المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: السنة النبوية - مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية

[عثمان ضميرية]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات:

- ‌تقاريظ وكلمات:

- ‌مقدمة:

- ‌تمهيد عام:

- ‌خلافة وهداية:

- ‌طريقان للهداية:

- ‌حاجة البشرية إلى الرسالة:

- ‌الرسالة الخاتمة:

- ‌العقيدة والشريعة:

- ‌الصحابة يتلقون الدين منهجا كاملا:

- ‌علم العقيدة وعلم الشريعة:

- ‌الصلة بين العقيدة والشريعة:

- ‌ضرورة ومحاذير:

- ‌أهمية العقيدة وأثرها:

- ‌علم العقيدة

- ‌مدخل

- ‌أولًا: نشأة علم العقيدة

- ‌العوامل الداخلية

- ‌العوامل الخارجية:

- ‌ثانيًا: التطور التاريخي لتدوين العقيدة

- ‌مدخل

- ‌ الفقه الأكبر:

- ‌ الإيمان:

- ‌تعريف الإيمان في اللغة:

- ‌تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي:

- ‌المؤلفات في الإيمان:

- ‌ السنة:

- ‌تعريف السنة في اللغة:

- ‌تعريف السنة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌ علم التوحيد:

- ‌تعريف التوحيد في اللغة:

- ‌المعنى الاصطلاحي للتوحيد:

- ‌دلالة كلمة التوحيد على العقيدة:

- ‌تطور استعمال كلمة التوحيد:

- ‌مؤلفات في علم التوحيد:

- ‌ الشريعة:

- ‌تعريف الشريعة في اللغة:

- ‌إطلاقات كلمة الشريعة اصطلاحيًا

- ‌مؤلفات فلي الشريعة

- ‌ العقيدة:

- ‌ أصول الدين:

- ‌ التصور الإسلامي:

- ‌مصطلحات وتعريفات

- ‌أولًا: أهل السنة والجماعة

- ‌مدخل

- ‌عناصر في تعريف الجماعة:

- ‌معنى جماعة المسلمين:

- ‌تسمية أهل السنة والجماعة:

- ‌ثانيا: السلف

- ‌ثالثا: أهل الحديث

- ‌الحديث في اللغة:

- ‌تعريف أهل الحديث:

- ‌إطلاق خاص:

- ‌وسطية أهل السنة والجماعة:

- ‌مصادر العقيدة

- ‌مدخل

- ‌أولا: القرآن الكريم

- ‌ثانيا: السنة النبوية

- ‌دور العقل ومكانته:

- ‌التزام العقيدة، والنهي عن البدع:

- ‌التوحيد

- ‌مدخل

- ‌توحيد الربوبية:

- ‌توحيد الألوهية:

- ‌توحيد الأسماء والصفات:

- ‌جوانب من توحيد الألوهية

- ‌أولًا: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌شروط كلمة التوحيد:

- ‌نواقض لا إله إلا الله:

- ‌ثانيا: العبادة وانواعها

- ‌مفهوم العبادة وأنواعها:

- ‌أنواع العبادة:

- ‌أركان العبادة وأصولها:

- ‌دعوة الرسل إلى توحيد العبادة

- ‌الانحراف عن التوحيد:

- ‌عقيدة الولاء والبراء

- ‌مدخل

- ‌الولاء والبراء في النصوص الشرعية:

- ‌مفهوم الولاء والبراء:

- ‌مفهوم الولاء في الشرع:

- ‌البراء في اللغة:

- ‌مفهوم البراء في الشرع:

- ‌الفرق بين التسامح والبر وبين المودة للكفار:

- ‌موقف الكفار من الإسلام والمسلمين:

- ‌من مظاهر الولاء للكفار:

- ‌خصائص العقيدة الإسلامية

- ‌التوفيقية

- ‌ الغيبية:

- ‌ الشمول:

- ‌ التكامل:

- ‌ التوازن:

- ‌المراجع والمصادر:

- ‌باب: الفهارس

- ‌فهرس الأحاديث النبوية:

- ‌فهرس الأبحاث:

الفصل: ‌ثانيا: السنة النبوية

‌ثانيا: السنة النبوية

وإذا كان القرآن الكريم هو مصدر الدين، عقيدة وشريعة، فإن السنة النبوية مثل القرآن في ذلك؛ لأنها وحي من الله تعالى، فقد وصف -سبحانه- ما يصدر عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه وحي، فقال:

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .

وعن حسان بن عطية، قال:"كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة، فيعلِّمه إياها كما يعلمه القرآن"1.

وأخرج البيهقي في "المدخل" عن طاوس: "أن عنده كتابا من العقول "الديات"، وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقة وعقول، فإنما نزل به الوحي"2.

فجعل ما فرضه رسول الله، مما نزل به الوحي، مع أنه لم ينزل بلفظه في القرآن الكريم الذي هو وحي متلوّ.

1 أخرجه الدارمي: 1/ 145، واللالكائي في "أصول الاعتقاد": 1/ 84، وابن بطة في "الإبانة": 1/ 255، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" ص563، والخطيب في "الفقيه والمتفقه": 1/ 99. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 13/ 291: "أخرجه البيهقي بسند صحيح".

2 انظر: "حجية السنة" ص337، وراجع كتاب "الإيمان" لابن تيمية ص37.

ص: 163

وذلك أن الوحي نوعان: أحدهما: وحي متلوّ، وهو القرآن المنزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه، وهو المتعبَّد بتلاوته.

والثاني: وحي غير متلوّ، وهو المرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلم المبيِّن عن الله عز وجل1.

فقد قلَّد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أمانة التبليغ والبيان، فقال:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] .

ومما يدل على أن السنة بمثابة القرآن في هذا: أن الله تعالى امتنّ على المؤمنين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس الكتاب والحكمة فقال:

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] .

وقال تعالى، مخاطبا أمهات المؤمنين:

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] .

فقال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهن، سوى القرآن هو سنته؛ ولذلك قال: "ألا إني

1 انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم: 1/ 87-93، "حجية السنة" ص334-341.

ص: 164

أوتيت الكتاب ومثله معه" 1.

وقال الإمام الشافعي رحمه الله بعد أن ساق الآيات الكريمة التي يأمر الله تعالى فيها باتباع الكتاب والحكمة، ويمتن بهما علينا، قال:

"ذكر الله تعالى الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال، والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكِر وأُتبعته الحكمة، فلم يجز -والله أعلم- أن يقال: الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فَرْضٌ، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله؛ لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به، وسنة رسوله مبينة عن الله معنى ما أراد

"2.

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الدين والعقيدة أحسن بيان، ودل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله، ووحدانيته وصفاته، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية. بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية -وإن كان لا يُحتاج إليها، فإن كثيرا من الأمور يعرف بالخبر الصادق- ومع هذا، فإن الرسول بيّن الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطريقين: السمعي "الشرعي"، والعقلي3.

1 أخرجه أبو داود: 7/ 7، 8، والترمذي: 7/ 426، وابن ماجه: 1/ 6، والإمام أحمد في "المسند": 4/ 313، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه": 1/ 89. وصححه الألباني في "المشكاة" برقم "163.

2 "الرسالة"، للإمام الشافعي ص78، 79، وانظر:"أحكام القرآن للشافعي" جمعه البيهقي: 1/ 28-39.

3 "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 19/ 159، 160، وانظر:"أحكام القرآن" للجصاص 1/ 35، 36، "مدارج السالكين" لابن القيم 3/ 492.

ص: 165

وبذلك يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على كل ما يعصم الأمة من المهالك نصا قاطعا للعذر، ولا يمكن أن يبين للناس أمور حياتهم وما يحتاجونه في الشريعة، ثم يترك الجانب الرئيسي وهو العقيدة.

قال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله، وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما"1.

وقيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: أجل2.

وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"3.

في أحاديث كثيرة وآثار -غير هذه- تبين أن مسائل العقيدة من أول ما يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته. وفي سنته ما يقطع الحجة، ويوضح المحجة، ويوفي على الغاية هداية وشفاء للصدور وبيانا للحق4.

هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أن السنة هي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويندرج فيها الأحاديث الحسنة التي لم تبلغ رتبة الصحيح؛ ولذلك ينبغي التوثق والتثبت من صحة الحديث وقبوله عند الاستشهاد به والاحتجاج في قضايا الاعتقاد؛ فإن العقيدة لا تبنى على الأحاديث الضعيفة.

1 "مسند الإمام أحمد": 5/ 153، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر.

2 "صحيح مسلم"، كتاب الطهارة: 1/ 223.

3 أخرجه ابن ماجه: 1/ 4، وابن أبي عاصم في "السنة": 1/ 26، وصححه الألباني.

4 انظر: "درء تعارض العقل والنقل": 1/ 72-75، "مجموع الفتاوى": 3/ 295، 296، "مختصر الصواعق المرسلة" 1/ 7-10.

ص: 166

العمل بها، فإن "جميع ما صح عن رسول الله من الشرع والبيان كله حق"1، وإنما ينبغي -بعد ذلك- النظر في المنهج الصحيح للفهم والاستدلال وإعمال قواعد الاستنباط وضوابط الترجيح عند التعارض مثلا.

وأما الأحاديث الضعيفة والموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز الاحتجاج بها، بل ولا تجوز روايتها أصلا إلا لبيان حالها، وإنما ينبغي الإعراض عنها؛ لأن العقيدة لا تثبت بالأحاديث الضعيفة فضلا عن الموضوعة. وإن من أعظم أسباب الضلال والانحراف عن السنة والعقيدة الصحيحة، الاحتجاج بالأحاديث والأخبار الضعيفة والمكذوبة وبناء الاعتقاد عليها، وبخاصة فيما يتعلق بمباحث الألوهية والصفات ونحوها2.

1 "شرح العقيدة الطحاوية" ص354-357.

2 انظر: "الوصية الكبرى" لابن تيمية ص70-83.

ص: 167

الأدلة على صحة هذا المنهج في مصدرية العقيدة:

وقد قامت الأدلة الشرعية "من الكتاب والسنة"، والأدلة العقلية على صحة هذا المنهج، وعليه أجمع الصحابة وسلف الأمة، كما أيدته التجربة والواقع:

فأولا: نطق بذلك القرآن الكريم، في آيات كثيرة تدل على ذلك:

1-

قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .

فإذا أكمل الله تعالى الدين وأتم به النعمة، فإن هذا يقتضي أن لا يترك جانبا من جوانب العقيدة أو مسألة من مسائلها دون أن يأتي عليهما بالبيان. ولذلك كان القرآن كتاب هداية لأقوم طريق في العقيدة؛ لأنه يهدي إلى صراط مستقيم، وإلى سبل السلام:

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] .

{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا، وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66-68] .

{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] .

2-

وقد وصف الله تعالى الكتاب بأنه تبيان لكل شيء، فقال:

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] .

{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] .

وإذا كانت العقيدة من أهم ما ينبغي بيانه ومعرفته؛ فلا بد من أن تكون الآيات القرآنية مبينة لهذا أوضح بيان، إذ لا يقبل العقل أن تبين لنا هذه الآيات أحكام الفروع، ثم تترك الأصول الاعتقادية التي هي أساس لتلك الفروع.

3-

وقد جاءت الآيات الكريمة تبين أن الله تعالى يبين للناس ما يكون سببا

ص: 168

لعصمتهم عن الضلال؛ وذلك يكون باتباع القرآن والسنة ومجانبة الظن وأهواء النفوس:

{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124] .

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115] .

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 55] .

في آيات كثيرة في كتاب الله تعالى تنطق بالحق، وتقيم الحجة والبرهان على أن القرآن الكريم هو كتاب العقيدة والإيمان. فليس وراءه مصدر إلا ما كان يخرج من مشكاته، وهو الحكمة أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

4-

ولذلك أوجب الله تعالى على المسلمين اتباع الرسول فيما يأمر وينهى1، وقرن طاعة الرسول بطاعته -سبحانه- في آيات كثيرة من القرآن، فقال:

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] .

وحث على الاستجابة لما يدعو إليه من الحياة الكريمة التي تتمثل في الاعتقاد الصحيح، وفي التمسك بالدين فقال:

1 انظر: "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية": 1/ 215-222، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 19/ 82-92.

ص: 169

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] .

وجعل طاعة الرسول طاعة لله تعالى، وعلامة على محبته:

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] .

كما جعل مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم سببا للفتنة تصيب الإنسان، أو سببا لعذاب أليم:

{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .

ويؤيد هذا أن رجلا قال لمالك بن أنس رحمه الله: من أين أُحْرِم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله. فأعاد عليه مرارا. قال: فإن زدتُ على ذلك؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة! قال: وما في هذه من الفتنة، إنما هي أميال أزيدها؟ قال: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال: وأي فتنة في هذا؟ قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله1؟

بل، إن هذه المخالفة لأمر الرسول والتولي عن طاعته إنما هي من الكفر الذي ينبغي أن يحذره المسلم على نفسه:

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] .

1 انظر: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" ص21، 22، "الإبانة": 1/ 26.

ص: 170

ثانيا: تواردت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم

تقيم الأدلة على صحة هذا المنهج في العودة للقرآن والتمسك بما ثبت عنه، فقال عليه الصلاة والسلام؛ فيما رواه علي رضي الله عنه، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"ألا إنها ستكون فتنة" فقلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن -إذ سمعته- حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم"1.

ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: تضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل بما

1 أخرجه الترمذي: 8/ 218-221، والدارمي: 2/ 435، والإمام أحمد: 2/ 88 "تحقيق الشيخ شاكر"، والبغوي في "التفسير": 1/ 39، وفي "شرح السنة": 4/ 438، وعزاه الهيثمي في "المجمع""7/ 165" للطبراني مختصرا. وفيه عمرو بن واقد، وهو متروك. وقال الترمذي:"حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول" وقال ابن كثير في "فضائل القرآن" الملحق بالتفسير "4/ 582": "

وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روي له شاهد". وقال ابن الوزير في "ترجيح أساليب القرآن" ص15:"وقد رواه السيد الإمام أبو طالب في "أماليه" بسند آخر من حديث معاذ بنحوه

ولم يزل العلماء يتداولونه، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث متلقى بالقبول عند علماء الأصول، فصار صحيح المعنى في مقتضى الإجماع والمنقول والمعقول".

ص: 171

فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 1.

وتواترت الأحاديث النبوية توجب العمل بالسنة والتمسك بها، وتبين أنها سبب النجاة، بما يدل دلالة قاطعة على أن المنهج الصحيح في استلهام العقيدة -مع سائر الأحكام- إنما يكون بالعودة إلى الصادق المصدوق، المبلغ عن ربه تبارك وتعالى.

وما ورد من هذه الأحاديث أنواع كثيرة، يمكن إدخالها تحت أنواع ثلاثة2:

النوع الأول: إخباره -وهو المعصوم من الكذب- بأنه قد أُوحي إليه القرآن وغيره، وأن ما بينه وشرعه من الأحكام، إنما هو بتشريع الله تعالى ومن عنده، وليس من عند النبي، وأنه لا يمكن فهم الأحكام من القرآن وحده، بل لا بد من الاستعانة بالسنة، وأن العمل بها عمل بالقرآن نفسه، وأن الأمة قد أمرها الله تعالى بالأخذ بقوله وطاعته واتباع سنته، وأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وأن الإيمان لا يتم إلا باتباع جميع ما جاء به.

وهذا النوع من الأحاديث يعزّ على الحصر، وقد تقدمت الإشارة إلى بعضها في مناسبات سابقة، كحديث:"ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه"3.

وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني

1 "تفسير الطبري": 16/ 225 "طبع الحلبي"، "مصنف عبد الرزاق": 3/ 382.

2 "حجية السنة" ص308 وما بعدها، وانظر:"الإبانة" 1/ 223-270.

3 انظر فيما سبق ص165 تعليق 1.

ص: 172

فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله

" 1.

والنوع الثاني: أمره صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالسنة، وهو لا يأمر إلا بما أوجبه الله تعالى، ولا ينهى إلا عما حظره الله، كما في حديث العرباض بن سارية، وفيه: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة

فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 2.. إلخ.

والنوع الثالث: أمره صلى الله عليه وسلم باستماع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه، وذلك يستلزم حجية قوله صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"بلِّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"3.

وقد تقدمت الإشارة إلى أن كتبا كثيرة في الاعتقاد تحت عنوان "السنة" أو "السنن"، إنما ألفت للحث على السنة واتباعها والتمسك بها4.

1 أخرجه البخاري: 6/ 11، ومسلم: 3/ 1466.

2 انظر تخريجه فيما سبق ص91 تعليق 2.

3 أخرجه البخاري: 6/ 496.

4 انظر فيما سبق ص98-101.

ص: 173

ثالثا: وعلى هذا المنهج سار الصحابة -رضوان الله عليهم

فكانوا يتلقون من النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحاه الله تعالى إليه: قرآنا ناطقا وسنة حادثة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتعرفون -بذلك- على وحدانية الله تعالى، وعلى صفاته، وعلى نبوته عليه الصلاة والسلام، وعلى المبدأ والمعاد، وكل ما يتصل بأمور العقيدة بخاصة والدين كله بعامة.

فلم يكن عندهم ما يستدلون به على ذلك سوى كتاب الله تعالى، يتلقونه

بالتسليم، فيفهمون معناه، ويلتزمون بما فيه، لا يتنازعون في شيء من ذلك، ولا يتعمقون في البحث الذي لا طائل تحته، وكانوا يرون الجدل في أمور العقيدة مؤديا إلى الانسلاخ من الدين. فلذلك أجمعت كلمتهم على أن القرآن فيه كل الغناء وفيه علم الأولين والآخرين، وأن من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما وقد أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه -كما قال ابن عمر رضي الله عنهما وما ذاك إلا لأنه جامع لمعاني النبوة1.

1 انظر: "الخطط المقريزية": 3/ 909، 910، "الموافقات" للشاطبي: 3/ 370، 371، "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" للشيخ مصطفى عبد الرازق ص269.

ص: 174

رابعا: وعلى هذا أيضا أجمعت كلمة علماء الإسلام

بعد عصر الصحابة- من جميع الطوائف، فإن القرآن عندهم يفيد معرفة أدلة التوحيد من غير ظن ولا تقليد، ومنه تعلم المتكلمون "علماء الكلام" النظر والأدلة، ولكنهم غالوا في النظر، ولم يقتصروا على القدر النافع المذكور في كتاب الله تعالى.

وجميع ما هو صحيح من الأدلة عند المتكلمين يمكن رده إلى القرآن الكريم، بل هو في القرآن الكريم؛ فجميع أدلتهم -مثلا- في وحدانية الله تعالى لا تخرج عن قوله سبحانه:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .

وهكذا في سائر أبواب الاعتقاد ومسائله. ولقد ألمحنا إلى شيء من هذا عند الحديث عن منهج الصحابة في التلقي.

ولئن كانت أدلة المتكلمين والفلاسفة مقصورة الفائدة على طائفة من الناس الذين يتأثرون بالدليل العقلي المجرد الذي قد لا يدل دلالة قطعية على مدلوله إلا بتأمل كبير وتعمق وتكلف؛ فإن أدلة الكتاب والسنة أدلة قاطعة جلية، تسبق إلى الأفهام ببادي الرأي وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها وفهمها. وهي بذلك مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع، والرجل القوي. ولهذا كانت أدلة القرآن سائغة جلية.

ألا ترى أن من قدر على ابتداء الخلق فهو على الإعادة أقدر؟ "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه" وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين، فكيف ينتظم جميع العالم؟ وأن من خلق علم ما خلق، كما قال سبحانه:

{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .

فهذه أدلة تجري مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، ينتفع به الجميع بيسر وسهولة، فتؤدي إلى معرفة وقناعة، ثم إلى التزام وطاعة1.

خامسا: فإذا تجاوزنا الدليل الشرعي والإجماع، وجدنا التجربة والواقع العملي شاهدين عدلين على صحة المنهج الذي سلف، في العودة إلى القرآن والسنة لنستمد منهما أصول العقيدة؛ إذ لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن الكريم في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا2؛ ولذلك كان فيه الكفاية والغَنَاء.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:

"إننا نعتقد -بالدراسة الطويلة- أن هذا القرآن فيه غناء كامل في بيان الحقائق التي يقوم عليها التصور الإسلامي، فلا يحتاج إلى إضافة من خارجه في هذا البيان "باعتبار أن السنة إنما هي تفصيل وبيان لما في القرآن" ونحب أن يتعود القارئ أن يلجأ إلى القرآن ليجد فيه تبيانا لكل شيء. ومن ثم فإن النصوص القرآنية هنا "في بحث موضوعات التصور الإسلامي" هي الموضوع ذاته، وليست عنصرا مساعدا

1 "ترجيح أساليب القرآن" لابن الوزير، ص"15، 16، 22".

2 "الموافقات": 3/ 371.

ص: 175

كما اعتاد الناس أن يجدوها في كثير من البحوث الإسلامية

"1.

ولا أدل على صحة هذا القول من واقع أولئك الذين حاولوا أن يتلمسوا الأدلة العقلية على صحة الاعتقاد، فأطلقوا العنان لعقولهم في البحث والتفكير، بمعزل عن الوحي، متأثرين في ذلك بمنطق اليونان وفلسفتهم، ولكنهم عادوا بالخيبة والخسران، بعد أن بدّدوا جهدهم، وأضاعوا في البحث عمرهم، ثم وقفوا حائرين، لا يجدون دلالة إلا في كتاب الله الكريم، وفي سنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم.

فهذا إمام الحرمين الجويني "ت 478هـ" وهو الأصولي الجدلي النظّار، يقول:

"قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا، ثم خلَّيت أهل الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخِضَمّ، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه؛ كل ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق. عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطف بره -فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله- فالويل لابن الجويني"2.

وأما حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي "ت 505هـ" الذي ابتدأ البحث في

1 "مقومات التصور الإسلامي"، ص86 بتصرف يسير.

2 انظر: "طبقات الشافعية الكبرى"، لابن السبكي: 5/ 185، "سير أعلام النبلاء" للذهبي: 18/ 471.

ومعنى قوله: "ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم

" أنه أنزل المذاهب كلها في منزلة النظر والاعتبار، غير متعصب لواحد منها، بحيث لا يكون عنده ميل يقوده إلى مذهب معين من غير برهان، ثم توضَّح له الحق، وأنه الإسلام، فكان على هذه الملة عن اجتهاد وبصيرة لا عن تقليد.

راجع: "الطبقات الكبرى" للسبكي: 5/ 186.

ص: 176

علم الكلام فحصّله، وطالع كتب المحققين من علمائه، وصنّف فيه ما أراد أن يصنّف، فينتهي إلى أن يقول عن هذا العلم:

"وهذا العلم قليل النفع في حق من لا يسلِّم سوى الضروريات شيئا أصلا، فلم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا

"1.

وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله ومطالعة "الصحيحين"2. وبذلك عرف الحق وفاء إليه، فكان عاقبة أمره حسنا!

وأما الفيلسوف القاضي، أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد "ت 520هـ"، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم، فيقول في كتابه "تهافت التهافت"3:

"لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء"4.

وأما إمام المتكلمين، فخر الدين الرازي، الشهير بابن خطيب الري "604هـ" فيقول في وصيته التي أوصى بها تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني:

"

ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة

1 "المنقذ من الضلال" للغزالي، ص81 نقلا عن "الحقيقة في نظر الغزالي"، د. سليمان دنيا ص34.

2 "سير أعلام النبلاء": 19/ 325، 326.

3 "تهافت التهافت": 2/ 547، تحقيق د. سليمان دنيا.

4 فابن رشد يقرر: أنه لم يقل أحد من الفلاسفة في الإلهيات قولا يعتد به. وهذا يفيد أن مصدر العلم بها الدين، المصدر السابق، تعليق 1.

ص: 177

تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية

".

ثم يعلن عُزُوفه عن علم الكلام الذي كتب فيه ما كتب، فيقول:

"وأقول: ديني متابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما"1.

وقال في كتابه "أقسام اللذات":

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووَبَال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا

فكم قد رأينا من رجال ودولة

فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها

رجال، فزالوا والجبال جبال

لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. اقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ، واقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] .

ثم قال: "ومن جرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي"2.

1 "طبقات الشافعية الكبرى": 8/ 90-91، وانظر:"سير أعلام النبلاء": 21/ 501.

2 "شرح العقيدة الطحاوية" ص208-209، والأبيات في "طبقات الشافعية": 8/ 96، و"وفيات الأعيان": 4/ 250.

ص: 178

وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال:

لعمري لقد طُفْتُ المعاهد كلها

وسيَّرتُ طَرْفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم1

وهذا العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي -مع توغّله في علم الكلام- يقول:

تاه الأنام بأسرهم

فاليوم صاحي القوم عَرْبد

والله ما موسى ولا

عيسى المسيح ولا محمد

عرفوا، ولا جبريل وهو

إلى محل القدس يصعد

من كُنْه ذاتك غير أنـ

ـك واحد في الذات سَرْمَد

عرفوا إضافات ونفيـ

ـا والحقيقة ليس توجد

فليخسأ الحكماء عن

حَرَم له الأملاك له سُجَّد

من أنت يا رسطو ومن

أفلاطُ مثلك يا مبلَّد

ومن ابن سينا حيث قـ

ـرر ما هذيتَ به وشيد

هل أنتم إلا الفرا

ش رأى السراج وقد توقّد

فدنا فأحرق نفسه

ولو اهتدى رَشَدا لأبعد

ص: 179

ويقول أيضا:

فيك يا أغلوطة الفكر

تاه عقلي وانقضى عمري

سافرت فيك العقول فما

ربحت إلا عنا السفر

رجعت حسرى وما وقفت

لا على عين ولا أَثَر

فلَحَى الله الأولى زعموا

أنك المعلوم بالنظر

كذبوا، إن الذي زعموا

خارج عن قوة البشر1

ولهذا وجدنا العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله يضع كتابا قائما برأسه في منهج القرآن في بيان العقيدة، ويوازن ذلك بمناهج المنطق اليوناني بما فيه من جفاف وتعقيد وتخليط، وسماه "ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان"، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب كامل في نقض المنطق اليوناني بعنوان "نقض المنطق"2.

1 انظر: "إيثار الحق على الخلق" لابن الوزير ص139.

2 وانظر بالتفصيل: "مناهج البحث عند مفكري الإسلام" ص63-228، ففيه تفصيل لموقف الأصوليين والفقهاء من المنطق اليوناني "دون تزكية لكل ما في الكتاب، وخاصة مقدمة الطبعة الرابعة".

ص: 180

آثار هذا المنهج، وفوائده:

وهذا المنهج في تلقّي العقيدة واستلهامها من القرآن والسنة، علاوة على أنه مقتضى الإيمان بالله، وبكتابه المنزل وبنبيه المرسل -الذي يبلِّغ عن ربه تبارك وتعالى إننا نجني منه فوائد كثيرة، أهمها اثنتان:

1-

أن هذا المنهج هو الذي يعصم عن الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وعن الاضطراب في فهم العقيدة، ويحفظ على الإنسان جهده، ويمنع عقله من التبدد والضياع، ونفسه من الهوى؛ لأنه يعود بالأمر كله إلى العليم الحكيم سبحانه وتعالى الذي تكفل بالهداية لهذا الإنسان.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله وهو يتحدث عن خصيصة "الربانية" في التصور الإسلامي:

"

وهذا التوكيد على مصدر هذا التصور، هو الذي يعطيه قيمته الأساسية، وقيمته الكبرى

فهو مناط الثقة في أنه التصور المبرأ من النقص، المبرأ من الجهل، المبرأ من الهوى.. هذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع التصورات التي صاغها البشر ابتداء من وثنيات وفلسفات، أو التي تدخّل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة!

وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصور الموافق للفطرة الإنسانية، الملبِّي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها. ومن ثم فهو التصور الذي يمكن أن ينبثق منه، ويقوم عليه أقوم منهج للحياة وأشمله"1.

2-

وهو المنهج الذي يجمع الأمة كلها، ويوحدها على كلمة واحدة وتصور واحد، ويعصمها من التفرق والشتات، بما ينشئ فيها من تصورات ثابتة، وبما يضع لها من موازين وقيم لا تتأثر بزمان معين ومكان محدد، وإنما هي الموازين والقيم الثابتة التي تتلقاها من الوحي، وتتكيف بها وتصبغ حياتها بمقتضاها، فلا تتوزّعها الأهواء ولا الأفكار البشرية الضالة، التي تتقلب فيها، فلا تستقر على

1 "خصائص التصور الإسلامي"، ص53، 54.

ص: 181

قرار؛ لأنها لا تستقر على منهج واحد.

وعندئذ تكون هذه الأمة -حقا- أمة واحدة كما أراد الله تعالى لها:

{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] .

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] .

فهي الأمة الواحدة: عقيدة وفكرا ومنهجا وسلوكا1. وعندئذ تتحقق لها الريادة والشهادة على الأمم الأخرى، بما تملك من الحق والهدى الذي تتلقاه من الوحي الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم2.

1 قال الإمام البغوي: "قوله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: ملتكم ودينكم وشريعتكم التي أنتم عليها {أُمَّةً وَاحِدَة} أي: دينا وحدا وهو الإسلام، فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان. وأصل "الأمة" الجماعة التي هي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة؛ لاجتماع أهلها على مقصد واحد". انظر "معالم التنزيل" للبغوي: 5/ 353، 420. فيصح أن يكون المقصود بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما يصح أن يقصد بها أمة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

2 انظر ما قاله الإمام أبو المظفر السمعاني في هذا المعنى، ونقله الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة": 2/ 222، 385، والموصلي في "مختصر الصواعق المرسلة": 2/ 46 وما بعدها.

ص: 182