الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجمعة سلخ ذي القعدة بدمشق، ودفن في قلعتها، ثم نقل إلى جبل الصالحية، ودفن في مدرسة هناك تعرف بالمعظمة فيها قبور جماعة من اخوانه وأهل بيته، وكان من النجباء الأذكياء، ذكرت عنه أمور تدل على حسن ادراكه واصابة المقصد منها أنه كان ابن عنين قد مرض، فكتب إليه:
انظر إلي بعين مولى لم يزل
…
مولى الندى وتلاف قبل تلاف
فأنا الذي أحتاج ما تحتاجه
…
فاغنم ثوابي وثناء الوافي
فجاء إليه بنفسه يعوده، ومعه صرة فيها ثلاث مائة دينار، فقال: هذ الصلة وأنا العائد وأشياء كثيرة يطول شرحها.
سنة خمس وعشرين وست مائة
فيها توفي العلامة الحسن بن إسحاق المعروف بابن الجواليقي المحدث الرحال أحمد بن تميم بن هشام الأندلسي.
وفيها توفي أبو المعالي أحمد بن الخضر الصوفي المعروف بابن طاووس رحمه الله.
سنة ست وعشرين وست مائة
فيها أخذ الكامل بيت المقدس، وسلمه إلى ملك الفرنج أعوذ بالله من سخط الله، ومن انتهاك شعائر الله، وموالاة أعداء الله، فكم بين من طهره من نجاسات الشرك، وبين من ساق إليه نجاسات الشرك، ومن أعز دين الله ونصره، وبين من أذله وحقره، ثم اتبع فعله ذلك بحصار دمشق وايذاء الرعية، وجرت بين عسكره وعسكر الناصر وقعات حربية، وقتل جماعة في غير سبيل الله، ووقع النهب في الغوطة والحواضر، وأحرقت الجبانات والخوانق ودام الحصار أشهرًا، لم وقع الصلح في شعبان، ورضي الناصر بالكرك ونابلس فقط، ثم دخل الكامل، وبعث جيشه يحاصرون حماة، ثم تسلم دمشق بعد شهر إلى
أخيه الأشرف، فأعطاه الأشرف حران والرقة والرهاء وغير ذلك، فتوجه إلى الشرق ليتسلم ذلك، ثم حاصر الأشرف بعلبك، فأخذها من الأمجد.
وفيها توفي مسند الشام أبو القاسم شمس الدين الحسين بن هبة الله بن محفوظ الثعلبي الدمشقي.
وفيها توفيت أمة الله بنت أحمد بن عبد الله الآبنوسي، روت الكثير عن أبيها، وتفردت عنه، وتوفيت في الحرم، وتلقبت شرف النساء كانت صالحة خيرة.
وفيها توفي ياقوت الرومي الحموي، ثم البغدادي التاجر شهاب الدين الأديب الإخباري صاحب التصانيف الأدبية في التاريخ والأنساب والبلدان وغير ذلك، أسر من بلاده صغيرًا فابتاعه ببغداد رجل تاجر، ولما كبر ياقوت المذكور، قرأ شيئًا من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار في متاجرة، ثم جرت بينه وبين مولاه قضية أوجبت عتقه، فأبعده عنه فاشتغل بالنسخ، وحصلت له بالمطالعة فوائد. وصنف كتابًا سماه إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء في أربع مجلدات، وكتابًا في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء، وكتبًا أخرى عديدة، وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف.
وذكر القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني وزير صاحب حلب ياقوت المذكور، كتب إليه رسالة من الموصل عند وصوله إليها يصف فيها حاله وما جرى له، فأحجم عن عرضها على مولاه الشريف إعظاما وتهيبًا، وفرارًا من قصورها عن طوله وتجنبًا، إلى أن وقف عليها جماعة من منتحلي صناعة النظم والنثر فوجدهم مسارعين، إلى كتبها، متهافتين على نقلها وما يشك أن محاسن مالك الرق حلتها، وفي أعلى درج الإحسان أحلتها، فشجعه ذلك على عرضها على مولاه، وللآراء علوها في تصفحها، والصفح عن زللها، فليس كل من لمس درهمًا صيرفيًا. ولا كل من اقتنى دراً جوهريًا.
قلت: وهذه الألفاظ اليسيرة من أولها رأيت كتابتها ليتعجب من بلاغتها من وقف عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، أدام الله على العلم وأهليه، والإسلام وبنيه، ما سوغهم وحباهم، ومنحهم وأعطاهم، من سبوغ ظل المولى الوزير، أعز الله أنصاره، وضاعف مجده واقتداره، ونصر ألويته وأعلامه، وأجرى باجراء الأرزاق في الآفاق أقلامه، وأطال بقاءه، ورفع إلى أعلى عليين علاه، في نعمة لا يبلى جديدها، ولا يحصى عدها ولا عديدها، ولا ينتهي إلى غاية مديدها، ولا يقل حديدها ولا جديدها، ولا يقل وادها ولا وديدها، وأدام
الله ولته، للدنيا والدين إلى يوم يبعثه ويهزم كرثه يعني كربه، ويرفع مناره، ويحسن بحسن أثره آثاره، ويفتق نوره وأزهاره، وينير نواره، ويضاعف أنواره، وأسبغ ظله للعلوم وأهلها، والآداب ومنتحليها، والفضائل وحامليها، ويشيد بمشيد فضله بنيانها، ويرصع بناصع مجده تيجانها ويروض ببالغ علائه زمانها، ويعظم لعلو همته الشريفة من البرية شأنها، ويمكن في أعلى درج الاستحقاق امكانها ومكانها، ورفع بنفاذ الأمر قدره للدول الإسلامية والقواعد الدينية: ليسوس قواعدها، ويعز مساعدها، ويهين معاندها، ويعضد بحسن الانابة معاضدها، وينهج بجميل المقاصد مقاصدها، حتى يعود بحسن تدبيره غر في جبهة الزمان، وسنة يقتدي بها من طبع على العدل والإحسان. يكون لها أجرها مادار الملوان، وكر الجديدان، ما أشرقت من الشرق شمس، وارتاحت إلى مناجاة الحضر الزاهرة نفس.
وبعد، فإن المملوك ينهي إلى المقر العالي المولوي، والمحل الأكرم العلي أدام الله سعادته مشرقة النور مبلغة السؤل، واضحة الغرر بادية الحجول، ما هو مكيف بالأريجية المولوية عن تبيانها، مستغن بما منحتها من صفاء الآراء عن افضاء قلمه لايضاحه وبيانه قد أحسنه ما وصفه به عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، وإن من أمتي لمكلمين، وهو شر ما يعتقده من الولاء، ويفتخر به من البعيد للحضرة الشريفة الغراء. قد كفته تلك الألمعية عن اظهار المشتبه بالملق مما تجنه الطوية، لأن دلائل غلو المملوك في دين ولاية الآفاق، واضحة، وطبعه بسكة اخلاص الوداد باسمه الكريم على صفحات الدهر لائحة وإيمانه بشرائع الفضل الذي طبق الآفاق، حتى أصبح بها نبي المكارم مبين وتلاوة لأحاديث المجد بالمشاهدة متين، ودعاء أهل الآفاق إلى المغالاة في الإيمان بإمامة فضله
الذي تلقاه باليمن معروف، وتصديقه بملة سؤدده الذي تفرد بالوحي لنظم شارده وقسم متبدده بعرق الجبين مألوف، حتى لقد أصبح للفضل كعبة لم يفترض حجتها على من استطاع إليها السبيل، ويقتصر بقصدها على ذي القدرة دون المعتر وابن السبيل، فإن لكل منهم حظًا يستمده، ونصيبًا يستفيد به ويستعده فللعظماء الشرف الضخم من معينه، وللعلماء اقتناء الفضل من فطينه، وللفقراء توقيع الأمان من نوائب الدهر وغض جفونه، وفرضوا من مناسكه للنهجة الشريعة السلام والتبجيل، وللكف البسيطة الإستلام والتقبيل.
ثم قال بعد كلام مشتمل على ألفاظ فضيلة ومعان جميلة: وقد كان المملوك فارق ذلك الجناب الشريف، وانفصل عن مقر العز اللباب، والفضل المنيف، أراد استعتاب الدهر الكالح، واستدبار صلف الزمن الغشوم والجامح، اعتذار أبان في الحركة بركة، والاغتراب داعية الاكتساب، والمقام على الاقتراب ذلك واستقام وحبس البيت، في المحافل سكيت:
فودعت من أهلي وفي القلب ما به
…
وسرت عن الأوطان في طلب اليسر
سأكسب مالا أو أموت ببلدة
…
يقل بها فيض الدموع على قبري
فامتطأ غارب الأمل إلى الغربة، وركب ركب التطواف مع كل صحبه، قاطع الأغوار والأنجاد، حتى بلغ السد، أو كاد، فلم يرفق به زمان حزون ولا مكان حرون، فلكأنه في جفن الدهر قذى، وفي حلقه شجى، تدافعه آمال الأمنية حتى أسلمته إلى ربقة المنية.
لا يستقر بأرض أو يسير إلى أخرى
…
لشخص قريب عزمه نأى
يومًا يخروى ويومًا بالعقيق
…
ويومًا بالعذيب ويومًا بالخليصاء
وتارة يتنحى نخلاً، وأدية
…
شعب الحزون حيناً قصر تيماء
والمملوك مع ذلك يدافع الأيام ويزخيها، ويعلل المعيشة ويرجيها متلفعاً بالقناعة والعفاف، مشتملاً بالنزاهة والكفاف، غير راضي بذلك الشمل، ولكن مادة أقول لايطل قد ألزم نفسه أن يستعمل طرفًا طماحًا، وأن يركب طرفًا جماحًا، وأن يلحف بيض طمع جناحًا، وأن يستقدح زهدًا وارياً وشاحًا.
وأدبني الزمان فلا أبالي
…
هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما عشت يومًا
…
أسار الجندام ركب الأمير
ولقد ندب المملوك أيام الشباب بهذه الأبيات، وما أقل عنا الباكي عد في الرفات.
تنكر لي مذ شبت دهري وأصبحت
…
معارفه عندي من النكرات
إذا ذكرتها النفس حنت صبابة
…
وجاد شؤون العين بالعبرات
إلى أن أتى دهر يحسن ما مضى
…
ويوسعني تذكاره حسرات
قلت: وهذا البيت الأخير يشفي من منهل القائل الذي بهذا المعنى يشير.
رب دهر بكيت منه
…
فلما صرت في غيره بكيت عليه
وهذا ما اقتصرت عليه من رسالته الطويلة الجليلة الفائقة الجميلة المؤذنة له بتمام البلاغة والفضيلة، وهو نحو من ربعها، وهو لعمري فيما يستحقه من النعوت. من نفيس الجواهر كاسمه ياقوت، توفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان بظاهر مدينة حلب، وكان قد وقف كتبه، ولما تميز سمى نفسه يعقوب.
وفيها توفي الملك المسعود ابن الملك الكامل بمكة المشرفة، وكان قد سيره جده الملك العادل إلى اليمن، فملكها وبلاد الحجاز مضافة إليها، ولما حضرته الوفاة وصى أنه إذا مات لا يجهز بشيء من ماله، يسلم إلى الشيخ الصديق يجهزه عنده بما يرى، وكان من كبار الصالحين من أكراد بلد إربل مجاورًا بمكة، ولما مات الملك المسعود تولى تجهيزه وكفنه في إزار، كان قد أحرم فيه بالحج والعمرة سنين عديدة، وجهزه تجهيز الفقراء