المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل الشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مركوز حسنها في - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط العلمية - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل مِفْتَاح دَار السَّعَادَة

- ‌فصل الشَّرَائِع كلهَا فِي أُصُولهَا وَإِن تباينت متفقة مركوز حسنها فِي

- ‌فصل وَقد أنكر تَعَالَى على من نسب إِلَى حكمته التَّسْوِيَة بَين الْمُخْتَلِفين

- ‌فصل وَتَحْقِيق هَذَا الْمقَام بالْكلَام فِي مقامين أَحدهمَا فِي الْأَعْمَال خُصُوصا

- ‌فصل وَأما المسئلة الثَّانِيَة وَهِي مَا تَسَاوَت مصْلحَته ومفسدته فقد اخْتلف

- ‌فصل وَهَهُنَا سر بديع من أسرار الْخلق وَالْأَمر بِهِ يتَبَيَّن لَك حَقِيقَة الْأَمر

- ‌فصل وَأما مَا خلقه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ أوجده لحكمة فِي إيجاده فَإِذا اقْتَضَت

- ‌فصل فَهَذِهِ أقوى أَدِلَّة النفاة باعترافهم بِضعْف مَا سواهَا فَلَا حَاجَة بِنَا

- ‌فصل وَإِذا قد انتهينا فِي هَذِه المسئلة إِلَى هَذَا الْموضع وَهُوَ بحرها

- ‌فصل وَقد سلم كثير من النفاة أَن كَون الْفِعْل حسنا أَو قبيحا بِمَعْنى

- ‌فصل إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَالْكَلَام على كَلِمَات النفاة من وُجُوه:

- ‌فصل والأسماء الْحسنى وَالصِّفَات الْعلَا مقتضية لآثارها من الْعُبُودِيَّة

- ‌فصل وَعكس هَذَا أَنه لم تشْتَرط الْمُكَافَأَة فِي علم وَجَهل وَلَا فِي كَمَال

- ‌فصل وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الْإِيجَاب فِي حق الله سَوَاء الْأَقْوَال فِيهِ كالأقوال

- ‌فصل وَقد ظهر بِهَذَا بطلَان قَول طائفتين مَعًا الَّذين وضعُوا لله شَرِيعَة

- ‌فصل وَأما مَا ذكره الفلاسفة من مَقْصُود الشَّرَائِع وان ذَلِك لاستكمال

- ‌فصل وَهَذِه الكمالات الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرهَا الفلاسفة للنَّفس لَا بُد مِنْهَا

- ‌فصل وَرَأَيْت لبَعض فضلائهم وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى رِسَالَة

- ‌فصل فلنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرسَالَة قَالَ زَعَمُوا أَن الْقَمَر والزهرة

- ‌فصل قَالَ صَاحب الرسَالَة ذكر جمل من احتجاجهم والاحتجاج عَلَيْهِم من إوكد

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بِالْآيَاتِ الدَّالَّة على أَن الله سُبْحَانَهُ وضع حركات

- ‌فصل وَأما ماذكره عَن إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن أَنه تمسك بِعلم النُّجُوم حِين

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق

- ‌فصل وَأما استدلاله بقوله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا} فَعجب من الْعجب فَإِن هَذَا من اقوى الْأَدِلَّة وأبينها على بطلَان قَول المنجمين والدهرية الَّذين يسندون جَمِيع مَا فِي الْعَالم من الْخَيْر وَالشَّر إِلَى النُّجُوم وحركاتها واتصالاتها ويزعمون أَن مَا تَأتي

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه كَانَ اعْتِمَاده فِي

- ‌فصل وَأما استدلاله بِأَن النَّبِي نهى عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن اسْتِقْبَال

- ‌فصل وَأما استدلاله بِحَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي إِذا ذكر الْقدر

- ‌فصل وَالَّذِي أوجب للمنجمين كَرَاهِيَة السّفر وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَب انهم قَالُوا

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ من الْأَثر عَن عَليّ أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ

- ‌فصل وَأما احتجاجه بِحَدِيث أبي الدَّرْدَاء لقد توفّي رَسُول الله وَتَركنَا

- ‌فصل وَأما مَا نسبه إِلَى الشافعى من حكمه بالنجوم على عمر ذَلِك الْمَوْلُود

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن هَذَا علم مَا خلت عَنهُ مِلَّة من الْملَل وَلَا

- ‌فصل وَأما مَا ذكره فِي أَمر الطالع عَن الْفرس وَأَنَّهُمْ كَانُوا يعتنون بطالع

- ‌فصل الْآن الْتَقت حلقتا البطان وتداعى نزال الْفَرِيقَانِ نعم وَهَهُنَا أَضْعَاف

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد أَن عمر بن

- ‌فصل وَأما محبَّة النَّبِي التَّيَمُّن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره وشأنه كُله

- ‌فصل وَأما قَوْله الشؤم فِي ثَلَاث الحَدِيث فَهُوَ حَدِيث صَحِيح من رِوَايَة

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد جَاءَت امْرَأَة إِلَى

- ‌فصل وَأما قَول النَّبِي للَّذي سل سَيْفه يَوْم أحد شم سَيْفك فَإِنِّي

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ وَنسبه إِلَى قَوْله وقدت الْحَرْب لما رأى

- ‌فصل وَأما استقباله الجبلين فِي طَرِيقه وهما مسلح ومخرىء وَترك

- ‌فصل وَأما كَرَاهِيَة السّلف أَن يتبع الْمَيِّت بِشَيْء من النَّار أَو أَن يدْخل

- ‌فصل وَأما تِلْكَ الوقائع الَّتِي ذكروها مِمَّا يدل على وُقُوع مَا تطير بِهِ

- ‌فصل وَمِمَّا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَتَطَيَّرُونَ بِهِ ويتشاءمون مِنْهُ العطاس كَمَا

- ‌فصل وَأما قَوْله لَا يُورد ممرض على مصح فالممرض الَّذِي إبِله مراض والمصح

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا مَا روى عَنهُ من نَهْيه عَن وَطْء الغيل وَهُوَ

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا قَوْله للَّذي قَالَ لَهُ إِن لي أمة وَأَنا أكره

- ‌فصل وَأما قَضِيَّة المجذوم فَلَا ريب أَنه روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ

الفصل: ‌فصل الشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مركوز حسنها في

‌فصل مِفْتَاح دَار السَّعَادَة

حَاجَة النَّاس إِلَى الشَّرِيعَة ضَرُورِيَّة فَوق حَاجتهم إِلَى كل شَيْء وَلَا نِسْبَة لحاجتهم إِلَى علم الطِّبّ إِلَيْهَا إِلَّا ترى أَن أَكثر الْعَالم يعيشون بِغَيْر طَبِيب وَلَا يكون الطَّبِيب إِلَّا فِي بعض المدن الجامعة وَأما أهل البدو كلهم وَأهل الكفور كلهم وَعَامة بني آدم فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى طَبِيب وهم أصح أبدانا وَأقوى طبيعة مِمَّن هُوَ متقيد بالطبيب وَلَعَلَّ أعمارهم مُتَقَارِبَة وَقد فطر الله بني آدم على تنَاول مَا يَنْفَعهُمْ وَاجْتنَاب مَا يضرهم وَجعل لكل قوم عَادَة وَعرفا فِي اسْتِخْرَاج مَا يهجم عَلَيْهِم من الأدواء حَتَّى أَن كثيرا من أصُول الطِّبّ إِنَّمَا أخذت عَن عوائد النَّاس وعرفهم وتجاربهم وَأما الشَّرِيعَة فمبناها على تَعْرِيف مواقع رضى الله وَسخطه فِي حركات الْعباد الاختيارية فمبناها على الْوَحْي الْمَحْض وَالْحَاجة إِلَى التنفس فضلا عَن الطَّعَام وَالشرَاب لِأَن غَايَة مَا يقدر فِي عدم التنفس وَالطَّعَام وَالشرَاب موت الْبدن وتعطل الرّوح عَنهُ وَأما مَا يقدر عِنْد عدم الشَّرِيعَة ففساد الرّوح وَالْقلب جملَة وهلاك الْأَبدَان وشتان بَين هَذَا وهلاك الْبدن بِالْمَوْتِ فَلَيْسَ النَّاس قطّ إِلَى شَيْء أحْوج مِنْهُم إِلَى معرفَة مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَالْقِيَام بِهِ والدعوة إِلَيْهِ وَالصَّبْر عَلَيْهِ وَجِهَاد من خرج عَنهُ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ وَلَيْسَ للْعَالم صَلَاح بِدُونِ ذَلِك الْبَتَّةَ وَلَا سَبِيل إِلَى الْوُصُول إِلَى السَّعَادَة والفوز الْأَكْبَر إِلَّا بالعبور على هَذَا الْجِسْم

‌فصل الشَّرَائِع كلهَا فِي أُصُولهَا وَإِن تباينت متفقة مركوز حسنها فِي

الْعُقُول وَلَو وَقعت على غير مَا هِيَ عَلَيْهِ لَخَرَجت عَن الْحِكْمَة والمصلحة وَالرَّحْمَة بل من الْمحَال أَن تَأتي بِخِلَاف مَا أَتَت بِهِ {وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} وَكَيف يجوز ذُو الْعقل أَن ترد شَرِيعَة أحكم الْحَاكِمين بضد مَا وَردت بِهِ فَالصَّلَاة قد وضعت على أكمل الْوُجُوه وأحسنها الَّتِي تعبد بهَا الْخَالِق تبارك وتعالى عباده من تضمنها للتعظيم لَهُ بأنواع الْجَوَارِح من نطق اللِّسَان وَعمل الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وَالرَّأْس وحواسه وَسَائِر أَجزَاء الْبدن كل يَأْخُذ لحظه من الْحِكْمَة فِي هَذِه الْعِبَادَة الْعَظِيمَة الْمِقْدَار مَعَ أَخذ الْحَواس الْبَاطِنَة بحظها مِنْهَا وَقيام الْقلب بِوَاجِب عبوديته فِيهَا فَهِيَ مُشْتَمِلَة على الثَّنَاء وَالْحَمْد والتمجيد وَالتَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَشَهَادَة الْحق وَالْقِيَام بَين يَدي الرب مقَام العَبْد الذَّلِيل الخاضع الْمُدبر المربوب ثمَّ التذلل لَهُ فِي هَذَا الْمقَام والتضرع والتقرب إِلَيْهِ بِكَلَامِهِ ثمَّ انحناء الظّهْر ذلا لَهُ وخشوعا واستكانة ثمَّ استواؤه قَائِما ليستعد لخضوع أكمل لَهُ من الخضوع

ص: 2

الأول وَهُوَ السُّجُود من قيام فَيَضَع أشرف شَيْء فِيهِ وَهُوَ وَجهه على التُّرَاب خشوعا لرَبه واستكانة وخضوعا لعظمته وذلا لعزته قد انْكَسَرَ لَهُ قلبه وذل لَهُ جِسْمه وخشعت لَهُ جوارحه ثمَّ يَسْتَوِي قَاعِدا يتَضَرَّع لَهُ ويتذلل بَين يَدَيْهِ ويسأله من فَضله ثمَّ يعود إِلَى حَاله من الذل والخشوع والاستكانة فَلَا يزَال هَذَا دأبه حَتَّى يقْضى صلَاته فيجلس عِنْد إِرَادَة الِانْصِرَاف مِنْهَا مثنيا على ربه مُسلما على نبيه وعَلى عباده ثمَّ يصلى على رَسُوله ثمَّ يسْأَل ربه من خَيره وبره وفضله فَأَي شَيْء بعد هَذِه الْعِبَادَة من الْحسن وَأي كَمَال وَرَاء هَذَا الْكَمَال وَأي عبودية أشرف من هَذِه الْعُبُودِيَّة فَمن جوز عقله أَن ترد الشَّرِيعَة بضدها من كل وَجه فِي القَوْل وَالْعَمَل وَأَنه لَا فرق فِي نفس الْأَمر بَين هَذِه الْعِبَادَة وَبَين ضدها من السخرية والسب والبطر وكشف الْعَوْرَة وَالْبَوْل على السَّاقَيْن والضحك والصفير وأنواع المجون وأمثال ذَلِك فليعز عقله وليسأل الله أَن يَهبهُ عقلا سواهُ وَأما حسن الزَّكَاة وَمَا تضمنته من مواساة ذَوي الْحَاجَات والمسكنة والخلة من عباد الله الَّذين يعجزون عَن إِقَامَة نُفُوسهم وَيخَاف عَلَيْهِم التّلف إِذا خلاهم الْأَغْنِيَاء وأنفسهم وَمَا فِيهَا من الرَّحْمَة وَالْإِحْسَان وَالْبر والطهرة وإيثار أهل الإيثار والاتصاف بِصفة الْكَرم والجود وَالْفضل وَالْخُرُوج من سماة أهل الشُّح وَالْبخل والدناءة فَأمر لَا يسريب عَاقل فِي حسنه ومصلحته وَأَن الْآمِر بِهِ أحكم الْحَاكِمين وَلَيْسَ يجوز فِي الْعقل وَلَا فِي الْفطْرَة الْبَتَّةَ أَن ترد شَرِيعَة من الْحَكِيم الْعَلِيم بضد ذَلِك أبدا وَأما الصَّوْم فناهيك بِهِ من عبَادَة تكف النَّفس عَن شهواتها وتخرجها عَن شبه الْبَهَائِم إِلَى شبه الْمَلَائِكَة المقربين فَإِن النَّفس إِذا خليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم الْبَهَائِم فَإِذا كفت شهواتها لله ضيقت مجاري الشَّيْطَان وَصَارَت قريبَة من الله بترك عَادَتهَا وشهواتها محبَّة لَهُ وإيثارا لمرضاته وتقربا إِلَيْهِ فيدع الصَّائِم أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ وَأَعْظَمهَا لصوقا بِنَفسِهِ من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع من أجل ربه فَهُوَ عبَادَة وَلَا تتَصَوَّر حَقِيقَتهَا إِلَّا بترك الشَّهْوَة لله فالصائم يندع طَعَامه وَشَرَابه وشهواته من أجل ربه وَهَذَا معنى كَون الصَّوْم لَهُ تبارك وتعالى وَبِهَذَا فسر النَّبِي هَذِه الْإِضَافَة فِي الحَدِيث فَقَالَ يَقُول الله تَعَالَى كل عمل ابْن آدم يُضَاعف الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا قَالَ الله إِلَّا الصَّوْم فَأَنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ يدع طَعَامه وَشَرَابه من أجلى حَتَّى أَن الصَّائِم ليتصور بِصُورَة من لَا حَاجَة لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي تَحْصِيل رضى الله وَأي حسن يزِيد على حسن هَذِه الْعِبَادَة الَّتِي تكسر الشَّهْوَة وتقمع النَّفس وتحي الْقلب وتفرحه وتزهد فِي الدُّنْيَا وشهواتها وترغب فِيمَا عِنْد الله وتذكر الْأَغْنِيَاء بشأن الْمَسَاكِين وأحوالهم وَأَنَّهُمْ قد أخذُوا بِنَصِيب من عيشهم فتعطف قُلُوبهم عَلَيْهِم ويعلمون مَا هم فِيهِ من نعم الله فيزدادوا لَهُ شكرا وَبِالْجُمْلَةِ فعون الصَّوْم على تقوى الله أَمر مَشْهُور فَمَا اسْتَعَانَ أحد على تقوى الله وَحفظ حُدُوده

ص: 3

وَاجْتنَاب مَحَارمه بِمثل الصَّوْم فَهُوَ شَاهد لمن شَرعه وَأمر بِهِ بِأَنَّهُ أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وَأَنه إِنَّمَا شَرعه إحسانا إِلَى عباده وَرَحْمَة بهم ولطفا بهم لَا بخلا عَلَيْهِم برزقه وَلَا مُجَرّد تَكْلِيف وتعذيب خَال من الْحِكْمَة والمصلحة بل هُوَ غَايَة الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة والمصلحة وَإِن شرع هَذِه الْعِبَادَات لَهُم من تَمام نعْمَته عَلَيْهِم وَرَحمته بهم 0 وَأما الْحَج فشأن آخر لَا يُدْرِكهُ إِلَّا الحنفاء الَّذين ضربوا فِي الْمحبَّة بِسَهْم وشأنه أجل من أَن تحيط بِهِ الْعبارَة وَهُوَ خَاصَّة هَذَا الدّين الحنيف حَتَّى قيل فِي قَوْله تَعَالَى {حنفَاء لله غير مُشْرِكين} أَي حجاجا وَجعل الله بَيته الْحَرَام قيَاما للنَّاس فَهُوَ عَمُود الْعَالم الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُه فَلَو ترك النَّاس كلهم الْحَج سنة لخرت السَّمَاء على الأَرْض هَكَذَا قَالَ ترجمان الْقُرْآن ابْن عَبَّاس فالبيت الْحَرَام قيام الْعَالم فَلَا يزَال قيَاما مَا زَالَ هَذَا الْبَيْت محجوجا فالحج هُوَ خَاصَّة الحنيفة ومعونة الصَّلَاة وسر قَول العَبْد لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِنَّهُ مؤسس على التَّوْحِيد الْمَحْض والمحبة الْخَالِصَة وَهُوَ استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إِلَى بَيته وَمحل كرامته وَلِهَذَا إِذا دخلُوا فِي هَذِه الْعِبَادَة فشعارهم لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك إِجَابَة محب لدَعْوَة حَبِيبه وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ موقع عِنْد الله وَكلما أَكثر العَبْد مِنْهَا كَانَ أحب إِلَى ربه وأحظى فَهُوَ لَا يملك نَفسه أَن يَقُول لبيْك لبيْك حَتَّى يَنْقَطِع نَفسه 0 وَأما أسرار مَا فِي هَذِه الْعِبَادَة من الْإِحْرَام وَاجْتنَاب العوائد وكشف الرَّأْس وَنزع الثِّيَاب الْمُعْتَادَة وَالطّواف وَالْوُقُوف بِعَرَفَة وَرمى الْجمار وَسَائِر شَعَائِر الْحَج فمما شهِدت بحسنه الْعُقُول السليمة وَالْفطر المستقيمة وَعلمت بِأَن الَّذِي شرع هَذِه لَا حِكْمَة فَوق حكمته وسنعود أَن شَاءَ الله إِلَى الْكَلَام فِي ذَلِك مَوْضِعه 0

وَأما الْجِهَاد فناهيك بِهِ من عبَادَة هِيَ سَنَام الْعِبَادَات وذروتها وَهُوَ المحك وَالدَّلِيل المفرق بَين الْمُحب وَالْمُدَّعى فالمحب قد بذل مهجته وَمَاله لرَبه وإلهه متقربا إِلَيْهِ ببذل أعز مَا بِحَضْرَتِهِ يود لَو أَن لَهُ بِكُل شَعْرَة نفسا يبذلها فِي حبه ومرضاته وَيَوَد أَن لَو قتل فِيهِ ثمَّ أَحَي ثمَّ قتل ثمَّ أَحَي فَهُوَ يفْدي ثمَّ قتل بِنَفسِهِ حَبِيبه وَعَبده وَرَسُوله ولسان حَاله يَقُول 0

يفديك بِالنَّفسِ صب لَو يكون لَهُ

أعز من نَفسه شَيْء فَذَاك بِهِ

فَهُوَ قد سلم نَفسه وَمَاله لمشتريها وَعلم أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَخذ السّلْعَة إِلَّا ببذل ثمنهَا {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ} وَإِذا كَانَ من الْمَعْلُوم المستقر عِنْد الْخلق أَن عَلامَة الْمحبَّة إِلَّا لَهُ وكل محبَّة الصَّحِيحَة بذل الرّوح وَالْمَال فِي مرضات المحبوب فالمحبوب الْحق الَّذِي لَا تنبغي الْمحبَّة إِلَّا لَهُ وكل محبَّة سوى محبته فالمحبة لَهُ بَاطِلَة أولى بِأَن يشرع لِعِبَادِهِ الْجِهَاد الَّذِي هُوَ غَايَة مَا يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَى إلههم وربهم وَكَانَت قرابين من قبلهم من الْأُمَم فِي ذَبَائِحهم وقرابينهم تَقْدِيم أنفسهم للذبح فِي الله مَوْلَاهُم الْحق فَأَي حسن يزِيد على حسن هَذِه الْعِبَادَة وَلِهَذَا ادخرها الله لأكمل الْأَنْبِيَاء وأكمل الْأُمَم عقلا وتوحيدا ومحبة لله 0

ص: 4

وَأما الضَّحَايَا والهدايا فقربان إِلَى الْخَالِق سُبْحَانَهُ تقوم مقَام الْفِدْيَة عَن النَّفس الْمُسْتَحقَّة للتلف فديَة وعوضا وقربانا إِلَى الله وتشبها بِإِمَام الحنفاء وإحياء لسنته أَن فدى الله وَلَده بالقربان فَجعل ذَلِك فِي ذُريَّته بَاقِيا أبدا وَأما الْإِيمَان وَالنُّذُور فعقود يعقدها العَبْد على نَفسه يُؤَكد بهَا مَا ألزم بِهِ نَفسه من الْأُمُور بِاللَّه وَللَّه فَهِيَ تَعْظِيم للخالق ولأسمائه ولحقه وَأَن تكون الْعُقُود بِهِ وَله وَهَذَا غَايَة التَّعْظِيم فَلَا يعْقد بِغَيْر اسْمه وَلَا لغير الْقرب إِلَيْهِ بل أَن حلف فباسمه تَعْظِيمًا وتبجيلا وتوحيدا وإجلالا وَأَن نذر فَلهُ توحيدا وَطَاعَة ومحبة وعبودية فَيكون هُوَ المعبود وَحده والمستعان بِهِ وَحده 0 وَأما المطاعم والمشارب والملابس والمناكح فَهِيَ دَاخِلَة فِيمَا يُقيم الْأَبدَان ويحفظها من الْفساد والهلاك وَفِيمَا يعود بِبَقَاء النَّوْع الإنساني ليتم بذلك قوام الأجساد وَحفظ النَّوْع فيتحمل الْأَمَانَة الَّتِي عرضت على السَّمَوَات وَالْأَرْض ويقوى على حملهَا وأدائها ويتمكن من شكر مولى الْأَنْعَام ومسديه وَفرق فِي هَذِه الْأَنْوَاع بَين الْمُبَاح والمحظور وَالْحسن والقبيح والضار والنافع وَالطّيب والخبيث فَحرم مِنْهَا الْقَبِيح والخبيث والضار وأباح مِنْهَا الْحسن وَالطّيب والنافع كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَتَأمل ذَلِك فِي المناكح فَإِن من المستقر فِي الْعُقُول وَالْفطر أَن قَضَاء هَذَا الوطر فِي الْأُمَّهَات وَالْبَنَات وَالْأَخَوَات والعمات والخالات والجدات مستقبح فِي كل عقل مستهجن فِي كل فطْرَة وَمن الْمحَال أَن يكون الْمُبَاح من ذَلِك مُسَاوِيا للمحظور فِي نفس الْأَمر وَلَا فرق بَينهمَا إِلَّا مُجَرّد التحكم بِالْمَشِيئَةِ سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم وَكَيف يكون فِي نفس الْأَمر نِكَاح الْأُم واستفراشها مُسَاوِيا لنكاح الْأَجْنَبِيَّة واستفراشها وَإِنَّمَا فرق بَينهمَا مَحْض الْآمِر وَكَذَلِكَ من الْمحَال أَن يكون الدَّم وَالْبَوْل والرجيع مُسَاوِيا للخبز وَالْمَاء والفاكهة وَنَحْوهَا وَإِنَّمَا الشَّارِع فرق بَينهمَا فأباح هَذَا وَحرم هَذَا مَعَ اسْتِوَاء الْكل فِي نفس الْأَمر وَكَذَلِكَ أَخذ المَال بِالْبيعِ وَالْهِبَة وَالْوَصِيَّة وَالْمِيرَاث لَا يكون مُسَاوِيا لأَخذه بالقهر وَالْغَلَبَة وَالْغَصْب وَالسَّرِقَة وَالْجِنَايَة حَتَّى يكون إِبَاحَة هَذَا وَتَحْرِيم هَذَا رَاجعا إِلَى مَحْض الْأَمر والنهى المفرق بَين المتماثلين وَكَذَلِكَ الظُّلم وَالْكذب والزور وَالْفَوَاحِش كَالزِّنَا واللواط وكشف الْعَوْرَة بَين الْمَلأ وَنَحْو ذَلِك كَيفَ يسوغ عقل عَاقل أَنه لَا فرق قطّ فِي نفس الْأَمر بَين ذَلِك وَبَين الْعدْل وَالْإِحْسَان والعفة والصيانة وَستر الْعَوْرَة وَإِنَّمَا الشَّارِع يحكم بِإِيجَاب هَذَا وَتَحْرِيم هَذَا وَهَذَا مِمَّا لَو عرض على الْعُقُول السليمة الَّتِي لم تدخل وَلم يَمَسهَا ميل للمثالات الْفَاسِدَة وتعظيم أَهلهَا وَحسن الظَّن بهم لكَانَتْ أَشد إنكارا لَهُ وَشَهَادَة بِبُطْلَانِهِ من كثير من الضروريات وَهل ركب الله فِي فطْرَة عَاقل قطّ أَن الْإِحْسَان والإساءة والصدق وَالْكذب والفجور والعفة وَالْعدْل وَالظُّلم وَقتل النُّفُوس وانجاءها بل السُّجُود لله وللصنم سَوَاء فِي نفس الْأَمر لَا فرق بَينهمَا وَإِنَّمَا

ص: 5

الْفرق بَينهمَا الْأَمر الْمُجَرّد وَأي جحد للضروريات أعظم من هَذَا وَهل هَذَا إِلَّا بِمَنْزِلَة من يَقُول أَنه لَا فرق بَين الرجيع وَالْبَوْل وَالدَّم والقيء وَبَين الْخبز وَاللَّحم وَالْمَاء والفاكهة وَالْكل سَوَاء فِي نفس الْأَمر وَإِنَّمَا الْفرق بالعوائد فَأَي فرق بَين مدعى هَذَا الْبَاطِل وَبَين مدعى ذَلِك الْبَاطِل وَهل هَذَا إِلَّا بهت لِلْعَقْلِ والحس والضرورة وَالشَّرْع وَالْحكمَة وَإِذا كَانَ لَا معنى عِنْدهم للمعروف إِلَّا مَا أَمر بِهِ فَصَارَ مَعْرُوفا بِالْأَمر وَلَا للْمُنكر إِلَّا مَا نهى عَنهُ فَصَارَ مُنْكرا بنهيه فَأَي معنى لقَوْله {يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر} وَهل حَاصِل ذَلِك زَائِد على أَن يُقَال يَأْمُرهُم بِمَا يَأْمُرهُم بِهِ وينهاهم عَمَّا ينهاهم عَنهُ وَهَذَا كَلَام ينزه عَنهُ آحَاد الْعُقَلَاء فضلا عَن كَلَام رب الْعَالمين وَهل دلّت الْآيَة إِلَّا على أَنه أَمرهم بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي تعرفه الْعُقُول وتقر بحسنه الْفطر فَأَمرهمْ بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي نَفسه عِنْد كل عقل سليم ونهاهم عَمَّا هُوَ مُنكر فِي الطباع والعقول بِحَيْثُ إِذا عرض على الْعُقُول السليمة أنكرته أَشد الْإِنْكَار كَمَا أَن مَا أَمر بِهِ إِذا عرض على الْعقل السَّلِيم قبله أعظم قبُول وَشهد بحسنه كَمَا قَالَ بعض الْأَعْرَاب وَقد سُئِلَ بِمَ عرفت أَنه رَسُول الله فَقَالَ مَا أَمر بِشَيْء فَقَالَ الْعقل ليته ينْهَى عَنهُ وَلَا نهى عَن شَيْء فَقَالَ ليته أَمر بِهِ فَهَذَا الْأَعرَابِي أعرف بِاللَّه وَدينه وَرَسُوله من هَؤُلَاءِ وَقد اقر عقله وفطرته بِحسن مَا أَمر بِهِ وقبح مَا نهى عَنهُ حَتَّى كَانَ فِي حَقه من أَعْلَام نبوته وشواهد رسَالَته وَلَو كَانَ جِهَة كَونه مَعْرُوفا ومنكرا هُوَ الْأَمر الْمُجَرّد لم يكن فِيهِ دَلِيل بل كَانَ يطْلب لَهُ الدَّلِيل من غَيره وَمن سلك ذَلِك المسلك الْبَاطِل لم يُمكنهُ أَن يسْتَدلّ على صِحَة نبوته بِنَفس دَعوته وَدينه وَمَعْلُوم أَن نفس الدّين الَّذِي جَاءَ بِهِ وَالْملَّة الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا من أعظم براهين صدقه وشواهد نبوته وَمن لم يثبت لذَلِك صِفَات وجودية أوجبت حسنه وَقبُول الْعُقُول لَهُ ولضده صِفَات أوجبت قبحه ونفور الْعقل عَنهُ فقد سد على نَفسه بَاب الِاسْتِدْلَال بِنَفس الدعْوَة وَجعلهَا مستدلا عَلَيْهِ فَقَط وَمِمَّا يدل على صِحَة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} فَهَذَا صريخ فِي أَن الْحَلَال كَانَ طيبا قبل حلّه وَأَن الْخَبيث كَانَ خبيثا قبل تَحْرِيمه وَلم يستفد طيب هَذَا وخبث هَذَا من نفس الْحل وَالتَّحْرِيم لوَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ أَحدهمَا أَن هَذَا علم من أَعْلَام نبوته الَّتِي احْتج الله بهَا على أهل الْكتاب فَقَالَ

الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التوارة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم فَلَو كَانَ الطّيب والخبيث إِنَّمَا اسْتُفِيدَ من التَّحْرِيم والتحليل لم يكن فِي ذَلِك دَلِيل فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة أَن يُقَال يحل لَهُم مَا بِحل وَيحرم عَلَيْهِم مَا يحرم وَهَذَا أَيْضا بَاطِل فَإِنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ وَهُوَ الْوَجْه الثَّانِي فَثَبت أَنه أحل مَا هُوَ طيب فِي نَفسه قبل الْحل فَكَسَاهُ بأحلاله طيبا آخر فَصَارَ منشأ طيبه من الْوَجْهَيْنِ مَعًا فَتَأمل هَذَا الْموضع حق

ص: 6

التَّأَمُّل يطلعك على أسرار الشَّرِيعَة ويشرفك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها وَأَنه من الْمُمْتَنع فِي حِكْمَة أحكم الْحَاكِمين أَن ترد بِخِلَاف مَا وَردت بِهِ وَأَن الله تَعَالَى يتنزه عَن ذَلِك كَمَا يتنزه عَن سَائِر مَالا يَلِيق بِهِ

وَمِمَّا يدل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ وَهَذَا دَلِيل على أَنَّهَا فواحش فِي نَفسهَا لَا تستحسنها الْعُقُول فَتعلق التَّحْرِيم بهَا لفحشها فَإِن تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف الْمُنَاسب الْمُشْتَقّ يدل على أَنه هُوَ الْعلَّة الْمُقْتَضِيَة لَهُ وَهَذَا دَلِيل فِي جَمِيع هَذِه الْآيَات الَّتِي ذَكرنَاهَا فَدلَّ على أَنه حرمهَا لكَونهَا فواحش وَحرم الْخَبيث لكَونه خبيثا وَأمر بِالْمَعْرُوفِ لكَونه مَعْرُوفا وَالْعلَّة يجب أَن تغاير الْمَعْلُول فَلَو كَانَ كَونه فَاحِشَة هُوَ معنى كَونه مَنْهِيّا عَنهُ وَكَونه خبيثا هُوَ معنى كَونه محرما كَانَت الْعلَّة عين الْمَعْلُول وَهَذَا محَال فَتَأَمّله وَكَذَا تَحْرِيم الْإِثْم وَالْبَغي دَلِيل على أَن هَذَا وصف ثَابت لَهُ قبل التَّحْرِيم وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى وَلَا تقربُوا الزِّنَا أَنه كَانَ فَاحِشَة ومقتا وساء سَبِيلا فعلل النَّهْي فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَوْن الْمنْهِي عَنهُ فَاحِشَة وَلَو كَانَ جِهَة كَونه فَاحِشَة هُوَ النَّهْي لَكَانَ تعليلا للشَّيْء بِنَفسِهِ ولكان بِمَنْزِلَة أَن يُقَال لَا تقربُوا الزِّنَا فَإِنَّهُ يَقُول لكم لَا تقربوه أَو فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ وَهَذَا محَال من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه يتَضَمَّن إخلاء الْكَلَام من الْفَائِدَة وَالثَّانِي أَنه تَعْلِيل للنَّهْي بِالنَّهْي وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم فيقولوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك ونكون من الْمُؤمنِينَ فَأخْبر تَعَالَى أَن مَا قدمت أَيْديهم قبل الْبعْثَة سَبَب لإصابتهم بالمصيبة وَأَنه سُبْحَانَهُ لَو أَصَابَهُم بِمَا يسْتَحقُّونَ من ذَلِك لاحتجوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يُرْسل إِلَيْهِم رَسُولا وَلم ينزل عَلَيْهِم كتابا فَقطع هَذِه الْحجَّة بإرسال الرَّسُول وإنزال الْكتاب لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل وَهَذَا صَرِيح فِي أَن أَعْمَالهم قبل الْبعْثَة كَانَت قبيحة بِحَيْثُ استحقوا أَن يُصِيبُوا بهَا الْمُصِيبَة وَلكنه سُبْحَانَهُ لَا يعذب إِلَّا بعد إرْسَال الرُّسُل وَهَذَا هُوَ فصل الْخطاب

وَتَحْقِيق القَوْل فِي هَذَا الأَصْل الْعَظِيم أَن الْقبْح ثَابت للْفِعْل فِي نَفسه وَأَنه لَا يعذب الله عَلَيْهِ إِلَّا بعد إِقَامَة الْحجَّة بالرسالة وَهَذِه النُّكْتَة هِيَ الَّتِي فَاتَت الْمُعْتَزلَة والكلابية كليهمَا فاستطالت كل طَائِفَة مِنْهُمَا على الْأُخْرَى لعدم جَمعهمَا بَين هذَيْن الْأَمريْنِ فاستطالت الْكلابِيَّة على الْمُعْتَزلَة بإثباتهم الْعَذَاب قبل إرْسَال الرُّسُل وترتيبهم الْعقَاب على مُجَرّد الْقبْح الْعقلِيّ وأحسنوا فِي رد ذَلِك عَلَيْهِم واستطالت الْمُعْتَزلَة عَلَيْهِم فِي إنكارهم الْحسن والقبح العقليين جملَة وجعلهم انْتِفَاء الْعَذَاب قبل الْبعْثَة دَلِيلا على انْتِفَاء الْقبْح واستواء الْأَفْعَال فِي أَنْفسهَا وأحسنوا فِي رد هَذَا عَلَيْهِم فَكل طَائِفَة استطالت على الْأُخْرَى بِسَبَب إنكارها الصَّوَاب وَأما من سلك هَذَا المسلك الَّذِي سلكناه فَلَا سَبِيل لوَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى رد

ص: 7

قَوْله وَلَا الظفر عَلَيْهِ أصلا فانه مُوَافق لكل طَائِفَة على مَا مَعهَا من الْحق مُقَرر لَهُ مُخَالف فِي باطلها مُنكر لَهُ وَلَيْسَ مَعَ النفاة قطّ دَلِيل وَاحِد صَحِيح على نفي الْحسن والقبح العقليين وَإِن الْأَفْعَال المتضادة كلهَا فِي نفس الْأَمر سَوَاء لَا فرق بَينهَا إِلَّا بِالْأَمر وَالنَّهْي وكل أدلتهم على هَذَا بَاطِلَة كَمَا سنذكرها وَنَذْكُر بُطْلَانهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلَيْسَ مَعَ الْمُعْتَزلَة دَلِيل وَاحِد صَحِيح قطّ يدل على إِثْبَات الْعَذَاب على مُجَرّد الْقبْح الْعقلِيّ قبل بعثة الرُّسُل وأدلتهم على ذَلِك كلهَا بَاطِلَة كَمَا سنذكرها وَنَذْكُر بُطْلَانهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمِمَّا يدل على ذَلِك أَيْضا أَنه سُبْحَانَهُ يحْتَج على فَسَاد مَذْهَب من عبد غَيره بالأدلة الْعَقْلِيَّة الَّتِي تقبلهَا الْفطر والعقول وَيجْعَل مَا رَكبه فِي الْعُقُول من حسن عبَادَة الْخَالِق وَحده وقبح عبَادَة غَيره من أعظم الْأَدِلَّة على ذَلِك وَهَذَا فِي الْقُرْآن أَكثر من أَن يذكر هَهُنَا وَلَوْلَا أَنه مُسْتَقر فِي الْعُقُول وَالْفطر حسن عِبَادَته وشكره وقبح عبَادَة غَيره وَترك شكره لما احْتج عَلَيْهِم بذلك أصلا وَإِنَّمَا كَانَت الْحجَّة فِي مُجَرّد الْأَمر وَطَرِيقَة الْقُرْآن صَرِيحَة فِي هَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم وَالَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون الَّذِي جعل لكم الأَرْض فراشا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأنزل من السَّمَاء مَاء فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا وَأَنْتُم تعلمُونَ} فَذكر سُبْحَانَهُ أَمرهم بِعِبَادَتِهِ وَذكر اسْم الرب مُضَافا إِلَيْهِم لمقْتَضى عبوديتهم لرَبهم ومالكهم ثمَّ ذكر ضروب أنعامه عَلَيْهِم بإيجادهم وَإِنَّمَا من قبلهم وَجعل الأَرْض فراشا لَهُم يُمكنهُم الِاسْتِقْرَار عَلَيْهَا وَالْبناء وَالسُّكْنَى وَجعل السَّمَاء بِنَاء وسقفا فَذكر أَرض الْعَالم وسقفه ثمَّ ذكر إِنْزَال مَادَّة أقواتهم ولباسهم وثمارهم منبها بِهَذَا على اسْتِقْرَار حسن عبَادَة من هَذَا شَأْنه وتشكره الْفطر والعقول وقبح الْإِشْرَاك بِهِ وَعبادَة غَيره وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى حاكيا عَن صَاحب ياسين أَنه قَالَ لِقَوْمِهِ محتجا عَلَيْهِم بِمَا تقر بِهِ فطرهم وعقولهم وَمَالِي لَا أعبد الَّذِي فطرني وَإِلَيْهِ ترجعون فَتَأمل هَذَا الْخطاب كَيفَ تَجِد تَحْتَهُ أشرف معنى وأجله وَهُوَ أَن كَونه سُبْحَانَهُ فاطرا لِعِبَادِهِ يَقْتَضِي عِبَادَتهم لَهُ وَأَن من كَانَ مفطورا مخلوقا فحقيق بِهِ أَن يعبد فاطره وخالقه وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ مرده إِلَيْهِ فمبدأه مِنْهُ ومصيره إِلَيْهِ وَهَذَا يُوجب عَلَيْهِ التفرغ لعبادته ثمَّ احْتج عَلَيْهِم بِمَا تقر بِهِ عُقُولهمْ وفطرهم من قبح عبَادَة غَيره وَإِنَّهَا أقبح شَيْء فِي الْعقل وَأنْكرهُ فَقَالَ أأتخذ من دونه آلِهَة إِن يردني الرَّحْمَن بضر لَا تغن عني شفاعتهم شَيْئا وَلَا ينقذون إِنِّي إِذا لفي ضلال مُبين أَفلا ترَاهُ كَيفَ لم يحْتَج عَلَيْهِم بِمُجَرَّد الْأَمر بل احْتج عَلَيْهِم بِالْعقلِ الصَّحِيح وَمُقْتَضى الْفطْرَة وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل فَاسْتَمعُوا لَهُ إِن الَّذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ وَأَن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب مَا قدرُوا الله حق قدرهإن الله لقوي عَزِيز فَضرب لَهُم

ص: 8

سُبْحَانَهُ مثلا من عُقُولهمْ يدلهم على قبح عِبَادَتهم لغيره وَإِن هَذَا أَمر مُسْتَقر قبحه وهجنته فِي كل عقل وَإِن لم يرد بِهِ الشَّرْع وَهل فِي الْعقل أنكر وأقبح من عبَادَة من لَو اجْتَمعُوا كلهم لم يخلقوا ذبابا وَاحِدًا وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لم يقدروا على الِانْتِصَار مِنْهُ واستنقاذ مَا سلبهم إِيَّاه وَترك عبَادَة الخلاق الْعَلِيم الْقَادِر على كل شَيْء الَّذِي لَيْسَ كمثله شَيْء أَفلا ترَاهُ كَيفَ احْتج عَلَيْهِم بِمَا رَكبه فِي الْعُقُول من حسن عِبَادَته وَحده وقبح عبَادَة غَيره وَقَالَ تَعَالَى {ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هَل يستويان مثلا} هَذَا مثل ضربه الله لمن عَبده وَحده فَسلم لَهُ وَلمن عبد من دونه آلِهَة فهم شُرَكَاء فِيهِ متشاكسون عسرون فَهَل يستوى فِي الْعُقُول هَذَا وَهَذَا وَقد أَكثر تَعَالَى من هَذِه الْأَمْثَال ونوعها مستدلا بهَا على حسن شكره وعبادته وقبح عبَادَة غَيره وَلم يحْتَج عَلَيْهِم بِنَفس الْأَمر بل بِمَا رَكبه فِي عُقُولهمْ من الْإِقْرَار بذلك وَهَذَا كثير فِي الْقُرْآن فَمن تتبعه وجده وَقَالَ تَعَالَى {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وبالوالدين إحسانا} فَذكر توحيده وَذكر المناهي الَّتِي نَهَاهُم عَنْهَا والأوامر الَّتِي أَمرهم بهَا ثمَّ ختم الْآيَة بقوله {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} أَي مُخَالفَة هَذِه الْأَوَامِر وارتكاب هَذِه المناهي سَيِّئَة مَكْرُوهَة لله فَتَأمل قَوْله سَيِّئَة عِنْد رَبك مَكْرُوها أَي أَنه سيء فِي نفس الْأَمر عِنْد الله حَتَّى لَو لم يرد بِهِ تَكْلِيف لَكَانَ سيئه فِي نَفسه عِنْد الله مَكْرُوها لَهُ وكراهته سُبْحَانَهُ لَهُ لما هُوَ عَلَيْهِ من الصّفة الَّتِي اقْتَضَت أَن كرهه وَلَو كَانَ قبحه إِنَّمَا هُوَ مُجَرّد النَّهْي لم يكن مَكْرُوها لله إِذْ لَا معنى للكراهة عِنْدهم إِلَّا كَونه مَنْهِيّا عَنهُ فَيَعُود قَوْله كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها إِلَى معنى كل ذَلِك نهى عَنهُ عِنْد رَبك وَمَعْلُوم إِن هَذَا غير مُرَاد من الْآيَة وَأَيْضًا فَإِذا وَقع ذَلِك مِنْهُم فَهُوَ عِنْد النفاة لِلْحسنِ والقبح مَحْبُوب لله مرضى لَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَقع بإرادته والإرادة عِنْدهم هِيَ الْمحبَّة لَا فرق بَينهمَا وَالْقُرْآن صَرِيح فِي أَن هَذَا كُله قَبِيح عِنْد الله مَكْرُوه مبغوض لَهُ وَقع أَو لم يَقع وَجعل سُبْحَانَهُ هَذَا البغض والقبح سَببا للنَّهْي عَنهُ وَلِهَذَا جعله عِلّة وَحِكْمَة لِلْأَمْرِ فَتَأَمّله وَالْعلَّة غير الْمَعْلُول وَقَالَ تَعَالَى {لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} دلّ ذَلِك على أَن فِي نفس الْأَمر قسطا وَأَن الله سُبْحَانَهُ أنزل كِتَابه وَأنزل الْمِيزَان وَهُوَ الْعدْل ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ أنزل الْكتاب لأَجله وَالْمِيزَان فَعلم أَن فِي نفس الْأَمر مَا هُوَ قسط وَعدل وَحسن ومخالفته قبيحة وَأَن الْكتاب وَالْمِيزَان نزلا لأَجله وَمن يَنْفِي الْحسن والقبح يَقُول لَيْسَ فِي نفس الْأَمر مَا هُوَ عدل حسن وَإِنَّمَا صَار قسطا وعدلا بِالْأَمر فَقَط وَنحن لَا ننكر أَن الْأَمر كَسَاه حسنا وعدلا إِلَى حسنه وعدله فِي نَفسه فَهُوَ فِي نَفسه قسط حسن وكساه الْأَمر حسنا آخر يُضَاعف بِهِ كَونه عدلا حسنا فَصَارَ ذَلِك ثَابتا لَهُ من الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى وَذَا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا

ص: 9

عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله امرنا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَالا تعلمُونَ فَقَوله قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء دَلِيل على أَنَّهَا فِي نَفسهَا فحشاء وَأَن الله لَا يَأْمر بِمَا يكون كَذَلِك وانه يتعالى ويتقدس عَنهُ وَلَو كَانَ كَونه فَاحِشَة إِنَّمَا علم بِالنَّهْي خَاصَّة كَانَ بِمَنْزِلَة أَن يُقَال إِن الله لَا يَأْمر بِمَا ينْهَى عَنهُ وَهَذَا كَلَام يصان عَنهُ آحَاد الْعُقَلَاء فَكيف بِكَلَام رب الْعَالمين ثمَّ أكد سُبْحَانَهُ هَذَا الْإِنْكَار بقوله {قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد وادعوه مُخلصين لَهُ الدّين} فَأخْبر انه يتعالى عَن الْأَمر بالفحشاء بل أوامره كلهَا حَسَنَة فِي الْعُقُول مَقْبُولَة فِي الْفطر فَإِنَّهُ أَمر بِالْقِسْطِ لَا بالجور وبإقامة الْوُجُوه لَهُ عِنْد مساجده لَا لغيره وبدعوته وَحده مُخلصين لَهُ الدّين لَا بالشرك فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْمر بِهِ تَعَالَى لَا بالفحشاء أَفلا ترَاهُ كَيفَ يخبر بِحسن مَا يَأْمر بِهِ ويحسنه وينزه نَفسه عَن الْأَمر بضده وَأَنه لَا يَلِيق بِهِ تَعَالَى {وَمن أحسن دينا مِمَّن أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} فاحتج سُبْحَانَهُ على حسن دين الْإِسْلَام وَإنَّهُ لَا شَيْء أحسن مِنْهُ بِأَنَّهُ يتَضَمَّن إِسْلَام الْوَجْه لله وَهُوَ إخلاص الْقَصْد والتوجه وَالْعَمَل لَهُ سُبْحَانَهُ وَالْعَبْد مَعَ ذَلِك محسن آتٍ بِكُل حسن لَا مرتكب للقبح الَّذِي يكرههُ الله بل هُوَ مخلص لرَبه محسن فِي عِبَادَته بِمَا يُحِبهُ ويرضاه وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُتبع لملة إِبْرَاهِيم فِي محبته لله وَحده وإخلاص الدّين لَهُ وبذل النَّفس وَالْمَال فِي مرضاته ومحبته وَهَذَا احتجاج مِنْهُ على أَن دين الْإِسْلَام أحسن الْأَدْيَان بِمَا تضمنه مِمَّا تستحسنه الْعُقُول وَتشهد بِهِ الْفطر وَأَنه قد بلغ الْغَايَة القصوى فِي دَرَجَات الْحسن والكمال وَهَذَا اسْتِدْلَال بِغَيْر الْأَمر الْمُجَرّد بل هُوَ دَلِيل على أَن مَا كَانَ كَذَلِك فحقيق بِأَن يَأْمر بِهِ عباده وَلَا يرضى مِنْهُم سواهُ وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين} فَهَذَا احتجاج بِمَا ركب فِي الْعُقُول وَالْفطر لِأَنَّهُ لَا قَول للْعَبد أحسن من هَذَا القَوْل وَقَالَ تَعَالَى فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم مَعَ كَونه طَيّبَات أحلّت لَهُم فَأَي شَيْء أصرح من هَذَا حَيْثُ أخبر سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ حرمه عَلَيْهِم مَعَ كَونه طيبا فِي نَفسه فلولا أَن طيبه أَمر ثَابت لَهُ بِدُونِ الْأَمر لم يكن ليجمع الطّيب وَالتَّحْرِيم وَقد أخبر تَعَالَى أَنه حرم عَلَيْهِم طَيّبَات كَانَت حَلَالا عُقُوبَة لَهُم فَهَذَا تَحْرِيم عُقُوبَة بِخِلَاف التَّحْرِيم على هَذِه الْأمة فَإِنَّهُ تَحْرِيم صِيَانة وحماية وَلَا فرق عِنْد النفاة بَين الْأَمريْنِ بل الْكل سَوَاء فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمر عباده بِمَا أَمرهم بِهِ رَحْمَة مِنْهُ وإحسانا وإنعاما عَلَيْهِم لآن صَلَاحهمْ فِي معاشهم وأبدانهم وأحوالهم وَفِي معادهم ومآلهم إِنَّمَا هُوَ بِفعل مَا أمروا بِهِ وَهُوَ فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الْغذَاء الَّذِي لَا قوام للبدن إِلَّا بِهِ بل أعظم وَلَيْسَ مُجَرّد تَكْلِيف وابتلاء كَمَا يَظُنّهُ كثير من النَّاس ونهاهم عَمَّا نَهَاهُم عَنهُ صِيَانة وحمية لَهُم إِذْ لَا بَقَاء لصحتهم وَلَا حفظ لَهَا إِلَّا بِهَذِهِ الحمية فَلم يَأْمُرهُم حَاجَة مِنْهُ إِلَيْهِم وَهُوَ الْغنى الحميد وَلَا حرم عَلَيْهِم

ص: 10