الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: في أحداث الغزوة إجمالاً
94-
أخرج البخاري1 من طريق معمر، قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان - يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه - قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة الجيش2، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية3 التي يُهبط عليهم منها بركت به راحلتُه، فقال الناس: حَلْ حَلْ4، فألحت.
1 صحيح البخاري مع الفتح 5/ 329- 333 رقم (2731، 2732) .
2 القترة: - بفتح القاف والمثناة -: الغبار الأسود. الفتح 5/ 335.
3 المراد بالثنية؛ ثنية المِرَار، كما عند ابن إسحاق 2/ 308- 309، وستأتي بطولها، والفتح 5/ 335، وثنية المِرَار: - بكسر الميم والتخفيف الراء -: هي طريق في الجبل تشرف على الحديبية، الفتح 5/ 335، وقال البلادي:"إذا وقفت في الحديبية ونظرت شمالاً عدلاً، رأيت جبلين بارزين بينهما فج واسع هذا الفج ثنية المرار" معجم المعالم، 106.
4 حَلْ حَلْ: - بفتح المهملة وسكون اللام -: كلمة تقال للناقة إذا تركت المسير، وقال الخطابي:"إن قلت حل واحدة فالسكون، وإن أعدتها نونت في الأولى وسكنت في الثانية". الفتح 5/ 335.
فقالوا: خَلأتِ1 القَصواء2. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل3، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطةً يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها".
ثم زجرها فوثَبَتْ. قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثَمَدٍ4 قليل الماءِ يَتَبَرَّضُهُ5 الناسُ تَبَرُّضَاً، فلم يلبِّثْهُ6 الناسُ حتى نزحوه، وشُكِيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطشُ، فانتزَعَ سهماً من كِنانتهِ7، ثم أمرهم
1 خلأت: أي بركت. القاموس (خلأت) .
2 القصواء: - بفتح القاف بعدها مهملة ومد -: اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصو قطع طرف الأذن. الفتح 5/ 335.
3 حبسها حابس الفيل: أي حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها: أن الصحابة لو دخلوها على تلك الصورة وصدتهم قريش لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، كما لو قدر دخول الفيل. الفتح 5/ 335.
4 على ثمد: بفتح المثلثة والميم، أي حفيرة فيها ماء مثمود أي: قليل. الفتح 5/ 366.
5 يتبرضه الناس: - بالموحدة والتشديد والضاد المعجمة -: هو الأخذ قليلاً قليلاً، والبرض: - بالفتح والسكون - اليسير من العطاء، قال صاحب العين: هو جمع الماء بالكفين. الفتح 5/ 337.
6 فلم يلبث حتى نزحوه: - بضم أوله وسكون اللام -: من الألباث، وقال ابن التين: بفتح اللام وكسر الموحدة الثقيلة، أي لم يتركوه يلبث أي يقيم. الفتح 5/ 337.
7 فانتزع سهماً من كنانته: أي أخرج سهماً من جعبته، الفتح 5/ 337.
أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش1 لهم بالرِّيِّ حتى صدروا عنه2.
فبينما هم كذلك إذ جاء بُدَي لُ بن وَرْقاء الخزاعيّ3 في نفر من قومه من خُزاعة - وكانوا عيبة4 نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تِهامة5 - فقال إني تركتُ كعب بنَ لؤيّ6 وعامرَ بنَ لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العُوذُ7 المطافيلُ8، وهم مقاتلوك وصادوك
1 يجيش: - بفتح أوله وكسر الجيم وآخره معجمة -: أي يفور. الفتح 5/ 337.
2 إلى هنا أخرجه الواقدي في المغازي 2/ 587.
3 هو: بديل بن ورقاء بن عمرو بن ربيعة بن عبد العزى بن ربيعة بن جزي
…
الخزاعي، كان إسلامه قبل الفتح، وقيل يوم الفتح. الإصابة 1/ 141.
4 وكانوا عيبة نصح: العيبة - بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة -: ما توضع فيه الثياب لحفظها، أي أنهم موضع النصح له والأمانة على سره، ونصح بضم النون، وحكى ابن التين فتحها، كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب. الفتح 5/ 337.
5 من أهل تهامة: لبيان الجنس، لأن خزاعة كانوا من جملة أهل تهامة - بكسر المثناة - هي مكة وما حولها، وأصلها من التهم وهو شدة الحر وركود الريح. الفتح 5/ 337.
6 قوله: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي: إنما اقتصر على ذكر هذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إليهما. الفتح 5/ 338.
7 العوذ: - بضم المهملة وسكون الواو بعدها معجمة -: جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، النهاية 3/ 319، والفتح 5/ 338.
8 المطافيل: الأمهات اللائي معها أطفالها. الفتح 5/ 338.
عن البيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحدٍ، ولكنّا جئنا معتمرين، وإنّ قريشاً قد نَهِكتْهُم1 الحرب وأضرّت بهم، فإن شاؤوا مادَدْتهم مدةً ويُخَلُّوا بيني وبين الناس، فإنْ أظهرْ، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا2، وإن هم أبَوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، وليُنفِذَنَّ الله أمرَهُ".
فقال بُديل: سأبلِّغُهم ما تقول.
قال: فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنّا جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرِضَه عليكم فعَلنا.
فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعتَه يقول.
قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فقام عروة بن مسعود3 فقال: أيْ قومِ! ألستُم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أوَ لستُ بالولد؟ قالوا:
1 نهكتهم الحرب: - بفتح أوله وكسر الهاء -: أي أبلغت فيهم حتى أضعفتهم، الفتح 5/ 338.
2 فقد جموا: أي استراحوا. الفتح 5/ 338.
3 هو: عروة بن مسعود بن معتب - بالمهملة والمثناة المشددة - ابن مالك بن كعب بن عمرة بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، وهو عم والد المغيرة بن شعبة، كان أحد الأكابر من قومه، وثبت ذكره في الحديث الصحيح في قصة الحديبية وكانت له اليد البيضاء في تقرير الصلح، أسلم لما انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف، ورماه رجل من ثقيف فقتله، الإصابة 2/ 477.
بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت1 أهل عكاظ2 فلما بلّحوا3 عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى.
قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشدٍ اقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحواً من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك: أيْ محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح4 أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً5 من الناس خليقاً
1 استنفرت: أي دعوتهم إلى نصركم. الفتح 5/ 339.
2 عكاظ: - بضم المهملة وتخفيف الكاف -: من أشهر أسواق العرب كان يوجد في الجهة الشرقية الشمالية من بلدة (الحويّة) اليوم، ويقع شمال شرقي الطائف على قرابة خمس وثلاثين كيلاً في أسفل وادي شَرِب. معجم المعالم الجغرافية 215.
3 فلما بلحوا: - بالموحدة وتشديد اللام المفتوحتين ثم مهملة مضمومة -: أي امتنعوا، والتبلح: التمنع من الإجابة. الفتح (5/ 339) .
4 اجتاح: - بجيم ثم مهملة -: أي أهلك بالكلية. الفتح 5/ 340.
5 أشواباً: - بتقديم المعجمة على الواو -، كذا للأكثر، ووقع (أوشاباً) بتقديم الواو، والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش: الأخلاط من السفلة، فالأوباش أخص من الأشواب. الفتح 5/ 340.
أن يفرُّوا ويدَعوك، فقال له أبو بكر: امصص1 بَظْرَ اللات، أنحن نفرُّ عنه ونَدَعُهُ؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر.
قال أما والذي نفسي بيده لولا يد2 كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة ابن شعبة3 قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف4 وقال له: أخِّرْ يدَك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟
1 امصص بظر اللات: - بألف وصل ومهملتين الأولى مفتوحة بصيغة الأمر -، والبظر: بفتح الموحدة وسكون المعجمة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات: اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها وكان عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة. الفتح 5/ 340.
2 لولا يد: أي نعمة. الفتح 5/ 340، وقال ابن حجر:"إن اليد المذكورة في الحديث: أن عروة كان تَحمَّل بدية فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن، وفي رواية الواقدي: عشر قلائص" الفتح 5/ 340.
3 هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد
…
الثقفي أبو عيسى أو أبو محمد، أسلم قبل عمرة الحديبية، وشهدها وبيعة الرضوان، وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق، ولاه معاوية الكوفة فاستمر على إمرتها حتى مات سنة خمسين. الإصابة 3/ 452- 453.
4 نعل السيف: هو ما يكون في القراب من فضة ونحوها. الفتح 5/ 341.
قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أيْ غُدَر1، ألستُ أسعى في غدرتك؟
وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أمّا الإسلام فأقبلُ، وأما المال فلست منه في شيء"، ثم إن عروة جعل يرمُق2 أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخّم3 رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يُحِدُّون4 إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أيْ قومِ، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت مليكاً قط
1 أي غدر: - بالمعجمة - بوزن عمر معدول عن غادر مبالغة في وصفه بالغدر، الفتح 5/ 341.
قال ابن حجر: "وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفراً إلى ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم، وأخذ أموالهم فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفراًً واصطلحوا". الفتح 5/ 341.
2 يرمق: - بضم الميم - أي يلحظ. الفتح 5/ 341.
3 تنخم: النخامة: البزقة التي تخرج من أقصى الحلق، ومن مخرج الخاء المعجمة. النهاية 5/ 34.
4 وما يحدون: - بضم أوله وكسر المهملة -: أي: يديمون. الفتح 5/ 341.
يعظمه أصحابُه ما يعظم أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم محمداً. والله إنْ يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدَلَكَ بها وجهَه وجلدَه، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها.
فقال رجل1 من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته.
فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا فلان، وهو من قوم يعظِّمون البُدْنَ2، فابعثوها3 له"، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البُدن قد قُلّدت4 وأشعرت5، فما أرى أن يُصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له:
1 فقال رجل: هو: (الحليس) - بمهملتين مصغر -، ابن علقمة، وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وكان من رؤوس الأحابيش، وهم (بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق بن خزاعة، وبنو القارة بن الهون بن خزيمة) الفتح 5/ 342.
2 البدن: البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة، وهي بالإبل أشبه، وسميت بدنة لعظمها وسمنها. النهاية 1/ 108.
3 فابعثوها له: أي أثيروها دفعة واحدة. الفتح 5/ 342.
4 تقليد البدنة: شيء تعلم به أنها هدي. القاموس (قلد) .
5 إشعار البدن: هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها ويجعل ذلك لها علامة تعرف بها أنها هدي. النهاية 2/ 479.
مِكْرَ زُ بن حفص1، فقال: دعوني آتيه.
فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا مِكرَز، وهو رجل فاجر"، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو2.
قال معمر: فأخبرني أيوب3 عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد سهل لكم من أمركم".
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هاتِ اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب4 فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
1 مكرز: - بكسر الميم وسكون الكاف، وفتح الراء بعدها زاي -: بن حفص بن الأخيف، من بني عامر بن لؤي. الفتح 5/ 342.
2 هو: سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي العامري، خطيب قريش أبو زيد، هو الذي تولى أمر الصلح بالحديبية، ذكره ابن إسحاق فيمن أعطاه النبي مائة من الإبل من المؤلفة، توفي بالطاعون سنة ثمان عشرة. الإصابة 2/ 93- 94.
3 هو: أيوب بن أبي تميمة: كيسان السختياني - بفتح المهملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية، وبعد الألف نون - أبو بكر البصري، ثقة، ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد، من الخامسة، توفي سنة 131 هـ-، وله خمس وستون، (ع) ، التقريب 117.
4 هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما ذكر ذلك عبد الرزاق في المصنف من رواية الزهري 5/343، والبخاي من غير طريق الزهري. صحيح البخاري مع الفتح 5/303.
وذكر الحافظ ابن حجر: أن ابن شبة أخرج من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه أن الكتاب عندنا، كاتبه محمد بن مسلمة.
وذكر أنه يُجمع بأن أصل كتاب الصلح بخط علي كما هو في الصحيح، ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو. الفتح 5/343.
وقد ذكر الواقدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختلف هو وسهيل بن عمرو على أخذ الكتاب بعدما كتب، فقال سهيل عندي، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل عندي، فاختلفا، فكتب له نسخة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب الأول، وأخذ سهيل نسخته. المغازي 2/612.
وهذا يؤيد ما ذكره الحافظ ابن حجر في جمعه بين الروايتين. والله أعلم
"بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل: أما "الرحمن" فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب:"باسمك اللهم" كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اكتب باسمك اللهم" ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكنِ اكتب:"محمد بن عبد الله".
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب "محمد ابن عبد الله".
قال الزهري: وذلك لقوله: "لا يسألونني خطة يعظمون فيها
ر
حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تُخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به". فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أُخذنا ضغطة1، ولكن ذلك من العام المقبل فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددتَه إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟
فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو2 يرسف3 في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقضِ الكتابَ بعد، قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه4 لي، قال: ما أنا بمجيزه
1 والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة: بضمّ الضاد، وسكون الغين المعجمتين، ثم طاء مهملة، أي قهراً. الفتح 5/343.
2 هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشيّ العامريّ، قيل اسمه: عبد الله، وكان من السابقين إلى الإسلام، وممن عذب بسب إسلامه، ثبت ذكره في صحيح البخاري في قصة الحديبية، وذكره أهل المغازي فيمن شهد بدراً وكان أقبل مع المشركين فانحاز إلى المسملين، ثم أسر بعد ذلك، وعذب ليرجع عن دينه، استشهد باليمامة، وهوابن ثمان وثلاثين سنة. الإصابة 4/34.
3 يرسف في قيوده: - بفتح أوله وضم المهملة وبالفاء - أي يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد. الفتح 5/344.
4 فأجزه لي: بصيغة فعل الأمر، من الإجازة أي امض لي فعلي فيه، فلا أرده إليك، أو استثنيه من القضية. الفتح 5/345.
لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال مِكْرَ ز: بل قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أيْ معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ نعطي الدّنِيَّة1 في ديننا إذاً؟
قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوفَ به2؟
قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيتُ أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟
قال: أيها الرجل: إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره،
1 الدنية: - بفتح المهملة وسكون النون وتشديد التحتانية - أي الخصلة المذمومة. النهاية 2/137، والفتح 5/346.
2 في رواية ابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة أنهم سيطوفون بالبيت وذلك لرؤيا رآها، فلما لم تتحقق بسبب الصلح دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، انظر: سيرة ابن هشام 2/ 318.
فاستمسك بِغَرْزِه1، فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال: بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام؟
قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال الزهري2: قال عمر فعملت لذلك أعمالاً3، قال: فلما فرغ من قضيةِ الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة4، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة:
1 فاستمسك بغرزه: - هو بفتح الغين المهملة وسكون الراء بعدها زاي وهو - أي الغرز - للإبل بمن-زلة الركب للفرس، والمراد به التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركب الفرس فلا يفارقه. الفتح 5/ 346.
2 قال الزهري: "قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً": قال الحافظ: "هو موصول إلى الزهري بالسند المذكور، وهو منقطع بين الزهري وعمر" الفتح 5/346.
3 قوله: أعمالاً: المراد الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداءاً. الفتح 5/346.
قال الحافظ: "وفي رواية ابن إسحاق (ابن هشام 2/317) وكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به.
وعند الواقدي (مغازيه 2/ 607) من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري قال عمر: "لقد أعتقت بسبب ذلك رقاباً وصمت دهراً". الفتح 5/ 346.
4 هي: أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية أم المؤمنين اسمها هند، كان قد تزوجها ابن عمها أبو سلمة بن عبد الأسد فمات عنها، فتزوحها النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة سنة أربع وقيل سنة ثلاث وكانت ممن أسلم قديماً هي وزوجها وهاجرا إلى الحبشة ثم قدما مكة وهاجرا إلى المدينة. توفيت سنة 63هـ-. الإصابة 4/ 458.
يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، ثم جاءه نسوةٌ مؤمنات1 فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حتى بلغ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 2 فطلق عمر يومئذ امرأتين3، كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان4 والأخرى
1 ثم جاءه نسوة مؤمنات: ظاهره أنهن جئن إليه بالحديبية وليس كذلك وإنما جئن إليه بعد في أثناء المدة. الفتح 5/ 348.
2 سورة الممتحنة آية (10) .
3 المرأتان: قريبة بنت أبي أمية، وابنة جرول الخزاعي، البخاري معلقاً عن عقيل عن الزهري رقم (2733) وذكر أن الأخرى تزوجها أبو جهم، وذكرها ابن إسحاق عن الزهري مرسلاً. ابن هشام 2/ 327.
4 هو: معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشي أمير المؤمنين ولد قبل البعثة بخمس سنين وقيل بسبع وبثلاث عشرة، قيل أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى أظهره عام الفتح، صحب النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له وولاه عمر الشام، مات في رجب سنة ستين على الصحيح. الإصابة 3/ 433- 434.
صفوان بن أمية، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير1 رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين2 فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله3 الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد4، وفرّ الآخر، حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
1 أبو بصير: اسمه عتبة بن أَصيد - بالفتح -، ابن جارية - بالجيم - بن أسيد - بالفتح - أيضاً، ابن عبد الله بن غيرة - بكسر المعجمة وفتح التحتانية - ابن عوف بن ثقيف، أبو بصير - بفتح الموحدة - الثقفي، حليف بني زهرة، الإصابة 2/ 452.
2 فأرسلوا في طلبه رجلين: هما: خنيس - مصغراً - ابن جابر، ورجل آخر اسمه: كوثر، مغازي الواقدي 2/ 624، وكذلك ذكرهما ابن سعد كما في الفتح 5/ 349، ودلائل البيهقي 4/ 172، وقد سماه جحش بن جابر، وسيأتي.
3 فاستله: أي أخرجه من غمده. الفتح 5/ 349.
4 فضربه حتى برد: - بفتح الموحدة والراء -: أي خمدت حواسه، وهي كناية عن الموت، الفتح 5/ 349.
"ويل امِّهِ1 مِسْعَرَ حرب2 لو كان له أحد "3، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعيرٍ4 خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا5 لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حتى بلغ {الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 6 وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم
1 ويل امه: - بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة -، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل: الهلاك. الفتح 5/ 350.
2 مسعر حرب: - بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة وبالنصب على التمييز -: أي يسعرها. الفتح 5/ 350.
3 لو كان له أحد: أي ينصره ويعاضده ويناصره. الفتح 5/ 350.
4 ما يسمعون بعير: أي بخبر عير - بالمهملة المكسورة - أي: قافلة. الفتح 5/ 350.
5 إلا اعترضوا لها: أي وقفوا في طريقها بالعرض، وهي كناية عن منعهم لها من السير. الفتح 5/ 350.
6 سورة الفتح آية (24- 26) .
قال الحافظ ابن حجر: "وظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير وفيه نظر، والمشهور في نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ومن حديث أنس: أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم فعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فن-زلت الآية، وقيل في نزولها غير ذلك" الفتح 5/ 350، وانظر الحديث الذي أخرجه مسلم 12/ 187 بشرح النووي، وأحمد في المسند 27/ 354 رقم [16800] أرناؤوط.
يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت1.
1 أخرجه أحمد أيضاً 31/ 243- 253 رقم [18928] أرناؤوط، وعبد الرزاق في المصنف 5/ 330-342 رقم (9720) ، والطبراني في الكبير 20/ 9- 15، رقم (13) ، والسنن الكبرى للبيهقي 9/ 218- 221، ودلائل النبوة له 4/ 99- 108.