الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم في عدم إمتثال أصحابه لما أمرهم بالتحليل
…
المطلب الثاني: في استشارته صلى الله عليه وسلم أم سلمة في عدم امتثال أصحابه لمَّا أمرهم بالتحلل
98-
قال ابن أبي شيبة في المصنف1: حدثنا خالد بن مخلد2 قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري3 قال: حدثني ابن شهاب، قال: حدثني عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية في ألف وثمانمائة4 وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يدعى ناجية يأتيه بخبر القوم، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم غديراً بعسفان يقال له: غَدِيْر الأَشْطَاط، فلقيه عينه بغدير الأشطاط، فقال: يا محمد تركت قومك كعب ابن لؤي وعامر ابن لؤي قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم،
1 مصنف ابن أبي شيبة 14/ 444- 451، رقم [18702] .
2 هو: خالد بن مخلد القطواني، - بفتح القاف والطاء - أبو الهيثم البجلي مولاهم، الكوفي، صدوق يتشيع وله أفراد، من كبار العاشرة، توفي سنة ثلاث عشرة، وقيل بعدها. خ م كد ت س ق، التقريب 190، رقم (1677) .
3 هو: عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن حنيف الأنصاري، الأوسي، أبو محمد المدني الأُمامي بالضم، صدوق يخطئ، من الثامنة، توفي سنة اثنتين وستين، وهو ابن بضع وسبعين، م، التقريب 345، رقم (3933) .
4 تقدم الكلام حول عدد المسلمين.
قد سمعوا بمسيرك وتركت عبدانهم يطعمون الخزيرة في دورهم، وهذا خالد بن الوليد في خيل بعثوه.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ماذا تقولون؟ ماذا ترون؟ أشيروا علي قد جاءكم خبر قريش مرتين وما صنعت، فهذا خالد بن الوليد بالغميم) .
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون أن نمضي بوجهنا ومن صدنا عن البيت قاتلناه؟ أم ترون أن نخالف هؤلاء إلى من تركوا وراءهم، فإن اتَّبَعْنَا منهم عنقٌ قطعه الله".
قالوا: يا رسول الله الأمر أمرك والرأي رأيك، فتيامنوا في هذا الفعل فلم يشعر به خالد ولا الخيل التي معه حتى جاوز بهم قترة الجيش، وأوفت به ناقته على ثنية تهبط على غائط1 القوم يقال له: بَلْدَح2 فبركت، فقال:"حل حل"، فلم تنبعث، فقالوا: خلأت القصواء.
قال صلى الله عليه وسلم: "إنها والله ما خلأت، ولا هو لها بخلق، ولكم حبسها حابس الفيل، أما والله لا يدعوني اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمة ولا يدعوني فيها إلى صلة إلا أجبتهم إليها) ، ثم زجرها فوثبت فرجع من
1 غائط القوم: الغائط: البطن المطمئن من الأرض. النهاية 3/ 395- 396.
2 بَلْدح: - بفتح الباء وسكون اللام والحاء المهملة -: اسم موضع بالحجاز قرب مكة. النهاية في غريب الحديث 1/ 151، وهو وادٍ في مكة يسمى اليوم (الزاهر) معجم المعالم الجغرافية 49.
حيث جاء عوده على بدئه، حتى نزل بالناس على ثمد1 من ثماد الحديبية ظَنُون2، قليل الماء يتبرض الناس ماءها تبرضاً، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فانتزع سهماً من كنانته، فأمر رجلاً فغرزه في جوف القليب، فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بِعَطَن، فبينما هو على ذلك إذ مر به بُديل بن ورقاء الخزاعي في ركب من قومه من خزاعة فقال: يا محمد؛ هؤلاء قومك قد خرجوا بالعوذ المطافيل، يقسمون بالله ليحولُنَّ بينك وبين مكة، حتى لا يبقى منهم أحد، قال:"يا بديل إني لم آت لقتال أحد إنما جئت أقضي نسكي3 وأطوف بهذا البيت، وإلا فهل لقريش في غير ذلك، هل لهم إلى أن أمادهم مدة يأمنون فيها ويستجمون، ويخلون فيها بيني وبين الناس فإن ظهر فيها أمري على الناس كانوا فيها بالخيار أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، وبين أن يقاتلوا وقد جمعوا وأعدوا".
قال بديل: سأعرض هذا على قومك.
فركب بديل حتى مر بقريش فقالوا: من أين؟ قال: جئتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن شئتم أخبرتكم بما سمعت منه فعلت.
1 ثمد: الثمد بالتحريك: الماء القليل. النهاية 1/ 221.
2 الماء الظّنون: الذي تتوهمه ولست على ثقة، فعول بمعنى مفعول، وقيل: هي البئر التي يظن أن فيها ماء وليس فيها ماء. وقيل: البئر القليلة الماء. النهاية 3/ 163.
3 المناسك: جمع منسك، - بفتح السين وكسرها -: وهو المتعبد، والنُّسْك والنُّسُك أيضاً: الطاعة والعبادة، وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى. النهاية 5/ 48.
فقال أناس من سفهائهم: لا تخبرنا عنه شيئاً، وقال ناس من ذوي أسنانهم وحكمائهم: بل أخبرنا ما الذي رأيت وما الذي سمعت، فاقتص عليهم بديل قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عرض عليهم من المدة، قال: وفي كفار قريش يومئذ عروة بن مسعود الثقفي فوثب فقال: يا معشر قريش هل تتهمونني في شيء؟ ألست بالولد ولستم بالوالد؟ أولست قد استنفرت لكم أهل عكاظ؟ فلما بلحوا علي نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني. قالوا: بلى قد فعلت، قال: فاقبلوا من بديل ما جاءكم به وما عرض عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم1 وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده، قالوا: فاذهب.
فخرج عروة حتى نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فقال: يا محمد هؤلاء قومك كعب بن لؤي وعامر بن لؤى قد خرجوا بالعوذ المطافيل يقسمون لا يخلون بينك وبين مكة حتى تبيد خضراءهم2، وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين: أن تجتاح قومك فلم تسمع برجل قط اجتاح أصله قبلك، وبين أن يسلمك من أرى معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس لا أعرف أسمائهم ولا وجوههم.
فقال أبو بكر، وغضب: امصص بظر اللات أنحن نخذله أو نسلمه؟
1 في مصنف عبد الرزاق 5/ 334 رقم (9720) : "فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خصلة رشد
…
".
2 تبيد خضراءهم: أي دهماءهم وسوادهم. النهاية 2/ 42.
فقال عروة: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك فيما قلت. وكان عروة قد تحمل بدية فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن. والمغيرة بن شعبة قائم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وجهه المغفر فلم يعرفه عروة، وكان عروة يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما مدّ يده يمس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعها المغيرة بقدح كان في يده حتى إذا أخرجه قال: من هذا؟
قالوا: هذا المغيرة بن شعبة.
قال عروة: أنت بذاك يا غدر، وهل غسلت عنك غدرتك الأمس بعكاظ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعروة بن مسعود مثل ما قال لبديل، فقام عروة فخرج حتى جاء إلى قومه فقال: يا معشر قريش إني قد وفدت على الملوك على قيصر في ملكه بالشام وعلى النجاشي بأرض الحبشة1 وعلى كسرى بالعراق، وإني والله ما رأيت ملكاً هو أعظم فيمن هو بين ظهريه من محمد في أصحابه، والله ما يشدون إليه النظر وما يرفعون عنده الصوت.
وما يتوضأ من وضوء إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيء، فاقبلوا الذي جاءكم به بديل، فإنها خطة رشد.
قالوا: اجلس ودعوا رجلاً من بني الحارث بن عبد مناف يقال له:
1 الحبشة: اسم للأمة أطلق على أرضهم، وتسمى دولتهم:(أثيوبيا)، وأرض الحبشة: هضبة مرتفعة غرب اليمن بينهما البحر، وعاصمتها:"أديس أبابا". معجم المعالم الجغرافية 91.
الحليس، فقالوا: انطلق فانظر ما قبل هذا الرجل وما يلقاك به.
فخرج الحليس فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً عرفه قال: " هذا الحليس وهو من قوم يعظمون الهدي، فابعثوا الهدي في وجهه".
فبعثوا الهدي في وجهه.
قال ابن شهاب: فاختلف الحديث في الحليس، فمنهم من يقول: جاءه فقال له مثل ما قال لبديل وعروة، ومنهم من قال: لما رأى الهدي رجع إلى قريش فقال: لقد رأيت أمراً لئن صددتموه إني لخائف عليكم أن يصيبكم عنت فأبصروا بصركم، قالوا: اجلس، ودعوا رجلاً من قريش يقال له: مِكْرَ ز بن حفص بن الأحنف من بني عامر بن لؤي فبعثوه فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رجل فاجر ينظر بعين".
فقال له مثل ما قال لبديل ولأصحابه في المدة، فجاءهم فأخبرهم فبعثوا سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي يكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي دعا إليه، فجاءه سهيل بن عمرو فقال: قد بعثتني قريش إليك أكاتبك على قضية نرتضي أنا وأنت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم، اكتب بسم الله الرحمن الرحيم".
قال: ما أعرف الله ولا أعرف الرحمن، ولكن اكتب كما كنا نكتب "باسمك اللهم) ، فوجد الناس من ذلك وقالوا: لا نكاتبك على خطة حتى تقر بالرحمن الرحيم.
قال سهيل: إذاً لا أكاتبه على خطة حتى أرجع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم هذا ما قاضى عليه محمد
رسول الله".
قال: لا أقر، لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك ولا عصيتك ولكن "محمد بن عبد الله".
فوجد الناس منها أيضاً، قال: "اكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو) .
فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق. أو ليس عدونا على الباطل؟ قال: "بلى"، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
قال: "إني رسول الله ولن أعصيه ولن يضيعني".
وأبو بكر متنح بناحية، فأتاه عمر فقال: يا أبا بكر، فقال: نعم. قال: ألسنا على الحق؟ أو ليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
قال: دع عنك ما ترى يا عمر، فإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله ولن يعصيه.
وكان في شرط الكتاب أنه من كان منا فأتاك، فإن كان على دينك رددته إلينا، ومن جاءنا من قبلك رددناه إليك.
قال: أما من جاء من قبلي فلا حاجة لي برده، وأما التي اشترطت لنفسك قبلك فبيني وبينك، فبينما الناس على ذلك الحال إذ طلع عليهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد خلى له أسفل مكة متوشحاً السيف، فرفع سهيل رأسه فإذا هو بابنه أبي جندل.
فقال: هذا أول من قاضيتك على رده.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا سهيل إنا لم نقض الكتاب بعد".
قال: ولا أكاتبك على خطة حتى ترده.
قال: "فشأنك به"، قال: فهش أبو جندل إلى الناس فقال: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!
فلصق به عمر وأبوه آخذ بيده يجتره وعمر يقول: إنما هو رجل ومعك السيف، فانطلق به أبوه.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عنهم من جاء من قبلهم يدخل في دينه، فلما اجتمعوا نفر منهم أبو بصير ردهم إليه وأقاموا بساحل البحر، فكأنهم قطعوا على قريش متجرهم إلى الشام، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نراها منك صلة أن تردهم إليك وتجمعهم فردهم إليه، وكان فيما أرادهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب أن يدعوه يدخل مكة فيقضي نسكه وينحر هديه بين ظهريهم.
فقالوا: لا تحدث العرب أنك أخذتنا ضغطة أبداً، ولكن ارجع عامك هذا، فإذا كان القابل أذنا لك، فاعتمرت وأقمت ثلاثاً.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للناس: "قوموا فانحروا هديكم واحلقوا واحلوا".
فما قام رجل ولا تحرك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بذلك ثلاث مرات، فما تحرك رجل ولا قام من مجلسه.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك دخل على أم سلمة وكان خرج بها في تلك الغزوة، فقال: يا أم سلمة ما بال الناس أمرتهم ثلاث مرار أن ينحروا وأن
يحلقوا وأن يحلوا فما قام رجل إلى ما أمرتهم به.
قالت: يا رسول الله أخرج أنت فاصنع ذلك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يمم هديه فنحره، ودعا حلاقاً فحلقه، فلما رأى الناس ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوا إلى هديهم فنحروه، وأكب بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم أن يضم بعضاً من الزحام.
قال ابن شهاب بدنة.