هدى الله فهو متبع للهوى، واقع في الضلالة؛ ولذلك جاء التحذير، فقال تعالى:

{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] .

وما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن الكريم إلا في سياق الذم؛ لأنه مخالف للشرع، وسبب للضلال والانحراف؛ ولهذا نزه الله تعالى نبيه عن الضلالة والهوى، وماذا بعد الحق إلا الضلال1؟

1 "الاعتصام" للشاطبي: 1/ 46-53 مقتطفات بتصرف. وانظر: "وجوب لزوم جماعة المسلمين" تأليف جمال بن أحمد بادي ص189-201، "شرح السنة" للبغوي: 1/ 210-218.

ص: 203

معنى البدعة والابتداع:

والبدعة مأخوذة في اللغة من الابتداع، وهو اختراع الشيء وابتداؤه من غير مثال أو أصل سابق، ويقصد بها في الشرع: الطريقة المخترعة في الدين تشابه الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه1.

وإذا ذكرنا البدعة والابتداع في الدين، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان تلك البدع الكبرى التي جاءبها الغلاة والمنحرفون عن سبيل أهل السنة والجماعة، قديما وحديثا، ففي القديم نجد أصول البدع عند الخوارج، والرافضة، والقدرية، والجهمية، والمرجئة، والمشبهة2

وفي الحديث ظهرت بدع وفرق مبتدعة كالقاديانية والبهائية والبابية انسلخت من الدين جملة.

2 انظر التعريف لغة واصطلاحا مع شرحه في: "معجم مقاييس اللغة": 1/ 209، 210، "لسان العرب": 8/ 6-8، "الاعتصام": 1/ 36-42، "المنثور في القواعد" 1/ 217، 218، "الإبداع في مضارّ الابتداع" ص25-32.

3 انظر: "الاعتصام": 2/ 220 وما بعدها، "مجموع فتاوى ابن تيمية": 3/ 350، 351، "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية": 1/ 377 وما بعدها، "صفة الغرباء" ص53-55".

ص: 204

عوامل ومؤثرات في ظهور البدع:

وقد تضافرت جملة من الأسباب، والعوامل الداخلية والخارجية كانت وراء ظهور البدع وانتشارها.

فمن العوامل الداخلية:

أ- الغلوّ:

وهو مجاوزة الحدّ المشروع والتشدّد في الدين، وقد يكون الغلو غلوا في الأشخاص بتعظيمهم ورفع مكانتهم وإطرائهم بما يخرج عن حدود الشرع، وكان هذا سببا في ضلال الرافضة الذين غالوا في علي رضي الله عنه، والسبئية الذين قالوا له: أنت أنت "أي: أنت الله"، وكذلك غلو بعض المتصوفة في شيوخهم حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه، فيدعونهم من دون الله، ويصفونهم بما هو من خصائص الربوبية والألوهية.

وقد يكون الغلو تشددا في الدين والعبادة، وتنطعا في فهمه والالتزام بأحكامه، كغلو الخوارج الذين كفّروا مخالفيهم من المسلمين غلوا منهم في فهم آيات الوعيد وأحاديثه، ومثل غلو بعض المتعبدين في عباداتهم وانقطاعهم عن الحياة العملية؛ تأثرا بالرهبانية التي ابتدعها النصارى.

وقد يكون الغلو تشددا في التمسك ببعض المذاهب الفقهية ومعاداة للآخرين، تعصبا وجهالة.

ولذلك جاء في القرآن الكريم التحذير من الغلو، فقال الله تعالى:

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا

ص: 205

بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171] .

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين"1.

والأحاديث في ذلك كثيرة تنهى عن الغلو، وتبين آثاره2.

ب- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة:

مما يروى منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بالحديث والسنة، فيسمع الجاهل هذه الأخبار فيصدق بها؛ لأنها توافق ظنه وهواه. بل إن المبتدعة قد يقولون أنواعا من الكفر، لا يروون فيه حديثا أصلا. وتجد أمثلة لهذا فيما يقولونه في نزول الله تعالى عشية عرفة يصافح الركبان ويعانق المشاة، وأن النبي

1 أخرجه النسائي: 5/ 268، 269، وابن ماجه برقم "3029"، وابن حبان ص"249""من موارد الظمآن"، وابن خزيمة في "الصحيح": 4/ 274، وصححه الحاكم: 1/ 446، والبيهقي في "السنن": 5/ 127، وابن أبي عاصم في "السنة": 1/ 46، والإمام أحمد في "المسند": 1/ 215، 347. وانظر:"النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد" ص109.

2 انظر بالتفصيل: "الاعتصام": 1/ 258، 259، "الوصية الكبرى" لابن تيمية ص"84" وما بعدها بتحقيقي، "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" ص305-318، واقرأ كتاب "الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو" تأليف محمد سرور زين العابدين. وعند دفع هذا الكتاب للطبع صدرت دراسة قيمة عن "الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة" تأليف عبد الرحمن بن معلى اللويحق، طبع مؤسسة الرسالة.

ص: 206

-صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه في الطواف أو وهو خارج من مكة

وأمثال ذلك من الكذب والضلال. وهنا وقع في الضلال والانحراف طائفتان: إحداهما غالت في نفي الرؤية حتى نفت ما هو ثابت من رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى في الجنة، والأخرى غالت في الإثبات حتى وقعوا في الحلول والاتحاد.

وكلاهما أُتي من قبل احتجاجه بأخبار مكذوبة، مع إعراضه عما هو ثابت في نصوص الشريعة من الكتاب والسنة1.

جـ- اتباع الظن والهوى:

والظن هو الشكوك التي تعرض للبشر والآراء التي يرتئونها مما لا يستندون فيه إلى دليل شرعي ثابت، فيجعلونها حقا ويقينا، وهي حَدْس وأوهام.

واتباع الظن لا ينتهي بالإنسان إلا إلى الضلال والابتداع، وحال الناس في كل جاهلية من الجاهليات القديمة والحديثة شاهد على ذلك، فعندما يُعرِض الإنسان عن المصدر الصحيح الثابت المستيقن الذي يجده في الوحي يقع في الضلال؛ ولهذا حذر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من اتباع الظن باتباع أصحابه، فقال:

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] .

ثم تأتي الآيات الكريمة تحذّر من اتباع الظن، وتذمّ من يفعل ذلك، وتضع الإنسان أمام المسئولية فتطالبه بالدليل والبرهان، وإلا فإن الإنسان يضرب في بيداء التيه والضلال:

1 انظر: "الوصية الكبرى"، لابن تيمية ص70-82 بتحقيقي.

ص: 207

{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] .

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] .

وفي الحديث: $"إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث

"1.

أما الهوى: فهو مَيَلَان النفس إلى ما تستلذّه من الشهوات من غير داعية الشرع2. وبذلك يهوي الإنسان في دركات الضلال، في الدين والدنيا؛ لأنه مخالف لطريق الهداية المستقيم الذي يرسمه له الوحي.

واتباع الهوى مخالفة صريحة واضحة للمقصد الأساسي للشريعة، وذلك أن المقصد الشرعي من وضع الشريعة وبيان الأحكام هو إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا.

ولذلك جاءت النصوص الشرعية تحذر من اتباع الهوى وتبين آثاره، فقال الله تعالى:

{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] .

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 21] .

1 أخرجه البخاري: 10/ 484، ومسلم: 4/ 1985.

2 "التعريفات"، للجرجاني ص320. وانظر:"مفردات الراغب"، "بصائر ذوي التمييز" عند مادة "هوي"، "كشف الأسرار على أصول البزدوي": 1/ 7.

ص: 208

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "

ثلاث مهلكات: هوى متبع، وشحّ مطاع، وإعجاب المرء بنفسه" 1. ولذلك كان يستعيذ بالله تعالى من منكرات الأهواء، فيقول: $"اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء"2.

قال ابن تيمية رحمه الله: "وأضلّ الضلال: اتباع الظن والهوى، كما قال تعالى في حق من ذمّهم:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] .

وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4] . فنزّهه عن الضلال والغواية اللذين هما الجهل والظلم، فالضالّ هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذي يتبع هواه. وأخبر أنه ما ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه، فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوى"3.

1 أخرجه البزار، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "شعب الإيمان". قال المنذري:"وهو مرويّ عن جماعة من الصحابة، وأسانيده وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فهو بمجموعها حسن، إن شاء الله تعالى".

انظر: "الترغيب والترهيب": 1/ 162، "سلسلة الأحاديث الصحيحة": 4/ 414-416.

2 حديث صحيح أخرجه الترمذي في الدعوات: 1/ 50، وابن حبان ص601 "من موارد الظمآن"، وصححه الحاكم: 1/ 532 على شرط مسلم.

3 "الوصية الكبرى" ص69.

ص: 209

د- تحكيم العقل البشري وتقديمه على نصوص الشرع، أو تأويلها لتوافق العقول البشرية، وأحيانا إنكارها بحجة أنها مخالفة للعقل:

وهذا من أعظم الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى ظهور البدع والانحرافات. فقد تقدم أن للعقول حدّا تنتهي إليه ومجالا تعمل فيه، فإذا جعلناها حاكمة على الشرع والوحي كان ذلك خلاف حكم العقل نفسه؛ لأنه ثبت أن الشرع حاكم على العقل بإطلاق لأنه معصوم لا يخطئ، أما العقل فليس معصوما، وهو يخطئ ويختلف من إنسان لآخر، فلا يصلح أن يكون حاكما على الشرع، ومن هنا فإن الذين جعلوا العقل حاكما على الشرع وقعوا في بدع كثيرة لما ردوا الأحاديث النبوية واعتبروها مخالفة للعقل وما هي -في حقيقة الأمر- مخالفة، ولكنها مخالفة للمعتاد الجاري فحسب.

ومن البدع التي نشأت بسبب هذا العامل ما ذكره الشاطبي رحمه الله من إنكار المبتدعة للصراط والميزان، وعذاب القبر، وسؤال المَلَكَين، ورؤية الله في الآخرة، وإنكار الصفات، ونحو ذلك1.

هـ- الزيادة والنقص في الدين:

وهما أمران يرجع إليهما معظم البدع، فمن الزيادة في الدين أن يدخل فيه ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه رضي الله عنهم مثل القول بأنه: لا موجود إلا الله، كما هو قول الاتحادية، وأنه: لا فاعل ولا قادر إلا الله، وهو قول الجبرية. وأمثال ذلك من الغلو في الدين، ومن ذلك القول بأن لله تعالى صفة لم ترد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أنواع الزيادة في

1 انظر: "الاعتصام": 2/ 318-337.

ص: 210

الدين: الكذب فيه عمدا، وقد يتأولون ذلك بأنهم يكذبون له لا عليه.

وأما النقص في الدين؛ فيكون برد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل إلا مجرد التقليد لبعض أهل الكلام في قواعد كلامية، أو فلسفية لم يتفقوا عليها. وأفحش ذلك وأشهره مذهب القرامطة الباطنية في تأويل الأسماء الحسنى كلها، أو نفيها عن الله، على سبيل التنزيه له عنها وتحقيق التوحيد بذلك، ودعوى أن إطلاقها عليه يقتضي التشبيه، وقد غالوا في ذلك وبالغوا حتى قالوا: إنه لا يقال: إنه موجود ولا معدوم، بل قالوا: إنه لا يعبر عنه بالحروف1

و الجهل بأدوات الفهم للنصوص الشرعية:

وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم بلسان عربي، جارٍ في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، قال الله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] .

وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193-195] .

ولذلك ينبغي أن يفهم القرآن الكريم -وكذلك السنة النبوية- على مقتضى الأسلوب العربي في الكلام، وإلا فإن المتكلم فيه والمفسر لأحكامه وآياته قد يقع في البدعة والانحراف، عندما يحرف الكلم عن مواضعه بفهمه المخالف لأساليب اللغة العربية وطرائقها؛ كقول الرافضة في قوله تعالى:{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] : إن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد، ويعنون أن عليا في

1 انظر: "إيثار الحق على الخلق"، ص84 وما بعدها.

ص: 211

السحاب، فلا يخرج من خرج من ولده حتى ينادي عليّ من السماء: اخرجوا مع فلان. هذا مع أن الآية كانت في إخوة يوسف عليه السلام كما هو معروف من السياق.

وكذلك قول من قال: إن كل شيء فانٍ حتى ذات الباري -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا- ما عدا الوجه، بدليل قوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] .

وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قالوا، فإن للمفسرين فيه تأويلات، والمعنى: كل شيء هالك إلا هو.. وهناك أمثلة لهذا كثيرة ذكرها الشاطبي رحمه الله1.

وأما العوامل والمؤثرات الخارجية التي أدت إلى ظهور البدع، فمن أهمها:

أ- تأثير اللقاء المباشر بأهل الأديان من اليهود والنصارى والمجوس، وقد سبقت الإشارة إلى هذا اللقاء مع آثاره عند الكلام على نشأة علم العقيدة واستقلاله.

وهنا نجد أمثلة كثيرة لتأثير هذا العامل؛ فالشيعة تأثروا كثيرا بفكر عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أراد أن يقوم بإفساد الدين الإسلامي من الداخل، كما حاول ذلك قبله شاءول مع ديانة عيسى وتم له ما أراد2.

1 "الاعتصام": 2/ 293-304.

2 انظر: "مذاهب فكرية" ص9 وما بعدها، "العلمانية.." د. سفر الحوالي ص27 وما بعدها، "المسيحية: نشأتها وتطورها" تأليف شارل جنيبر، ترجمة د. عبد الحليم محمود، ففيها تفصيل لدور شاءول "بولس" في إفساد النصرانية.

ص: 212

والقدرية؛ أخذوا مقالتهم في إنكار القدر عند رجل نصراني اسمه "سنسويه"، ثم تلقاها عنه معبد الجهني.

والجهمية -أتباع الجهم بن صفوان- أخذوا عن الجعد بن درهم الذي أخذ مقالته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم اليهودي1.. كما أن مؤثرات كثيرة في الفرق المنحرفة كانت بسبب المجوس وغيرهم.

ب- تأثير الفكر اليوناني، عن طريق ترجمة كتب الفلسفة اليونانية، التي فتن بها المعتزلة وكانت سببا للقول ببدع كثيرة، وسببا لأنواع الفساد والاضطراب في المنهج وفي المقررات التي خرجوا بها في الجانب الفكري والعقائدي. وهذا التأثير واضح فيما نجده من مزج علم الكلام بمنطق أرسطو وغيره، مما تصدى لبيانه ونقضه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ممن يمثلون منهج الأصالة بالعودة إلى القرآن والسنة.

1 انظر: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، مقدمة المحقق: 1/ 39-41، والمراجع المشار إليها، واقرأ عن ابن سبأ وأثره كتاب "عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة"، تأليف سليمان حمد العودة، "طبع دار طيبة بالرياض"، وانظر فيما سبق ص54-58.

ص: 213