الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة أربع وثلاثين وست مائة
وفيها نزلت التتار على إربل وحاصروها، وأخذوها بالسيف حتى حافت المدينة بالقتلى، وغصب القلعة بعد أن لم يبق بعد أخذها شيء من الموانع، وترحلت الملاعين. وفيها توفي الملك المحسن أحمد ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، سمع الحديث، وكتب الكثير، وكان متواضعًا متزهدًا كثير الإفضال على المحدثين، قال الذهبي وفيه تشييع قليل.
وفيها توفي الحافظ أبو الربيع الكلاعي سليمان بن موسى البلبيسي صاحب التصانيف، وبقية أعلام الأثر، توفي بالأندلس قال الأبار: وكان قد فاق أهل زمانه، وتقدم على أقرانه، عارفاً بالجرح والتعديل، ذاكراً للمواليد والوفيات، لا نظير له في الاتقان والضبط مع الأدب والبلاغة، وكان فرداًفي إنشاء الرسائل، مجيداًفي النظم، خطيباًمفوهاً مدركًا حسن السرد والمساق مع الإشارة اللائقة، متكلمًا عن الملوك في مجالسهم مبينًا لما يريدونه على المنابر والمحافل، ولي الخطابة، وله تصانيف في عدة فنون استشهد مقبلاً غير مدبر في ذي الحجة. وفيها توفي الناصح بن نجم بن عبد الوهاب الشيرازي الأنصاري الواعظ المفتي، انتهت إليه رياسة المذهب بعد الشيخ الموفق، وله خطب ومقامات وتاريخ الوعاظ.
وفيها توفي صاحب الروم السلطان علاء الدين السلجوقي، كان ملكًا جليلاً شهمًا شجاعًا، وافر العقل، متسع الممالك، تزوج بابنة الملك الكامل وامتدت أيامه.
وفيها توفي الملك العزيز غياث الدين محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين صاحب حلب، وسبط الملك العادل، ولوه السلطنة بعد أبيه وعمره أربع سنين لأجل والدته، وهي كانت من الأتابك، فنسوس الأمور.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد البغدادي المحدث المؤرخ سمع من ابن الزاغوني وطائفة، وأخذ الوعظ من ابن الجوزي، وهو أول شيخ ولد مشيخة المستنصرية، وآخر من حدث بالبخاري سماعًا من أبي الوقت وضعفه ابن النجار.
سنة خمس وثلاثين وست مائة
وفيها غرمت طائفة كثيرة من الخوارزمية، وكانوا قد خدموا مع الصالح أيوب ابن
الملك الكامل على القبض عليه، فهرب إلى سنجار، فنهبوا خزائنه، فسار إليه لؤلؤ صاحب الموصل وحاصره، فحلق الصالح لحية وزيره، وقاضي بلده بدر الدين السنجاري طوعًا ودلاه من السور ليلاً، فذهب واجتمع بالخوارزمية، وشرط بهم كلما أرادوا، فساقوا من حران، وبيتوا لؤلؤاً، فنجا بنفسه على فرس النوبة، وانتهبوا عسكره واستغنوا.
وفيها توفي الملك الأشرف صاحب دمشق موسى ابن الملك العادل،، وتسلطن بعده أخوه الصالح إسماعيل فسار الملك، وقدم دمشق فأخذها بعد محاصرة وشدة، وذهب الصالح إسماعيل إلى بعلبك.
ولما دخل الملك الكامل دمشق، ونزل في قلعتها المعروفة بقن القلندرية والحيدرية وتمرض ومات بعد شهرين، فتملك بعده بدمشق ابن أخيه الملك الجواد وبمصر ابنه العادل وملك ملك الأشرف نصيبين وسنجار، ومعظم بلاد الجزيرة وغيرها، وأول شيء تملك من البلاد مدينة الرحا، ثم حران.
ولما توفي أخوه الملك الأوحد صاحب خلاط ونواحيها، أخذ الملك الأشرف مملكته مضافًا إلى مملكته، فاتسع ملكه، وبسط العدل على الناس، وأحسن إليه احساناً لم يعهدوه ممن قبله، وعظم وقعته في قلوب الناس، وبعد صيته، وكان قد ملك نصيبين، وأخذ سنجار، ومعظم بلاد الجزيرة.
ولما أخذت الفرنج دمياط في سنة عشر وست مائة، وتوجهت جماعة من ملوك الشام إلى الديار المصرية لاتحاد الملك الكامل، وتأخر عنه الملك الأشرف لمنافرة كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك المعظم وأرضاه، ولم يزل يلاطفه حتى استصحبه معه، فانتصر المسلمون على الفرنج، وانتزعوا دمياط من أيديهم عقب وصوله إليها، وكانوا يرون ذلك بسبب يمن عزته.
ولما مات الملك المعظم، وتولى ولده الملك الناصر، قصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخذ دمشق، فاستنجد عمه الملك، فحصل الاتفاق على تسليم دمشق إلى الملك الأشرف، ويكون للملك الكامل الناصر الكرك والشويك ونابلس ونيسان، وتلك النواحي، وينزل الملك الأشرف عن حران، والرحا، وسروج والرقة، ورأس عين، وتسلمها إلى الملك الكامل، فأقام الملك الأشرف بدمشق.
ثم جرت أمور يطول ذكرها، ووقعت وحشة بين الكامل والأشرف، ووافقت الملوك بأسرها الملك الأشرف، وتعاهد هو، وصاحب الروم، وصاحب حلب، وصاحب حماة.
وصاحب حمص وأصحاب المشرق على الخروج على الملك الكامل، ولم يبق مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحب الكرك، فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية، فلما اتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل مرض الملك الأشرف مرضاً شديداً، وتوفي بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى القرية التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب وتوفي بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى القرية التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق، وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وخمس مائة، وكان سلطاناً كريماً حليماً، واسع الصدر، كريم الأخلاق كثير العطاء لا يوجد في خزانته شيء من المال مع اتساع مملكته، ولا يزال عليه الديون للتجار وغيرهم، وطرب ليلة في مجلس أنسه على بعض الملاهي، فقال لصاحب الملاهي، تمن علي، فقال: تمنيت مدينة خلاط، فأعطاه إياها، فتوجه لقبضها من النائب، فعوضه عنها النائب جملة كثيرة من المال، وله غرائب كثيرة، وكن يميل إلى أهل الخير والصلاح، ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، وفوض تدريسها إلى الشيخ أبي عمرو بن صلاح، وله مآثر حسنة كثيرة وقد مدحه أعيان شعراء عصره، وخلدوا مدائحه في دواوينهم، وكان محبوباً إلى الناس، مسعوداً مؤيداً في الحروب، لقي أرسلان شاه صاحب الموصل، وكان من الملوك المشاهير، وتواقعاً، فكسره الملك الأشرف، واتسعت مملكته حين توفي أخوه الملك الأوحد، فأخذ مملكته، وبسط العدل على الناس، وأحسن إليهم إحساناً لم يعهده ممن كان قبله، وعظم وقعته في قلوب الناس، وبعد صيته وجرت له مع صاحب الروم وابن عمه الملك الأفضل وقائع مشهورة.
وفيها توفي أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل المعروف بالشفا، كان أديباً فاضلاً متفنناً بعلم العروض والقوافي شاعراً، يقع له في النظم معان بديعة في البيتين والثلاثة، وله ديوان شعر كبير يدخل في أربع مجلدات.
قال ابن خلكان: وكان حسن المحاورة مليح الإيراد مع السكون جميل التأني.
وأنشدته يوماً في أثناء مناشدته لي قول شرف الدين أبي المحاسن المعروب بابن عنين:
مال ابن سارة دونه لعفاته
…
خرط القتادة أو مثال الفرقد
كان لزوم الجمع يمنع صرفه
…
في راحة مثل المنادى المفرد
فقال: هذا ليس يجيد، فقلت: ولم؟ قال: ليس من شرط المنادي المفرد أن يكون مضموماً، فقد يكون المنادي مفرداً ولا يكون مضموماً بأن يكون نكرة معين كما تقول: يا رجلاً، ولكن أنا أعمل شيئاً في هذا. قال: ثم اجتمعنا بعد ذلك في الجامع، فقال: قد عملت في ذلك المعنى بيتاً فاسمعه، ثم أنشأ يقول:
لنا خليل له خلال
…
تعرب عن أصله الأخس
أضحت له مثل حيث كف
…
وددت لو أنها كأمس
قلت: يعني أن كفه مضمومة مثل حيث مضمومة بالبناء لأجل بخله فليتها مكسورة العظم كأمس المكسور بالبناء، والنظم الأول قد بالغ في وصفه بالبخل لتشبيهه وصول العفاة إلى ماله بخرط القتاد في الصعوبة، وكمثال الفرقد في البعد، والعفاة الطلاب جمع عاف، وشبه ماله في البيت الثاني في عدم صرفه إلى غيره بصيغة منتهى الجموع في عدم صرفه في لأعراب كمساجد ودراهم، وشبه راحته في كونها مضمومة لا يبسطها للبذل بالمنادى المفرد المبني على الضم مصل يا زيد ويا رجل لرجل بعينه.
واعترض عليه صاحب النظم الثاني بكون المفرد قد لا يكون مضموماً مثل قول لأعمى: يا رجلاً خذ بيدي لرجل لا بعينه، ثم اعترض ابن خلكان على المعترض بما سيأتي ذكره.
قال ابن خلكان: فقلت له وهذا أيضاً فيه كلام، فقال: وما هو؟ فقلت: حيث فيها لغات آخر، فمن العرب من بناها على الضم، ومنهم من بناها على الفتح، ومنهم من بناها على الكسر، وفيها لغات أخر غير هذه وأما أمس فمنهم من بناها على الكسر، ومنهم من يقول: إنها اسم معرب لكنه لا ينصرف، وأنشدوا على هذه اللغة.
لقد رأيت عجبًا مذ أمسا
…
عجائزاًمثل السعالى خمسا
قلت: هذا إذا كانت أمس نكرة، فإن كانت معرفة أعربت قولاً واحدًا قال فسكت. وفيها توفي الملك الكامل أبو المعالي محمد ابن الملك العادل، كان سلطاناًمعظمًا، جليل القدر، محترماً، جميل الذكر، مكرمًا للعلماء، متمسكاًبالسنة، حسن
الاعتقاد، معاشر الأرباب الفضائل، حازماً في أموره لا يضع الشيء إلآ في محله من غير إسراف ولا اقتتار، وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء ويشاركهم في مباحثات، ويسألهم عن المواضع المشكلات من كل فن، وهو معهم كواحد منهم وبنى بالقاهرة دار حديث، ورتب لها وقفًا جيدًا، وكان قد بنى على ضريح الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قبة عظيمة، ودفن أمه عنده، وأجرى إليها من ماء النيل، ومدده بعيد، وغرم على ذلك جملة عظيمة.
ولما مات أخوه الملك المعظم عيسى الملقب بشرف الدين صاحب الشام وأقام ولده الملك الناصر صلاح الدين داود مقامه، خرج الملك الكامل من الديار المصرية قاصدًا أخذ دمشق منه، وجاء أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى، فاجتمعا على أخذ دمشق وقد تقدم ذكر ذلك وأنه دفعها إلى أخيه الملك الأشرف، وأخذ عوضها من بلد المشرق عدة بلدان تقدم ذكرها وتقدم أيضاً أنه لما مات الملك الأشرف جعل ولي عهده أخاه الملك الصالح إسماعيل فقصده الملك الكامل، وانتزع منه دمشق بعد مصالحة جرت بينهما.
ولما ملك الملك الكامل البلاد الشرقية، واستخلف بها ولده الملك الصالح أبا المظفر أيوب، واستخلف ولده الأصغر الملك العادل بالديار المصرية، وكان قد سير الملك العادل الملك المسعود إلى اليمن، وكان أكبر أولاد الملك الكامل، وقد تقدم ذلك وأنه ملك الحجاز مضافة إلى اليمن.
ولما وصل الخطيب إلى ذكر الكامل قال: صاحب مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العا متين، وخادم الحرمين الشريفين، أبو المعالي محمد الملك الكامل ناصر الدين خليل أمير المؤمنين. قال ابن خلكان: ولد رأيته بدمشق في سنة ثلاث وثلاثين وست مائة عند رجوعه من بلاد الشرق، وفي خدمته يومئذ بضعة عشر ملكاًمنهم أخوه الملك الأشرف. ولم يزل في علوشأنه وعظم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذ دمشق، ولم يزل مريضًا إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن في القلعة بمدينة دمشق يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب السنة المذكورة.
قال: وكانوا قد أخفوا موته إلى وقت صلاة الجمعة، فلما دنت الصلاة قام بعض الدعاة على العرش الذي بين يدي المنبر، فترحم علىالملك الكامل، ودعا لولده الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، فضج الناس ضجة واحدة، وكانوا قد أحسوا