الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوحيد
مدخل
…
التوحيد:
تمهيد:
ألمحنا فيما سبق إلى أن التوحيد هو: اعتقاد أن الله تعالى واحد في ربوبيته، فلا رب سواه، وواحد في ألوهيته، فلا يستحق العبادة سواه، وواحد في أسمائه وصفاته، متفرد بصفات الكمال التي لا تنبغي إلا له، فلا شبيه له ولا نظير.
التوحيد: فطرة وتاريخا
وهذا التوحيد -بأوسع معانيه وبكل مقتضياته ومستلزماته- هو الذي فطر الله تعالى الخلق عليه. وقد نطق بذلك القرآن الكريم والسنة النبوية؛ ففيهما أن الله تعالى خلق الإنسان مؤمنا بربه، يتجه إليه -بفطرته- بالطاعة والعبادة، وأن غايته هي تحقيق العبودية والتوحيد1.
وبذلك يكون الأصل في البشرية هو التوحيد، "لقد كانت قضية توحيد الله -سبحانه- وإفراده بالألوهية، والعبودية له وحده بلا شريك، والدينونة له بلا منازع؛ هي قضية الاعتقاد الأولى والحقيقية في جميع الرسالات السماوية على مدار العصور والقرون"2.
الأدلة على ذلك:
وقد قامت الأدلة الشرعية الصحيحة، والأدلة العقلية المنطقية الصريحة تؤيد هذا الواقع وتسنده وتؤكده. وفيما يلي إشارة إلى بعض هذه الأدلة:
1 راجع فيما سبق ص15-19.
2 "مقومات التصور الإسلامي"، للأستاذ سيد قطب ص84 و99.
أولا: حكى الله تعالى في القرآن الكريم أن أبا البشرية الأول -آدم عليه السلام وذريته كانوا على التوحيد، يتبعون منهجا إلهيا منزلا إليهم من ربهم تبارك وتعالى، فهم أول البشر، يدينون بالتوحيد الخالص، وبذلك يكون التوحيد سابقا للشرك، وليس تطورا عنه. ثم كلما انحرفت أمة من الأمم عن هذا التوحيد، بعث الله تعالى إليها رسولا يدعوها إلى التوحيد وعبادة الله وحده:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إلى قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 30-38] .
وجاء الحديث عن هذا التوحيد والالتزام بمنهج الله تعالى وشرعه في سورة "الأعراف"، وفي سورة "طه" بما لا مزيد عليه في الوضوح والبيان، يقرر أن البشرية الأولى كانت على التوحيد، لم تعرف الشرك والانحراف إلا بعد قرون، حينما انحرف القوم عن دين الله وتوحيده، فبعث الله تعالى لهم نوحا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده:
وهي أيضا دعوة هود عليه السلام يوجهها إلى قومه عاد:
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] .
وهي الكلمة التي ينبغي أن يلتقي عليها أتباع الرسل والأنبياء؛ لتكون دليل إسلامهم لله تعالى:
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس أولا إلى توحيد الله وعبادته؛ ولهذا قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده" وفي رواية: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"1.
وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة قاعدة عامة إجمالية، في دعوة كل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بعد أن حكاها تفصيلا عن كل منهم بطريقة استقرائية2 -كما رأينا- فقال:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .
1 أخرجه البخاري: 3/ 261، ومسلم 1/ 50، 51.
2 راجع سياق الآيات في سورة الأعراف وفي سورة هود، لتلحظ أن الكلمة التي تكررت على لسان جميع الرسل عليهم السلام هي "اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره" وأن التوحيد يأخذ مساحة واسعة من الحياة ببيان مستلزماته ومقتضياته، ولتلحظ كذلك: تشابه موقف كل قوم من دعوة نبيهم، ثم النهاية التي يكتب الله تعالى فيها النصر لنبيه ودعوته ويدمر على الكافرين الظالمين.
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
ثانيا: وكلما كان الإنسان قريبا من النبع كان الماء أكثر صفاء ونقاء، وكلما ابتعد عن النبع وجد الماء أقل صفاء ونقاء؛ لما يطرأ عليه من الأذى وما يداخله من القذى، والشوائب التي تنصبّ فيه
…
وهكذا كانت البشرية الأولى على الفطرة والتوحيد لقرب عهدها بربها تعالى، ثم اختلطت بعد ذلك الينابيع.. وتضافرت العوامل التي أدت إلى الانحراف عن التوحيد، فكان ظهور الشرك طارئا بعد ذلك التوحيد، وكان انحرافا عنه.
ثالثا: لو كان هناك تطور حقا -كما يقولون- لكان من الطبيعي والمنطقي أن يكون هذا التطور من الوحدة إلى الكثرة؛ لأن الواقع يدل على ذلك، فأنت عندما تبدأ بالعدّ والحساب -مثلا- تبدأ بالواحد وتنتهي بما بعده من كثرة، وليس العكس.
الرد على نظرية التطور في الأديان:
ولعل هذه الإشارات السريعة فيها ما يكفي للرد على مزاعم أولئك النفر من الغربيين ومن تابعهم من المسلمين1، والذين يدرسون تاريخ الأديان ويزعمون أن البشرية لم تعرف عقيدة التوحيد إلا بعد أن تطورت ومرت بمراحل، فكانت تعرف الشرك وتعدد الآلهة أولا، ثم ترقّت من ذلك إلى التوحيد، متأثرين في ذلك بنظرية التطور في أصل الأنواع التي ابتدعها "دارون"، ثم نقلوا الفكرة ذاتها إلى الدين، فأصبحوا يقولون بالتطور فيه.
1 كالأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه "الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية" وعبد الحميد زايد في كتابه "الشرق الخالد" حيث زعم أن التوحيد من اختراع العقل البشري، وأنه تطور من الوثنية
…
وانظر ردا على ذلك في "أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ" د. جمال عبد الهادي ص40 وما بعدها.
وقد يظن بعض المسلمين أن في ذلك ترقيا للإنسان وتزكية للإسلام؛ لأنهم يزعمون أن البشرية لما كانت في حال من التأخر كانت تعبد آلهة متعددة، ولما ترقت وتقدمت أصبحت تعبد إلها واحدا، فنشأت ديانات التوحيد. يظنون ذلك ويدافعون عنه، مع أنه -كما رأينا- يناقض نصوص القرآن الكريم والسنة والنبوية، ويخالف الواقع والمنطق والعقل1.
أنواع توحيد الرسل والأنبياء:
وبعد أن انتهينا إلى أن جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قد بعثهم الله تعالى بدعوة التوحيد، فينبغي أن نؤكد هنا على أن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
وهذا باعتبار ما يجب على الموحِّد؛ فأحيانا يطلب منه مجرد العلم والمعرفة، وأحيانا يطلب منه توجيه القصد والإرادة وإخلاص العبادة لله.
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تبارك وتعالى وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وعلوه فوق سمواته على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه. وقد أفصح القرآن الكريم عن هذا النوع من التوحيد كل الإفصاح، كما في أول سورة "الحديد" و"طه" وآخر "الحشر" وأول سورة "السجدة" و"آل عمران" وسورة "الإخلاص" كلها، وغير ذلك من الآيات والسور.
1 انظر بالتفصيل: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 20/ 106-112، 28/ 603-605، "في ظلال القرآن"، المجلد الثالث ص1304-1306، 1394، "مقومات التصور الإسلامي" ص84-100، "الدين" للدكتور محمد عبد الله دراز ص106 وما بعدها، "مدخل إلى الثقافة الإسلامية"، ص176-182، "العقيدة في الله"، ص243-252، "نشأة الدين" ص178 وما بعدها.
والنوع الثاني: وهو توحيد الطلب والقصد، بإفراد الله تعالى بالعبادة قولا وقصدا وفعلا. وقد أفاض القرآن الكريم في بيان هذا النوع، كما في سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وسورة "آل عمران"، وأول سورة "يونس" وأوسطها وآخرها، وأول سورة "الأعراف" وآخرها، وجملة من سورة "الأنعام".
وغالب سور القرآن الكريم، بل كل سورة فيه متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به، داعية إليه:
1-
فإن القرآن الكريم، إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات.
2-
وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، أو توحيد القصد والطلب.
3-
وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في أمره ونهيه، فذلك من حقوق التوحيد ومكمّلاته.
4-
وإما خبر عن إكرام الله لأهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا، مع ما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء التوحيد.
5-
وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلّ بهم في الآخرة من العذاب، فهو خبر عن جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
وبهذا، فالقرآن الكريم كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وجزاء من انحرف عنه وخرج عن حكمه1.
1 "مدارج السالكين"، 3/ 449، 450، "شرح الطحاوية" ص89، 90، "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" ص36-39، "دعوة التوحيد"12.
أقسام التوحيد باعتبار متعلقاته:
وأما تقسيم التوحيد باعتبار متعلقه، فهو يتضمن ثلاثة أنواع:
أحدها: توحيد الربوبية.
والثاني: توحيد الألوهية.
والثالث: توحيد الأسماء والصفات.
وهذه قسمة واقعية بيانية للتوحيد، فإن الكلام فيه إما أن يتعلق بالربوبية وتفرد الله تعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير، وإما أن يتعلق بالألوهية وتفرده سبحانه بذلك، فهو صاحب الأمر والنهي والحكم، وهو الذي ينبغي أن نتجه إليه بالطاعة والعبادة، وإما أن يتعلق بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم مما ينبغي له من الصفات العظمى، والأسماء الحسنى.
وأصل هذا التقسيم نجده في كلام الأئمة من علماء السلف؛ كالطبري وابن منده وغيرهما. فهو ليس شيئا مخترعا مبتدعا كما يزعم بعضهم.
العلاقة أو النسبة بين هذه الأقسام الثلاثة:
وقبل أن نخصّص فقرة لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة للتوحيد، نشير إلى العلاقة بينها:
فإن توحيد الربوبية يستلزم ويقتضي توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية هو مقتضى توحيد الربوبية وكذلك توحيد الأسماء والصفات. فتوحيد الربوبية هو المقدمة لتوحيد الألوهية والخطوة الأولى التي توصل إليها، وإلى هذا يشير قوله تعالى:
فالله سبحانه وتعالى يستحق العبادة وحده؛ لأنه هو الخالق وحده، وبذلك يتم الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية.
وأما توحيد الألوهية، فهو متضمن لتوحيد الربوبية، فإن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا، لا بد أن يكون قد اعتقد أنه هو ربه ومالكه الذي لا رب له غيره، ولا مالك له سواه. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران، كما في قوله:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ}
…
فجمع بين الاسمين: اسم الإله، واسم الرب"1.
وأما توحيد الأسماء والصفات؛ فإنه شامل للنوعين السابقين، فهو يقوم على إفراده سبحانه بكل ما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا التي لا تنبغي إلا له، ومن جملتها كونه ربا واحدا لا شريك له في ربوبيته، وكونه إلها واحدا لا شريك له في إلهيته. فاسم الرب لا ينصرف عند الإطلاق إلا إليه، وكذلك اسم الجلالة "الله" لا يطلق إلا عليه وحده، فهو صاحب الربوبية المطلقة الشاملة وصاحب الإلهية على جميع خلقه.
وبالجملة: فهذه الأنواع الثلاثة من التوحيد متكاملة متلازمة، يكمل بعضها بعضا، ولا ينفع أحدها بدون الآخريْنِ؛ ولذا فمن أتى بنوع واحد منها ولم يأت بالآخر، فإنه لم يأت به على الوجه المطلوب، وعندئذ لا ينتج أثره المطلوب2.
1 "مجموع الفتاوى": 10/ 284.
2 "تيسير العزيز الحميد" ص33، "دعوة التوحيد"، د. محمد خليل الهراس، ص83-86.