الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذكور ومؤانسة كثيرة، وصحبة صحيح المودة، فجئت إليه أنا وأخي، وكتب إلى سلطان بلدنا الملك المعظم كتابًا بليغًا في حقنا. يقول فيه: أنت تعلم ما يلزم من أمر هذين الولدين، فإنهما ولدا أخي، وولدا أخيك، ولا حاجة مع هذا إلى تأكيد وصية، وأطال القول في ذلك، فتفضل القاضي أبو المحاسن، وتلقانا بالقبول والإكرام، وعمل ما يليق لمثله، وأنزلنا في منزلة، ورتب لنا على الوظائف وألحقنا بالكبار مع صغر السن، والابتداء في الاشتغال، وكان أبو المحاسن المذكور بيده حل الأمور وعقدها، ليس لأحد معه كلام في الدولة، وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة.
ومما حكي عنه أنه قال: كان في المدرسة النظامية ببغداد أربعة أو خمسة من الفقهاء المشتغلين، فاتفقوا على استعمال حب البلاذر لأجل سرعة الحفظ والفهم، فاجتمعوا ببعض الأطباء، وسألوه عن مقدار ما يستعمل الإنسان منه، وكيف يستعمله، ثم اشتروا المقدار الذي قال لهم الطبيب الجاهل، فشربوه في موضع خارج المدينة، فحصل لهم الجنون، فتفرقوا وتشتتوا، ولم يعلم ما جرى عليهم، وبعد أيام جاء إلى المدرسة، وأحد منهم، وهو عريان ليس عليه شيء يستر عورته، وعلى رأسه عمامة كبيرة لها عذبة طويلة قد ألقاها وراءه، فوصلت إلى كعبه، وكان طويلاً، وهو ساكت عليه السكينة والوقار لا يتكلم بشيء، ولا يعبث بشيء، فقام إليه بعض الفقهاء، وسأله عن الحال، فأخبره باستعمال حب البلاذر، وقال: فأما أصحابي، فإنهم جنوا، وما سلم منهم إلا أنا وحدي، فصار يظهر العقل العظيم والسكون، والحاضرون يضحكون منه، وهو لا يشعر بهم، ويعتقد أنه سالم مما أصاب أصحابه، وهو على تلك الحال لا يفكر فيهم ولا يلتفت إليهم.
وفيها توفي أبو سليمان داود الملقب بالملك الزاهر ابن الملك العادل صلاح الدين يوسف بن أيوب، كان صاحب قلعة البيرة التي على شاطىء الفرات، وكان يحب العلماء وأهل الفضل، ويقصدونه من البلاد، وكان الثاني عشر من أولاد صلاح الدين، وكانت ولادته سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة، فلما توفي توجه ابن أخيه الملك العزيز ابن الملك الظاهر إلى القلعة المذكورة وملكها والبيرة بكسر الموحدة وسكون المثناة من تحت وفتح الراء، وفي آخرها هاء، وهي قلعة من ثغور الروم على الفرات بقرب سميساط.
سنة ثلاث وثلاثين وست مائة
فيها أخذت الفرنج قرطبة واستباحوها، وجاءت فرقة من التتار، فكسرهم عسكر
إربل، فما بالوا وساقوا إلى بلاد الموصل، فقتلوا أو سبوا، فاهتم المستنصر بالله وأنفق الأموال، فرجعوا.
وفيها غزا الكامل الفرات، واستعاد حران، وخرب قلعة الرها، وهرب منه نواب صاحب الروم، ثم كر إلى الشام خوفًا من التتار، فإنهم وصلوا إلى سنجار، ثم حسده صاحب الروم، ونازل حران، وتعب أهلها بين الملكين.
وفيها توفي الحافظ العلامة اللغوي أبو الخطاب عمر بن الحسن الكلبي الداني الأندلسي المعروف بابن دحية، سمع الحديث، وجال في مدن الأندلس، وحج ودخل العراق، وسمع مسند أحمد، وبأصبهان معجم الطبراني، وبنيسابور صحيح مسلم بعلو بعد أن كان قد حدث به في المغرب بالإسناد الأندلسي النازل، وكان يقول: إنه حفظه كله، وضعفه جماعة، وله تصانيف غرائب.
قلت: وتنقصه الذهبي، فقال: وقد أنفق على الملك الكامل، وجعله شيخ دار الحديث بالقاهرة، وقاضي القضاة بالقاهرة.
ومدحه ابن خلكان فقال: كان من أعيان العلماء، ومشاهير الفضلاء متقنًا لعلم الحديث وما يتعلق به، عارفًا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، فانظر ما بين هذين الوصفين من المضادة ممن يذم السامع عقيدته، وممن يحمد اعتقاده مع كمال فضيلة المادح في العلوم، وتصويب العارف بانتقاده.
وفيها توفي نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجبلي، سمع من شهدة وطبقتها، ودرس وأفتى وناظر، وولي القضاء سنة ثلاث وعشرين، ثم عزل بعد أشهر، وكان لطيفاً ظريفًا، متين الديانة، كثير التواضع، متجربًا في القضاء، قوي النفس في الحق مع عدم التكلف والمحابات.
وفيها توفيت الشيخة الصالحة الصوفية زهرة بنت محمد بن أحمد بن حاضر، روت عن يحيى بن ثابت وغيره.