الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمتهم العلمية إِيمَان بِاللَّه وَلَا مَلَائكَته وَلَا كتبه وَلَا لِقَائِه رسله وَلَيْسَ فِي حكمتهم العلمية عِبَادَته وَحده وَلَا شريك لَهُ وَاتِّبَاع مرضاته وَاجْتنَاب مساخطه وَمَعْلُوم أَن النَّفس لَا سَعَادَة لَهَا وَلَا فلاح إِلَّا بذلك فَلَيْسَ من حكمتهم العلمية والعملية مَا تسعد بِهِ النُّفُوس وتفوز وَلِهَذَا لم يَكُونُوا داخلين فِي الْأُمَم السُّعَدَاء فِي الْآخِرَة وهم الْأُمَم الْأَرْبَعَة المذكورون فِي قَوْله تَعَالَى أَن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم ولاهم يَحْزَنُونَ
فصل وَهَذِه الكمالات الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرهَا الفلاسفة للنَّفس لَا بُد مِنْهَا
فِي كَمَا لَهَا وصلاحها وَلَكِن قصروا غَايَة التَّقْصِير فِي أَنهم لم يبينوا متعلقها وَلم يحدوا لَهَا حدا فاصلا بَين مَا تحصل بِهِ السَّعَادَة وَمَا لَا تحصل بِهِ فانهم لم يذكرُوا مُتَعَلق الْعِفَّة وَلَا عماذا تكون وَلَا مقدارها الَّذِي إِذا تجاوزه العَبْد وَقع فِي الْفُجُور وَكَذَلِكَ الْحلم لم يذكرُوا مواقعه ومقداره وَأَيْنَ يحسن وَأَيْنَ يقبح وَكَذَلِكَ الشجَاعَة وَكَذَلِكَ الْعلم لم يميزوا الْعلم الَّذِي تزكو بِهِ النُّفُوس وتسعد من غَيره بل لم يعرفوا أصلا وَأما الرُّسُل صَلَاة الله وَسَلَامه عَلَيْهِم فبينوا ذَلِك غَايَة الْبَيَان وفصلوه أحسن تَفْصِيل وَقد جمع الله ذَلِك فِي كِتَابه فِي آيَة وَاحِدَة فَقَالَ {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} فَهَذِهِ الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة الَّتِي حرمهَا تَحْرِيمًا مُطلقًا لم يبح مِنْهَا شَيْئا لأحد من الْخلق وَلَا فِي حَال من الْأَحْوَال بِخِلَاف الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير فَأَنَّهَا تحرم فِي حَال وتباح فِي حَال وَأما هَذِه الْأَرْبَعَة فَهِيَ مُحرمَة فالفواحش مُتَعَلقَة بالشهوة وتعديل قُوَّة الشَّهْوَة باجتنابها وَالْبَغي بِغَيْر الْحق مُتَعَلق بِالْغَضَبِ وتعديل الْقُوَّة الغضبية باجتنابه والشرك بِاللَّه ظلم عَظِيم بل هُوَ الظُّلم على الْإِطْلَاق وَهُوَ منَاف للعدل وَالْعلم وَقَوله وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا مُتَضَمّن تَحْرِيم أصل الظُّلم فِي حق الله وَذَلِكَ يسْتَلْزم إِيجَاب الْعدْل فِي حَقه وَهُوَ عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ فان النَّفس لَهَا القوتان العلمية والعملية وَعمل الْإِنْسَان عمل اخْتِيَاري تَابع لارادة العَبْد وكل إِرَادَة فلهَا مُرَاد وَكَمَال هُوَ أما مُرَاد لنَفسِهِ واما مُرَاد لغيره يَنْتَهِي إِلَيّ المُرَاد لنَفسِهِ وَلَا بُد فالقوة العملية تَسْتَلْزِم أَن يكون للنَّفس مُرَاد تستكمل بإرادته فان كَانَ ذَلِك المُرَاد مضمحلا فانيا زَالَت الْإِرَادَة بزواله وَلم يكن للنَّفس مُرَاد غَيره قفاتها أعظم سعادتها وفلاحها فَيجب إِذا أَن يكون مرادها الَّذِي تستكمل بإرادته وحبه وإيثاره بَاقِيا لَا يفنى وَلَا يَزُول وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا الله وَحده وَسَنذكر أَن شَاءَ الله عَن قريب معنى تعلق الْإِرَادَة بِهِ تَعَالَى وَكَونه مرَادا وَالْعَبْد مُرِيد لَهُ فان هَذَا مِمَّا أشكل على بعض
الْمُتَكَلِّمين حَيْثُ قَالُوا أَن الْإِرَادَة لَا تتَعَلَّق إِلَّا بحادث وَأما الْقَدِيم فَكيف يكون مرَادا وخفى عَلَيْهِم الْفرق بَين الْإِرَادَة الغائبة والإرادة الفاعلية وَجعلُوا الارادتين وَاحِدَة وَالْمَقْصُود أَن هَؤُلَاءِ الفلاسفة لم يذكرُوا هَذَا فِي كَمَال النَّفس وانما جعلُوا كمالها فِي تَعْدِيل الشَّهْوَة وَالْغَضَب والشهوة هِيَ جلب مَا ينفع الْبدن وَيبقى النوغ وَالْغَضَب دفع مَا يضر الْبدن وَمَا تعرضوا لمراد الرّوح المحبوب لذاته وَجعلُوا كمالها العلمي فِي مُجَرّد الْعلم وغلطوا فِي ذَلِك من وُجُوه كَثِيرَة مِنْهَا أَن مَا ذَكرُوهُ لَا يُعْطي كَمَال النَّفس الَّذِي خلقت لَهُ كَمَا بَيناهُ وَمِنْهَا أَن مَا ذَكرُوهُ فِي كَمَال الْقُوَّة العملية إِنَّمَا غَايَته إصْلَاح الْبدن الَّذِي هُوَ آلَة النَّفس وَلم يذكرُوا كَمَال النَّفس الإرادي وَالْعَمَل بالمحبة وَالْخَوْف والرجاء وَمِنْهَا أَن كَمَال النَّفس فِي الْعلم والإرادة لَا فِي مُجَرّد الْعلم فان مُجَرّد الْعلم لَيْسَ بِكَمَال للنَّفس مَا لم تكن مريدة محبَّة لمن لَا سَعَادَة لَهَا إِلَّا بإرادته ومحبته فالعلم الْمُجَرّد لَا يُعْطي النَّفس كَمَا لَا مَا لم تقترن بِهِ الْإِرَادَة والمحبة وَمِنْهَا أَن الْعلم لَو كَانَ كمالا بِمُجَرَّدِهِ لم يكن مَا عِنْدهم من الْعلم كَمَا لَا للنَّفس فان غَايَة مَا عِنْدهم عُلُوم رياضية صَحِيحَة مصلحتها من جنس مصَالح الصناعات وَرُبمَا كَانَت الصناعات أصلح وأنفع من كثير مِنْهَا واما علم طبيعي صَحِيح غَايَته معرفَة العناصر وَبَعض خواصها وطبائعها وَمَعْرِفَة بعض مَا يتركب مِنْهَا وَمَا يَسْتَحِيل من الموجبات إِلَيْهَا وَبَعض مَا يَقع فِي الْعَالم من الْآثَار بامتزاجها واختلاطها وَأي كَمَال للنَّفس فِي هَذَا وَأي سَعَادَة لَهَا فِيهِ واما علم الهي كُله بَاطِل لم يوفقوا فِي الْإِصَابَة الْحق فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة
وَمِنْهَا أَن كَمَال النَّفس وسعادتها الْمُسْتَفَاد عَن الرُّسُل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم لَيْسَ عِنْدهم الْيَوْم مِنْهُ حس وَلَا خبر وَلَا عين وَلَا أثر فهم أبعد النَّاس من كمالات النُّفُوس وسعاداتها وَإِذا عرف ذَلِك وَأَنه لَا بُد للنَّفس من مُرَاد مَحْبُوب لذاته لَا يصلح إِلَّا بِهِ وَلَا يكمل إِلَّا بحبه وإيثاره وَقطع العلائق عَن غَيره وان ذَلِك هُوَ النِّهَايَة وَغَايَة مطلوبها ومرادها الَّذِي إِلَيْهِ يَنْتَهِي الطّلب فَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا الله الَّذِي لَا اله إِلَّا هُوَ قَالَ تَعَالَى أم اتَّخذُوا آلِهَة من الأَرْض هم ينشرون وَلَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا وَلَيْسَ صَلَاح الْإِنْسَان وَحده وسعادته إِلَّا بذلك بل وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وكل حَيّ شَاعِر لاصلاح لَهُ إِلَّا بِأَن يكون الله وَحده ألهه ومعبوده وَغَايَة مُرَاده وسيمر بك أَن شَاءَ الله بسط القَوْل فِي ذَلِك واقامة الْبَرَاهِين على هَذَا الْمَطْلُوب الْأَعْظَم الَّذِي هُوَ غَايَة سَعَادَة النُّفُوس وأشرف مطالبها فلنرجع إِلَيّ مَا كُنَّا فِيهِ من بَيَان طرق النَّاس فِي مَقَاصِد الْعِبَادَات
الطَّرِيق الثَّانِي طَرِيق من يَقُول من الْمُعْتَزلَة وَمن تَابعهمْ أَن الله سُبْحَانَهُ عرضهمْ بهَا للثَّواب واستأجرهم بِتِلْكَ الْأَعْمَال للخير فعاوضهم عَلَيْهَا مُعَاوضَة قَالُوا والأنعام مِنْهُ فِي الْآخِرَة غير حسن لما فِيهِ من تَكْرِير مِنْهُ الْعَطاء ابْتِدَاء وَلما فِيهِ من الْإِخْلَال بالمدح وَالثنَاء والتعظيم الَّذِي لَا يسْتَحق إِلَّا بالتكليف وَمِنْهُم من يَقُول أَن الْوَاجِبَات الشَّرْعِيَّة لطف فِي الْوَاجِبَات
الْعَقْلِيَّة وَمِنْهُم من يَقُول أَن الْغَايَة الْمَقْصُودَة الَّتِي يحصل بهَا الثَّوَاب هِيَ الْعَمَل وَالْعلم وَسِيلَة إِلَيْهِ حَتَّى رُبمَا قَالُوا ذَلِك فِي معرفَة الله تَعَالَى وَأَنَّهَا إِنَّمَا وَجَبت لِأَنَّهَا لطف فِي أَدَاء الْوَاجِبَات العملية وَهَذِه الْأَقْوَال تصور الْعَاقِل اللبيب لَهَا حق التَّصَوُّر كَاف فِي جزمه ببطلانها رَافع عَنهُ مُؤنَة الرَّد عَلَيْهَا وَالْوُجُوه الدَّالَّة على بُطْلَانهَا أَكثر من أَن تذكر هَاهُنَا
الطَّرِيق الثَّالِث طَرِيق الجبرية وَمن وافقهم أَن الله سُبْحَانَهُ امتحن عباده بذلك وكلفهم لَا لحكمة وَلَا لغاية مَطْلُوبَة لَهُ وَلَا بِسَبَب من الْأَسْبَاب فَلَا لَام تَعْلِيل وَلَا بَاء سَبَب أَن هُوَ إِلَّا مَحْض الْمَشِيئَة وَصرف الْإِرَادَة كَمَا قَالُوا فِي الْخلق سَوَاء وَهَؤُلَاء قابلوا من قبلهم من الْقَدَرِيَّة والمعتزلة أعظم مُقَابلَة فهما طرفا نقيض لَا يَلْتَقِيَانِ وَالطَّرِيق الرَّابِع طَرِيق أهل الْعلم والأيمان الَّذين عقلوا عَن الله أمره وَدينه وَعرفُوا مُرَاده بِمَا أَمرهم ونهاهم عَنهُ وَهِي أَن نفس معرفَة الله ومحبته وطاعته والتقرب إِلَيْهِ وابتغاء الْوَسِيلَة إِلَيْهِ أَمر مَقْصُود لذاته وَأَن الله سُبْحَانَهُ يسْتَحقّهُ لذاته وَهُوَ سُبْحَانَهُ المحبوب لذاته الَّذِي لَا تصلح الْعِبَادَة والمحبة والذل والخضوع والتأله إِلَّا لَهُ فَهُوَ يسْتَحق ذَلِك لِأَنَّهُ أهل أَن يعبد وَلَو لم يخلق جنَّة وَلَا نَارا وَلَو لم يضع ثَوابًا وَلَا عقَابا كَمَا جَاءَ فِي بعض الْآثَار لَو لم أخلق جنَّة وَلَا نَارا أما كنت أَهلا أَن أعبد فَهُوَ سُبْحَانَهُ يسْتَحق غَايَة الْحبّ وَالطَّاعَة وَالثنَاء وَالْمجد والتعظيم لذاته وَلما لَهُ من أَوْصَاف الْكَمَال ونعوت الْجلَال وحبه والرضى بِهِ وَعنهُ والذل لَهُ والخضوع والتعبد هُوَ غَايَة سَعَادَة النَّفس وكمالها وَالنَّفس إِذا فقدت ذَلِك كَانَت بِمَنْزِلَة الْجَسَد الَّذِي فقد روحه وحياته وَالْعين الَّتِي فقدت ضوءها ونورها بل أَسْوَأ حَالا من ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن غَايَة الْجَسَد إِذا فقد روحه أَن يصير معطلا مَيتا وَكَذَلِكَ الْعين تصير معطلة وَأما النَّفس إِذا فقدت كمالها الْمَذْكُور فَأَنَّهَا تبقى معذبة متألمة وَكلما اشْتَدَّ حجابها اشْتَدَّ عَذَابهَا وألمها وَشَاهد هَذَا مَا يجده الْمُحب الصَّادِق الْمحبَّة من الْعَذَاب والألم عِنْد احتجاب محبوبه عَنهُ وَلَا سِيمَا إِذا يئس من قربه وحظى غَيره بحبه وَوَصله هَذَا مَعَ إِمْكَان التعوض عَنهُ بمحبوب آخر نَظِيره أَو خير مِنْهُ فَكيف بِروح فقدت محبوبها الْحق الَّذِي لم تخلق إِلَّا لمحبته وَلَا كَمَال لَهَا وَلَا صَلَاح أصلا إِلَّا بِأَن يكون أحب إِلَيْهَا من كل مَا سواهُ وَهُوَ محبوبها الَّذِي لَا تعوض مِنْهُ سواهُ بِوَجْه مَا كَمَا قَالَ الْقَائِل:
من كل شَيْء إِذا ضيعته عوض
…
وَمَا من الله أَن ضيعته عوض
وَلَو لم يكن احتجابه سُبْحَانَهُ عَن عَبده أَشد أَنْوَاع الْعَذَاب عَلَيْهِ لم يتوعد بِهِ أعداءه كَمَا قَالَ تَعَالَى كلا انهم عَن رَبهم يؤمئذ لمحجوبون ثمَّ انهم لصالو الْجَحِيم فَأخْبر أَن لَهُم عذابين أَحدهمَا عَذَاب الْحجاب عَنهُ وَالثَّانِي صلى الْجَحِيم وَأحد العذابين أَشد من الآخر وَهَذَا كَمَا أَنه سُبْحَانَهُ ينعم على أوليائه بنعيمين نعيم كشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ونعيم الْجنَّة وَمَا فِيهَا
وَأحد النعيمين أحب إِلَيْهِم من الآخر وآثر عِنْدهم وَأقر لعيونهم كَمَا فِي الصَّحِيح عَنهُ أَنه قَالَ إِذا دخل أهل الْجنَّة نَادَى مناديا أهل الْجنَّة أَن لكم عِنْد الله موعدا يُرِيد أَن ينجزكموه فَيَقُولُونَ مَا هُوَ ألم يبيض وُجُوهنَا ويثقل موازيننا ويدخلنا الْجنَّة ويجرنا من النَّار قَالَ فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُم شَيْئا أحب إِلَيْهِم من النّظر إِلَيْهِ وَفِي حَدِيث غير هَذَا أَنهم إِذا نظرُوا إِلَيّ رَبهم تبارك وتعالى أنساهم لَذَّة النّظر إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من النَّعيم
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْبدن والأعضاء آلَات للنَّفس ورعية للقلب وخدم لَهُ فَإِذا فقد بَعضهم كَمَاله الَّذِي خلق لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَة هَلَاك بعض جند الْملك ورعيته وتعطل بعض آلاته وَقد لَا يلْحق الْملك من ذَلِك ضَرَر أصلا وَأما إِذا فقد الْقلب كَمَاله الَّذِي خلق لَهُ وحياته ونعيمه كَانَ بِمَنْزِلَة هَلَاك الْملك وأسره وَذَهَاب ملكه من يَدَيْهِ وصيرورته أَسِيرًا فِي أَيدي أعاديه فَهَكَذَا الرّوح إِذا عدمت كمالها وصلاحها فِي معرفَة فاطرها وبارئها وَكَونه أحب شَيْء إِلَيْهَا رِضَاهُ وابتغاء الْوَسِيلَة إِلَيْهِ آثر شَيْء عِنْدهَا حَتَّى يكون اهتمامها بمحبته ومرضاته اهتمام الْمُحب التَّام الْمحبَّة بمرضاة محبوبه الَّذِي لَا يجد مِنْهُ عوضا كَانَت بِمَنْزِلَة الْملك الَّذِي ذهب مِنْهُ ملكه وَأصْبح أَسِيرًا فِي يَدي أعاديه يسومونه سوء الْعَذَاب وَهَذَا الْأَلَم كامن فِي النَّفس لَكِن يستره ستر الشَّهَوَات ويواريه حجاب الْغَفْلَة حَتَّى إِذا كشف الغطاء وحيل بَين العَبْد وَبَين مَا يشتهى وجد حَقِيقَة ذَلِك الْأَلَم وذاق طعمه وتجرد ألمه عَمَّا يَحْجُبهُ ويواريه وَهَذَا أَمر يدْرك بالعيان والتجربة فِي هَذِه الدَّار تكون الْأَسْبَاب المؤلمة للروح وَالْبدن مَوْجُودَة مقتضية لآثارها وَلَكِن يقوم للقلب من فرحه بحظ ناله من مَال أَو جاه أَو وصال حبيب مَا يوارى عَنهُ شُهُود الْأَلَم وَرُبمَا لَا يشْعر بِهِ أصلا فَإِذا زَالَ الْمعَارض ذاق طعم الْأَلَم وَوجد مَسّه وَمن اعْتبر أَحْوَال نَفسه وَغَيره علم ذَلِك فَإِذا كَانَ هَذَا فِي هَذِه الدَّار فَمَا الظَّن عِنْد الْمُفَارقَة والفطام عَن الدُّنْيَا والانتقال إِلَيّ الله والمصير إِلَيْهِ فَلْيتَأَمَّل الْعَاقِل الفطن الناصح لنَفسِهِ هَذَا الْموضع حق التَّأَمُّل وليشغل بِهِ كل أفكاره فان فهمه وعقله وَاسْتمرّ إعراضه
فَمَا تبلغ الْأَعْدَاء من جَاهِل
…
مَا يبلغ الْجَاهِل من نَفسه
وان لم يفهمهُ لغلظ حجابه وكثافة طبعه فيكفيه الْأَيْمَان بِمَا أعد الله تَعَالَى فِي الْجنَّة لأَهْلهَا من نعم الْأكل وَالشرب وَالنِّكَاح والمناظر المبهجة وَمَا أعد فِي النَّار لأَهْلهَا من السلَاسِل والأغلال وَالْحَمِيم ومقطعات الثِّيَاب من النَّار وَنَحْو ذَلِك وَالْمَقْصُود بَيَان أَن الْحَاجة إِلَيّ الرُّسُل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم ضَرُورِيَّة بل هِيَ فِي أَعلَى مَرَاتِب الضَّرُورَة وَلَيْسَت نظرا لحاجتهم إِلَيّ الْحَاجة وأسبابها بل هِيَ أعظم من ذَلِك وَأما مَا ذكر عَن الصابئة من الِاسْتِغْنَاء عَن النُّبُوَّة فَهَذَا لَيْسَ مذهبا لجميعهم بل فيهم سعيد وشقي كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين}
{آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} فَأدْخل الْمُؤمنِينَ من الصابئين فِي أهل السَّعَادَة وَلم ينالوا ذَلِك إِلَّا بِالْإِيمَان بالرسل وَلَكِن مِنْهُم من أنكر النبوات وَعبد الْكَوَاكِب وهم فرق كَثِيرَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهم فَأَما قَوْلهم أَن الموجودات فِي الْعَالم السُّفْلى مركبة فِي تَأْثِير الْكَوَاكِب والروحانيات وَفِي اتصالها سعود ونحوس يُوجب أَن يكون فِي آثارها حسن وقبح فِي الْأَخْلَاق والأعمال يُدْرِكهُ كل ذِي عقل سليم فَلَا حَاجَة لنا إِلَيّ من يعرفنا حسنها وقبحها إِلَيّ آخر كَلَامهم فَكَلَام من هُوَ أَجْهَل النَّاس وأضلهم وأبعدهم عَن الإنسانية وَقَائِل هَذِه الْمقَالة مُنَاد على نَفسه أَنه لم يعرف فاطره فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَا صِفَاته وَلَا أَفعاله بل وَلَا عرف نَفسه الَّتِي بَين جَنْبَيْهِ وَلَا مَا يسعدها ويشقيها وَلَا غايتها وَلَا لماذا خلقت وَلَا بِمَاذَا تكمل وَتصْلح وبماذا تفْسد وتهلك بل هُوَ أَجْهَل النَّاس بِنَفسِهِ وبفاطرها وبارئها وَهل يتَمَكَّن الْعقل بعد معرفَة النَّفس وَمَعْرِفَة فاطرها ومبدعها أَن يجْحَد النُّبُوَّة أَو يجوز على الله وعَلى حكمته أَن يتْرك النَّوْع البشري الَّذِي هُوَ خُلَاصَة الْمَخْلُوقَات سدى ويدعهم عملا معطلا ويخلقهم عَبَثا بَاطِلا وَمن جوز ذَلِك على الله سُبْحَانَهُ فَمَا قدره حق قدره بل وَلَا عرفه وَلَا آمن بِهِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا قدرُوا الله حق قدره إِذْ قَالُوا مَا أنزل الله على بشر من شَيْء} فَأخْبر تَعَالَى أَن من جحد رسالاته فَمَا قدره حق قدره وَلَا عرفه وَلَا عظمه وَلَا نزهه عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا ثمَّ يُقَال لهَذِهِ الطَّائِفَة بِمَاذَا عَرَفْتُمْ أَن الموجودات بالعالم السفلي كلهَا مركبة على تَأْثِير الْكَوَاكِب والروحانيات وَهل هَذَا إِلَّا كذب بحت وبهت فَهَب أَن بعض الْآثَار الْمُشَاهدَة مسبب عَن تَأْثِير بعض الْكَوَاكِب والعلويات كَمَا يُشَاهد من تَأْثِير الشَّمْس وَالْقَمَر فِي الْحَيَوَان والنبات وَغَيرهمَا فَمن أَيْن لكم أَن جَمِيع أَجزَاء الْعَالم السفلي صادر عَن تَأْثِير الْكَوَاكِب والروحانيات وَهل هَذَا إِلَّا كذب وَجَهل فَهَذَا الْعَالم فِيهِ من التَّغَيُّر والاستحالة والكون وَالْفساد مَالا يُمكن إِضَافَته إِلَيّ كَوْكَب وَلَا يتَصَوَّر وُقُوعه إِلَّا بِمَشِيئَة فَاعل مُخْتَار قَادر مُؤثر فِي الْكَوَاكِب والروحانيات مسخر لَهَا بقدرته مُدبر لَهَا بِمَشِيئَة كَمَا تشهد عَلَيْهَا أحوالها وهيآتها وتسخيرها وانقيادها أَنَّهَا مُدبرَة مربوبة مسخرة بِأَمْر قَادر قاهر يصرفهَا كَيفَ يَشَاء ويدبرها كَمَا يُرِيد لَيْسَ لَهَا من الْأَمر شَيْء وَلَا يُمكن أَن تتصرف فِي أَنْفسهَا بذرة فضلا أَن تُعْطى العلام وجوده فَلَو أَرَادَت حَرَكَة غير حركتها أَو مَكَانا غير مَكَانهَا أَو هَيْئَة أَو حَالا غير مَا هِيَ عَلَيْهِ لم تَجِد إِلَيّ ذَلِك سَبِيلا فَكيف تكون رَبًّا لكل مَا تحتهَا مَعَ كَونهَا عاجزة مصرفة مقهورة مسخرة آثَار الْفقر مسطورة فِي صفحاتها وآيات الْعُبُودِيَّة والتسخير
بادية عَلَيْهَا فَبِأَي اعْتِبَار نظر إِلَيْهَا الْعَاقِل رأى آثَار الْفقر وشواهد الْحُدُوث وأدلة التسخير والتصريف فِيهَا فَهِيَ خلق من لَيْسَ كمثله شَيْء وآيات من آيَاته عبيد مسخرات بأَمْره الْإِلَه الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم أَن فِي اتصالات الْكَوَاكِب نظر سعود ونحوس مِمَّا أضحكوا بِهِ الْعُقَلَاء عَلَيْهِم من جَمِيع الْأُمَم وَنَادَوْا بِهِ على جهلهم وصاروا بِهِ مركزا لكل كَذَّاب وكل أفاك وكل زنديق وكل مفرط فِي الْجَهْل بالنبوات وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل بالحقائق الْعَقْلِيَّة والبراهين اليقينية وسنريك طرفا من جهالاتهم وكذبهم وتناقضهم وَبطلَان مقالتهم ليعرف اللبيب نعْمَة الله عَلَيْهِ فِي عقله وَدينه
فَيُقَال لَهُم الْمُؤثر فِي هَذِه السُّعُود والنحوس هَل هُوَ الْكَوْكَب وَحده والبرج وَحده أَو الْكَوْكَب بِشَرْط حُصُوله فِي البرج وَالْكل محَال أما الأول وَالثَّانِي فانهما يوجبان دوَام الْأَثر لكَون الْمُؤثر دَائِم الثُّبُوت وَالثَّالِث أَيْضا محَال لِأَنَّهُ لما اخْتلف أثر الْكَوْكَب بِسَبَب اخْتِلَاف البرجين لزم أَن تكون طبيعة كل برج مُخَالفَة بالماهية لطبيعة البرج الثَّانِي إِذْ لَو لم يكن كَذَلِك كَانَت طبائع جَمِيع البروج مُتَسَاوِيَة فِي تَمام الْمَاهِيّة فَوَجَبَ أَن يكون أثر الْكَوْكَب فِي جَمِيع البروج أثرا وَاحِدًا لِأَن الْأَشْيَاء المتساوية فِي تَمام الْمَاهِيّة يمْتَنع أَن تلزمها لَوَازِم مُخْتَلفَة وَلما كَانَت آثَار كل كَوْكَب وَاجِبَة الِاخْتِلَاف بِسَبَب اخْتِلَاف البروج لزم الْقطع بِكَوْن البروج مُخْتَلفَة فِي الطبيعة والماهية وَهَذَا يَقْتَضِي كَون الْفلك مركبا لَا بسيطا وَقد قُلْتُمْ أَنْتُم وَجَمِيع الفلاسفة أَن الْفلك بسيط لَا تركيب فِيهِ وَمن الْعجب جَوَاب بعض الأحكاميين عَن هَذَا بَان الْكَوَاكِب حيوانات ناطقة فاعلة بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَار فَلذَلِك تصدر عَنْهَا الْأَفْعَال الْمُخْتَلفَة وَهَذَا مُكَابَرَة من هَؤُلَاءِ ظَاهِرَة فان دَلَائِل التسخير والاضطرار عَلَيْهَا من لُزُومهَا حَرَكَة لَا سَبِيل لَهَا إِلَيّ الْخُرُوج عَنْهَا ولزومها موضعا من الْفلك لَا تتمكن من الِانْتِقَال عَنهُ واطراد سَيرهَا على وَجه مَخْصُوص لَا تُفَارِقهُ الْبَتَّةَ أبين دَلِيل على أَنَّهَا مسخرة مقهورة على حركاتها محركة بتحريك قاهر لَا متحركة بإرادتها واختيارها كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين} ثمَّ يُقَال لَا ينفعكم هَذَا الْجَواب شَيْئا فان طبائع البروج أَن كَانَت مُتَسَاوِيَة فِي تَمام الْمَاهِيّة كَانَ اخْتِصَاص كل برج بأثره الْخَاص تَرْجِيحا لأحد طرفِي الْمُمكن على الآخر بِلَا مُرَجّح وان لم تكن مُتَسَاوِيَة لزم تركيب الْفلك وَمِمَّا أضحكتم بِهِ الْعُقَلَاء مِنْكُم أَنكُمْ جعلتموها أجساما ناطقة فاعلة بِالِاخْتِيَارِ ونفيتم أَن يكون فاطرها ومبدعها حَيا قيوما فَاعِلا بِالِاخْتِيَارِ وَهَذِه الْحَوَادِث مستندة إِلَيّ مَشِيئَته واختياره جَارِيَة على وفْق حكمته وَعلمه مَعَ كَون هَذِه الْكَوَاكِب عبيده وَخلق مسخر بأَمْره وَلَا تملك لأنفسها وَلَا لما تحتهَا ضرا وَلَا نفعا وَلَا سَعْدا وَلَا نحسا كَمَا قَالَه الْعُقَلَاء من بني آدم واتفقت عَلَيْهِ الرُّسُل وأتباعهم فان قيل لَا نسلم أَن الْفلك بسيط بل هُوَ مركب من هَذِه
البروج وطبيعة كل برج مُخَالفَة لطبيعة البرج الآخر بل طبيعة كل دقيقة وثانية مُخَالفَة لطبيعة الدقيقة الْأُخْرَى وَالثَّانيَِة الْأُخْرَى وَلَا يتم علم الْأَحْكَام إِلَّا بِهَذَا قيل قَوْلكُم بِأَنَّهُ قديم أبدى غير قَابل للكون وَالْفساد وَلَا يقبل الانحلال وَلَا الْخرق وَلَا الالتئام مَعَ كَون طبيعة كل جُزْء مِنْهُ صَغِيرا أَو كَبِيرا مُخَالفَة لطبيعة الْجُزْء الآخر كَمَا صرح بِهِ أَبُو معشر جمع بَين النقيضين فانه إِذا كَانَ مركبا من أَجزَاء مُخْتَلفَة الْمَاهِيّة لم يمْتَنع انحلاله وانفطاره وانشقاقه فَكيف جمعتم بَين تَكْذِيب الرُّسُل فِي الْأَخْبَار عَن انْقِطَاعه وانشقاقه وانحلاله وَبَين دعواكم تركبه من ماهيات مُخْتَلفَة فِي نَفسهَا غير مُمْتَنع على الْمركب مِنْهَا الانحلال لَهُ والانفطار فَلَا للرسل صَدقْتُمْ وَلَا مَعَ وجوب الْعقل وقفتم بل أَنْتُم من أهل هَذِه الْآيَة {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} فان قيل لم لَا يجوز أَن يُقَال أَن كل برج من البروج الاثنى عشر قد ارتسمت فِيهِ كواكب صَغِيرَة بلغت فِي الصغر إِلَيّ حَيْثُ لَا يمكننا أَن نحس بهَا ثمَّ أَن الْكَوَاكِب إِذا وَقع فِي مسامتة برج خَاص امتزج نور ذَلِك الْكَوْكَب بأنوار تِلْكَ الْكَوَاكِب الصغار المرتسمة فِي تِلْكَ الْقطعَة فِي الْفلك فَيحصل بِهَذَا السَّبَب آثَار مَخْصُوصَة وَإِذا كَانَ هَذَا مُحْتملا وَلم يبطل بِالدَّلِيلِ ثُبُوته تعين الْمصير إِلَيْهِ قيل طبائع تِلْكَ الْكَوَاكِب أَن كَانَت مُخْتَلفَة بالماهية عَاد الْمَحْذُور الْمَذْكُور وان كَانَت وَاحِدَة لم يكن ذَلِك الامتزاج متشابها فَلَا يتَصَوَّر صور الْآثَار المتضادة الْمُخْتَلفَة عَنهُ
الْوَجْه الثَّانِي فِي الْكَلَام على بطلَان علم الْأَحْكَام أَن معرفَة جَمِيع المؤثرات الفلكية ممتنعة وَإِذا كَانَ كَذَلِك امْتنع الِاسْتِدْلَال بالأحوال الفلكية على حُدُوث الْحَوَادِث السفلية وانما قُلْنَا أَن معرفَة جَمِيع المؤثرات الفلكية ممتنعة لوجوه أَحدهَا أَنه لَا سَبِيل إِلَيّ معرفَة الْكَوَاكِب إِلَّا بِوَاسِطَة القوى الباصرة والمرئي إِذا كَانَ صَغِيرا أَو فِي غَايَة الْبعد من الرَّائِي فانه يتَعَذَّر رُؤْيَته لذَلِك فان أَصْغَر الْكَوَاكِب الَّتِي فِي فلك الثوابت وَهُوَ الَّذِي تمتحن بِهِ قُوَّة الْبَصَر مثل كرة الأَرْض بضعَة عشر مرّة وكرة الأَرْض اعظم من كرة عُطَارِد كَذَا مرّة فَلَو قَدرنَا أَنه حصل فِي الْفلك الْأَعْظَم كواكب كَثِيرَة يكون حجم كل وَاحِد مِنْهَا مُسَاوِيا لحجم عُطَارِد فانه لَا شكّ أَن الْبَصَر لَا يقوى على إِدْرَاكه فَيثبت أَنه لَا يلْزم من عدم إبصارنا شَيْئا من الْكَوَاكِب فِي الْفلك الْأَعْظَم عدم تِلْكَ الْكَوَاكِب وَإِذا كَانَ كَذَلِك فاحتمال أَن فِي الْفلك الْأَعْظَم وَفِي فلك الثوابت وَفِي سَائِر الأفلاك كواكب صَغِيرَة وان كُنَّا لَا نحس بهَا وَلَا نرَاهَا يُوجب امْتنَاع معرفَة جَمِيع المؤثرات الفلكية فان قُلْتُمْ أَنَّهَا لما كَانَت صَغِيرَة وآثارها ضَعِيفَة لم تصل آثارها وقواها إِلَيّ هَذَا الْعَالم قيل لكم صغر الْجنَّة لَا يُوجب ضعف الْأَثر فان عُطَارِد أَصْغَر الأجرام الفلكية جرما عنْدكُمْ مَعَ أَن آثاره قَوِيَّة وَأَيْضًا فالرأس والذنب نقطتان وهميتان واما أَنْتُم فقد أثبتم لَهما آثارا وَأَيْضًا السِّهَام مثل سهم السَّعَادَة وَسَهْم الْغَيْب نقط
وهمية وَلها عنْدكُمْ آثَار قَوِيَّة
الْوَجْه الثَّانِي مِمَّا يدل على أَن معرفَة جَمِيع المؤثرات الفلكية غير مَعْلُوم أَن الْكَوَاكِب المرئية غير مرصودة بأسرها فأنكم أَنْتُم وغيركم قد قُلْتُمْ أَن المجرة عبارَة عَن أجرام كوكبية صَغِيرَة جدا مرتكزة فِي فلك الثوابت على هَذَا السمت الْمَخْصُوص وَلَا ريب أَن الْوُقُوف على طبائعها متعذرة وَثَالِثهَا أَن جَمِيع الْكَوَاكِب الثَّابِتَة المحسوسة لم يحصل الْوُقُوف التَّام على طبائعها لِأَن كَلَام الأحكاميين قيل الْحَاصِل لَا سِيمَا فِي طبائع الثوابت نعم غَايَة مَا عِنْدهم أَنهم ادعوا أَنهم كشفوا بعض الثوابت الَّتِي فِي الْفلك الأول وَالثَّانِي فَأَما الْبَقِيَّة فقلما تكلمُوا فِي معرفَة طبائعها وَرَابِعهَا أَن بِتَقْدِير أَنهم عرفُوا طبائع هَذِه الْكَوَاكِب حَال بساطتها لَكِن لَا شُبْهَة أَنه لَا يُمكن الْوُقُوف على طبائعها حَال امتزاج بَعْضهَا بِالْبَعْضِ لِأَن الامتزاجات الْحَاصِلَة من طبائع ألف كَوْكَب أَو أَكثر بِحَسب الْأَجْزَاء الفلكية يبلغ فِي الْكَثْرَة إِلَيّ حَيْثُ لَا يقدر الْعقل على ضَبطهَا وخامسها آلَات الرصد لَا تفي بضبط الثواني والثوالث وَلَا شكّ أَن الثَّانِيَة الْوَاحِدَة مثل الأَرْض كَذَا كَذَا ألف مرّة أَو أقل أَو أَكثر وَمَعَ هَذَا التَّفَاوُت الْعَظِيم كَيفَ يُمكن الْوُصُول إِلَيّ الْغَرَض حَيْثُ قيل أَن الْإِنْسَان الشَّديد الجري بَين رَفعه رجله وَوَضعه الْأُخْرَى يَتَحَرَّك جرم الْفلك الْأَقْصَى ثَلَاثَة آلَاف ميل وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَكيف ضبط هَذِه المؤثرات وسادسها هَب أَنا عرفنَا تِلْكَ الامتزاجات الْحَاصِلَة فِي ذَلِك الْوَقْت فَلَا ريب أَنه لَا يمكننا معرفَة الامتزاجات الَّتِي كَانَت حَاصِلَة قبله مَعَ أَنا نعلم قطعا أَن الأشكال السالفة رُبمَا كَانَت عائقة ومانعة عَن مقتضيات الأشكال الْحَاصِلَة فِي الْحَال وَلَا ريب أَنا نشاهد أشخاصا كَثِيرَة من النَّبَات وَالْحَيَوَان وَالْإِنْسَان مُقَارنَة لطالع وَاحِد مَعَ أَن كل وَاحِد مِنْهَا مُخَالف للْآخر فِي أَكثر الْأُمُور وَذَلِكَ أَن الْأَحْوَال السالفة فِي حق كل تكون مُخَالفَة للأحوال السالفة فِي حق الآخر وَذَلِكَ يدل أَنه لَا اعْتِمَاد على مُقْتَضى الْوَقْت بل لَا بُد من الْإِحَاطَة بالطوالع السالفة وَذَلِكَ مِمَّا لَا وقُوف عَلَيْهِ أصلا فانه رُبمَا كَانَت الطوالع السالفة دافعة مقتضيات هَذَا الطالع الْحَاضِر وعَلى هَذَا الْوَجْه عول ابْن سينا فِي كِتَابيه اللَّذين سماهما الشفا والنجاه فِي إبِْطَال هَذَا الْعلم فَثَبت بِهَذَا أَن الْوُقُوف التَّام على المؤثرات جَمِيعهَا مُمْتَنع مُسْتَحِيل وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَانَ الِاسْتِدْلَال بالأشخاص الفلكية على الْأَحْوَال السفلية بَاطِلا قطعا الْوَجْه الثَّالِث أَن تَأْثِير الْكَوَاكِب فِيمَا ذكرْتُمْ من السعد والنحس أما بِالنّظرِ فِي مفرده واما بِالنّظرِ إِلَيّ انضمامه إِلَى غَيره فَمَتَى لم يحط المنجم بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ لم يَصح مِنْهُ أَن يحكم لَهُ بتأثير وَلم يحصل إِلَّا على تعَارض التَّقْدِير وَمن الْمَعْلُوم أَن فِي فلك البروج كواكب شذت عَن الرصد معرفَة أقدراها وأعدادها وَلم يعرف الأحكاميون مَا يُوجِبهُ خَواص مجموعاتها وأفرادها فَخرج الْفَرِيقَانِ
أَصْحَاب الرصد وَالْأَحْكَام عَن الْإِحَاطَة بِمَا فِي طباعها وَمَا عَسى أَن تؤثره مَعَ السيارة عِنْد انفرادها واجتماعها فَمَا الَّذِي يؤمنكم كلكُمْ عِنْد وُقُوع نجم من تِلْكَ النُّجُوم المجهولة على دَرَجَة الطالع أَن يكون مُوجبا من الحكم مَا لَا يُوجِبهُ النّظر بِدُونِهِ
الْوَجْه الرَّابِع أَن تَأْثِير الْكَوَاكِب يخْتَلف باخْتلَاف أقدارها فَمَا كَانَ من الْقدر الأول أثر بِوُقُوعِهِ على الدرجَة وان لم تضبط الدقيقة وَمَا كَانَ من الْقدر الْأَخير لم يُؤثر إِلَّا بضبط الدقيقة وَلَا ريب أَن الْجَهَالَة بِتِلْكَ الْكَوَاكِب ومقاديرها يُوجب كذب الْأَحْكَام النجومية وبطلانها
الْوَجْه الْخَامِس أَنَّهَا لَو كَانَ لَهَا تَأْثِير كَمَا يَزْعمُونَ لم يخل أما أَن تكون فِيهِ مختارة مريدة أَو غير مختارة وَلَا مريدة وَكِلَاهُمَا محَال أما الأول فُلَانُهُ يُوجب جرى الْأَحْكَام على وفْق اخْتِيَارهَا وارادتها وَلم يتَوَقَّف على اتصالاتها وانفصالاتها ومفارقتها ومقارنتها وهبوطها بهَا فِي حضيضها وارتفاعها فِي أوجها كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف من الْفَاعِل بِالِاخْتِيَارِ وَلَا سِيمَا الأجرام العلوية المؤثرة فِي سَائِر السفليات ولاختلفت آثارها أَيْضا عِنْد هَذِه الْأُمُور بِحَسب الدَّوَاعِي والارادات ولامكنها أَن تسعد من أَرَادَ أَنه ينحسه وتنحس من أَرَادَ أَنه يسعده كَمَا هُوَ شَأْن الْفَاعِل الْمُخْتَار وان لم تكن مختارة ومريده فتأثيرها بِحَسب الذَّات والطبع وَمَا كَانَ هَكَذَا لم يخْتَلف أَثَره إِلَّا باخْتلَاف القوابل والمعدات وعندكم أَن فِي اخْتِلَاف تِلْكَ القوابل والمعدات مُسْتَند إِلَى تأثيرها فَأَي محَال أبلغ من هَذَا وَهل هَذَا إِلَّا دور مُمْتَنع فِي بداية الْعُقُول
الْوَجْه السَّادِس أَن هَذَا الْعلم مُشْتَمل على أصُول يشْهد صَرِيح الْعقل بفسادها وَهِي وان كَانَت فِي الْكَثْرَة إِلَيّ حَيْثُ لَا يُمكن ذكرهَا فَنحْن نعد بَعْضهَا فَالْأول من الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنه لَيْسَ فِي السَّمَاء حمل وَلَا ثَوْر وَلَا حَيَّة وَلَا عقرب وَلَا كلب وَلَا ثَعْلَب إِلَّا أَن الْمُتَقَدِّمين لما قسموا الفك إِلَيّ أثني عشر قسما أَرَادوا أَن يميزوا كل قسم مِنْهَا بعلامة مَخْصُوصَة شبهوا الْكَوَاكِب الْمَذْكُورَة فِي تِلْكَ الْقطعَة الْمعينَة بِصُورَة حَيَوَان مَخْصُوص تَشْبِيها بَعيدا جدا ثمَّ أَن هَؤُلَاءِ الاحكاميين فرعوا على هَذِه الْأَسْمَاء تفريعات طَوِيلَة فرعوا أَن الصُّور السفلية مطيعة للصور العلوية فالعقارب مطيعة لصور الْعَقْرَب والأفاعي مطيعة لصور التنين وَكَذَا القَوْل فِي الْأسد والسنبلة وَمن عرف كَيفَ وضعت هَذِه الْأَسْمَاء ثمَّ سمع قَول هَؤُلَاءِ الأحكاميين ضحك مِنْهُم وَتبين لَهُ فرط جهلهم وكذبهم
الثَّانِي أَن هَؤُلَاءِ لما عجزوا عَن معرفَة طالع الْقُرْآن أَقَامُوا طالع السّنة مقَام الْقُرْآن وَمَعْلُوم أَن هَذَا فِي غَايَة الْفساد
الثَّالِث أَنهم اخْتلفُوا اخْتِلَافا شَدِيدا فِي الْوَاحِدَة من مسَائِل هَذَا الْعلم فان أَقْوَالهم فِي حُدُود الْكَوَاكِب كَثِيرَة مُخْتَلفَة وَلَيْسَ مَعَ أحد مِنْهُم شُبْهَة وَلَا خيال فضلا عَن حجَّة واستدلال ثمَّ أَن كثيرا مِنْهُم من غير حجَّة وَلَا دَلِيل رُبمَا أخذُوا وَاحِدًا من تِلْكَ الْأَقْوَال من غير بَصِيرَة بل بِمُجَرَّد التشهي مثل
أَخذهم فِي ذَلِك بحدود الضربين وَذَلِكَ من أدل الدَّلَائِل على فَسَاد هَذَا الْعلم الرَّابِع أَن أَقْوَالهم متناقضة فان مِنْهُم من يَقُول كَون زحل فِي بَيت المَال دَلِيل الْفقر وَمِنْهُم من يَقُول يدل على وجدان كنز
الْخَامِس أَن هَذَا الْعلم مَعَ أَنه تَقْلِيد مَحْض فَلَيْسَ أَيْضا تقليدا منتظما لِأَن لكل قوم فِيهِ مذهبا وَلكُل طَائِفَة فِيهِ مقَالَة فللبابليين فِيهِ مَذْهَب وللفرس مَذْهَب آخر وللهند مَذْهَب وللصين مَذْهَب رَابِع والأقوال إِذا تَعَارَضَت وَتعذر التَّرْجِيح كَانَ دَلِيلا على فَسَادهَا وبطلانها وَسَيَأْتِي أَن شَاءَ الله بسط هَذِه الْوُجُوه أَكثر من هَذَا
الْوَجْه السَّابِع مِمَّا يدل على بطلَان القَوْل بِالْأَحْكَامِ أَن الطالع عِنْدهم هُوَ الشكل الْخُصُوص الْحَاصِل للفلك عِنْد انْفِصَال الْوَلَد من رحم أمه وَإِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول الِاسْتِدْلَال بِحُصُول ذَلِك الشكل على جَمِيع الْأَحْوَال الْكُلية الَّتِي تحصل لهَذَا الْوَلَد إِلَيّ آخر عمره اسْتِدْلَال بَاطِل قطعا وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه:
أَحدهَا أَن ذَلِك الشكل كَمَا حدث فِي تِلْكَ اللحظة فانه يفنى وَيَزُول وَيحدث شكل آخر فَذَلِك الشكل الْمعِين معد فِي جَمِيع أَجزَاء عمر هَذَا الْإِنْسَان والمعدوم لَا يكون عِلّة للموجود وَلَا جُزْء من أَجزَاء الْعلَّة وَإِذا كَانَ كَذَلِك امْتنع الِاسْتِدْلَال بذلك الشكل مِنْهُمَا على الْأَحْوَال الَّتِي تحدث فِي جَمِيع أَجزَاء الْعُمر
الثَّانِي أَنه لَا مشابهة بَين ذَلِك الشكل الْمَخْصُوص وَبَين هَذَا الْإِنْسَان الَّذِي انْفَصل من بطن الْأُم إِلَّا فِي أَمر وَاحِد وَهُوَ أَن كل وَاحِد ظهر بعد الخفاء وَهُوَ بِمُجَرَّد ذَلِك لَا يُوجب ارتباط ذَلِك الشكل الْمَخْصُوص للفلك بِسَائِر أَحْوَال هَذَا الْإِنْسَان الْبَتَّةَ فمدعى ذَلِك فَاسد الْعقل
وَالنَّظَر الثَّالِث أَنه عِنْد حُدُوث ذَلِك الطالع حدثت أَنْوَاع من الْحَيَوَانَات وأنواع من النَّبَات وأنواع من الجمادات فَلَو كَانَ ذَلِك يُوجب آثارا مَخْصُوصَة لوَجَبَ اشْتِرَاك كل الْأَشْيَاء الَّتِي حدثت فِي عالمنا هَذَا فِي ذَلِك الْوَقْت فِي تِلْكَ الْآثَار وَحَيْثُ لم يكن الْأَمر كَذَلِك علمنَا أَن القَوْل بتأثير الطالع بَاطِل الرَّابِع هَب أَن الطالع لَهُ أثر إِلَّا أَن الْوَاجِب أَن يُقَال الطالع الْمُعْتَبر هُوَ طالع مسْقط النُّطْفَة لَا طالع الْولادَة وَذَلِكَ لِأَن عِنْد مسْقط النُّطْفَة يَأْخُذ ذَلِك الشَّخْص فِي التكون والتولد فَأَما عِنْد الْولادَة فالشخص قد تمّ تكونه وحدوثه وَلَا حَادث فِي هَذَا الْوَقْت إِلَّا انْتِقَاله من مَكَان إِلَيّ مَكَان آخر فَثَبت أَنه لَو كَانَ للطالع اعْتِبَار لوَجَبَ أَن يكون الْمُعْتَبر هُوَ طالع مسْقط النُّطْفَة لَا طالع الْولادَة الْوَجْه الثَّامِن أَن الأرصاد لَا تنفك عَن نوع الْخلَل والزلل وَقد صنف أَبُو عَليّ ابْن الْهَيْثَم رِسَالَة بليغة فِي أَقسَام الْخلَل الْوَاقِع فِي آلَات الرصد وَبَين أَن ذَلِك الْخلَل لَيْسَ فِي وسع الْإِنْسَان دَفعه وازالته وَإِذا عرف هَذَا فَنَقُول إِذا بعد الْعَهْد بتجديد الرصد اجْتمعت تِلْكَ المسامحات القليلة وَيحصل بِسَبَبِهَا تفَاوت عَظِيم فِي مَوَاضِع الْكَوَاكِب وَكَذَلِكَ إِذا وجد مَوضِع الْكَوَاكِب
بِحَسب بعض الزيجات دَرَجَة مُعينَة حِين وجد بِحَسب زيج آخر غير تِلْكَ الدرجَة رُبمَا حصل التَّفَاوُت بالبرج وَلما كَانَ علم الْأَحْكَام مُبينًا على مَوَاضِع الْكَوَاكِب ومناسبتها ثمَّ قد تبين أَن التَّفَاوُت الْكَبِير وَقع فِي قطع الْكَوَاكِب علم بطلَان هَذَا الْعلم وفساده
الْوَجْه التَّاسِع أَن الْمَعْقُول من تَأْثِير هَذِه الْكَوَاكِب فِي الْعَالم السفلي هُوَ أَنَّهَا بِحَسب مساقط شعاعاتها تسخن هَذَا الْعَالم أنواعا من السخونة فَأَما تأثيراتها فِي حُصُول الْأَحْوَال النفسانية من الذكاء والبلادة والسعادة والشقاوة وَحسن الْخلق وقبحه والغنى والفقر والهم وَالسُّرُور واللذة والألم فَلَو كَانَ مَعْلُوما لَكَانَ طَرِيق علمه أما بالْخبر الَّذِي لَا يجوز عَلَيْهِ الْكَذِب أَو الْحس الَّذِي يشْتَرك فِيهِ النَّاس أَو ضَرُورَة الْعقل أَو نظره وَشَيْء من هَذَا كُله غير مَوْجُود الْبَتَّةَ فَالْقَوْل بِهِ بَاطِل وَلَا يُمكن للآحكاميين أَن يدعوا وَاحِدًا من الثَّلَاثَة الأول وغايتهم أَن يدعوا أَن النّظر والتجربة قادهم إِلَيّ ذَلِك وأوقعهم عَلَيْهِ وَنحن نبين فَسَاد هَذَا النّظر والتجربة بِمَا لَا يُمكن دَفعه من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا وَنَذْكُر غَيرهَا مِمَّا هُوَ مثلهَا وَأقوى مِنْهَا وكل علم صَحِيح فَلهُ براهين يسْتَند إِلَيْهَا تنتهى إِلَيّ الْحس أَو ضَرُورَة الْعقل وَأما هَذَا الْعلم فَلَا ينتهى إِلَّا إِلَى جحد وتخمين وظنون لَا تغنى من الْحق شَيْئا وَغَايَة أَهله تَقْلِيد من لم يقم دَلِيل على صدقه
الْوَجْه الْعَاشِر أَنا إِذا فَرضنَا أَن رجلَيْنِ سَأَلَا منجمين فِي وَقت وَاحِد فِي بلد وَاحِد عَن خصمين أَيهمَا الظافر بِصَاحِبِهِ فههنا يكون الطالع مُشْتَركا بَين كل وَاحِد من ذَيْنك الْخَصْمَيْنِ فان دلّ ذَلِك الطالع على حَال الْغَالِب والمغلوب مَعَ كَونه مُشْتَركا بَين الْخَصْمَيْنِ لزم كَون كل مِنْهُمَا غَالِبا لخصمه ومغلوبا من جَانِبه وَذَلِكَ محَال فان قَالُوا بَين حَال كل وَاحِد مِنْهُمَا اخْتِلَاف بِسَبَب طالع الأَصْل أَو طالع التَّحْوِيل أَو برج الِانْتِهَاء قُلْنَا هَذَا تَسْلِيم لقَوْل من يَقُول أَن طالع الْوَقْت لَا يدل على شَيْء أصلا بل لَا بُد من رِعَايَة الْأَحْوَال الْمَاضِيَة لَكِن الْأَحْوَال الْمَاضِيَة كَثِيرَة غير مضبوطة فتوقف دلَالَة طالع الْوَقْت على تِلْكَ الْأَحْوَال الْمَاضِيَة يَقْتَضِي التَّوَقُّف على شَرَائِط لَا يُمكن اعْتِبَارهَا الْبَتَّةَ وَقد ساعد أَصْحَاب الْأَحْكَام على الِاعْتِرَاف بِأَن الِاعْتِمَاد على طالع الْوَقْت غير مُفِيد بل لَا يتم الْأَمر إِلَّا عِنْد معرفَة طالع الأَصْل فطالع التَّحْوِيل وبرج الِانْتِهَاء وَمَعْرِفَة التيسيرات فَعِنْدَ اعْتِبَار جملَة هَذِه الْأُمُور يتم الِاسْتِدْلَال وَمَعَ اعْتِبَار جُمْلَتهَا وتحريرها بِحَيْثُ يُؤمن الْغَلَط فِيهَا يكون الِاسْتِدْلَال على سَبِيل الظَّن لَا على سَبِيل الْقطع الْوَجْه الْحَادِي عشر أَنا لَو فَرضنَا جادة مسلوكة وطريقا يمشي فِيهِ النَّاس لَيْلًا وَنَهَارًا ثمَّ حصل فِي تِلْكَ الجادة آثَار مُتَقَارِبَة بِحَيْثُ لَا يقدر سالك ذَلِك الطَّرِيق على سلوكه إِلَّا بتأمل كثير وتفكر شَدِيد حَتَّى يتَخَلَّص من الْوُقُوع فِي تِلْكَ الْآثَار فان من الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن سَلامَة من يمشي فِي هَذِه الطَّرِيق من العميان لَا يكون كسلامة من يمشي من البصراء بل وَلَا بُد أَن يكون عطب العميان فِي
ذَلِك الطَّرِيق كثيرا جدا وَأَن يكون سَلامَة البصراء غالبة جدا إِذا عرفت هَذَا فَنَقُول مِثَال العميان عِنْد الأحكاميين الَّذِي لَا يعْرفُونَ أَحْكَام النُّجُوم وهم الْأَكْثَرُونَ من الْخَلَائق وَمِثَال البصراء عِنْدهم هم أهل هَذَا الْعَمَل وهم الأقلون وَمِثَال الطَّرِيق الَّذِي حصلت فِيهِ الْآثَار العميقة الْمهْلكَة الزَّمَان الَّذِي يمضى على الْخلق أَجْمَعِينَ وَمِثَال تِلْكَ الْآثَار المصائب الزمانية والمحن والبلايا فَلَو كَانَ هَذَا الْعلم صَحِيحا لوَجَبَ أَن يكون فوز المنجمين بالغني والسلامة وَالنعَم أتم فوز وسلامتهم فَوق كل سَلامَة وَمَعْلُوم أَن الْأَمر بِالْعَكْسِ وَالْغَالِب كَون المنجمين بالغنى والسلامة وَالنعَم أتم فوز وسلامتهم فَوق كل سَلامَة وَمَعْلُوم أَن الامر بِالْعَكْسِ وَالْغَالِب كَون المنجمين وَمن سمع مِنْهُم وَعمل بقَوْلهمْ فِي الأدبار والنحس والحرمان وَالْوَاقِع أبين شَاهد بذلك وَلَو ذَهَبْنَا نذْكر الوقائع الَّتِي شوهدت من ذَلِك واشتملت عَلَيْهَا التواريخ لزادت على أُلُوف عديدة فَلَا نجد أحدا راعي هَذَا الْعلم وتقيد بِهِ فِي حركاته واختياراته إِلَّا وَكَانَت عاقبته قَرِيبا إِلَيّ ادبار ونكاية وبلايا لَا يصاب بهَا سواهُ وَمن كثر خبْرَة بأحوال النَّاس فانه يعرف من ذَلِك مَالا يعرف غَيره
الْوَجْه الثَّانِي عشر انا نشاهد عَالما كثيرا يقتلُون فِي سَاعَة وَاحِدَة فِي حَرْب وخلقا يغرقون فِي سَاعَة وَاحِدَة مَعَ الْقطع باخْتلَاف طوالعهم واقتضائها عنْدكُمْ احوالا مُخْتَلفَة وَلَو كَانَ للطوالع تَأْثِير فِي هَذَا لامتنع عِنْد اختلافها الِاشْتِرَاك فِي ذَلِك وَلَا ينفعكم جَوَاب من انتصر لكم بَان الطوالع قد يكون بَعْضهَا أقوى من بعض وَلَعَلَّ طالع الْوَقْت أقوى من طالع الأَصْل وَكَانَ الحكم لَهُ فان طالع الْوَقْت لَعَلَّه اقْتضى هَلَاكًا أَو غرقا عَاما وَهُوَ أقوى من طالع الأَصْل فَكَانَ التَّأْثِير لَهُ لانا نقُول هَذَا بِعَيْنِه يبطل عَلَيْكُم طالع الْمَوْلُود وَالْأَصْل ويحيل القَوْل بتأثيره واعتباره جملَة فان الطوالع بعده مُخْتَلفَة كَثِيرَة وَاصل بَعْضهَا أَو اكثرها أقوى مِنْهُ فَيكون الحكم بِمُوجبِه بَاطِلا أذلا أَمَان لكم من اقْتِضَاء الطوالع بعده ضد مَا اقْتَضَاهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُفِيد اعْتِبَاره شَيْئا
الْوَجْه الثَّالِث عشر انا نرى الجيشين العظيمين والحزبين المتقابلين يقتتلان ويختصمان وَقد اخذ طالع الْوَقْت لكل مِنْهُمَا وَمَعَ هَذَا فالمنصور وَالْغَالِب أَحدهمَا مَعَ أَن الطالع وَاحِد وَلَا ينفعكم فِي هَذَا جَوَاب من انتصر لكم بِأَنَّهُ لَا مَانع من القَوْل بخطأ الْأَخْذ للطالع فِي الْحساب وَالْحكم فانه لَو اخذ لَهما أَي طالع كَانَ لم يكن الْغَالِب إِلَّا أَحدهمَا حَتَّى لَو كَانَ الطالع قطعا لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْغَلَط لم يكن بُد من كَون أَحدهمَا غَالِبا والأخر مَغْلُوبًا وَهَذَا يبطل مَذْهَب الْأَحْكَام بِلَا ريب
الْوَجْه الرَّابِع عشر أَن الْأَجْزَاء المفترضة فِي الْفلك أما أَن تكون متشابهة فِي الطبيعة والماهية أَو مُخْتَلفَة فِيهَا فان كَانَت مُتَسَاوِيَة كَانَ الْجُزْء الَّذِي هُوَ الطالع مُسَاوِيا لسَائِر الْأَجْزَاء وَحكم سَائِر الْأَجْزَاء وَاحِد وَأَن كَانَت الْأَجْزَاء مُخْتَلفَة فِي الْمَاهِيّة والطبيعة فَلَا ريب أَن الْفلك جرمه فِي غَايَة الْعظم حَتَّى قَالُوا أَن الرجل الشَّديد الْعَدو إِذا رفع رجله ووضعها يكن الفولمك قد تحرّك ثَلَاثَة آلَاف ميل وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن الْوَقْت
الَّذِي ينْفَصل الْوَلَد من بطن أمه إِلَيّ أَن يَأْخُذ المنجم الاسطرلاب وَيَأْخُذ الِارْتفَاع يكون الْفلك قد تحرّك مثل كل الأَرْض وَكَذَا الف مرّة وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فالجزء الَّذِي يَأْخُذهُ المنجم بالاسطرلاب لَيْسَ الْجُزْء الطالع فِي الْحَقِيقَة وَإِذا كَانَت الْأَجْزَاء الفلكية مُخْتَلفَة فِي الطبيعة والماهية علمنَا أَن اخذ الطوالع محَال وَقد اعْترف فضلاؤكم بِهَذَا وَقَالُوا أَن الْأَمر وَأَن كَانَ كَذَلِك إِلَّا أَن التجربة قد دلّت على أَن هَذَا الطالع الَّذِي تعذر على الْإِنْسَان تَحْصِيله يدل على كثير من مُقَدّمَة الْمعرفَة مَعَ مَا فِيهِ من الْخلَل الْكثير الَّذِي ذكرْتُمْ فَوَجَبَ أَن لَا يهمل وَهَذَا خطأ بَين فان التجارب الَّتِي دلّت على كذب ذَلِك وبطلانه وووقوع الْأَمر بِخِلَافِهِ أَضْعَاف أَضْعَاف التجربة الَّتِي دلّت على صدقه كَمَا سنذكر قَطْرَة من بحره عَن قريب أَن شَاءَ الله وَلِهَذَا قَالَ أَبُو نصر الفارابي وَاعْلَم انك لَو قلبت أوضاع المنجمين فَجعلت الْحَار بَارِدًا والبارد حارا والسعد نحسا والنحس سَعْدا وَالذكر أُنْثَى وَالْأُنْثَى ذكرا ثمَّ حكمت لكَانَتْ أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تَارَة وتخطىء تارات وَهل مَعَهم إِلَّا الحدس والتخمين والظنون الكذابة وَلَقَد حكى أَن امْرَأَة أَتَت منجما فَأَعْطَتْهُ درهما فاخذ طالعها وَحكم وَقَالَ الطالع يخبر بِكَذَا فَقَالَت لم يكن شَيْء من ذَلِك ثمَّ اخذ الطالع وَقَالَ يخبر وبكذا فأنكرته حَتَّى قَالَ انه ليدل على قطع فِي بَيت المَال فَقَالَت الآنصدقت وَهُوَ الدِّرْهَم الَّذِي دفعت إِلَيْك
الْوَجْه الْخَامِس عشر أَن الْأَجْسَام لَا تنفعل من غَيرهَا إِلَّا بِوَاسِطَة المماسة وَهَذِه الْكَوَاكِب لامماسة لَهَا بأعضائنا وأبداننا وأرواحنا فَيمْتَنع كَونهَا فاعلة فِينَا أقْصَى مَا فِي الْبَاب أَن يُقَال أَنَّهَا وان لم تكن مماسة لأعضائنا إِلَّا أَن شعاعها يصل إِلَيّ أجسامنا فَيُقَال لَا ريب أَن تَأْثِير الشعاع إِنَّمَا يكون بالتسخين عِنْد المسامتة أَو بالتبريد عِنْد الانحراف عَن المسامته فَهَذَا بعد تَصْحِيحه يَقْتَضِي أَن لَا يكون لهَذِهِ الْكَوَاكِب تَأْثِير فِي هَذَا الْعَالم إِلَّا على سَبِيل التسخين والتبريد فَأَما أَن تُعْطى الْعُلُوم الْأَخْلَاق والمحبة والبغضاء والموالاة والمعاداة والعفة وَالْحريَّة والنذالة والخبث وَالْمَكْر والخديعة فَذَلِك خَارج عَن مَعْقُول الْعُقَلَاء وَهُوَ من حمقات الاحكاميين وجهالاتهم فان قيل التَّأْثِير بالتسخين والتبريد يُوجب اخْتِلَاف أمزجة الْأَبدَان وَاخْتِلَاف امزجة الْأَبدَان وَيُوجب اخْتِلَاف أَفعَال النَّفس قيل فَنحْن نرى التسخين يَقْتَضِي حرارة وحدة فِي المزاج يفعل بهَا هَذَا غَايَة الْخَيْر وَالْأَفْعَال الحميدة وَهَذَا غَايَة الشَّرّ وَالْأَفْعَال الخبيثة والشعاع قد سخن مركبها فَمَا الْمُوجب لانفعال نفسيهما عَن هَذَا التسخين هَذَا الانفعال المتباعد المتناقض وَأَيْضًا فَمَا الْمُوجب لاخْتِلَاف القوابل وتأثير الْكَوَاكِب فِيهَا بطبعه وتسخينه وتبريده فَكيف اخْتلفت القوابل هَذَا الِاخْتِلَاف الْعَظِيم وَهِي مستندة إِلَيّ تَأْثِير وَاحِد
الْوَجْه السَّادِس عشر أَن رجلا لَو جلس فِي دَار لَهَا بَابَانِ شَرْقي وَغَرْبِيٌّ فَسَأَلَ
المنجم وَقَالَ من أَيهمَا يَقْتَضِي الطالع خروجي فَإِذا قَالَ لَهُ المنجم من الشَّرْقِي أمكنه تَكْذِيبه وَالْخُرُوج من الغربي وَبِالْعَكْسِ وَكَذَلِكَ السّفر فِي يَوْم وَاحِد وَابْتِدَاء الْبناء وَغَيره فِي يَوْم يُعينهُ لَهُ المنجم وَيحكم باقتضاء الطالع لَهُ من غير تقدم عَنهُ وَلَا تَأَخّر فانه يُمكنهُ تَكْذِيبه فِي ذَلِك اجْمَعْ
فان قُلْتُمْ أَن المنجم إِذا اخبره بِمَا يَفْعَله ويختاره يصير ذَلِك دَاعيا لَهُ إِلَيّ أَن يُخَالِفهُ فِي قَوْله ويكذبه فالطريق إِلَيّ علم صدقه أَن يحكم ذَلِك المنجم على معِين ويكتبه فِي كتاب ويخفيه أَو يذكرهُ لإِنْسَان أخر ويخفيه عَن صَاحب الْوَاقِعَة فههنا يظْهر صدق المنجم
قلت هَذَا الْعذر من أسقط الْأَعْذَار لِأَن النُّجُوم لَو كَانَت كَمَا تَزْعُمُونَ دَالَّة على جَمِيع الكائنات الْوَاقِعَة فِي هَذَا الْعَالم لعرف المنجم ذَلِك الَّذِي يسْتَقرّ عَلَيْهِ اخْتِيَاره على كل حَال شَاءَ تَكْذِيبه أَو لم يشأه فَلَمَّا لم يكن الْأَمر كَذَلِك سقط القَوْل بِصِحَّة هَذَا الْعذر فان قيل الْأَشْخَاص الفلكية مؤثرات والسفلية قوابل وَيجوز أَن تخْتَلف الْأَحْوَال الصادرة عَن الْفَاعِل بِسَبَب اخْتِلَاف القوابل وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهَب أَن الدَّلَائِل الفلكية دلّت على أَنه إِنَّمَا يخْتَار الْخُرُوج من الْبَاب الْفُلَانِيّ لِأَن كَون الْإِنْسَان مشغوفا بتكذيب المنجم حَالَة حَاصِلَة فِي النَّفس مَانِعَة من ظُهُور ذَلِك الْأَثر الَّذِي تَقْتَضِيه الموجبات الفلكية فَلهَذَا الْأَمر لم يحصل الْأَمر على وفْق حكم المنجم
قيل إِذا اقْتَضَت الموجبات الفلكية أثرا امْتنع أَن يحصل فِي النَّفس مَا يضاده لِأَن تِلْكَ الْإِرَادَة والميول والعزوم الْوَاقِعَة فِي النَّفس هِيَ عنْدكُمْ من مُوجبَات الْآثَار الفلكية فَيمْتَنع أَن تكون مضادة لموجبها لَا سِيمَا والمنجم يحكم بِأَنَّهُ إِنَّمَا تَقْتَضِي النُّجُوم أَن يُرِيد الْإِنْسَان كَذَا وَكَذَا وَلَيْسَ حكمه أَن الطالع يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا إِلَّا أَن يُرِيد الْإِنْسَان خِلَافه هَذَا مَا لَا يَقُوله أحد مِنْكُم فَعلم بطلَان هَذَا الِاعْتِذَار الْوَجْه السَّابِع عشر أَنه لَا سَبِيل إِلَيّ معرفَة طبائع البروج وطبائع الْكَوَاكِب وامتزاجاتها إِلَّا بالتجربة وَأَقل مَا لَا بُد مِنْهُ فِي التجربة أَن يحصل ذَلِك الشَّيْء على حَالَة وَاحِدَة مرَّتَيْنِ إِلَّا أَن الْكَوَاكِب لَا يُمكن تَحْصِيل ذَلِك فِيهَا لِأَنَّهُ إِذا حصل كَوْكَب معِين فِي مَوضِع معِين فِي الْفلك وَكَانَت سَائِر الْكَوَاكِب مُتَّصِلَة بِهِ على وضع مَخْصُوص وشكل مَخْصُوص فان ذَلِك الْوَضع الْمعِين بِحَسب الدرجَة والدقيقة لَا يعود إِلَّا بعد أُلُوف من السنين وَعمر الْإِنْسَان الْوَاحِد لَا يَفِي بذلك بل عمل الْبشر لَا يَفِي بِهِ والتواريخ الَّتِي تضبط هَذِه الْمدَّة مِمَّا لَا يُمكن وصولها إِلَى الْإِنْسَان فَثَبت أَنه لَا سَبِيل إِلَيّ الْوُصُول إِلَيّ هَذِه الْأَحْوَال من جِهَة التجربة الْبَتَّةَ وَلَا ينفعكم اعتذار من اعتذر عَنْكُم بِأَنَّهُ لَا حَاجَة فِي التجربة إِلَيّ مَا ذكرْتُمْ لأَنا إِذا شاهدنا حَادِثا معينا فِي وَقت مَخْصُوص فَلَا شكّ أَنه قد تحصل فِي الْفلك اتصالات الْكَوَاكِب الْمُخْتَلفَة فِي ذَلِك الْوَقْت فَلَو قَدرنَا عود ذَلِك الْوَضع الفلكي بِتَمَامِهِ على تِلْكَ الْحَال ألف مرّة يعلم أَن الْمُؤثر فِي ذَلِك الْحَادِث هَل مَجْمُوع الاتصالات أَو اتِّصَال معِين مِنْهَا فَإِذا علمنَا
أَن ذَلِك الْوَضع بحملته فَاتَ وَمَا عَاد وَلكنه عَاد اتِّصَال وَاحِد من تِلْكَ الاتصالات وكما عَاد ذَلِك الِاتِّصَال الْمعِين فانه يعود ذَلِك الْأَثر بِعَيْنِه لَا لأجل سَائِر الاتصالات فَثَبت أَن الرُّجُوع فِي هَذَا الْبَاب إِلَيّ التجربة غير مُتَعَذر وَهَذَا الِاعْتِذَار فِي غَايَة الْفساد والمكابرة لِأَن تخلف ذَلِك الْأَثر عَن ذَلِك الِاتِّصَال الْعَائِد أَكثر من اقترانه بِهِ والتجربة شاهدة بذلك كَمَا قد اشْتهر بَين الْعُقَلَاء أَن المنجمين إِذا أَجمعُوا على شَيْء من الْأَحْكَام لم يكد يَقع وَنحن نذْكر طرفا من ذَلِك فَنَقُول فِي
الْوَجْه الثَّامِن عشر لما نظر حذاقكم وفضلاؤكم سنة سبع وَثَلَاثِينَ عَام صفّين من مخرج على رضي الله عنه من الْكُوفَة إِلَيّ محاربة أهل الشَّام اتَّفقُوا على أَنه يقتل ويقهر جَيْشه فَظهر كذبهمْ وانتصر جَيْشه على أهل الشَّام وَلم يقدروا على التَّخَلُّص مِنْهُم إِلَّا بالحيلة الَّتِي وضعوها من نشر الْمَصَاحِف على الرماح وَالدُّعَاء إِلَى مَا فِيهَا وَقد قيل أَن الِاتِّفَاق مِنْهُم إِنَّمَا كَانَ فِي حَرْب الْمُؤمنِينَ للخوارج فانهم اتَّفقُوا على أَنه من خرج فِي ذَلِك الطالع قتل وَهزمَ جَيْشه فان الْقَمَر كَانَ إِذا ذَاك فِي الْعَقْرَب فخالفهم عَليّ وَقَالَ بل نخرج ثِقَة بِاللَّه وتوكلا عَلَيْهِ وتكذيبا لقَوْل المنجم فَمَا غزا غزَاة بعد رَسُول الله أتم مِنْهَا قتل عدوه وأيده الله عَلَيْهِم بالنصر وَالظفر بهم وَرجع مؤيدا منصورا مأجورا والقصة مَعْرُوفَة فِي السّير والتواريخ وَكَذَلِكَ اتِّفَاق ملأكم فِي سنة سبع وَسِتِّينَ على غَلَبَة عبيد الله بن زِيَاد للمختار بن أبي عبيد وَأَنه لَا بُد أَن يقْتله أَو يأسره فَسَار إِلَيْهِ فِي نَحْو من ثَمَانِينَ ألف مقَاتل فَلَقِيَهُ إِبْرَاهِيم بن الأشتر صَاحب الْمُخْتَار بِأَرْض نَصِيبين وَهُوَ فِيمَا دون سَبْعَة آلَاف مقَاتل فَانْهَزَمَ أَصْحَاب ابْن زِيَاد بعد أَن قتل مِنْهُم خلق لَا يحصيهم أَلا الله حَتَّى أَنه قيل انهم قتل مِنْهُم ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ ألفا وَلم يقتل من أَصْحَاب ابْن الأشتر سوى عدد لَا يبلغون مائَة وَفِيهِمْ يَقُول الشَّاعِر:
برزوا نحوهم بسبعة آلا
…
ف أَن يهم عجائبا
فَتَعَشَّوْا مِنْهُم بسبعين ألفا
…
أَو يزِيدُونَ قبل وَقت الْعشَاء
فجزاك ابْن مَالك وَأَبا اسح
…
ق عَنَّا الْإِلَه خير جَزَاء
يُرِيد بِابْن مَالك إِبْرَاهِيم بن مَالك بن الأشتر وَأَبُو إِسْحَاق كنية الْمُخْتَار وَقتل ابْن الأشتر عبيد الله ابْن زِيَاد فِي المعركة وَلم يعلم بِهِ حَتَّى إِذا هَل اللَّيْل قَالَ لأَصْحَابه لقد ضربت على شاطئ هَذَا النَّهر رجلا فَرجع إِلَى سَيفي وَفِيه رَائِحَة الْمسك وَرَأَيْت إقداما وجرأة فصرعته فَذَهَبت رِجْلَاهُ قبل الْمشرق ويداه قبل الْمغرب فانظروه فَأتوهُ بالنيران فَإِذا هُوَ عبيد الله بن زِيَاد ذكر ذَلِك الْمبرد فِي الْكَامِل فَانْظُر حِكْمَة الله من انعكاس مَا قَالَ الْكَاذِبُونَ المنجمون وَقيل لما علم عبيد الله ابْن زِيَاد أَن أَمر الْقِتَال قد تيَسّر وَسَأَلَ منجمه عَن قُوَّة نجمه وَنجم ابْن الأشتر وَقَالَ وَالله أَنى لأعْلم أَنه لَيْسَ بِشَيْء إِلَّا أَنِّي كنت أَنا وَهُوَ صغيران أَن وَقعت بيني وَبَينه خُصُومَة بِسَبَب حمام
كُنَّا نلعب بِهِ فضربني إِلَى الأَرْض وَقعد على صَدْرِي وَقَالَ وَالله أَنِّي قَاتلك وَلَا يقتلك أحد غَيْرِي أَن شَاءَ الله وَأَنا من استثنائه بِالْمَشِيئَةِ خَائِف فَذهب بِهِ منجمه إِلَى مَا قدره المنجمون لَهُ من قُوَّة نجمه وَأَن هَذَا وهم مِنْهُ وَحكم النُّجُوم يقْضِي على وهمه فحقق الله سُبْحَانَهُ ذَلِك الْوَهم وأبطل حكم الطالع والنجم وَمن ذَلِك اتِّفَاقهم عِنْد مَا تمّ بِنَاء بَغْدَاد سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة أَن طالعها يقْضِي بِأَنَّهُ لَا يَمُوت فِيهَا خَليفَة وشاع ذَلِك حَتَّى هَنأ الشُّعَرَاء بِهِ الْمَنْصُور حَتَّى قَالَ بعض شعرائه:
يهنيك مِنْهَا بَلْدَة تقضي لنا
…
أَن الْمَمَات بهَا عَلَيْك حرَام
لما قَضَت أَحْكَام طالع وَقتهَا
…
أَن لَا يرى فِيهَا يَمُوت أَمَام
وأكد هَذَا الهذيان فِي نفوس الْعَوام موت الْمَنْصُور بطرِيق مَكَّة ثمَّ الْمهْدي بِمَا سبذان ثمَّ الْهَادِي بعسا باذ ثمَّ الرشيد بطوس فَلَمَّا قتل بهَا الْمَأْمُون الْأمين بشارع بَاب الأنبار انخرم الأَصْل الْبَاطِل الَّذِي أصلوه وَظهر الزُّور الَّذِي لفقوه حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْحق الأول فَقَالَ:
كذب المنجم فِي مقَالَته الَّتِي
…
نطقت بِهِ كذبا على بغدان
قتل الْأمين بهَا لعمري يَقْتَضِي
…
تكذيبهم فِي سَائِر الحسبان
ثمَّ مَاتَ بِبَغْدَاد جمَاعَة من الْخُلَفَاء مثل الواثق والمتوكل والمعتضد والمكتفي والناصر وَغير هَؤُلَاءِ وَمن ذَلِك اتِّفَاقهم فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين فِي قصَّة عمورية أَن المعتصم أَن خرج لفتحها كَانَت عَلَيْهِ الدائرة وَأَن النَّصْر لعَدوه فرزقه الله التَّوْفِيق فِي مخالفتهم فَفتح الله على يَدَيْهِ مَا كَانَ مغلقا وَأصْبح كذبهمْ وخرصهم بعد أَن كَانَ موهوما عِنْد الْعَامَّة محققا فَفتح عمورية وَمَا والاها من كل حصن وقلعة وَكَانَ ذَلِك من أعظم الفتوحات المعدودة وَفِي ذَلِك الْفَتْح قَامَ أَبُو تَمام الطَّائِي منشدا لَهُ على رُؤْس الأشهاد
السَّيْف أصدق أنباء من الْكتب
…
فِي حَده الْحَد بَين الْجد واللعب
وَالْعلم فِي شهب الأرماح لامعة
…
بَين الخميسين لَا فِي السَّبْعَة الشهب
أَيْن الرِّوَايَة أم أَيْن النُّجُوم وَمَا
…
صاغوه من زخرف مِنْهَا وَمن كذب
تخرصا وأحاديثا ملفقة
…
لَيست بنبع إِذا عدت وَلَا غرب
عجائبا زَعَمُوا الْأَيَّام تَجْعَلهُ
…
عَنْهُن فِي صفر الأصفار أَو رَجَب
وخوفوا النَّاس من دهياء مظْلمَة
…
إِذا بدا الْكَوْكَب الغربي ذُو الذَّنب
وصيروا الأبرج الْعليا مرتبَة مَا
…
كَانَ منقلبا أَو غير مُنْقَلب
يقضون بِالْأَمر عَنْهَا وَهِي غافلة
…
مَا دَار فِي فلك مِنْهَا وَفِي قطب
لَو ثبتَتْ قطّ أمرا قبل موقعه
…
لم يخف مَا حل بالأوثان والصلب
وَهِي نَحْو من سبعين بَيْتا أُجِيز على كل بَيت مِنْهَا بِأَلف دِرْهَم
وَمن ذَلِك اتِّفَاقهم سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ فِي قصَّة القرامطة على أَن المكتفى بِاللَّه أَن خرج لمقاتلتهم كَانَ هُوَ المغلوب الْمَلْزُوم وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد لقوا مِنْهُم على توالي الْأَيَّام شرا عَظِيما وخطبا جسيما فأنهم قتلوا النِّسَاء والأطفال واستباحوا الْحَرِيم وَالْأَمْوَال وهدموا الْمَسَاجِد وربطوا فِيهَا خيولهم ودوابهم وقصدوا وَفد الله وزوار بَيته فأوقعوا فيهم الْقَتْل الذريع وَالْفِعْل الشنيع واباحوا محارم الله وعطلوا شرائعه فعزم المكتفي على الْخُرُوج اليهم بِنَفسِهِ فَجمع وزيره الْقَاسِم بن عبيد الله من قدر عَلَيْهِ من المنجمين وَفِيهِمْ زعيمهم أَبُو الْحسن العاصمي وَكلهمْ أوجب عَلَيْهِ بِأَن يُشِير على الْخَلِيفَة أَن لَا يخرج فانه أَن خرج لم يرجع وبخروجه تَزُول دولته وبهذه تشهد النُّجُوم الَّتِي يقْضى بهَا طالع مولده وأخافوا الْوَزير من الْهَلَاك أَن خرج مَعَه وَقد كَانَ المكتفي أَمر الْوَزير بِالْخرُوجِ مَعَه فَلم يجد بدا من مُتَابَعَته فَخرج وَفِي قلبه مَا فِيهِ وَأقَام المكتفي بالرقة حَتَّى أَخذ أَعدَاء الله جَمِيعًا وسيقت جموعهم بكأس السَّيْف نجيعا ثمَّ جَاءَ الْخَبَر من مصر بِمَوْت خمارويه بن أَحْمد بن طولون وَكَانُوا بِهِ يستطيلون فَأرْسل المكتفي من تسلمها واستحضر القواد المصرية إِلَى حَضرته ثمَّ لما عَاد أَمر الْقَاسِم بن عبيد الله الْوَزير بإحضار رَئِيس المنجمين وصفعه الصفع الْكثير بعد أَن وَقفه ووبخه على عَظِيم كذبه وافترائه وتبرأ مِنْهُ وَمن كل من يَقُول بِرَأْيهِ
قَالَ أَبُو حَيَّان التوحيدي فِي كتاب الإتباع والمؤانسة وَقد ذكر هَذِه الْقِصَّة
فَهَذَا وَمَا أشبهه من الافتراء وَالْكذب لَو ظهر وَنشر وعير أَهله بِهِ ووقفوا عَلَيْهِ وزجروا عَن الدَّعْوَى المشرفة على الْغَيْب لَكَانَ مقمعَة لمن يُطلق لِسَانه بالإطلاع على مَالا يَكُونُوا فِي غدو قطعا لألسنتهم وكفا لدعواهم وتأديبا لصغيرهم وَكَبِيرهمْ
وَمن ذَلِك اتِّفَاقهم سنة ثَلَاث وَخمسين وثلاثمائة عِنْدَمَا أَرَادَ الْقَائِد جَوْهَر الْعَزِيز بِنَاء مَدِينَة الْقَاهِرَة وَقد كَانَ سبق مَوْلَاهُ الملقب بالمعز إِلَى الدُّخُول إِلَى الديار المصرية لما أمره الْمعز بِدُخُولِهَا بالدعوة وَأمره إِذا دَخلهَا أَن يَبْنِي بهَا مَدِينَة عَظِيمَة تكون نُجُوم طالعها فِي غَايَة الاسْتقَامَة وَيكون بطالع الْكَوْكَب القاهر وَهُوَ زحل أَو المريخ على اخْتِلَاف حَاله فَجمع الْقَائِد جَوْهَر المنجمين بهَا وَأمر كل وَاحِد مِنْهُم أَن يُحَقّق الرصد ويحكمه وَأمر البنائين أَن لَا يضعوا الأساس حَتَّى يُقَال لَهُم ضعوه وَأَن يَكُونُوا على هَيْئَة من التيقظ والإسراع حَتَّى يوافقوا تِلْكَ السَّاعَة الَّتِي اتّفقت عَلَيْهَا أرصاد أُولَئِكَ الْجَمَاعَة فَوضعت الأساسات على ذَلِك فِي الْوَقْت الْحَاضِر وسموها بِالْقَاهِرَةِ إِشَارَة بزعمهم الْكَاذِب إِلَى الْكَوْكَب القاهر وَاتَّفَقُوا كلهم بِأَن الْوَقْت الَّذِي بنبت فِيهِ يقْضِي بدوام جدهم وسعادتهم ودولتهم وَأَن الدعْوَة لَا تخرج فِيهَا عَن الفاطمية وان تداولتها الألسن
الْعَرَبيَّة والعجمية فَلَمَّا ملكهَا أَسد الدّين شيركوه بن شادي ثمَّ ابْن أَخِيه الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَمَعَ ذَلِك المصريون قائمون بدعوة العاضد عبد الله بن يُوسُف توهم الْجُهَّال أَن مَا قَالَ المنجمون من قبل حَقًا لتبدل اللِّسَان وَحَال الدعْوَة مستبقي فَلَمَّا رد صَلَاح الدّين الدعْوَة إِلَى بني الْعَبَّاس انْكَشَفَ الْأَمر وَزَالَ الالتباس وَظهر كذب المنجمين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَكَانَت الْمدَّة بَين وضع الأساس وانقراض دولة الْمَلَاحِدَة مِنْهَا نَحْو مائَة وَثَلَاثَة وَتِسْعين عَاما فنقض انْقِطَاع دولتهم على المنجمين أحكامهم وَخرب دِيَارهمْ وأهتك أستارهم وكشف أسرارهم وأجرى الله سُبْحَانَهُ تكذيبهم والطعن عَلَيْهِم على لِسَان الْخَاص وَالْعَام حَتَّى اعتذر من اعتذر مِنْهُم بِأَن البنائين كَانُوا قد سبقوا الرصادين إِلَى وضع الأساس وَلَيْسَ هَذَا من بهت الْقَوْم ووقاحتهم بِبَعِيد فانه لَو كَانَ كَذَلِك لرَأى الْحَاضِرُونَ تَبْدِيل الْبناء وتغييره فانه لَو دخلهم شكّ فِي تَقْدِيم أَو تَأْخِير أَو سبق بِمَا دون الدقيقة فِي التَّعَذُّر لما سامحوا بذلك مَعَ الْمُقْتَضى التَّام وَالطَّاعَة الظَّاهِرَة وَالِاحْتِيَاط الَّذِي لَا مزِيد فَوْقه وَلَيْسَ فِي تبديله حجر أَو تحويله بِرَفْعِهِ وَوَضعه كَبِير أَمر على البنائين وَلَا مشقه وقرائن الْأَحْوَال فِي إِقَامَة دولة بتقريرها وإنشاء قَاعِدَة بتحريرها شاهدة بِأَن الْغَفْلَة عَن مثل هَذَا الْخطب الجسيم مِمَّا لَا يسامح بهَا الْبَتَّةَ ويالله الْعجب كَيفَ لم يظْهر سبق البنائين للراصدين إِلَّا بعد انْقِرَاض دولة الْمَلَاحِدَة وَأما مُدَّة بَقَاء دولتهم فَكَانَ الْبناء مُقَارنًا للطالع المرصود فَهَل فِي البهت فَوق هَذَا
وَمن ذَلِك اتِّفَاقهم سنة خمس وَتِسْعين وثلاثمائة فِي أَيَّام الْحَاكِم على أَنَّهَا السّنة الَّتِي يَنْقَضِي فِيهَا بِمصْر دولة العبيديين هَذَا مَعَ اتِّفَاق أُولَئِكَ على أَن دعوتهم لَا تَنْقَطِع من الْقَاهِرَة وَذَلِكَ عِنْد خُرُوج الْوَلِيد بن هِشَام الْمَعْرُوف بِأبي ركوة الْأمَوِي وَحكم الطالع لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَاطِع لدَعْوَة العبيديين وَأَنه لَا بُد أَن يستولي على الديار المصرية وَيَأْخُذ الْحَاكِم أَسِيرًا وَلم يبْق بِمصْر منجم إِلَّا حكم بذلك وأكبرهم الْمَعْرُوف الفكري منجم الْحَاكِم وَكَانَ أَبُو ركوة قد ملك برقة وأعمالها وَكَثُرت جموعه وقويت شوكته وَخرجت إِلَيْهِ جيوش الْحَاكِم من مصر فَعَادَت مغلوبة فَلم يشك النَّاس فِي حذق المنجمين وَكَانَ من تَدْبِير الْحَاكِم أَن دَعَا خَواص رِجَاله وَأمرهمْ أَن يعملوا بِمَا رَآهُ من احتياله وَهُوَ أَن يكاتبوا أَبَا ركوة بِأَنَّهُم على مذْهبه وَأَنَّهُمْ مائلون عَن الدعْوَة الحاكمية وراغبون فِي الدعْوَة الوليدية الأموية وأطمعوه بِكُل مَا أوهموه بِهِ أَنهم صَادِقُونَ وَله مناصحون فَلَمَّا وثق بِمَا قَالُوهُ وخفى عَلَيْهِ مَا احتالوه زحف بعساكره حَتَّى نزل موسيم على ثَلَاثَة فراسخ من مصر فَخرجت إِلَيْهِ الْعَسْكَر الحاكمية فهزمته فتحقق أَنَّهَا كَانَت خديعة فهرب وَقتل خلق كثير من عسكره وَطلب فَأخذ أَسِيرًا وَدخل بِهِ الْقَاهِرَة على جمل مَشْهُور ثمَّ أَمر الْحَاكِم بقتْله بعد مَا أحضر بَين يَدَيْهِ مغلولا بغل من حَدِيد وَذَلِكَ
فِي رَجَب سنة سبع وَتِسْعين وثلاثمائة وَكَانَ مبدأ خُرُوجه فِي رَجَب سنة خمس وَتِسْعين فَظهر كذب المنجمين وَكَانَ هَذَا الفكري قد استولى على الْحَاكِم فانه اتّفقت لَهُ مَعَه قضيتان أمالتاه إِلَيْهِ إِحْدَاهمَا أَن الْحَاكِم عزم على إرْسَال أسطول إِلَى مَدِينَة صور لمحاربتهم فَسَأَلَهُ الفكري أَن يكون تَدْبيره إِلَيْهِ ليخرجه فِي طالع يختاره وَتَكون الْعهْدَة أَن لم يظفر عَلَيْهِ وَاتفقَ ظُهُور الأسطول
الثَّانِيَة أَنه ذكر أَن بساحل بركَة رميس مَسْجِدا قَدِيما وان تَحْتَهُ كنزا عَظِيما وَسَأَلَهُ أَن يتَوَلَّى هُوَ هَدمه فان ظهر الْكَنْز والا بناه هُوَ من مَاله وأودعه السجْن فاتفق إِصَابَة الْكَنْز فطاش الْمَغْرُور بذلك فَلَمَّا حكم عَلَيْهِ الفكري بتغيير دولته وَقضى المنجمون بِمثل قَضَائِهِ فَوَقع للْحَاكِم أَن يُغير أوضاع المملكة والدولة ليَكُون ذَلِك هُوَ مُقْتَضى الحكم النجومي فَصَارَ يَأْمر فِي يَوْمه بِخِلَاف كل مَا يَأْمر بِهِ فِي أمسه فَأمر بسب الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم على رُؤْس المنابر والمساجد ثمَّ أَمر بِقطع سبهم وعقوبة من سبهم وَأمر بِقطع شَجَرَة الزرجون من الأَرْض وَأوجب الْقَتْل على من شرب الْخمر وَأمر بغرس هَذِه الشَّجَرَة وأباح شرب الْخمر وأهمل النَّاس نهب الْجَانِب الغربي من الْقَاهِرَة وَقتلت فِيهِ جمَاعَة ثمَّ ضبط الْأَمر حَتَّى أَمر أَن لَا تغلق الحوانيت لَيْلًا وَلَا نَهَارا وَأمر مناديه يُنَادي من عدم لَهُ مَا يُسَاوِي درهما أَخذ من بَيت المَال عَنهُ دِرْهَمَيْنِ بعد أَن يحلف على مَا عَدمه أَو يعضده شَهَادَة رجلَيْنِ حَتَّى تحيل النَّاس فِي ستر حوانيتهم بِالْجَرِيدِ لِئَلَّا تدْخلهَا الْكلاب ثمَّ عمد إِلَى كل متول فِي دولته ولَايَة فَعَزله وَقتل وزيره الْحسن بن عماد كل ذَلِك ليَكُون قَول أهل النَّجْم أَن دولته تَتَغَيَّر وَاقعا على هَذَا الضَّرْب من التَّغْيِير فَلَمَّا كَانَ من أَمر أبي ركوة مَا تقدم ذكره سَاءَ ظَنّه بِعلم النجامة فَأمر بقتل منجمه الفكري وَأطلق فِي المنجمين الْعَيْب والذم وَكَانَ قد جمع بَين المنجمين بالديار المصرية واستدعا غَيرهم وَأمرهمْ أَن يرصدوا لَهُ رصدا يعْتَمد عَلَيْهِ فَصَارَت الطوائف النجومية إِلَى هَذَا الرصد يتحاكمون وان تضمن بعض خلاف الرصد المأموني وَوَضَعُوا لَهُ الذّبْح الْمُسَمّى بالحاكمي وَكَانَ هَذَا الفكري قد أَخذ علم النجامة عَمَّن أَخذه عَن العاصمي فسير أَوْقَات الْحَاكِم وساعاته وَوَافَقَهُ على ذَلِك المنجمون فَلَمَّا قَتله لم يزل أثر التنجيم عَن نَفسه لشرف النَّفس على التطلع إِلَى الْحَوَادِث قبل وُقُوعهَا وَكَانَ بعد يتولع بِهَذَا الْعلم وَيجمع أَصْحَابه فحكموا لَهُ فِي جملَة أحكامهم بركوب الْحمار على كل حَال وألزموه أَن يتَعَاهَد الْجَبَل المقطم فِي أَكثر الْأَيَّام وينفرد وَحده بخطاب زحل بِمَا علموه إِيَّاه من الْكَلَام ويتعاهد فعل مَا وضعوه لَهُ من البخورات والأعزام وحكموا بِأَنَّهُ مَا دَامَ على ذَلِك وَهُوَ يركب الْحمار فَهُوَ سَالم النَّفس عَن كل إِيذَاء فَلَزِمَ مَا أشاروا بِهِ عَلَيْهِ وَأذن الله الْعَزِيز الْعَلِيم رب الْكَوَاكِب ومسخرها ومدبرها أَن هَلَاكه كَانَ فِي ذَلِك الْجَبَل على ذَلِك الْحمار فانه خرج بحماره إِلَى ذَلِك
الْجَبَل على عَادَته وَانْفَرَدَ بِنَفسِهِ مُنْقَطِعًا عَن موكبه وَقد استعد لَهُ قوم بسكاكين تقطر مِنْهَا المنايا فقطعوه هُنَالك للْوَقْت والحين ثمَّ أعدموا جثته فَلم يعلم لَهَا خبر فَمن هَذَا يَقُول أَتْبَاعه الْمَلَاحِدَة انه غَائِب منتظر وأظهرت قدرَة الرب القاهر تبَارك اسْمه وَتَعَالَى جده تَكْذِيب قَول تِلْكَ الطَّائِفَة المفترين وَوُقُوع الْأَمر بضد مَا حكمُوا بِهِ ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة وان الله لسميع عليم فَظهر من كذبهمْ وجهلهم بتغيير دولته فِي خُرُوج أبي ركوة وَفِي هَذَا الْحِين فَهَذَا فِي مبدئها وَهَذَا فِي ختامها فَهَل بعد ذَلِك وثوق للعاقل بالنجوم وأحكامها كلا لعمر الله لَيْسَ بهَا وثوق وانما غَايَة أَهلهَا الِاعْتِمَاد على رَازِق ومرزوق فَأَما اصابة الفكري بظفر الأسطول فَإِنَّمَا كَانَ بتحيل دبره على أهل صور لَا بالطالع فَكَانَت الْغَلَبَة لَهُ عَلَيْهِم بالتحيل الَّذِي دبره سَاعَة الْقِتَال لَا بِمَا ذكره من حكم الطالع قبل تِلْكَ الْحَال وَأما اصابة الْكَنْز فَلَيْسَ من النُّجُوم فِي شَيْء وَمَعْرِفَة مَوَاضِع الْكُنُوز علم متداول بَين النَّاس وَفِيه كتب مصنفة مَعْرُوفَة بأيدي أَرْبَاب هَذَا الْفَنّ وفيهَا خطأ كثير وصواب قد دلّ الْوَاقِع عَلَيْهِ وَمن ذَلِك اتِّفَاقهم سنة اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة على خُرُوج ريح سَوْدَاء تكون فِي سَائِر أقطار الأَرْض عَامَّة فتهلك كل من على ظهرهَا إِلَّا من اتخذ لنَفسِهِ مغارة فِي الْجبَال بِسَبَب أَن الْكَوَاكِب كَانَت بزعمهم أَن اجْتمعت فِي برج الْمِيزَان وَهُوَ برج هوائي لَا يخْتَلف فِيهِ مِنْهُم اثْنَان كَمَا اجْتمعت فِي برج الْحُوت زمن نوح وَهُوَ عِنْدهم برج مائي فَحصل الطوفان المائي قَالُوا وَكَذَا اجتماعها فِي البرج الميزاني يُوجب طوفانا هوائيا وَدخل ذَلِك فِي قُلُوب الرعاع من النَّاس فاتخذوا المغارات استدفاعا لما أَنْذرهُمْ بِهِ الكذابون من الله رب الْعَالمين مسخر الرِّيَاح ومدبر الْكَوَاكِب ثمَّ لما كَانَ ذَلِك الْوَقْت الَّذِي حدوه وَالْأَجَل الَّذِي عدوه قل هبوب الرِّيَاح عَن عَادَتهَا حَتَّى أهم النَّاس ذَلِك وَرَأَوا من الكرب بقلة هبوب الرِّيَاح مَا هُوَ خلاف الْمُعْتَاد فَظهر كذبهمْ للخاص وَالْعَام وَكَانُوا قد دبروا فِي قصَّة هَذِه الرّيح الَّتِي ذكروها بِأَن عزوها إِلَى على رضي الله عنه وضمنوها جُزْء بمضمون هَذِه الرّيح وَذكروا قصَّة طَوِيلَة فِي آخرهَا أَن الرَّاوِي عَن عَليّ رضي الله عنه قَالَ لَهُ لقد صدقني المنجمون فِيمَا حكيت عَنْك وَقَالُوا انه تَجْتَمِع الْكَوَاكِب فِي برج الْمِيزَان كَمَا اجْتمعت فِي برج الْحُوت على عهد نوح وأحدثت الْغَرق فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كم تقيم هَذِه الرّيح على وَجه الأَرْض قَالَ ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها وَتَكون قوتها من نصف اللَّيْل إِلَى نصف النَّهَار عَن الْيَوْم الثَّانِي وَانْظُر إِلَى اتِّفَاقهم على أَن الْكَوَاكِب إِذا اجْتمعت فِي برج الْمِيزَان حصل هَذَا الطوفان الهوائي واتفاقهم على اجتماعها فِيهِ فِي ذَلِك الْوَقْت وَلم يَقع ذَلِك الطوفان وَمن ذَلِك اتِّفَاقهم فِي الدولة الصلاحية بِحكم زحل والدالي أَن مَدِينَة الاسكندرية لَا يَمُوت فِيهَا من الغز وَال فَلَمَّا مَاتَ بهَا الْملك الْمُعظم شمس الدولة
توران شاه ابْن أَيُّوب بن شاذي سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة ثمَّ واليها فَخر الدّين قراجا ابْن عبد الله سنة تسع وَثَمَانِينَ ثمَّ واليها سعد الدّين سودكين بن عبد الله سنة خمس وسِتمِائَة انخرمت هَذِه الْقَاعِدَة أصلا وَبَطل قَوْلهم فرعا وأصلا حَتَّى قَالَ بعض شعراء ذَلِك الْعَصْر عِنْد موت الْأَمِير فَخر الدّين:
وَقضى طُلُوع الثغر عِنْد مماته
…
أَن المنجم كَاذِب لَا يصدق
لَو كَانَ فِيهِ لَا يَمُوت مؤمر
…
أودى وفخر الدّين حَيّ يرْزق
وَمن ذَلِك اجْتِمَاعهم فِي سنة خمس وَعشرَة وسِتمِائَة لما نزل الفرنج على دمياط على انهم لَا بُد أَن يغلبوا على الْبِلَاد فيتملكوا مَا بِأَرْض مصر من رِقَاب الْعباد وانهم لَا تَدور عَلَيْهِم الدائرة إِلَّا إِذا قَامَ قَائِم الزَّمَان وَظهر براياته الخافقة ذَلِك الأوان فكذب الله ظنونهم وأتى من لطفه الْخَفي مَا لم يكن فِي حِسَاب ورد الفرنج بعد الْقَتْل الذريع فيهم والأسر على الْعقَاب وَكَانَ المنجمون قد أَجمعُوا فِي أَمر هَذِه الْوَاقِعَة على نَحْو مَا أجمع عَلَيْهِ من قبلهم فِي شَأْن عمورية وَاتفقَ أَن كَانَ مبدأ هَذَا الْفَتْح فِي سَابِع رَجَب سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة ومبدأ ذَلِك الْفَتْح فِي سَابِع رَجَب أَيْضا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ قَالَ الْفَاضِل الْعَلامَة مُحَمَّد بن عبد الله بن مَحْمُود الْحُسَيْنِي وَلما كذب الله هَؤُلَاءِ الْقَوْم فِيمَا ادعوهُ نسجت على منوال أبي تَمام فِي قصيدته البائية الْمَكْسُورَة فَعمِلت بائية مَفْتُوحَة وَهِي:
الْحَمد لله حمدا يبلغ الأربا
…
نقضي بِهِ من حُقُوق الله مَا وجبا
حمدا يزِيد إِذا النعمي تزيد بِهِ
…
أخراه أولاه تُعْطى ضعف مَا وهبا
لَا ييأس الْمَرْء من روح الْإِلَه فكم
…
من رَاح فِي مستهل كَانَ قد صعبا
فكم مَشى بك مَكْرُوه ركضت بِهِ
…
من غير علم إِلَى مَا تشْتَهي خببا
وَكم تقطع دون المشتهى سَبَب
…
وَكَانَ مِنْك لأعلى الْمُنْتَهى سَببا
لَا يَنْبَغِي لَك فِي مَكْرُوه حَادِثَة
…
أَن تبتغى لَك فِي غير الرِّضَا طلبا
لله فِي الْخلق تَدْبِير يفوت مدى
…
أسرار حكمته أَحْكَام من حسبا
اابغ النَّجَاء إِذا ماذو النجامة فِي
…
زور من القَوْل يقْضِي كل مَا قربا
وَذُو الأراجين مِمَّا قد يَقُول فدع
…
فَمَا أراجيز شَيْء كَانَ قد كتبا
مَا كَانَ لله فِي ديوَان قدرته
…
من كَاتب بحدوس الظَّن إِذْ كتبا
لَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله خالقنا
…
لَا عَالم غَيره عجبا وَلَا عربا
لَا شَيْء أَجْهَل مِمَّن يَدعِي ثِقَة
…
بحدسه وَترى فِيمَا يرى ريبا
قد يجهل الْمَرْء مَا فِي بَيته نظرا
…
فَكيف عَنهُ بِمَا فِي غيبه احتجبا
قد كذب الله قَول الْقَائِلين غَدا
…
إِذا أَتَى رَجَب لم تحمدوا رجبا
قَالُوا يرى عجب فِيهِ فَقلت لَهُم
…
بالنصر بعد اياس تبصروا عجبا
فِي منقضى السَّبْعَة الْأَيَّام مِنْهُ أَتَى
…
مَا يَأْتِ فِي مُقْتَضَاهُ السَّبْعَة الشهبا
وأعتمت فِيهِ عواء النُّجُوم على
…
عواء ذِئْب من الْكفَّار قد حَربًا
والشعريان فَكل مِنْهُمَا شَعرت
…
بِأَن للحق فيهم سيف من غلبا
وَصَحَّ عَن قمر الأفلاك أَنهم
…
مَا فيهم غير مقهور وَقد نشبا
غطاؤهم رد فِي وَجْهي عطاردهم
…
إِلَى الَّذِي مِنْهُم مَا شَاءَ قد سلبا
وَقد بَدَت زهرَة الْإِسْلَام زاهرة
…
قد أظلمت فَوْقهم من دونهَا سحبا
وأجملت حمرَة المريخ حكمهم
…
ففسرت بِدَم فيهم لمن خضبا
وَلم يَك الْمُشْتَرى تقضي سعادته
…
إِلَّا إِلَى المُشْتَرِي نفسا بِمَا طلبا
وَقبل مُنْقَلب الأبراج ذُو قدر
…
فَعَاد مِنْهُ مبان النَّفْع منقلبا
كم حَامِل ثَائِر فِي الثور أَو حمل
…
أجَاز فيهم على جوزائهم حَربًا
وَلم يدر فلك إِلَّا لذِي ملك
…
يُدِير جَيْشًا عَلَيْهِم عسكرا نجيا
حَتَّى غَدا ثغر دمياط وَقد حكمُوا
…
أَن لَا يرى باسما مستجمعا شنبا
يفتر عَن صبح إِيمَان بِهِ جذلا
…
وَكَانَ فِي ليل كفر بَات مكتئبا
وَمد كفاله التَّوْحِيد فانقبضت
…
رجل من الشّرك فِي تَأْخِيره هربا
وَتلك حَرْب صَلِيب عودهَا فقضت
…
أَن لَا يعود صَلِيب بعد منتصبا
وَأطلق القَوْل بِالتَّأْذِينِ إِذْ خرست
…
لَهُ نواقيس جرجيس فَمَا احتسبا
وَمِمَّا اتّفق عَلَيْهِ المنجمون أَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ أَن يستجيب الله دعاءه جعل الرَّأْس فِي وسط الْمسَاء مَعَ المُشْتَرِي أَو شطر مِنْهُ مقبل وَالْقَمَر مُتَّصِلا بِهِ أَو منصرفا عَنهُ مُتَّصِل بِصَاحِب الطالع أَو صَاحب الطالع مُتَّصِل بالمشتري نَاظر إِلَى الرَّأْس نظرة مَوَدَّة فهنالك لَا يَشكونَ أَن الْإِجَابَة حَاصِلَة قَالُوا وَكَانَت مُلُوك اليونان يلزمون ذَلِك فيحمدون عقباه والعاقل إِذا تَأمل هَذَا الهذيان لم يحْتَج فِي علمه بِبُطْلَانِهِ ومحاله إِلَى فكر وَنظر فان رب السَّمَوَات وَالْأَرْض سُبْحَانَهُ لَا يتأثر بحركات النُّجُوم بل يتقدس ويتعالى عَن ذَلِك فيا للعقول الَّتِي أضحكت عَلَيْهَا الْعُقَلَاء من الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار مَا هَذِه الاتصالات حَتَّى تكون على وجوب إِجَابَة الله من أقوى الدلالات وَمِمَّا عَلَيْهِ المنجمون متفقون أَو كالمتفقين أَن الْخَبَر إِذا ورد فِي وَقت أَو بادنا مِنْهُ 1 الْوُجُوه وَالْقَمَر وَعُطَارِد فِي بروج ثوابت وَالْقَمَر منصرف عَن السُّعُود فَالْخَبَر لَيْسَ بباطل وَالْبَاطِل مثل هَذَا فانه يلْزمهُم
أَن من وضع خَبرا بَاطِلا فِي ذَلِك الْوَقْت أَن الطالع الْمَذْكُور يُصَحِّحهُ أَو يَقُولُوا لَا يُمكن أحدا أَو يكذب فِي ذَلِك الْوَقْت وَقد أورد أَبُو معشر المنجم هَذَا السُّؤَال فِي كتاب الْأَسْرَار لَهُ وَأجَاب عَنهُ أَن الْأَخْبَار تخْتَلف فان ورد خبر مَكْرُوه من أَسبَاب الشَّرّ والجور وَالْأَفْعَال المنسوبة إِلَى طبائع النحوس والطالع فِي الْقَمَر منصرف عَن سعد فَالْخَبَر بَاطِل وان ورد خبر مَحْبُوب وَمن أَسبَاب الْخَيْر وَالْعدْل وَالْأَفْعَال المنسوبة إِلَى طبائع السُّعُود وَفِي الطالع سعد وَالْقَمَر منصرف عَن سعد فَالْخَبَر حق قَالَ وزحل لَا يدل فِي كل حَال على الْكَذِب بل يدل على وجود الْعَوَائِق عَمَّا يُوقع ذَلِك الْخَبَر لَكِن الْبلَاء المريخ أَو الذَّنب إِذا استوليا على الْأَوْتَاد وعَلى الْقَمَر أَو عُطَارِد فانهما يدلان على الْكَذِب والبطلان ثمَّ قَالَ وعَلى كل حَال فالقمر فِي الْعَقْرَب والبروج الكاذبة تنذر بكذب فِي نفس الْخَبَر أَو زِيَادَة أَو نُقْصَان وَفِي الْحمل والبروج الصادقة تدل على صدق فِيهِ واستواء وَفِي السرطان والبروج المنقلبة لَا تدل على انقلاب الْخَبَر إِلَى بَاطِل وَلكنه قد يَنْقَلِب فَيصير أقوى مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ الْآن إِلَّا أَن ينظر إِلَيْهِ نحس فيفسده ويبطله ثمَّ قَالَ واعرف صدق الْخَبَر من سهم الْغَيْب إِذا شَككت فِيهِ فان كَانَ سليما من المريخ والذنب وَينظر إِلَيْهِ صَاحبه أَو الْقَمَر أَو الشَّمْس نظر صَلَاح فَهُوَ حق هَذَا مُنْتَهى كَلَامه فِي الْجَواب وَهُوَ كَمَا ترَاهُ مُتَضَمّن أَن عِنْد هَذِه الاتصالات الَّتِي ذكرهَا يكون الْخَبَر صَحِيحا صدقا وَعند تِلْكَ الاتصالات الْأُخَر تكون منذرة بِالْكَذِبِ فَيُقَال لهَؤُلَاء الْكَذَّابين المفترين المبلسين أيستحيل عنْدكُمْ معاشر المنجمين أَن يضع أحدكُم خَبرا كَاذِبًا عِنْد تِلْكَ الاتصالات أم ذَلِك وَاقع فِي دَائِرَة الْإِمْكَان بل هُوَ مَوْجُود فِي الْخَارِج وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيل أَن يصدق مخبر عِنْد الاتصالات الْأُخَر أَو يبعد صدق الْعَالم عِنْدهَا وَيكون كذبهمْ إِذا ذَاك أَكثر مِنْهُ فِي غير ذَلِك الْوَقْت وَهل فِي الهوس أبلغ من هَذَا وَلَو تتبعنا أحكامهم وقضاياهم الكاذبة الَّتِي وَقع الْأَمر بِخِلَافِهَا لقام مِنْهَا عدَّة أسفار وَأما نكبات من تقيد بِعلم أَحْكَام النُّجُوم فِي أَفعاله وسفره ودخوله الْبَلَد وَخُرُوجه مِنْهُ واختياره الطالع لعمارة الدَّار وَالْبناء بالأهل وَغير ذَلِك فَعِنْدَ الْخَاصَّة والعامة مِنْهُم عبر يَكْفِي الْعَاقِل بَعْضهَا فِي تَكْذِيب هَؤُلَاءِ الْقَوْم ومعرفته لافترائهم على الله وأقضيته وأقداره بل لَا يكَاد يعرف أحد تقيد بالنجوم فِي مَا يَأْتِيهِ ويذره إِلَّا نكب أقبح نكبة وأشنعها مُقَابلَة لَهُ بنقيض قَصده وموافات النحوس لَهُ من حَيْثُ ظن أَنه يفوز بسعده فَهَذِهِ سنة الله فِي عباده الَّتِي لَا تبدل وعادته الَّتِي لَا تحول أَن من اطْمَأَن إِلَى غَيره أَو وثق بسواه أَو ركن إِلَى مَخْلُوق يدبره أجْرى الله لَهُ بِسَبَبِهِ أَو من جِهَته خلاف مَا علق بِهِ آماله وَانْظُر مَا كَانَ أقوى تعلق بني برمك بالنجوم حَتَّى فِي سَاعَات أكلهم وركوبهم وَعَامة أفعالهم وَكَيف كَانَت نكبتهم الشنيعة وَانْظُر حَال أبي عَليّ ابْن مقلة الْوَزير وتعظيمه لأحكام النُّجُوم ومراعاته لَهَا أَشد المراعات ودخوله دَارا بناها بطالع زعم الكذابون
المفترون أَنه طالع سعد لَا يرى بِهِ فِي الدَّار مَكْرُوها فَقطعت يَده ونكب فِي آثاره أقبح نكبة نكبها وَزِير قبله وقتلى المنجمين أَكثر من أَن يحصيهم إِلَّا الله عز وجل
الْوَجْه التَّاسِع عشر أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد أقرُّوا على أنفسهم وَشَهَادَة بَعضهم على بعض بِفساد أصُول هَذَا الْعلم وأساسه فقد كَانَ أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيموحارسي حارس ومانالاوس قد حكمُوا فِي الْكَوَاكِب الثَّابِتَة بِمِقْدَار وَاتَّفَقُوا أَنه صَحِيح الِاعْتِبَار وَأقَام الْأَمر على ذَلِك فَوق سَبْعمِائة عَام وَالنَّاس لَيْسَ بِأَيْدِيهِم سوى تقليدهم حَتَّى كَانَ فِي عهد الْمَأْمُون فاتفق من رصادهم وحكامهم عُلَمَاء الْفَرِيقَيْنِ مثل خَالِد بن عبد الْملك الْمروزِي وَحسن صَاحب الزبج المأموني وَمُحَمّد بن الجهم وَيحيى بن أبي مَنْصُور على أَنهم امتحنوا رصد الْأَوَائِل فوجدوهم غالطين فِيمَا رصدوه فرصدوهم رصدا لأَنْفُسِهِمْ وحرروه وسموه الرصد الممتحن وجعلوه مبدأ ثَانِيًا بعد ذَلِك الزَّمن كَانَ لأوائلهم إِجْمَاع على صِحَة رصدهم ولهؤلاء إِجْمَاع على خطأهم فِيهِ فتضمن ذَلِك إِجْمَاع الْأَوَاخِر على الْأَوَائِل أَنهم كَانُوا غالطين واقرار الْأَوَاخِر على أنفسهم أَنهم كَانُوا بِالْعَمَلِ بِهِ مخطئين ثمَّ حدثت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم كَبِيرهمْ وزعيمهم أَبُو معشر مُحَمَّد ابْن جَعْفَر وَكَانَ بعد الرصد الممتحن بِنَحْوِ من سِتِّينَ عَاما فَرد عَلَيْهِم وَبَين خطأهم كَمَا ذكر أَبُو سعيد ابْن شَاذان بن بَحر المنجم فِي كتاب أسرار النُّجُوم قَالَ قَالَ أَبُو معشر أَخْبرنِي مُحَمَّد بن مُوسَى المنجم الْحُلَيْس وَلَيْسَ الْخَوَارِزْمِيّ قَالَ حَدثنِي يحيى بن آبي مَنْصُور أَو قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْحُلَيْس قَالَ دخلت على الْمَأْمُون وَعِنْده جمَاعَة المنجمين وَعِنْده رجل قد تنبأ وَقد دَعَا الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَلم يحضروا بعد وَنحن لَا نعلم فَقَالَ لي وَلمن حضر من المنجمين اذْهَبُوا فَخُذُوا الطالع لدعوى رجل فِي شَيْء يَدعِيهِ وعرفوني بِمَا يدله عَلَيْهِ الْفلك من صدقه وَكذبه وَلم يعلمنَا الْمَأْمُون أَنه متنبيء فَجِئْنَا إِلَى نَاحيَة من الْقصر وأحكمنا أَمر الطالع وصورناه فَوَقع الشَّمْس وَالْقَمَر فِي دقيقة الطالع والطالع الجدي وَالْمُشْتَرِي فِي السنبلة ينظر إِلَيْهِ والزهرة وَعُطَارِد فِي الْعَقْرَب ينظر إِلَيْهِ فَقَالَ كل من حضر من المنجمين هَذَا الرجل صَحِيح لَا كذب فِيهِ قَالَ يحيى وَأَنا سَاكِت فَقَالَ لي الْمَأْمُون قل فَقلت هُوَ فِي طلب تَصْحِيحه وَله حجَّة زهرية وعطاردية وَتَصْحِيح مَا يَدعِيهِ لَا يتم لَهُ فَقَالَ من أَيْن قلت فَقلت لِأَن صِحَة الدَّعَاوَى من المُشْتَرِي وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ زحل مُوَافقَة إِلَّا أَنه كَارِه لهَذَا البرج وَلَا يتم لَهُ التَّصْدِيق وَلَا التَّصْحِيح وَالَّذِي قَالُوهُ إِنَّمَا هُوَ من حجَّة عطاردية وزهرية وَذَلِكَ يكون من جنس التحسين والتزويق وَالْخداع عَن غير حَقِيقَة فَقَالَ لله دَرك ثمَّ قَالَ تَدْرُونَ مَا يدعى هَذَا الرجل قُلْنَا لَا قَالَ هَذَا يدعى النُّبُوَّة فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَعَهُ شَيْء يحْتَج بِهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ نعم معي خَاتم ذُو فصين ألبسهُ فَلَا يتَغَيَّر مني شَيْء ويلبسه غَيْرِي فَلَا يَتَمَالَك من الضحك حَتَّى يَنْزعهُ وَمَعِي قلم شَامي أكتب بِهِ وَيَأْخُذهُ غَيْرِي
فَلَا تَنْطَلِق أُصْبُعه بِهِ فَقلت يَا سَيِّدي هَذَا عُطَارِد والزهرة قد عملا عملهما فَأمره أَمِير الْمُؤمنِينَ فأظهر مَا أدعاه مِنْهُمَا وَكَانَ ذَلِك ضرب من الطلسمات فَمَا زَالَ بِهِ الْمَأْمُون أَيَّامًا كَثِيرَة حَتَّى أقرّ وتبرأ من دَعْوَى النُّبُوَّة وَوصف الْحِيلَة الَّتِي احتالها فِي الْخَاتم والقلم فوهب لَهُ الْمَأْمُون ألف دِينَار وَصَرفه فلقيناه بعد ذَلِك فَإِذا هُوَ أعلم النَّاس بِعلم النُّجُوم وَمن أكبر أَصْحَاب عبد الله الْقشيرِي وَهُوَ الَّذِي عمل طلسم الخنافس فِي دور بَغْدَاد قَالَ أَبُو معشر لَو كنت فِي الْقَوْم ذكرت أَشْيَاء خفيت عَلَيْهِم كنت أَقُول الدَّعْوَى بَاطِلَة من أَصْلهَا إِذْ البرج مُنْقَلب وَهُوَ الجدي وَالْمُشْتَرِي فِي الوبال وَالْقَمَر فِي المحاق والكوكبان الناظران إِلَى الطالع فِي برج كَذَّاب وَهُوَ الْعَقْرَب فَتَأمل كَيفَ اخْتلفت أحكامهم مَعَ اتِّحَاد الطالع وكل مِنْهُم يُمكنهُ تَصْحِيح حكمه بِشُبْهَة من جنس شُبْهَة الآخر فَلَو اتّفق أَن أدعى رجل صَادِق فِي ذَلِك الْوَقْت والطالع دَعْوَى ألم يكن ادعاؤه مُمكنا غير مُسْتَحِيل ودعواه صَحِيحَة فِي نَفسهَا أم تَقولُونَ انه لَا يُمكن أَن يدعى أحد فِي ذَلِك الْوَقْت والطالع دَعْوَى صَحِيحَة الْبَتَّةَ وَمن الْمَعْلُوم لجَمِيع الْعُقَلَاء أَنه يُمكن إِذْ ذَاك دعوتين من رجل محق ومبطل بذلك الطالع بِعَيْنِه فَمَا أسخف عقل من ارْتبط بِهَذَا الهذيان وَبني عَلَيْهِ جَمِيع حوادث الزَّمَان وَلَيْسَ بيد الْقَوْم إِلَّا مَا اعْترف بِهِ فاضلهم وزعيمهم أَبُو معشر
وَقَالَ شَاذان فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَيْضا قلت لأبي معشر الذَّنب بَارِد يَابِس فَلم قُلْتُمْ انه يدل على التَّأْنِيث فَقَالَ هَكَذَا قَالُوا قلت فقد قَالُوا انه لَيْسَ بصادق اليبس لكنه بَارِد فَنظر لي فَقَالَ كل الْأَعْرَاض الغائبة توهم لَا يكون شَيْء مِنْهَا يَقِينا وانما يكون توهم أقوى من توهم
وَمن تَأمل أَحْوَال الْقَوْم علم أَن مَا مَعَهم إِلَّا زرق وتفرس يصيبون مَعهَا ويخطئون
قَالَ شَاذان فِي كِتَابه الْمَذْكُور كَانَ الرَّازِيّ الثنوي الَّذِي بِالْهِنْدِ يُكَاتب أَبَا لعشر ويهاديه فأنفذ لأبي معشر مولدا لِابْنِ مَالك سر نديب طالعه الجوزاء وَالشَّمْس وَالْقَمَر فِي الجدي وَالْقَمَر خَارج عَن الشعاع وَعُطَارِد فِي الدَّلْو وَالْمُشْتَرِي فِي الْحمل وزحل فِي السرطان رَاجع فِي بحران الرُّجُوع فَحكم لَهُ أَبُو معشر بِأَنَّهُ يعِيش دور زحل الْأَوْسَط فَقلت سُبْحَانَ الله جَاءَهُ رَاجع فِي بحران الرُّجُوع فِي بَيت سَاقِط عَن الْأَوْتَاد لَا يُعْطِيهِ إِلَّا دور الْأَصْغَر وَيحْتَاج أَن يسْقط مِنْهُ الْخمسين وَجعلت أنكر عَلَيْهِ ذَلِك وأخوفه أَن تسْقط مَنْزِلَته عِنْد أهل تِلْكَ الْبِلَاد إِلَى أَن ذكر محاورة طَوِيلَة انْتَهَت بهما إِلَى أَن أَبَا معشر أَخذ ذَلِك من عادات أهل الْهِنْد فِي طول الْأَعْمَار وَقَالَ شَاذان فِي مَسْأَلَة سُئِلَ عَنْهَا مَا أَنْتُم الازراقين ثمَّ حدثت بعد هَؤُلَاءِ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن عبد الرحمن بن عمر بن عبد الْمَعْرُوف بالصوفي وَكَانَ بعد أبي معشر بِنَحْوِ من سبعين عَاما فَذكر أَنه قد عثر من غلط الْأَوَاخِر بعد الْأَوَائِل على أَشْيَاء كَثِيرَة وصنف كتابا فِي معرفَة الثوابت وَحمله إِلَى عضد الدولة بن بويه فَاسْتَحْسَنَهُ
وأجزل ثَوَابه وَبَين فِي هَذَا الْكتاب من أغاليط أَتبَاع الرصد الثَّانِي أمورا كَثِيرَة لعطارد المنجم وَمُحَمّد بن جَابر التباني وَعلي بن عِيسَى الْحَرَّانِي فَقَالَ فِي مُقَدّمَة كِتَابه وَلما رَأَيْت هَؤُلَاءِ الْقَوْم مَعَ ذكرهم فِي الْآفَاق وتقدمهم فِي الصِّنَاعَة وإقتداء النَّاس بهم واشتغالهم بمؤلفاتهم قد تبع كل وَاحِد مِنْهُم من تقدمه من غير تَأمل لخطئه وَصَوَابه بالعيان والنظروا أوهموا النَّاس بالرصد حَتَّى ظن كل من نظر فِي مؤلفاتهم أَن ذَلِك عَن معرفَة بالكواكب ومواضعها إِلَى أَن قَالَ ومعولهم على آلَات مصورة من عمل من لَا يعرف الْكَوَاكِب بِأَعْيَانِهَا وانما عولوا على مَا وجدوه فِي الْكتب من أطوالها وعروضها فرسموها فِي الكرة من غير معرفَة خطئها وصوابها ثمَّ قَالَ وَزَادُوا أَيْضا على أطوال الْكَوَاكِب أطوالا كَثِيرَة وعَلى عروضها دقائق يسيرَة ونقصوا مِنْهَا أوهموا بذلك أَنهم رصدوا الْكل وَأَنَّهُمْ وجدوا بَين أرصادهم وأوضاع بطليموس من الْخلاف فِي أطوالها وعروضها الْقدر الَّذِي خالفوا بِهِ سوى الزِّيَادَة الَّتِي وجدوها من حركاتها فِي الْمدَّة الَّتِي بَينهم وَبَينه من السنين من غير أَن عرفُوا الْكَوَاكِب بِأَعْيَانِهَا وَله تواليف أخر مشحونة بِبَيَان أغاليطهم وإيضاح أكاذيبه 2 م وتخاليطهم وَشهد عَلَيْهِم بِأَنَّهُم تَارَة قلدوا فِي الْأَقْوَال النجومية وَتارَة قلدوا فِيمَا وجدوه من الصُّور الكوكبية فهم مقلدون فِي القَوْل وَالْعَمَل لَيْسَ مَعَ الْقَوْم بَصِيرَة وَشهد عَلَيْهِم بِأَنَّهُم مموهون مدلسون بل كاذبون مفترون من جِهَة أَنهم زادوا دقائق مَا بَين زمانهم وزمان بطليموس وأوهموا بهَا أَنهم رصدوا مَا رصده من قبلهم فعثروا على مَا لم يعثروا عَلَيْهِ ثمَّ حدثت جمَاعَة أُخْرَى مِنْهُم الكوشيار بن يَاسر بن الديلمي وَمن تآليفه الزيجات وَالْجَامِع والمجمل فِي الْأَحْكَام وَهُوَ عِنْدهم نِهَايَة فِي الْفَنّ وَكَانَ بعد الصُّوفِي بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ عَاما وَذكر فِي مُقَدّمَة كِتَابه الْمُجْمل أَنِّي جمعت فِي هَذَا الْكتاب من أصُول صناعَة النُّجُوم وَالطَّرِيق إِلَى التَّصَرُّف فِيهَا مَا ظننته كَافِيا فِي مَعْنَاهُ مغنيا عَمَّا سواهُ وَأكْثر الْأَمر فِيمَا أخذت بِهِ أقرب طَرِيق عزوته إِلَى الْقيَاس وأوضح سَبِيل سلكته إِلَى الصَّوَاب إِذْ هِيَ صناعَة غير مبرهنة وللخواطر والظنون مجَال بِلَا نِهَايَة صَوَاب ومجال إِلَى أَن ذكر علم الْأَحْكَام فَقَالَ فِيهِ وَلَا سَبِيل للبرهان عَلَيْهِ وَلَا هُوَ مدرك بكليته نعم وَلَا بأكثره لن الشَّيْء الَّذِي يسْتَعْمل فِيهِ هَذَا الْعلم أشخاص النَّاس وَجَمِيع مَا دون الْفلك الْقمرِي مطبوع على الِانْتِقَال والتغيير وَلَا يثبت على حَال وَاحِدَة فِي أَكثر الْأَمر وَلَا للْإنْسَان بكامل الْقُوَّة من الحدس بخواص الْأَحْوَال الَّتِي تكون من امتزاجات الْكَوَاكِب فَبلغ من الصعوبة وتعسر الْوُقُوف عَلَيْهِ إِلَى أَن دَفعه بعض النَّاس وظنوا أَنه شَيْء لَا يُدْرِكهُ أحد الْبَتَّةَ وَأكْثر المنفردين بِالْعلمِ الأول يعْنى علم الْهَيْئَة يُنكرُونَ هَذَا الْعلم ويجحدون منفعَته وَيَقُولُونَ هُوَ شَيْء يَقع بالانفاق وَلَيْسَ عَلَيْهِ برهَان إِلَى أَن قَالَ وَمن المنفردين بِالْعلمِ الثَّانِي يعْنى علم الْأَحْكَام من يَأْتِي على
جزئياته بحجج على سَبِيل النّظر والجدل فَظن أَنَّهَا برهَان لجهله بطرِيق الْبُرْهَان وطبيعته فَحصل من كَلَام هَذَا تجهيل أَصْحَاب الْأَحْكَام كَمَا حصل فِي كَلَام الصُّوفِي تَكْذِيب أَصْحَاب الأرصاد وَهَذَانِ رجلَانِ من عظمائهم وزعمائهم ثمَّ حدثت جمَاعَة أُخْرَى مِنْهُم المنجم الْمَعْرُوف بالفكري منجم الْحَاكِم بالديار المصرية وَكَانَ قد انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة هَذَا الْعلم وَكَانَ قد قَرَأَ على من قَرَأَ على العاصمي فَوضع هُوَ وَأَصْحَابه رصدا آخر وَهُوَ الرصد الحاكمي وَخَالف فِيهِ أَصْحَاب الرصد الممتحن فِي أَشْيَاء وعَلى ذَلِك التَّفَاوُت بنوا الذريح الحاكمي وَكَانَ الْحَاكِم قد أَمرهم أَن يحذوا على فعل الْمَأْمُون فَأمر أَن يجتمعوا عِنْده فَاجْتمع المنجمون وَرَئِيسهمْ الفكري فوضعوا الذّبْح الحاكمي وخالفوا أَصْحَاب الرصد المأموني ومالوا أتباعهم إِلَى الرصد الحاكمي وَلَو اتّفق بعد ذَلِك رصد آخر لسلك أَصْحَابه فِي خلاف من تقدمهم مَسْلَك أوائلهم هَذَا ومستند لَهُم ومعولهم الْحس والحساب وهما هما لَا يقبلان التغليط فَمَا الظَّن بِمَا يَدعُونَهُ من علم الْأَحْكَام الَّذِي مبناه على هواجس الظنون وخيالات الأوهام ثمَّ حدثت جمَاعَة أُخْرَى مِنْهُم أَبُو الريحان الْبَيْرُوتِي مؤلف كتاب التفهيم إِلَى صناعَة التنجيم جمع فِيهِ بَين الهندسة والحساب والهيئة وَالْأَحْكَام وَكَانَ بعد كوشيار بِنَحْوِ من أَرْبَعِينَ سنة فَخَالف من تقدمه وأتى من مناقضتهم وَالرَّدّ عَلَيْهِم بِمَا هُوَ دَال على فَسَاد الصِّنَاعَة فِي نَفسهَا وَختم كِتَابه بقوله فِي الخبى وَالضَّمِير مَا أَكثر افتضاح المنجمين فِيهِ وَمَا أَكثر اصابة الراصدين فِيهِ بِمَا يستعملون من كَلَامه وَقت السُّؤَال ويرونه باديا من آثَار وأفعال على السَّائِل وَقَالَ وَعند الْبلُوغ إِلَى هَذَا الْموضع من صناعَة التنجيم كَافِيَة وَمن تعداه فقد عرض نَفسه وصناعته لما بلغت إِلَيْهِ الْآن من السخرية والاستهزاء فقد جهلها المتفقهون فِيهَا فضلا عَن المنتسبين إِلَيْهَا انْتهى كَلَامه
ثمَّ حدثت جمَاعَة أُخْرَى مِنْهُم أَبُو الصَّلْت أُميَّة بن عبد العزيز بن أُميَّة الأندلسي الشَّاعِر المنجم الطَّبِيب الأديب وَكَانَ بعد الْبَيْرُوتِي بِنَحْوِ من ثَمَانِينَ عَاما وَدخل مصر وَأقَام بهَا نَحْو عَاميْنِ وَلما كَانَ بالغرب توفيت وَالِدَة الْأمين على بن يميم صَاحب المهدية وَكَانَ قد وَافق مَوتهَا أَخْبَار المنجمين بذلك قبل وُقُوعه فَعمل أُميَّة قصيدة يرثيها وَهِي من مستحسن شعره فَقَالَ فِيهَا
وراعك قَول للمنجم موهم
…
وَمن يعْتَقد زرق المنجم يُوهم
فواعجبا يهذي المنجم دهره
…
ويكذب إِلَّا فِيك قَول المنجم
وَكَانَ الْمَذْكُور رَأْسا فِي الصِّنَاعَة وَقد اعْترف بِأَن المنجم كَذَّاب صَاحب زرق وهذيان ثمَّ حدثت طَائِفَة أُخْرَى بالغرب مِنْهُم أَبُو اسحق الزر قَالَ واصحابه وَهُوَ بعد أبي الصَّلْت بِنَحْوِ من مائَة عَام وَقد خَالف الْأَوَائِل والأواخر فِي الصناعتين والرصدية والأحكامية فأسقط من