الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لولا المشقة ساد الناس كلهم
…
الجود يفقر والإقدام قتال
هذا من لطيف الإشارات.
سنة خمسين وست مائة
فيها توفي الكمال إسحاق بن أحمد المعري الشافعي المفتي تلميذ ابن الصلاح، كان إماماً بارعًا زاهدًا عابدًا توفي بالروحانية.
وفيها توفي العلامة أبو الفضائل رضي الدين الحسن بن محمد الصغاني العدوي العمري الهندي اللغوي نزيل بغداد، كان إليه المنتهى في معرفة اللغة، له مصنفات كبار في ذلك، وله تبصرة في الفقه والحديث مع الدين والأمانة.
وفيها توفي سعد الدين بن حمويه محمد بن المؤيد الجويني الصوفي، كان صاحب أحوال ورياضات، وله أصحاب ومريدون وكلام، سكن سفح قاسيون مدة، ثم رجع إلى خراسان، فتوفي هناك.
سنة إحدى وخمسين وست مائة
وفيها توفي شيخ الشيوخ السيد الجليل العارف بالله أبو الغيث ابن جميل اليمني ذو المقامات العلية والأحوال السنية، والأنفاس الصادقة، والكرامات الخارقة، والفتح العظيم، والفضل الجسيم منبع الأسرار، ومطلع الأنوار شيخ الزمان والمشار إليه من بين الأقران صاحب المظهر الباهر العظيم الشأن الذي أشرت إليه فيما تضمنه هذان البيتان.
أيا سيدكم ساد بالفضل سيدًا
…
بكل زمان ثم كل مكان
إذا أهل أرض، فاخروا بشيوخهم
…
أبو الغيث فينا فخر كل يمان
كان قدس الله روحه عبدا يقطع الطريق فبيناه وكامن للقافلة، فسمع هاتفًا يقول: ياصاحب العين عليك أعين، فوقع منه ذلك موقعا أزعجه عما كان عليه، وأقبل به إلى الإقبال على الله والإنابة إليه، وصحب في بدايته الشيخ الكبير الولي الشهير المعروف بابن أفلح اليمني حتى زكت نفسه، وتنور قلبه، وظهر عليه صدق الإدارة وسيماء السعادة، وبدت منه بعض الكرامات في الأوقات. من ذلك أنه خرج يحتطب في وقت، ومعه حمار يحمل عليه حطب، فبينا هو يجمع الحطب في بعض البراري وثب الأسد على حماره، فافترسه، فلما جاء بالحطب ليحمله وجده قد مات، وقال للأسد: تقتل حماري على أي شيء أحمل
حطبي، وعزة المعبود ما أحمله إلا على ظهرك، فجمع الحطب، وحمله عليه وهو هين لين مطيع، وساقه إلى أن وصل به إلى طرف البلد، ثم حط عنه الحطب، وقال له: اذهب ومن ذلك أيضا أن زوجة شيخه المذكور طلبت شري عطر من السوق، فذهب ليشتري لها، فكلم بعض العطارين في ذلك، فقال العطار: ما عندي شيء فقال له أبو الغيث: ما عندك شيء؟ فانعدم في الحال جميع ما في دكان العطار، فجاء إلى الشيخ يشكو إليه ما جرى على حوائجه من أبي الغيث، فاستدعى به الشيخ وخاصمه بسبب اظهار ما ظهر له من الكرامة، وقال له: سيفان لا يصلحان في غمد واحد، اذهب عني، فدار له أبو الغيث وتضرع والتزم به فأبى أن يصحبه، فذهب يلتمس من يصحب من الشيوخ لينتفع به، فكل من التمس منه يقول: اكتفيت ما تحتاج إلى شيخ حتى جاء إلى الشيخ الكبير العارف بالله الخبير السيد المبجل المعروف بعلي الأهدل، فالتمس منه الصحبة، فأنعم له بذلك.
قال أبو الغيث فلما صحبته كأني قطرة وقعت في بحر، وقال أيضاً: كنت عند ابن أفلح لؤلؤة بهما، فثقبها الأهدل، وعلقها في عنقي قلت: كأنه يشير إلى أن محاسن أحواله المشكورة كانت عند ابن أفلح مستورة، فلما صحب الأهدل أظهر محاسنه التي يجليها عليه لكل من يجتليها.
ومن كراماته أيضا أن الفقراء قالوا له: نشتهي اللحم، فقال: في اليوم الفلاني إن شاء
الله تعالى تكلون اللحم، وكان يوم سوق يجتمع فيه القوافل، فلما جاء ذلك اليوم جاء الخبر أن قطاع الطريق الحرامية نهبوا القافلة، فلما كان بعد ساعة جاء واحد من القطاع يثور إلى الشيخ، فقال الشيخ للفقراء: اذبحوه واطبخوه وخلوا رأسه على حاله، ثم جاء آخر أيضاً منهم يحمل حب، فقال لهم الشيخ: اطحنوه واخبزوه، ففعلوا جميع ذلك، ثم فتوا العيش وأدموه، فقال الشيخ للفقراء: كلوا، فدعا الفقراء الفقهاء إلى الأكل معهم، فامتنعوا، فقال الشيخ للفقراء: كلوا الفقهاء ما يكلون الحرام، فأكلوا حتى فرغوا، وإذا بإنسان قد جاء إلى الشيخ وقال: يا سيدي نذرت للفقراء بثور، فأخذه الحرامية، فقال له الشيخ: تعرف رأس ثورك إذا رأيته. قال: نعم أعرفه، فأمر الشيخ بإحضار ذلك الرأس، فأحضروه فلما رآه ذلك الإنسان قال: هذا رأس ثوري بعينه، ثم جاء إنسان آخر، وقال: يا سيدي نذرت للفقراء حمل حب، فنهب مني، فقال له الشيخ: قد وصل إلى الفقراء متاعهم، فلما رأى الفقهاء ذلك ندموا على ترك موافقة الفقراء، وبقوا يضربون يدا على يد وله أيضا رضي الله تعالى عنه ما يطول ذكره بل لا يستطاع حصره من الكرامات الظاهرات والآيات الباهرات.
وله كلام عظيم في الحقيقة والتربية في سلوك الطريقة جمع بعضه في كتاب مستقل، من ذلك قوله: يجب على من نزلت به أخلاط أول ما يبدأ استخراج القيء بريشه خوف
الفوت، ويغتسل بعد ذلك من ماء عين الندامة بقصد العزلة في كهف جبل الانقطاع أيسًا من الأنس بما دون الله تعالى، ويشرب من ماء شحوم حنظل الصبر، ويستنشق بدهن أشجار الحزن، ويطعم من صحيح غذاء التوكل، ثم يكتحل بقشر عود الغرام، ولا ينام بعد ذلك حتى ينظر أنوار أثمار أشجار التوفيق، ثم يجلس على بساط قدم الصدق والتصديق منتظرا لما يرد من عجائب إبريز التحقيق، وصحيح حلول الفقر والعجز والافتقار الذي أنعم به تعالى به النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ونعم الرقيق، فحينئذ يبرأ العليل، ويرجع إلى ما كان عليه خلقه أول مرة، فيكون حياته لله، وموته لله لا لنفسه بذلك جرى قلم الحكيم القديم المتفضل بالتأبيد في محل الحضرة على المنهج العبدي، والقانون الفقري الذي وجب أن لا يكون الفقر أزلاً وأبداً لنفسه، وجرى الآن لسان الفقر لوجوب ترك التدبير لصحة الإرادة، وتلقي ما يرد لصحة الرضاء، والتزام ما لا يلزم حبا لله وشوقا إليه كما قد وجب على من يعيده فإذا التزم ما لا يلزم صفات الحق للحق وأوصله إلى علم أنه يصل به، فيكون الحق أوصله لا هو وصل، وبعد وجود ما يجب أيضًا على المريد اتيانه علمًا ورسمًا يظهر علوم أزلية يتعلق بصفة القديم المتفضل القدوس لا يعرف العالم بها إن الله تعالى يعصى أو يتعدى أحد مراده، والله بكل شيء عليم.
قلت وآخر كلامه هذا يشبه قوله أيضأ: كل خيال نقاب لوجه الأمر العزيزي، والأمر العزيزي نقاب لجلال الله، وجمال سبحات وجه الله الكريم فرضًا لأن لايبرز من ذلك الجلال ذرة، فلا يبقى أحد من الثقلين، ولا من سواهما يعرف لله تعالى طاعة ول اعصيانًا قلت: وقد أشرت إلى ما يظهر من معناه، والله أعلم في ترجمة الشيخ عبد القادر في سنة اثنتين وستين وخمس مائة.
وقال أيضاً: أن الحس والمحسوس حجاب عن الله تعالى فإذا ظهر سلطان حب الله تعالى بنور حياة القلب بالله أحرق حراريق الهوى بنار سلطانه الذي لا يقدر أحد أن ينفيه.
وقال أيضًا: إذا طلعت شمس من أفق قبلة الغيب إلى الأفق الأعلى أخذ كل من في الأفق الأدنى نصيبه من شعاعها، وليس كل مدرك بالحسن هو هي، فأما إذا طلعت من كل مكان، وانتفت روية التعاقب عنا يقينًا لم يبق ليل ولا نهار، ولم يبق كفر، ولم يبق اسلام، ووجب حينئذ ظهور الشيء الذي حالت بيننا وبين الأحوال، وكثرت المقالات، والأفعال كما يحول السحاب يقيناً، فإذا لم يبق حائل ظهر الشيء الذي لا يشبه شيئًا وغبناعنا، وصرنا كالنجوم عند طلوع الشمس لا غياب بشرط الفناء ولا حضور شرط البقاء، فإن كنت هاهنا رأيت ما رأينا وإن لم تر شيئا فكن حجراً صماً يدق بك النوى.
وقال أيضاً: إذا اختلط ماء الأمطار بماء البحر، كان منه الدر واللؤلؤ والياقوت الأحمر
قطعًا قلت: ويحتمل أنه يعني إذا اختلط ماء أمطار غيث الفضل المنهمل من سحاب الجود عند مشاهدة الجمال، وشرب كؤوس الوصل بماء بحر توحيد القلوب المنورة الطيبة الزكية المطهرة، يكون من ذلك المطرد والمعارف ولؤلؤ العلوم، وياقوت الحكم الأحمر، ويحتمل إذا اختلط ماء أمطار العلوم الباطنة بماء بحر العلوم الظاهرة في ظروف القلوب الطاهرة.
وقال: إن عبيد الهوى حلالا ًوحرامًا عبيد لمن تملك الهوى يقينًا في صحيح الفقر قطعاً قلت: ومما يناسب قوله لجماعة من الفقهاء، أتوا إلى زيارته: مرحبا ًبعبيد عبدي، فرجعوا عنه منكرين ذلك أشد الإنكار، فصادفوا شيخ الطريقين وإمام الفريقين إسماعيل بن محمد الحضرمي المشهور، فذكروا له ذلك، فضحك وقال: صدق أنتم عبيد الهوى والهوى عبده وقال أيضًا: أفي وقت لا يحكم الهوى على المريد وصل إلى الله تعالى بالله تعالى وأي وقت يحكم الهوى على المريد يقينًا فصل عن الله تعالى بعلة، والعياذ بالله العظيم، ولا شك أن الله تعالى خلق كل دابة ماء مهين معلول بعلة وأما ما خلق الله تعالى مما ليس منا أحد يعرفه أول مرة، فهو من نور جلال جمال وجه الله الكثير الحمد لله رب العالمين.
اعلة.
وقال: إن لهيب نار قلوب المخلصين بالحق تحرق الشياطين وأتباعهم يقيناً كمثل ما تحرق النار الحطب قولاً واحدًا.
وقال: أما بعد، فإنا نظرنا فيما يفسد عقول المريدين، فإذا هو من روية ثواب العمل، وفساد القلوب من حب الدنيا البتة والحرص والطمع واتباع الهوى وفساد الأرواح، من حب البقاء وطول الأمل، فلهذا يجب على المريد الزهد في نفسه لأنها هي محل العلل، ومنزل الغفلة عن الله تعالى، فإذا أراد المريد صلاح قلبه، وصفاء لبه قتل نفسه بسيف الصدق، وطرحها في قبر الانقطاع، ودفنها بترك التدبير، وتلقى ما يرد عليه من القضاء بالرضاء والتسليم والأنس بخيرة الله، والسكون إلى حكمة الله وبالله التوفيق.
وقال أيضًا لما كاتبه الملك المنصور سلطان اليمن في وصفه الكيمياء متهمًا له بمعرفتها ومطالبًا له بتعليمها إذا طرح الإيمان والتوحيد واليقين والتوكل والرضاء في بوطة حب الله تعالى، وسخن بنار الشوق والتوحيد صار منه أكسير يستحيل الكون بطبعه ربوبية صرفاً الحمد لله رب العالمين.
اعبودية والسلام.
وقال أيضاً في جواب كتاب أتاه من الشريف الإمام أحمد بن الحسين أيام خرج، وقد دعاه إلى البيعة له: ورد كتاب السيد ففهمنا مضمونه، ولعمري إن هذا سلكه الأولون، وأقبل عليه الأكثرون غير أنا نفر مذ سمعنا قوله تعالى له دعوة الحق لم يبق لإجابة الخلق فينا متسع، وليس لأحد منا أن يشهر سيفه على غير نفسه، ولا أن يفرط في يومه بعد أمسه، فليعلم السيد فراغنا لمارام فيعذر المولى والسلام قلت: وله من الكلام في الحقائق الغامضات الدقائق ما لا يفهمه إلا الخواص من الخلائق من العطايا، ومن المواهب الجسيم ما لا ينال إلا من فيض فضل الله العظيم، وكنت قد رأيته في المنام هو والسيد المشكور إسماعيل بن محمد الحضرمي المشهور في ليلة واحدة، وقال لي أحدهما وأظنه الشيخ أبا الغيث: إنا ما فتح علي إلا بعد الخمسين فقلت له: يا سيدي هذه بداية الفتح أم نهايته؟ فقال لي: يا ولدي إذا جاء فضل الله جاء دفعة واحدة، ففهمت أنه يعني بذلك الجذبة من جذبات الحق يفنى العبد عن نفسه وعن الخلق، وإليه وإلى شيخه المذكورين أشرت في غزل هذين البيتين من قصيدة في مدح شيوخ اليمن:
يبيت عطاء عيطبول خريدة
…
غياثية في سابقات المحامل
سقت تلك نهلا ًحورة أفلحية
…
وعل احرود من ملاح إلا هادل
خليلي في حب الملاح تغزلاً
…
بسلمى، ومن في ربعها من حلائل
وزور أملاح الحي من كل حورة
…
يمانية يمنًا وحسنا كوامل
وعوجًا على أحبانا بعواجه
…
وبلا ربها بالدموع الهواطل
وقلت: فيها بالتصريح بعد كناية الغزل والتلويح:
ملوك البرايا ليس يشقى جليسهم
…
لهم بيض رايات العلى في المحافل
كساداتنا منهم شموس عواجة
…
إلى الحكمي السامي انتساب الأفاضل
ومثل أبي الغيث المقدم في العلى
…
كبحر بعيد الغور نأي السواحل
وشيخه ذي المجد النجيب ابن أفلح
…
وأهد لهم صدر الكبار الأماثل
قلت: وقد أنخت رواحل الأخبار عنه بساحة الاختصار في منازل هذا المقدار.
وفي السنة المذكورة توفي الملك الصالح صلاح الدين ابن الملك الطاهر غازي ابن. الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب.
وفيها توفي الإمام العلامة كمال الدين عبد الواحد ابن خطيب زملكان عبد الكريم بن