الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: في قصة أبي بصير وأبي جندل رضي الله عنهما
102-
قال البيهقي1: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، قال: أخبرنا أبو بكر بن عتاب العبدي، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة2 عن ابن شهاب، وهو لفظ حديث القطان، قال: "ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انفلت رجل من أهل الإسلام من ثقيف، يقال له: أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفي، من المشركين فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً مهاجراً، فبعث في أثره الأخنس بن شريق رجلين من بني منقذ، أحدهما: - زعموا - مولى، والآخر من أنفسهم، اسمه: جحش بن جار، وكان ذا جلد ورأي في أنفس المشركين،
1 دلائل النبوة 4/ 172- 175. من مرسل الزهري، ولكن لبعض هذه الرواية شواهد صحيحة كما سيأتي.
2 تقدمت تراجم رجال إسناد هذه الرواية.
وجعل لهما الأخنس في طلب أبي بصير جعلاً1، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع أبا بصير إليهما، فخرجا به حتى إذا كان بذي الحليفة، سل جحش سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل.
فقال له أبو بصير: أو صارم2 سيفك هذا؟
قال: نعم.
قال: ناولنيه أنظر إليه، فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد.
ويقال: بل تناول أبو بصير سيف المنقذي بفيه وهو نائم فقطع إساره3، ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر فجمز4 مذعوراً مستخفياً حتى دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه:(لقد رأى هذا ذعراً) ، فأقبل حتى استغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء أبو بصير يتلوه، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: وفت ذمتك دفعتني إليهما، فعرفت أنهم سيعذبونني ويفتنوني عن ديني.
1 الجعل: هو الأجرة على الشيء فعلاً أو أمراً. النهاية 1/ 276.
2 أَوَ صارم سيفك: الصرم: القطع. النهاية 3/ 62.
3 فقطع إساره: الإسار بالكسر مصدر أسرته أسراً وإساراً، وهو الحبل، والقد الذي يشد به الأسير. النهاية 1/ 48.
4 فجمز مذعوراً: أي أسرع هارباً من القتل، يقال: جمز يجمز جمزاً. النهاية 1/ 294.
فقتلت المنقذي، وأفلتني هذا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مِسْعَر حرب لو كان معه أحد" 1، وجاء أبو بصير بِسَلَبِه2 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خمس يا رسول الله.
قال: "إني إذا خمسته لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت".
فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حيث قدموا، فلم يكن طلبهم أحد، ولم ترسل قريش كما أرسلوا في أبي بصير حتى كانوا بين العِيْص3 وذي المروة4 من أرض جهينة على طريق عيرات قريش مما يلي سيف البحر، ولا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها
1 من أول قول الزهري "ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة" إلى هنا أخرجه البخاري في صحيحه من طريق الزهري عن المسور ومروان. انظر: صحيح البخاري مع الفتح 5/ 329.
2 السلب: ما يأخذه أحد القرنين في الحرب من قرنه مما يكون عليه من سلاح وثياب ودابة وغيرها. النهاية 2/ 387.
3 العيص: بالكسر: منبت خيار الشجر، وهو واد لجهينة بين المدينة والبحر يبعد عن مدينة ينبع (150) كيلاً شمالاً، ولا زالت قرية عامرة في إمارة المدينة. المعالم الأثيرة 204.
4 يقع ذو المروة عند مفيض وادي الجزل، إذا دفع في (إضم) شمال المدينة المنورة على مسافة ثلاثمائة كيل، وما زالت معروفة بهذا الاسم، وكان بها سبرة بن معبد الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. المعالم الأثيرة 250.
وقتلوا أصحابها، وكان أبو بصير يكثر أن يقول:"الله ربي العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر ويقع الأمر على ما يقدر".
وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكباً أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظهري قومهم، فنزلوا مع أبي بصير في منزل كريه إلى قريش، فقطعوا به مادتهم من طريق الشام، وكان أبو بصير زعموا وهو في مكانه ذلك يصلي لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم، واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار، وأسلم وجهينة وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، قال: فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألون ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير، وأبي جندل بن سهيل ومن معه فقدموا عليهم وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه، فإن هؤلاء والركب قد فتحوا علينا باباً لا يصلح إقراره، فلما كان ذلك من أمرهم على الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم فيما أحبوا وفيما كرهوا من رأي من ظن أن له قوة هي أفضل مما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من العون والكرامة، ولم يزل أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليهما هنالك حتى مر بهم أبو
العاص بن الربيع وكان تحته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام في نفر من قريش فأخذوهم وما معهم وأسروهم1، ولم يقتلوا منهم أحداً لصهر أبي العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو العاص يومئذ مشرك، وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأمها وأبيها، وخلوا سبيل أبي العاص، فقدم المدينة على امرأته وهي بالمدينة عند أبيها كان أذن لها أبو العاص حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس فقال: (إنا صاهرنا ناساً، وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه، وإنه قدم من
1 هذه الرواية التي ذكرها البيهقي عن الزهري تفيد أن الذي أسر أبا العاص بن الربيع ومن معه أبو بصير وأبو جندل، وأصحابهما، وهي مرسلة، أما ابن إسحاق فقد ذكرها بسياق آخر مرسلة عن يزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر، وذكر فيها أن الذي أسر أبا العاص سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت من المدينة (ابن هشام 1/ 657) وقد وصلها الحاكم من طريق ابن إسحاق، قال حدثني يحيى بن عباد ابن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة وفيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وجه السرية للعير التي فيها أبو العاص قافلة من الشام وكانوا سبعين ومائة راكب أميرهم زيد بن حارثة، وذلك في جمادى الأولى سنة ست من الهجرة
…
) وذكر بقية القصة، المستدرك 3/ 236. وقال الألباني عن رواية الزهري:"لا يصح، لأن ابن عقبة رواه عن الزهري مرسلاً". حاشية فقه السيرة للغزالي ص366، ثم قال: قد وصله الحاكم 3/ 236- 237، من حديث عائشة وإسناده جيد، فالأولى الاعتماد على هذا السياق دون ما في الكتاب. المصدر السابق.
الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير فأسروهم، وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحداً، وأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟
فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى ردَّ إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال1، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، ولا يعترضوا لأحد مر بهم من قريش وغيرها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زعموا على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرؤه2، فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجداً3، وقدم أبو جندل على رسول
1 العقال: الحبل الذي يعقل به البعير، وإنما يضرب المثل في مثل هذا بالأقل. النهاية 3/ 280.
2 في زاد المعاد لابن القيم 3/ 283، فمات وهو على صدره.
3 قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "
…
لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" أخرجه البخاري في الصحيح مع الفتح 6/ 465 رقم (3453، 3454) ، ومسلم 1/ 376- 377 رقم (530، 531) ، ومصنف عبد الرزاق رقم (1588، 9754) ومسند أحمد 3/ 374 رقم [1884] أرناؤوط.
ولكن ربما أن النهي لم يعلم به أبو جندل رضي الله عنه، والرواية مرسلة، وهذه من الألفاظ المنكرة فيها.
الله صلى الله عليه وسلم معه ناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت عيرات قريش، ولم يزل أبو جندل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذلك وشهد الفتح ورجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل معه بالمدينة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم سهيل بن عمرو المدينة أول خلافة عمر بن الخطاب، فمكث بالمدينة شهراً ثم خرج مجاهداً إلى الشام بأهله وماله، هو والحارث بن هشام1، فاصطحبا جميعاً، وخرج أبو جندل مع أبيه سهيل إلى الشام فلم يزالا مجاهدين بالشام حتى ماتا جميعاً، مات الحارث بن هشام فلم يبق من ولده إلا عبد الرحمن بن الحارث2 فتزوج
1 هو: الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو عبد الرحمن القرشي المخزومي أخو أبي جهل وابن عم خالد بن الوليد، شهد بدراً وأحداً مع المشركين حتى أسلم يوم فتح مكة ثم حسن إسلامه، خرج من مكة بأهله وماله زمن عمر إلى الشام فلم يزل مجاهداً حتى ختم الله له بخير، فاستشهد يوم اليرموك، وقال الواقدي:"مات في طاعون عَمَواس". الإصابة 1/ 293- 294.
2 هو: عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم القرشي المخزومي يكنى أبا محمد، قيل: كان ابن عشر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حكى ذلك عن مصعب وهو وَهْمٌ بل كان صغيراً، وخرج أبوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الجهاد بالشام فمات أبوه في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وتزوج عمر أمه فنشأ في حجر عمر، كان ممن ندبه عثمان لكتابة المصاحف. قال ابن سعد:"كان من أشراف قريش"، وقال ابن حبان:"مات سنة ثلاث وأربعين". الإصابة 3/ 66.
عبد الرحمن فاختة بنت عتبة1، فولدت له أبا بكر بن عبد الرحمن2 وأكابر ولده، فهذا حديث أبي جندل وأبي بصير رضي الله عنهما".
1 هي: فاختة بنت عتبة بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس، ولم يكن بقي من ولد سهيل بن عمرو غيرها، فسماهما عمر بن الخطاب (الشريدين) وقال:"زوجوا الشريد الشريدة لعل الله أن ينشر منهما خيراً، فتزوج عبد الرحمن فاختة، نسب قريش لمصعب الزبيري"303.
2 هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي المدني، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكر اسمه وكنيته أبو عبد الرحمن وقيل: اسمه كنيته. ثقة، عابد، فقيه، من الثالثة، توفي سنة 94هـ-، وقيل: غير ذلك، ع، التقريب 623.