المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل وأما ما خلقه سبحانه فإنه أوجده لحكمة في إيجاده فإذا اقتضت - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط العلمية - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل مِفْتَاح دَار السَّعَادَة

- ‌فصل الشَّرَائِع كلهَا فِي أُصُولهَا وَإِن تباينت متفقة مركوز حسنها فِي

- ‌فصل وَقد أنكر تَعَالَى على من نسب إِلَى حكمته التَّسْوِيَة بَين الْمُخْتَلِفين

- ‌فصل وَتَحْقِيق هَذَا الْمقَام بالْكلَام فِي مقامين أَحدهمَا فِي الْأَعْمَال خُصُوصا

- ‌فصل وَأما المسئلة الثَّانِيَة وَهِي مَا تَسَاوَت مصْلحَته ومفسدته فقد اخْتلف

- ‌فصل وَهَهُنَا سر بديع من أسرار الْخلق وَالْأَمر بِهِ يتَبَيَّن لَك حَقِيقَة الْأَمر

- ‌فصل وَأما مَا خلقه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ أوجده لحكمة فِي إيجاده فَإِذا اقْتَضَت

- ‌فصل فَهَذِهِ أقوى أَدِلَّة النفاة باعترافهم بِضعْف مَا سواهَا فَلَا حَاجَة بِنَا

- ‌فصل وَإِذا قد انتهينا فِي هَذِه المسئلة إِلَى هَذَا الْموضع وَهُوَ بحرها

- ‌فصل وَقد سلم كثير من النفاة أَن كَون الْفِعْل حسنا أَو قبيحا بِمَعْنى

- ‌فصل إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَالْكَلَام على كَلِمَات النفاة من وُجُوه:

- ‌فصل والأسماء الْحسنى وَالصِّفَات الْعلَا مقتضية لآثارها من الْعُبُودِيَّة

- ‌فصل وَعكس هَذَا أَنه لم تشْتَرط الْمُكَافَأَة فِي علم وَجَهل وَلَا فِي كَمَال

- ‌فصل وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الْإِيجَاب فِي حق الله سَوَاء الْأَقْوَال فِيهِ كالأقوال

- ‌فصل وَقد ظهر بِهَذَا بطلَان قَول طائفتين مَعًا الَّذين وضعُوا لله شَرِيعَة

- ‌فصل وَأما مَا ذكره الفلاسفة من مَقْصُود الشَّرَائِع وان ذَلِك لاستكمال

- ‌فصل وَهَذِه الكمالات الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرهَا الفلاسفة للنَّفس لَا بُد مِنْهَا

- ‌فصل وَرَأَيْت لبَعض فضلائهم وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى رِسَالَة

- ‌فصل فلنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرسَالَة قَالَ زَعَمُوا أَن الْقَمَر والزهرة

- ‌فصل قَالَ صَاحب الرسَالَة ذكر جمل من احتجاجهم والاحتجاج عَلَيْهِم من إوكد

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بِالْآيَاتِ الدَّالَّة على أَن الله سُبْحَانَهُ وضع حركات

- ‌فصل وَأما ماذكره عَن إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن أَنه تمسك بِعلم النُّجُوم حِين

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق

- ‌فصل وَأما استدلاله بقوله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا} فَعجب من الْعجب فَإِن هَذَا من اقوى الْأَدِلَّة وأبينها على بطلَان قَول المنجمين والدهرية الَّذين يسندون جَمِيع مَا فِي الْعَالم من الْخَيْر وَالشَّر إِلَى النُّجُوم وحركاتها واتصالاتها ويزعمون أَن مَا تَأتي

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه كَانَ اعْتِمَاده فِي

- ‌فصل وَأما استدلاله بِأَن النَّبِي نهى عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن اسْتِقْبَال

- ‌فصل وَأما استدلاله بِحَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي إِذا ذكر الْقدر

- ‌فصل وَالَّذِي أوجب للمنجمين كَرَاهِيَة السّفر وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَب انهم قَالُوا

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ من الْأَثر عَن عَليّ أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ

- ‌فصل وَأما احتجاجه بِحَدِيث أبي الدَّرْدَاء لقد توفّي رَسُول الله وَتَركنَا

- ‌فصل وَأما مَا نسبه إِلَى الشافعى من حكمه بالنجوم على عمر ذَلِك الْمَوْلُود

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن هَذَا علم مَا خلت عَنهُ مِلَّة من الْملَل وَلَا

- ‌فصل وَأما مَا ذكره فِي أَمر الطالع عَن الْفرس وَأَنَّهُمْ كَانُوا يعتنون بطالع

- ‌فصل الْآن الْتَقت حلقتا البطان وتداعى نزال الْفَرِيقَانِ نعم وَهَهُنَا أَضْعَاف

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد أَن عمر بن

- ‌فصل وَأما محبَّة النَّبِي التَّيَمُّن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره وشأنه كُله

- ‌فصل وَأما قَوْله الشؤم فِي ثَلَاث الحَدِيث فَهُوَ حَدِيث صَحِيح من رِوَايَة

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد جَاءَت امْرَأَة إِلَى

- ‌فصل وَأما قَول النَّبِي للَّذي سل سَيْفه يَوْم أحد شم سَيْفك فَإِنِّي

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ وَنسبه إِلَى قَوْله وقدت الْحَرْب لما رأى

- ‌فصل وَأما استقباله الجبلين فِي طَرِيقه وهما مسلح ومخرىء وَترك

- ‌فصل وَأما كَرَاهِيَة السّلف أَن يتبع الْمَيِّت بِشَيْء من النَّار أَو أَن يدْخل

- ‌فصل وَأما تِلْكَ الوقائع الَّتِي ذكروها مِمَّا يدل على وُقُوع مَا تطير بِهِ

- ‌فصل وَمِمَّا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَتَطَيَّرُونَ بِهِ ويتشاءمون مِنْهُ العطاس كَمَا

- ‌فصل وَأما قَوْله لَا يُورد ممرض على مصح فالممرض الَّذِي إبِله مراض والمصح

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا مَا روى عَنهُ من نَهْيه عَن وَطْء الغيل وَهُوَ

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا قَوْله للَّذي قَالَ لَهُ إِن لي أمة وَأَنا أكره

- ‌فصل وَأما قَضِيَّة المجذوم فَلَا ريب أَنه روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ

الفصل: ‌فصل وأما ما خلقه سبحانه فإنه أوجده لحكمة في إيجاده فإذا اقتضت

وَهل ذَلِك على سَبِيل الْوُجُوب أَو الِاسْتِحْبَاب فِيهِ قَولَانِ للسلف وَالْخلف وهما فِي مَذْهَب أَحْمد فعلى القَوْل الأول بالاستحباب إِذا أوصى للأجانب دونهم صحت الْوَصِيَّة وَلَا شَيْء للأقارب وعَلى القَوْل بِالْوُجُوب فَهَل لَهُم أَن يبطلوا وَصِيَّة الْأَجَانِب ويختصوا هم بِالْوَصِيَّةِ كَمَا للْوَرَثَة يبطلوا وَصِيَّة الْوَارِث أَو يبطلوا مَا زَاد على ثلث الثُّلُث ويختصوا هم بثلثيه كَمَا للْوَرَثَة أَن يبطلوا مَا زَاد على ثلث المَال من الْوَصِيَّة وَيكون الثُّلُث فِي حَقهم بِمَنْزِلَة المَال كُله فِي حق الْوَرَثَة على وَجْهَيْن وَهَذَا الثَّانِي أَقيس وأفقه وسره أَن الثُّلُث لما صَار مُسْتَحقّا لَهُم كَانَ بِمَنْزِلَة جَمِيع المَال فِي حق الْوَرَثَة وهم لَا يَكُونُوا أقوى من الْوَرَثَة فَكَمَا لَا سَبِيل للْوَرَثَة إِلَى أبطال الْوَصِيَّة بِالثُّلثِ للأجانب فَلَا سَبِيل لهَؤُلَاء إِلَى إبِْطَال الْوَصِيَّة بِثلث الثُّلُث للأجانب وَتَحْقِيق هَذِه الْمسَائِل وَالْكَلَام على مَا أَخذهَا لَهُ مَوضِع آخر وَالْمَقْصُود هُنَا أَن إِيجَاب الْوَصِيَّة للأقارب وَأَن نسخ لم يبطل بِالْكُلِّيَّةِ بل بَقِي مِنْهُ مَا هُوَ منشأ الْمصلحَة كَمَا ذَكرْنَاهُ وَنسخ مِنْهُ مَالا مصلحَة فِيهِ بل الْمصلحَة فِي خِلَافه وَمن ذَلِك نسخ الِاعْتِدَاد فِي الْوَفَاة بحول بالاعتداد بأَرْبعَة أشهر وَعشر على الْمَشْهُور من الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِك فَلم تبطل الْعدة الأولى جملَة

وَمن ذَلِك حبس الزَّانِيَة فِي الْبَيْت حَتَّى تَمُوت فَإِنَّهُ على أحد الْقَوْلَيْنِ لَا نسخ فِيهِ لِأَنَّهُ مغيا بِالْمَوْتِ أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا وَقد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا بِالْحَدِّ وعَلى القَوْل الْأُخَر هُوَ مَنْسُوخ بِالْحَدِّ وَهُوَ عُقُوبَة من جنس عُقُوبَة الْحَبْس فَلم تبطل الْعقُوبَة عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بل نقلت من عُقُوبَة إِلَى عُقُوبَة وَكَانَت الْعقُوبَة الأولى أصلح فِي وَقتهَا لأَنهم كَانُوا حَدِيثي عهد بجاهلية وزنا فَأمروا بِحَبْس الزَّانِيَة أَولا ثمَّ لما استوطنت أنفسهم على عقوبتها وَخَرجُوا عَن عوائد الْجَاهِلِيَّة وركنوا إِلَى التَّحْرِيم والعقوبة نقلوا إِلَى مَا هُوَ أغْلظ من الْعقُوبَة الأولى وَهُوَ الرَّجْم وَالْجَلد فَكَانَت كل عُقُوبَة فِي وَقتهَا هِيَ الْمصلحَة الَّتِي لَا يصلحهم سواهَا وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ فِي نسخ الحكم الَّذِي ثَبت بشرعه وَأمره وَأما مَا كَانَ مستصحبا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة فَهَذَا لَا يلْزم من رَفعه بَقَاء شَيْء مِنْهُ لِأَنَّهُ لم يكن مصلحَة لَهُم وَإِنَّمَا أخر عَنْهُم تَحْرِيمه إِلَى وَقت لضرب من الْمصلحَة فِي تَأْخِير التَّحْرِيم وَلم يلْزم من ذَلِك أَن يكون مصلحَة حِين فعلهم أَيَّاهُ وَهَذَا كتحريم الرِّبَا والمسكر وَغير ذَلِك من الْمُحرمَات الَّتِي كَانُوا يفعلونها استصابا لعدم التَّحْرِيم فَإِنَّهَا لم تكن مصلحَة فِي وَقت وَلِهَذَا لم يشرعها الله تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ رَفعهَا بِالْخِطَابِ لَا يُسمى نسخا إِذْ لَو كَانَ ذَلِك نسخا لكَانَتْ الشَّرِيعَة كلهَا نسخا وَإِنَّمَا النّسخ رفع الحكم الثَّابِت بِالْخِطَابِ لَا رفع مُوجب الِاسْتِصْحَاب وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ

‌فصل وَأما مَا خلقه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ أوجده لحكمة فِي إيجاده فَإِذا اقْتَضَت

حكمته إعدامه جملَة أعدمه وأحدث بدله وَإِذا اقْتَضَت حكمته تبدليه وتغييره وتحويله من صُورَة بدله وَغَيره

ص: 34

وَحَوله وَلم يعدمه جملَة وَمن فهم هَذَا فهم مَسْأَلَة الْمعَاد وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل فِيهِ فَإِن الْقُرْآن وَالسّنة إِنَّمَا دلا على تَغْيِير الْعَالم وتحويله وتبديله لَا جعله عدما مَحْضا وإعدامه بِالْكُلِّيَّةِ فَدلَّ على تَبْدِيل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَاوَات وعَلى تشقق السَّمَاء وانفطارها وتكوير الشَّمْس وانتثار الْكَوَاكِب وسجر الْبحار وإنزال الْمَطَر على أَجزَاء بنى آدم المختلطة بِالتُّرَابِ فينبتون كَمَا ينْبت النَّبَات وَترد تِلْكَ الْأَرْوَاح بِعَينهَا إِلَى تِلْكَ الأجساد الَّتِي أحيلت ثمَّ أنشئت نشأة أُخْرَى وَكَذَلِكَ الْقُبُور تبعثر وَكَذَلِكَ الْجبَال تسير ثمَّ تنسف وَتصير كالعهن المنفوش وتقيء الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة أفلاذ كَبِدهَا أَمْثَال الاسطوان من الذَّهَب وَالْفِضَّة وتميد الأَرْض وتدنو والشحى من رُؤْس النَّاس فَهَذَا هُوَ الَّذِي أخبر بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة وَلَا سَبِيل لَاحَدَّ من الْمَلَاحِدَة الفلاسفة وَغَيرهم إِلَى الِاعْتِرَاض على هَذَا الْمعَاد الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل بِحرف وَاحِد وَإِنَّمَا اعتراضاتهم على الْمعَاد الَّذِي عَلَيْهِ طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين أَن الرُّسُل جاؤا بِهِ وَهُوَ أَن الله يعْدم أَجزَاء الْعَالم الْعلوِي والسفلي كلهَا فيجعلها عدما مَحْضا ثمَّ يُعِيد ذَلِك الْعَدَم وجودا وَيَا لَيْت شعري أَيْن فِي الْقُرْآن وَالسّنة أَن الله يعْدم ذرات الْعَالم وأجزاءه جملَة ثمَّ يقلب ذَلِك الْعَدَم وجودا وَهَذَا هُوَ الْمعَاد الَّذِي أنكرته الفلاسفة ورمته بأنواع الاعتراضات وضروب الالزامات وَاحْتَاجَ المتكلمون إِلَى تعسف الْجَواب وَتَقْرِيره بأنواع من المكابرات وَأما الْمعَاد الَّذِي أخْبرت بِهِ الرُّسُل فبريء من ذَلِك كُله مصون عَنهُ لَا مطمع لِلْعَقْلِ فِي الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ وَلَا يقْدَح فِيهِ شُبْهَة وَاحِد وَقد أخبر سُبْحَانَهُ أَنه يحي الْعِظَام بعد مَا صَارَت رميما وَأَنه قد علم مَا تنقص الأَرْض من لُحُوم بني آدم وعظامهم فَيرد ذَلِك إِلَيْهِم عِنْد النشأة الثَّانِيَة وَأَنه ينشىء تِلْكَ الأجساد بِعَينهَا بعد مَا بليت نشأه أخري وَيرد إِلَيْهَا تِلْكَ الْأَرْوَاح فَلم يدل على أَنه يعْدم تِلْكَ الْأَرْوَاح ويفنيها حَتَّى تصير عدما مَحْضا فَلم يدل الْقُرْآن على أَنه يعْدم تِلْكَ الْأَرْوَاح ثمَّ يخلقها خلقا جَدِيدا وَلَا دلّ على أَنه يفني الأَرْض وَالسَّمَوَات ويعدمهما عدما صرفا ثمَّ يجدد وجودهما وَإِنَّمَا دلّت النُّصُوص على تبديلهما وتغييرهما من حَال إِلَى حَال فَلَو أَعْطَيْت النُّصُوص حَقّهَا لارتفع أَكثر النزاع من الْعَالم وَلَكِن خفيت النُّصُوص وَفهم مِنْهَا خلاف مرادها وانضاف إِلَى ذَلِك تسليط الآراء عَلَيْهَا وَاتِّبَاع مَا تقضى بِهِ فتضاعف الْبلَاء وَعظم الْجَهْل واشتدت المحنة وتفاقم الْخطب وَسبب ذَلِك كُله الْجَهْل بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وبالمراد مِنْهُ فَلَيْسَ للْعَبد أَنْفَع من سمع مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وعقل مَعْنَاهُ وَأما من لم يسمعهُ وَلم يعقله فَهُوَ من الَّذين قَالَ الله فيهم وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير فلنرجع إِلَى الْكَلَام عَن الدَّلِيل الْمَذْكُور وَهُوَ أَن الْحسن أَو الْقبْح لَو كَانَ ذاتيا لما اخْتلف إِلَى آخِره فَنَقُول قد بَينا أَن اختلافه بِحَسب الْأَزْمِنَة والأمكنة وَالْأَحْوَال والشروط لَا يُخرجهُ عَن كَونه ذاتيا الثَّانِي أَنه لَيْسَ الْمَعْنى من كَونه ذاتيا إِلَّا أَنه ناشىء من الْفِعْل فالفاعل منشؤه وَهَذَا

ص: 35

لَا يُوجب اختلافه بِدَلِيل مَا ذكرنَا من الصُّور الثَّالِث انه يجوز اقْتِضَاء الذَّات الْوَاحِدَة لأمرين متنافيين بِحَسب شرطين متنافيين فيقتضى التبريد مثلا فِي مَحل معِين بِشَرْط معِين والتسخين فِي مَحل آخر بِشَرْط آخر والجسم فِي حيزه يَقْتَضِي السّكُون فَإِذا خرج عَن حيزه اقْتضى الْحَرَكَة وَاللَّحم يَقْتَضِي الصِّحَّة بِشَرْط سَلامَة الْبدن من الْحمى وَالْمَرَض الْمُمْتَنع مِنْهُ الْغذَاء وَيَقْتَضِي الْمَرَض بِشَرْط كَون الْجِسْم محموما وَنَحْوه ونظائر ذَلِك أَكثر من أَن تحصى فَإِن قيل مَحل النزاع أَن الْفِعْل لذاته أَو لوصف لَازم لَهُ يَقْتَضِي الْحسن والقبح والشرطان متنافيان يمْتَنع أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا وَصفا لَازِما لِأَن اللَّازِم يمْتَنع انفكاك الشَّيْء عَنهُ قيل معنى كَونه يَقْتَضِي الْحسن والقبح لذاته أَو لوصفه اللَّازِم أَن الْحسن ينشأ من ذَاته أَو من وَصفه بِشَرْط معِين والقبح ينشأ من ذَاته أَو من وَصفه بِشَرْط آخر فَإِذا عدم شَرط الِاقْتِضَاء أَو وجد مَانع يمْنَع الِاقْتِضَاء زَالَ الْأَمر الْمُتَرَتب بِحَسب الذَّات أَو الْوَصْف لزوَال شَرطه أَو لوُجُود مانعه وَهَذَا وَاضح جدا: الثَّالِث أَن قَوْلكُم يحسن الْكَذِب إِذا تضمن عصمَة نبى أَو مُسلم فَهَذَا فِيهِ طَرِيقَانِ أَحدهمَا لَا نسلم أَنه يحسن الْكَذِب فضلا عنأن يجب بل لَا يكون الْكَذِب إِلَّا قبيحا وَأما الَّذِي يحسن فالتعريض والتورية كَمَا وَردت بِهِ السّنة النَّبَوِيَّة وكما عرض إِبْرَاهِيم للْملك الظَّالِم بقوله هَذِه أُخْتِي لزوجته وكما قَالَ أَنِّي سقيم فَعرض بِأَنَّهُ سقيم قلبه من شركهم أَو سيسقم يَوْمًا مَا وكما فعل فِي قَوْله بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا فاسألوهم أَن كَانُوا ينطقون فَأن الْخَبَر والطلب كِلَاهُمَا مُعَلّق بِالشّرطِ وَالشّرط مُتَّصِل بهما وَمَعَ هَذَا فسماها ثَلَاث كذبات وَامْتنع بهَا من مقَام الشَّفَاعَة فَكيف يَصح دعواكم أَن الْكَذِب يجب إِذا تضمن عصمَة مُسلم مَعَ ذَلِك فَأن قيل كَيفَ سَمَّاهَا إِبْرَاهِيم كذبات وَهِي تورية وتعريض صَحِيح قيل لَا يلْزمنَا جَوَاب هَذَا السُّؤَال إِذا الْغَرَض أبطال استدلالكم وَقد حصل فَالْجَوَاب عَنهُ تبرع منا وتكميل للفائدة وَلم أجد فِي هَذَا الْمقَام للنَّاس جَوَابا شافيا يسكن الْقلب إِلَيْهِ وَهَذَا السُّؤَال لَا يخْتَص بِهِ طَائِفَة مُعينَة بل هُوَ وَارِد عَلَيْكُم بِعَيْنِه وَقد فتح الله الْكَرِيم بِالْجَوَابِ عَنهُ فَنَقُول الْكَلَام لَهُ نسبتان نِسْبَة إِلَى الْمُتَكَلّم وقصده وإرادته وَنسبَة إِلَى السَّامع وإفهام الْمُتَكَلّم إِيَّاه مضمونه فَإِذا أخبر الْمُتَكَلّم بِخَبَر مُطَابق للْوَاقِع وَقصد إفهام الْمُخَاطب فَهُوَ صدق من الْجِهَتَيْنِ وَأَن قصد خلاف الْوَاقِع وَقصد مَعَ ذَلِك إفهام الْمُخَاطب خلاف مَا قصد بل معنى ثَالِثا لَا هُوَ الْوَاقِع وَلَا هُوَ المُرَاد فَهُوَ كذب من الْجِهَتَيْنِ بالنسبتين مَعًا وَإِن قصد معنى مطابقا صَحِيحا وَقصد مَعَ ذَلِك التعمية على الْمُخَاطب وإفهامه خلاف مَا قَصده فَهُوَ صدق بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصده كذب بِالنِّسْبَةِ إِلَى إفهامه وَمن هَذَا الْبَاب التورية والمعاريض وَبِهَذَا أطلق عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عليه السلام اسْم الْكَذِب مَعَ أَنه الصَّادِق فِي خَبره وَلم يخبر إِلَّا صدقا فَتَأمل هَذَا الْموضع الَّذِي أشكل على النَّاس وَقد ظهر بِهَذَا أَن الْكَذِب لَا يكون قطّ إِلَّا

ص: 36