الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توحيد الربوبية:
تعريفه:
وقد ألمحت آنفا إلى أن توحيد الربوبية هو: اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى هو وحده رب كل شيء ومالكه، وهو خالق كل شيء، هو خالق العباد ورازقهم، وهو محييهم ومميتهم، وأنه سبحانه النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، والأمر كله له -سبحانه- وبيده الخير كله، وهو على كل شيء قدير، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك أيضا: الإيمان بالقدر.
وقد سبق -فيما سلف- أن هذا التوحيد يستلزم توحيد الألوهية، فهو وحده لا يُدخِل صاحبه في الإسلام؛ ولذلك قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين مع أنهم كانوا يقرون بأن الله سبحانه -وحده- هو الخالق الرازق، المحيي والمميت، المتصرف بالأمر كله1.
وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك فقال:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] .
وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] .
1 انظر: "تطهير الاعتقاد" للمقريزي، ص29، 30.
فهم ينسبون الخلق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمر كله: من رزق وإنزال للمطر وغيره، ينسبونه كله لله سبحانه، ومع ذلك حكم الله تعالى عليهم بالكفر ودمغهم بالشرك، فقال سبحانه وتعالى:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] .
أما إيمانهم بالله، الذي أثبته الله لهم في هذه الآية، فهو قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان، مع إشراكهم في عبادتهم غيره. فهم يعرفون الله، ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره، وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات، كالحج والصدقة، والذبح والنذر، والدعاء وقت الاضطرار، ونحو ذلك
…
ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، فأنزل الله تعالى:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] .
وبعضهم كان يؤمن بالقدر، وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب، كما قال زهير بن أبي سلمى:
يؤخَّر فيُوضع في كتاب فيُدَّخر
…
ليوم الحساب أو يُعجَّل فيُنقَم
وقال عنترة:
يا عَبْلُ أين من المنية مهرب
…
إن كان ربي في السماء قضاها؟
ومثل هذا يوجد في أشعارهم، فوجب على كل عاقل عقل عن الله تعالى، وفهم آياته، أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم، مع هذا الإقرار والمعرفة! وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة
الذي هو معنى: "لا إله إلا الله"1.
وحتى أولئك الذين عبدوا الأصنام، واتخذوها آلهة من دون الله تعالى، لم يعتقدوا أن الأصنام مشاركة لله في الخلق، وإنما اعتقدوا أنها تماثيل قوم صالحين، من الأنبياء والصالحين، فهم يتوسلون بها إلى الله كما حصل لقوم نوح، الذين عبدوا ودا وسواعا
…
{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] .
فإن هذه الأسماء أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم
…
ثم صارت هذه الأصنام بعينها مع غيرها، معبودة عند العرب الذين قالوا:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .
وحتى أولئك الذين اعتقدوا بإلهين اثنين، كالثنوية مثلا، الذين قالوا بإله للنور وإله للظلمة، أو إله للخير وإله للشر، لم يكونوا يعتقدون تساوي هذه الآلهة، فإله النور عندهم خير من إله الظلمة، وهذا ليس مثل ذاك.
ولا أظن عاقلا يوقن في قرارة نفسه بأن هناك خالقا أو مدبرا لهذا الكون غير الله سبحانه، أو أن هذا الكون لم يخلقه الله سبحانه؛ فإن الوحدة والتناسق في نظام هذا الكون دليل على وجود الله تعالى ووحدانيته2.
1 انظر: "تيسير العزيز الحميد"، ص34، "تجريد التوحيد" ص14، "تطهير الاعتقاد" ص23، 24.
2 انظر: "التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان"، ص35-39.
وفي كل شيء له آية:
ولذلك جاءت الآية القرآنية الكريمة توجّه أنظارنا إلى هذا الكون وتناسقه؛ لتبين لنا أن وراء هذا كله قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته:
وقال الله تعالى:
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] .
ومن نور هذه المشكاة جاء حديث النبي ودعاؤه الذي يقول فيه: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت""أخرجه البخاري".
إطلاقات كلمة "رب":
وتوحيد الربوبية لا يتنافى مع ما جاء من تسمية المالك للشيء المتصرف فيه: ربا له، كأن نقول: فلان رب الدار، أو: رب البيت.. فإن هذا يعني أنه هو صاحب هذا الشيء الذي جعل الله تعالى له حق التملك والتصرف في ذلك الشيء المملوك، وهو يصلحه وينمِّيه ويتعهده ويقوم برعايته، ولا يتنافى ذلك مع أن الله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء ومليكه. فهو إطلاق بمعنى خاص، لا بأس به في الشرع ولا العقل.
الإلحاد جهالة وسفاهة:
وإذا كان من البداهة والفطرة أن يقر الإنسان بوجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته -على ما أسلفنا- لأن كل الأدلة تدل على ذلك، فإنه من السخافة والضلالة والجهالة أن يغمض الإنسان عينه أو يجعل عليها غشاوة لئلا تبصر الحق وتهتدي إليه، أو أن يلغي عقله ويطمس على بصيرته ويخالف فطرته، فينكر وجود الله سبحانه، وينسب الخلق إلى ما أسماه بعضهم: الطبيعة أو التفاعل الذاتي أو المصادفة
…
كما يفعل الملحدون وأضرابهم من السفهاء1.
صور من الإخلال بتوحيد الربوبية:
ولئن اضمحلَّت تلك الموجة الإلحادية -التي اتسعت دائرتها في أوروبا لظروف خاصة- فإننا لا نزال نجد في كثير من بقاع المسلمين صورا وألوانا من الإخلال بتوحيد الربوبية؛ نجده عند أولئك الذين يزعمون أو يظنون أن أحدا من البشر، كالأقطاب والأبدال.. عند الصوفية، لهم نوع من القدرة والتصرف في هذا الكون، أو أن هذا
1 انظر: "التصور الإسلامي للكون والحياة"، فصل: حقيقة الكون.
الكون يُحفَظ بهم! أو أن الأولياء في قبورهم يستطيعون أن ينفعوا أحدا بشيء، كالشفاء من المرض، أو تيسير حاجة ما من حاجات الناس؛ ولذلك تراهم يطوفون حول قبورهم، ويدعونهم من دون الله أو مع الله، ويستغيثون بهم ويستجيرون، ويقدمون لهم النذور والقرابين..!!
ولا يبعد عن هؤلاء أولئك الذين يخضعون خضوعا تاما لأشياخ الطرق الصوفية، ويكونون بين أيديهم كالميت بين يدي الغاسل!! فإنهم وإن كانوا يقولون: إن الله هو الخالق الرازق المدبر لهذا الكون المتصرف فيه، فواقع حالهم يشير إلى أنهم لم يَقْدِروا الله حق قدره، وأنهم يعظمون هؤلاء الأموات أو المشايخ أكثر مما يعظمون الله تعالى!
فلْنحذر الوقوع في أي شائبة من شوائب الشرك، ولْنحافظ على هذه العقيدة نقية صافية، وليكن الله تعالى دائما -وحده- وجهتنا ومعبودنا، ولنقل مع أبي الأنبياء خليل الرحمن، إبراهيم عليه الصلاة والسلام: