الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى جماعة المسلمين:
واختلف العلماء في المراد بهذه الجماعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، وما في معناها بملازمتها.
وقد أجمل الشاطبي رحمه الله ذلك في خمسة أقوال:
الأول: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، فالسواد الأعظم هم الناجون من الفِرَق، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم، فهو مخالف للحق.
وممن قال بهذا: أبو مسعود الأنصاري، وابن مسعود. فروي أنه لما قتل عثمان رضي الله عنه سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة، فقال: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر. وقال ابن مسعود: عليكم بالسمع والطاعة؛ فإنها حبل الله الذي أمر به ثم قبض يده وقال: إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذي تحبون في الفرقة.
فعلى هذا القول: يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها. ومن سواهم داخلون في حكمهم؛ لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذّوا، وهم نهبة الشيطان، ويدخل في هؤلاء الخارجين عن الجماعة جميع أهل البدع؛ لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة، لم يدخلوا في سوادهم بحال.
والثاني: أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية؛ لأن جماعة الله هي العلماء، جعلهم الله حجة على العالمين، وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام:"إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة" 1، وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها تفزع عند النوازل، وهي تبع لها. فمعنى قوله:"لن تجتمع أمتي": لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة.
وممن قال بهذا: عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وجماعة من السلف، وهو رأي الأصوليين. فقد قيل لعبد الله بن المبارك: من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم؟ قال: أبو بكر وعمر، فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد. فقيل: هؤلاء ماتوا! فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكري جماعة "وهو محمد بن ميمون المروزي، سمع من أبي حنيفة، توفي سنة 168هـ".
فعلى هذا القول: لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد؛ لأنه داخل في أهل التقليد، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية، ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين.
1 روي هذا الحديث من طرق، عن أبي مالك الأشعري وابن عمر وابن عباس وأنس وسمرة وأبي نضرة وأبي أمامة وأبي مسعود، بألفاظ كثيرة، عند أبي داود والترمذي والحكم وابن أبي عاصم في السنة. قال الزركشي بعد أن ساق رواياته كلها وطرقه: واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة، ولا تخلو من علة، وإنما أوردت منها ذلك ليتقوى بعضها ببعض، ومن شواهده ما في الصحيحين عن أنس قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال:"وجبت" ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: "وجبت" فقيل: يا رسول الله، لِمَ قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت؟ قال:"شهادة القوم، والمؤمنون شهداء الله في الأرض" وفي لفظ مسلم: "من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض" ثلاثا.
انظر: "المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر" للإمام بدر الدين الزركشي ص"57-62" بتحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي.
والثالث: أن الجماعة هي الصحابة على الخصوص؛ فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا، وقد يقع من سواهم فيها.
ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله"1.
وقوله: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"2.
فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر. وممن قال بهذا القول: عمر بن عبد العزيز، فقد روى ابن وهب عن مالك قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخد بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها! من اهتدى بها مهتدُ، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. فقال مالك: فأعجبني عزم عمر على ذلك.
فعلى هذا القول: لفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام: $"ما أنا عليه وأصحابي"3. فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنّوه.
1 أخرجه مسلم في الإيمان، باب ذهاب الإيمان آخر الزمان برقم "148": 1/ 131.
2 أخرجه مسلم في الفتن، باب قرب الساعة برقم "2949": 4/ 2268.
3 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" وفي لفظ: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة عن عدد من الصحابة بألفاظ مختلفة، فأخرجه أبو داود في كتاب السنة: 7/ 3، 4، والترمذي في الإيمان: =
فكل ما سنوه فهو سُنة من غير نظر فيه، بخلاف غيرهم، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر، ردا وقبولا، فأهل البدع إذًا غير داخلين في الجماعة قطعا، على هذا القول.
والرابع: أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام، إذا اجتمعوا على أمر، فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة، فإن وقع بينهم اختلاف، فواجب تعرّف الصواب فيما اختلفوا فيه.
قال الشافعي: الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، وإنما تكون الغفلة في الفرقة1.
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني، وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول، وهو الأظهر.
وفيه من المعنى ما في الأول: من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلا، فهم -إذًا- الفرقة الناجية.
والخامس: ما اختاره الإمام الطبري من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير. فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه، ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا
= 7/ 398، وابن ماجه في الفتن: 2/ 1321، والدارمي في السير: 2/ 241، وابن حبان برقم "1834" من "موارد الظمآن"، والحاكم: 1/ 128، وابن أبي عاصم في "السنة": 1/ 7، والإمام أحمد في "المسند": 2/ 232، 3/ 120، 4/ 102.
وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للألباني رقم "203، 204"، "الوصية الكبرى" ص"46"، وللشيخ سلمان العودة دراسة موسعة للحديث وطرقه في "صفة الغرباء""20-51".
1 انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي ص476.
عليه من تقديمه عليهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم، فاضربوا عنقه كائنا من كان"1.
قال الطبري: فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة.
قال: وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير، كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية، فهي الجماعة التي وصفها أبو مسعود الأنصاري، وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم، وهو السواد الأعظم.
قال: وقد بين ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فروي عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قال عمر -حين طُعن- لصهيب: صَلِّ بالناس ثلاثا وليدخل عليَّ عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، وليدخل ابن عمر في جانب البيت، وليس له من الأمر شيء، فقم يا صهيب على رءوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد رأسه السيف، وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رءوسهما حتى يستوثقوا على رجل.
قال: فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف، فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته، وقلة العدد المنفرد عنهم.
قال: أما الخبر الذي ذكر فيه: "أن لا تجتمع الأمة على ضلالة" فمعناه: أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جمعهم عن العلم
1 انظر: "صحيح مسلم"، كتاب الإمارة: 3/ 1480.
ويخطئوه، وذلك لا يكون في الأمة.
وحاصله: أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم1.
وما ننتهي إليه في معنى أهل السنة والجماعة:
أنها الفرقة التي وعدها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة من بين سائر الفرق. ومدار هذا الوصف على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة ما جاء به من الاعتقاد والعبادة والهدي والسلوك، وملازمة جماعة المسلمين، وهو الحق الذي ينبغي التمسك به.
ولذلك قال ابن أبي شامة، رحمه الله:"وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلا والمخالف كثيرا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم"2.
قال عمرو بن ميمون: قدم علينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع حبه في قلبي، فلزمته حتى واريته في التراب بالشام، ثم لزمت أفقه الناس بعده: عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ثم ذُكر يوما عنده تأخير الصلاة عن وقتها، فقال: صلوها في بيوتكم فهي الفريضة، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة. قال عمرو بن ميمون: فقلت لعبد الله بن مسعود: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدِّثون! قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول لي: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصَلِّ مع الجماعة وهي نافلة؟!
قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، إنما الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. وفي رواية: فقال ابن مسعود: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى.
قال نعيم بن حماد: يعني: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ3.
1 "الاعتصام": 2/ 260-265 باختصار يسير. وانظر: "فتح الباري": 13/ 37.
2 انظر: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" ص19.
3 أخرجه بنحوه: اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد": 1/ 108، 109، وبهذا اللفظ نقله ابن أبي شامة من رواية البيهقي في "كتاب المدخل"، ولم أجده في القسم المطبوع منه.
انظر: "الباعث" لابن أبي شامة ص19، 20، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 13/ 179.