المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مفهوم العبادة وأنواعها: - مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية

[عثمان ضميرية]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات:

- ‌تقاريظ وكلمات:

- ‌مقدمة:

- ‌تمهيد عام:

- ‌خلافة وهداية:

- ‌طريقان للهداية:

- ‌حاجة البشرية إلى الرسالة:

- ‌الرسالة الخاتمة:

- ‌العقيدة والشريعة:

- ‌الصحابة يتلقون الدين منهجا كاملا:

- ‌علم العقيدة وعلم الشريعة:

- ‌الصلة بين العقيدة والشريعة:

- ‌ضرورة ومحاذير:

- ‌أهمية العقيدة وأثرها:

- ‌علم العقيدة

- ‌مدخل

- ‌أولًا: نشأة علم العقيدة

- ‌العوامل الداخلية

- ‌العوامل الخارجية:

- ‌ثانيًا: التطور التاريخي لتدوين العقيدة

- ‌مدخل

- ‌ الفقه الأكبر:

- ‌ الإيمان:

- ‌تعريف الإيمان في اللغة:

- ‌تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي:

- ‌المؤلفات في الإيمان:

- ‌ السنة:

- ‌تعريف السنة في اللغة:

- ‌تعريف السنة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌ علم التوحيد:

- ‌تعريف التوحيد في اللغة:

- ‌المعنى الاصطلاحي للتوحيد:

- ‌دلالة كلمة التوحيد على العقيدة:

- ‌تطور استعمال كلمة التوحيد:

- ‌مؤلفات في علم التوحيد:

- ‌ الشريعة:

- ‌تعريف الشريعة في اللغة:

- ‌إطلاقات كلمة الشريعة اصطلاحيًا

- ‌مؤلفات فلي الشريعة

- ‌ العقيدة:

- ‌ أصول الدين:

- ‌ التصور الإسلامي:

- ‌مصطلحات وتعريفات

- ‌أولًا: أهل السنة والجماعة

- ‌مدخل

- ‌عناصر في تعريف الجماعة:

- ‌معنى جماعة المسلمين:

- ‌تسمية أهل السنة والجماعة:

- ‌ثانيا: السلف

- ‌ثالثا: أهل الحديث

- ‌الحديث في اللغة:

- ‌تعريف أهل الحديث:

- ‌إطلاق خاص:

- ‌وسطية أهل السنة والجماعة:

- ‌مصادر العقيدة

- ‌مدخل

- ‌أولا: القرآن الكريم

- ‌ثانيا: السنة النبوية

- ‌دور العقل ومكانته:

- ‌التزام العقيدة، والنهي عن البدع:

- ‌التوحيد

- ‌مدخل

- ‌توحيد الربوبية:

- ‌توحيد الألوهية:

- ‌توحيد الأسماء والصفات:

- ‌جوانب من توحيد الألوهية

- ‌أولًا: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌شروط كلمة التوحيد:

- ‌نواقض لا إله إلا الله:

- ‌ثانيا: العبادة وانواعها

- ‌مفهوم العبادة وأنواعها:

- ‌أنواع العبادة:

- ‌أركان العبادة وأصولها:

- ‌دعوة الرسل إلى توحيد العبادة

- ‌الانحراف عن التوحيد:

- ‌عقيدة الولاء والبراء

- ‌مدخل

- ‌الولاء والبراء في النصوص الشرعية:

- ‌مفهوم الولاء والبراء:

- ‌مفهوم الولاء في الشرع:

- ‌البراء في اللغة:

- ‌مفهوم البراء في الشرع:

- ‌الفرق بين التسامح والبر وبين المودة للكفار:

- ‌موقف الكفار من الإسلام والمسلمين:

- ‌من مظاهر الولاء للكفار:

- ‌خصائص العقيدة الإسلامية

- ‌التوفيقية

- ‌ الغيبية:

- ‌ الشمول:

- ‌ التكامل:

- ‌ التوازن:

- ‌المراجع والمصادر:

- ‌باب: الفهارس

- ‌فهرس الأحاديث النبوية:

- ‌فهرس الأبحاث:

الفصل: ‌مفهوم العبادة وأنواعها:

‌ثانيا: العبادة وانواعها

‌مفهوم العبادة وأنواعها:

غاية وجود الإنسان:

عندما ينظر المرء حوله يجد كل شيء في هذا الكون قد خلقه الله تعالى لحكمة كبرى وغاية يسعى إليها، وإلا كان وجوده عبثا، وقد تنزه الله سبحانه وتعالى عن العبث والباطل، فقال في كتابه الكريم:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [سورة ص: 27] . والمؤمن يناجي ربه تعالى قائلا، عندما يتفكر في خلق السموات والأرض:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . [آل عمران: 191] .

والإنسان ليس بدعا بين هذه المخلوقات، فلا بد أن يحدد الغاية التي أُوجد من أجلها، وهو يسعى لها؛ كي تستقيم حياته من خلالها ويعرف سر وجوده:

{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] .

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون} [المؤمنون: 115] .

وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنه أخذ العهد على بني آدم أن يعترفوا له بالربوبية؛ ليخضعوا له بالعبادة، فقال سبحانه وتعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] .

ص: 283

وكانت الكلمة التي تتكرر على لسان كل رسول لقومه عندما يدعوهم، هي الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] .

وغدت العبادة غاية الوجود الإنساني كله، بل إن الجن كذلك غايتهم هي عبادة الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-85] .

وبهذا النفي في أول الآية الكريمة والاستثناء في آخرها يحصر الله تعالى مهمة الإنس والجن ويقصرها على وظيفة واحدة، ومسئولية واحدة هي عبادة الله تعالى وحده، فليس لهم وراء ذلك وظيفة أو غاية، وما ينبغي أن يكون!

فكيف يستطيع الإنسان أن يكون دائما في عبادة الله تعالى، فلا تنقضي لحظة من لحظات حياته -بعد التكليف- إلا وهو في عبادة؟ وكيف يستطيع أن يقوم بهذا التكليف الرباني؟

مفهوم صحيح شامل للعبادة من خلال النصوص:

هنا نجد أنفسنا أمام فهم صحيح للعبادة كما أرادها الله تعالى، لا تقتصر على ركعات خاشعة يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، ولا على أيام من العام يصومها المسلم طاعة لله سبحانه، ولا على جزء من المال يدفعه زكاة يطهر بها نفسه وماله، ولا على حج البيت الحرام عند الاستطاعة. فإن هذه العبادات كلها لا تستغرق من حياة الإنسان إلا جزءا يسيرا، فهل يترك سائر أيام حياته وساعاتها دون عبادة، فيخالف -عندئذ- أمر الله تعالى، وهو سبحانه لم يخلقه إلا للعبادة؟

ص: 284

إن المسلم يستطيع أن يجعل حياته كلها في الساعات الأربع والعشرين في اليوم والليلة عبادة لله تعالى وحده، إذ إن الإسلام قد أسبغ على جميع أعمال الإنسان صفة العبادة إذا قصد بهذه الأعمال وجه الله ومرضاته، وقام بها على الوجه المشروع الموافق للسنة، وكانت في سبيل تحقيق أهدافها المقصودة المشروعة.

فالزارع والصانع والتاجر، والطبيب والمهندس والعامل، والموظف، والمعلم والتلميذ

وغيرهم من أصحاب الأعمال تعتبر أعمالهم عبادة إذا قصد بها كل منهم نفع عباد الله، والاستغناء عن الحاجة إلى الناس، وإعالة العيال؛ تحقيقا لأمر الله سبحانه وتعالى وخضوعا له، والتزاما وتحقيقا لمقاصد الشريعة التي أنزلها الله تعالى لمصالح الناس، وليقوموا جميعا بالحق والقسط.

والقرآن الكريم، كتاب الله الخالد، لم يقصر وصف الصلاح -عندما أمرنا بالعمل الصالح- على العبادات المخصوصة، وهي أركان الإسلام وشعائره ومبانيه الأساسية، بل جعله شاملا لأعمال أخرى، كقوله تعالى:

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120، 121]

والآيات في ذلك كثيرة تعز على الحصر.

وفي الحديث الشريف يعدِّد النبي أنواعا من الطاعات، ويبين أجرها فيقول:"يصبح على كل سُلَامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى"1.

1 أخرجه مسلم برقم "720": 1/ 499.

ص: 285

وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق"1.

وقال أيضا: "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة"2.

وقال: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"3.

وكل هذه الأعمال أبواب من الخير ينال المؤمن عليها الأجر، فهي صدقات، والصدقة عبادة يتقرب بها المرء إلى الله تعالى. وأكثر من هذا وأدل قوله عليه الصلاة والسلام:"وفي بُضع أحدكم صدقة" -أي: في جماعه لزوجته- قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال:"أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"4.

معنى العبادة:

وبعد، فما أصدق وما أجمل ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتحدث عن العبادة وفروعها، حيث يقول:

1 أخرجه مسلم برقم "2626": "4/ 2026".

2 أخرجه البخاري: 5/ 226 طبعة بولاق، ومسلم برقم "1009":"2/ 699" واللفظ له.

3 أخرجه البخاري: "1/ 48، 49"، ومسلم برقم "35":"1/ 63".

4 قطعة من حديث رواه الإمام مسلم برقم "1006": "2/ 697، 698".

ص: 286

"العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك

كله من العبادة".

وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه، والرضى بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه

هي من العبادة لله.

وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق لها الخلق فقال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1.

شمول العبادة لكل جوانب الحياة:

وعن هذا المعنى الواسع والمفهوم الشامل للعبادة في الإسلام، بما يشمل الشعائر والمعاملات وغيرها، يتحدث الأستاذ سيد قطب رحمه الله فيقول:

إن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و"معاملات" مسألة جاءت متأخرة عند التأليف في مادة "الفقه". ومع أنه كان المقصود به -في أول الأمر- مجرد التقسيم "الفني"، الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه -مع الأسف- أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور، تبعته -بعد فترة- آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها. إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة "العبادة" إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله "فقه العبادات". بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله "فقه المعاملات"! وهو انحراف

1 انظر: "العبودية" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص38، 39.

ص: 287

بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي.

ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولا وأخيرا.

وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة

وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج

ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى "العبادة" في حياة الإنسان

والنشاط الإنساني لا يكون متصفا بهذا الوصف، محققا لهذه الغاية -التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني- إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني؛ فيتم بذلك إفراد الله -سبحانه- بالألوهية؛ والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة؛ لأنه خروج عن العبودية، أي: خروج من غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله، أي: خروج عن دين الله!

وأنواع النشاط التي أطلق عليها "الفقهاء" اسم "العبادات"، وخصوصا بهذه الصفة -على غير مفهوم التصور الإسلامي- حين تراجع مواضعها في القرآن تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها، وهي أنها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم "المعاملات"

إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني ومرتبطة في المنهج التوجيهي باعتبار هذه كتلك شطرا من منهج "العبادة" التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقا لمعنى

ص: 288

العبودية، ومعنى إفراد الله -سبحانه- بالألوهية.

إن ذلك التقسيم -مع مرور الزمن- جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا نشاط "العبادات" -وفق أحكام الإسلام- بينما هم يزاولون كل نشاط "المعاملات" وفق منهج آخر، لا يتلقونه من الله، ولكن من إله آخر! هو الذي يشرع لهم في شئون الحياة ما لم يأذن به الله!

وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين -على هذا النحو- فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين..

وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه؛ ويريد في الوقت ذاته، أن يحقق غاية وجوده الإنساني.

إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني -وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة، يقوم عليها بناء الحياة كله- بل إن أهميتها تتجلى كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله؛ وحين يصبح كل نشاط فيها -صغر أم كبر- جزءا من هذه العبادة، أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه، وهو إفراد الله -سبحانه- بالألوهية، والإقرار له وحده بالعبودية

هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه؛ ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى حالاته التي ارتقى إليها: حالة تلقي الوحي من الله، وحالة الإسراء والمعراج أيضا:

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] .

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى

ص: 289

الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} 1 [الإسراء: 1] .

ويتحدث الأستاذ المهتدي محمد أسد "ليوبولدفايس سابقا" في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" حديثا دقيقا عن الفرق بين التصور الإسلامي والتصورات الأخرى في هذا الشأن؛ وعن أثر ذلك التصور في الشعور بجدية الحياة وأهمية كل حركة فيها، باعتباره الوسيلة الوحيدة لبلوغ الإنسان أقصى درجات الكمال الإنساني في هذه الحياة الدنيا. فيقول في فصل بعنوان:"سبيل الإسلام":

"يختلف إدراك العبادة في الإسلام عما هو في كل دين آخر2.. إن العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص، كالصلاة والصيام مثلا، ولكنها تتناول "كل" حياة الإنسان العملية أيضا. وإذا كانت الغاية من حياتنا على العموم "عبادة الله" فيلزمنا حينئذ، ضرورة، أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها على أنها تبعة أدبية، متعددة النواحي، وهكذا يجب أن نأتي أعمالنا كلها -حتى تلك التي تظهر تافهة- على أنها عبادات؛ وأن نأتيها بوعي، وعلى أنها تؤلف جزءا من ذلك المنهاج العالمي الذي أبدعه الله.. تلك حال ينظر إليها الرجل العادي على أنها مَثَل أعلى بعيد. ولكن أليس من مقاصد هذا الدين أن تتحقق المثل العليا في الوجود الواقع؟ ".

"إن موقف الإسلام في هذا الصدد لا يحتمل التأويل. إنه يعلمنا أولا أن عبادة الله الدائمة، والمتمثلة في أعمال الحياة الإنسانية المتعددة جميعها، هي معنى الحياة نفسها. ويعلمنا ثانيا أن بلوغ هذا المقصد يظل مستحيلا ما دمنا نقسم حياتنا

1 خصائص التصور الإسلامي، ص131، 132.

2 هو يقصد الأديان في صورتها التي صارت إليها، وإلا فإن دين الله كله واحد في أساسه، وفي اعتبار العبادة لله بمعنى العبودية له في كل شيء، وإفراده بالألوهية، والتوجه إليه بكل نشاط.

ص: 290

قسمين اثنين: حياتنا الروحية، وحياتنا المادية

يجب أن تقترن هاتان الحياتان في وعينا وفي أعمالنا، لتكون "كلا" واحدا متسقا.. إن فكرتنا عن وحدانية الله يجب أن تتجلى في سعينا للتوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة في حياتنا".

"هناك نتيجة منطقية لهذا الاتجاه، هي فرق آخر بين الإسلام وسائر النظم الدينية المعروفة. ذلك أن الإسلام -على أنه تعليم- لا يكتفي بأن يأخذ على عاتقه تحديد الصلات المتعلقة بما وراء الطبيعة فيما بين المرء وخالقه فقط. ولكن يعرض أيضا -بمثل هذا التوكيد على الأقل- للصلات الدنيوية بين الفرد وبيئته الاجتماعية.. إن الحياة الدنيا لا ينظر إليها على أنها صَدَفَة عادية فارغة، ولا على أنها طيف خيال للآخرة، التي هي إيجابية تامة في نفسها. والله تعالى واحد لا في ذاته فحسب، بل في الغاية إليه أيضا

من أجل ذلك كان خلقه وحدة، ربما في جوهره، إلا أنه وحدة في الغاية منه بكل تأكيد".

"وعبادة الله في أوسع معانيها -كما شرحنا آنفا- تؤلف في الإسلام معنى الحياة الإنسانية.. هذا الإدراك وحده يرينا إمكان بلوغ الإنسان الكمال، في إطار حياته الدنيوية الفردية، ومن بين سائر النظم الدينية نرى الإسلام -وحده- يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا

إن الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات "الجسدية"، ولا هو يعدنا بسلسلة متلاحقة الحلقات من "تناسخ الأرواح" على مراتب متدرجة -كما هي الحال في الهندوكية- ولا هو يوافق البوذية التي تقول بأن الكمال والنجاة لا يتمان إلا بعد انعدام النفس الجزئية وانفصام علاقاتها الشعورية من العالم.. كلا إن الإسلام يؤكد على إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا الفردية، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو"1.

1 الإسلام على مفترق الطرق ص21، 22 من الترجمة العربية، بتصرف يسير.

ص: 291