الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْن لَهُ معرفَة الله تَعَالَى بأسمائه وَصِفَاته وَالْآيَة الَّتِي تعرف بهَا الله إِلَيّ عباده على السّنة رسله وَمن أَيْن لَهُ معرفَة تفاصيل شَرعه وَدينه الَّذِي شَرعه لِعِبَادِهِ وَمن أَيْن لَهُ تفاصيل مواقع محبته وَرضَاهُ وَسخطه
وكراهته وَمن أَيْن لَهُ معرفَة تفاصيل ثَوَابه وعقابه وَمَا أعد لأوليائه وَمَا اعد لأعدائه ومقادير الثَّوَاب وَالْعِقَاب وكيفيتهما ودرجاتهما وَمن أَيْن لَهُ معرفَة الْغَيْب الَّذِي لم يظْهر الله عَلَيْهِ أحدا من خلقه إِلَّا من ارْتَضَاهُ من رسله إِلَيّ غير ذَلِك مِمَّا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وبلغته عَن الله وَلَيْسَ فِي الْعقل طَرِيق إِلَيّ مَعْرفَته فَكيف يكون معرفَة حسن بعض الْأَفْعَال وقبحها بِالْعقلِ مغنيا عَمَّا جَاءَت بِهِ الرُّسُل فَظهر أَن مَا ذكرتموه مُجَرّد تهويل مشحون بالأباطيل وَالْحَمْد لله
وَقد ظهر بِهَذَا الْقُصُور الفلاسفة فِي معرفَة النبوات وَأَنَّهُمْ لَا علم عِنْدهم بهَا إِلَّا كعلم عوام النَّاس بِمَا عِنْدهم من ألعقليات بل علمهمْ بالنبوات وحقيقتها وَعظم قدرهَا وَمَا جَاءَت بِهِ اقل بِكَثِير من علم الْعَامَّة بعقلياتهم فهم عوام بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَمَا أَن من لم يعرف علومهم عوام بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم فلولا النبوات لم يكن فِي الْعَالم علم نَافِع الْبَتَّةَ وَلَا عمل صَالح وَلَا صَلَاح فِي معيشته وَلَا قوام لمملكة ولكان النَّاس بِمَنْزِلَة الْبَهَائِم وَالسِّبَاع العادية وَالْكلاب الضارية الَّتِي يعدو بَعْضهَا على بعض وكل دين فِي الْعَالم
فَمن آثَار النُّبُوَّة وكل شَيْء وَقع فِي الْعَالم أَو سيقع فبسبب خَفَاء آثَار النُّبُوَّة ودروسها فالعالم حِينَئِذٍ روحه النُّبُوَّة وَلَا قيام للجسد بِدُونِ روحه وَلِهَذَا إِذا تمّ انكساف شمس النُّبُوَّة من الْعَالم وَلم يبْق فِي الأَرْض شَيْء من أثارها الْبَتَّةَ انشقت سماؤه وانتثرت كواكبه وكورت شمسه وخسفت قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وَأهْلك من عَلَيْهَا فَلَا قيام للْعَالم إِلَّا بأثار النُّبُوَّة وَلِهَذَا كَانَ كل مَوضِع ظَهرت فِيهِ آثَار النُّبُوَّة فأهله أحسن حَالا وَأصْلح بَالا من الْموضع الَّذِي يخفى فِيهِ آثارها وَبِالْجُمْلَةِ فحاجة الْعَالم إِلَيّ النُّبُوَّة أعظم من حَاجتهم إِلَيّ نور الشَّمْس وَأعظم من حَاجتهم إِلَيّ المَاء والهواء الَّذِي لَا حَيَاة لَهُم بِدُونِهِ
فصل وَأما مَا ذكره الفلاسفة من مَقْصُود الشَّرَائِع وان ذَلِك لاستكمال
النَّفس قوى الْعلم وَالْعَمَل والشرائع ترد بتمهيد مَا تقرر فِي الْعقل بتعبيره إِلَيّ آخِره فَهَذَا مقَام يجب الاعتناء بِشَأْنِهِ وَأَن لَا نضرب عَنهُ صفحا فَنَقُول للنَّاس فِي الْمَقْصُود بالشرائع والأوامر والنواهي أَرْبَعَة طرق: أَحدهَا طَرِيق من يَقُول أَن الفلاسفة وأتباعهم من المنتسبين إِلَيّ الْملَل أَن الْمَقْصُود بهَا تَهْذِيب أَخْلَاق النُّفُوس وتعديلها لتستعد بذلك لقبُول الْحِكْمَة العلمية والعملية وَمِنْهُم من يَقُول لتستعد بذلك لِأَن تكون محلا لانتقاش صور المعقولات فِيهَا ففائدة ذَلِك عِنْدهم كالفائدة
الْحَاصِلَة من صقل الْمرْآة لتستعد لظُهُور الصُّور فِيهَا وَهَؤُلَاء يجْعَلُونَ الشَّرَائِع من جنس الْأَخْلَاق الفاضلة والسياسات العادلة وَلِهَذَا رام فلاسفة الْإِسْلَام الْجمع بَين الشَّرِيعَة والفلسفة كَمَا فعل ابْن سينا والفارابي واضرابهما وَآل بهم أَن تكلمُوا فِي خوارق الْعَادَات والمعجزات على طَرِيق الفلاسفة الْمَشَّائِينَ وَجعلُوا لَهَا أسبابا ثَلَاثَة أَحدهَا القوى الفلكية وَالثَّانِي القوى النفسية وَالثَّالِث القوى الطبيعية وَجعلُوا جنس الخوارق
جِنْسا وَاحِدًا وأدخلوا مَا للسحرة وأرباب الرياضة والكهنة وَغَيرهم مَعَ مَا للأنبياء وَالرسل فِي ذَلِك وَجعلُوا سَبَب ذَلِك كُله وَاحِدًا وان اخْتلفت بالغايات وَالنَّبِيّ قَصده الْخَيْر والساحر قَصده الشَّرّ وَهَذَا الْمَذْهَب من افسد مَذَاهِب الْعَالم وأخبثها وَهُوَ مَبْنِيّ على إِنْكَار الْفَاعِل الْمُخْتَار وانه تَعَالَى لَا يعلم ألجزئيات وَلَا يقدر على تَغْيِير الْعَالم وَلَا يخلق شَيْئا بمشيئته وَقدرته وعَلى إِنْكَار الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة ومعاد الْأَجْسَام وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مَبْنِيّ على الْكفْر بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وَلَيْسَ هَذَا مَوْضُوع الرَّد هُنَا على هَؤُلَاءِ وكشف باطلهم وفضائحهم إِذْ الْمَقْصُود ذكر طرق النَّاس فِي الْمَقْصُود بالشرائع والعبادات وَهَذِه الْفرْقَة غَايَة مَا عِنْدهَا فِي الْعِبَادَات والأخلاق وَالْحكمَة العلمية أَنهم رَأَوْا النَّفس لَهَا شَهْوَة وَغَضب بقوتها العملية وَلها تصور وَعلم بقوتها العلمية فَقَالُوا كَمَال الشَّهْوَة فِي الْعِفَّة وَكَمَال الْغَضَب فِي الحكم والشجاعة وَكَمَال الْقُوَّة النظرية بِالْعلمِ والتوسط فِي جَمِيع ذَلِك بَين طرفِي الإفراط والتفريط هُوَ الْعدْل
هَذَا غَايَة مَا عِنْد الْقَوْم من الْمَقْصُود بالعبادات والشرائع وَهُوَ عِنْدهم غَايَة كَمَال النَّفس وَهُوَ استكمال قويتها العلمية والعملية فاستكمال قوتها العلمية عِنْدهم بانطباع صور المعلومات فِي النَّفس واستكمال قوتها العلمية بِالْعَدْلِ وَهَذَا مَعَ انه غَايَة مَا عِنْدهم من الْعلم وَالْعَمَل وَلَيْسَ فِيهِ بَيَان خاصية النَّفس الَّتِي لَا كَمَال لَهَا بِدُونِهِ الْبَتَّةَ وَهُوَ الَّذِي خلقت لَهُ وَأُرِيد مِنْهَا بل مَا عرفه الْقَوْم لِأَنَّهُ لم يكن عِنْدهم من معرفَة مُتَعَلقَة إِلَّا نزر يسير غير مجد وَلَا مُحَصل للمقصود وَذَلِكَ معرفَة الله بأسمائه وَصِفَاته وَمَعْرِفَة مَا يَنْبَغِي لجلاله وَمَا يتعالى ويتقدس عَنهُ وَمَعْرِفَة أمره وَدينه والتمييز بَين مواقع رِضَاهُ وَسخطه واستفراغ الوسع فِي التَّقْرِيب إِلَيْهِ وامتلاء الْقلب بمحبته بِحَيْثُ يكون سُلْطَان حبه قاهرا لكل محبَّة وَلَا سَعَادَة للْعَبد فِي دُنْيَاهُ وَلَا أخراه إِلَّا بذلك وَلَا كَمَال للروح بِدُونِ ذَلِك
الْبَتَّةَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي خلق لَهُ بل وَأُرِيد مِنْهُ بل ولأجله خلقت السَّمَاوَات وَالْأَرْض واتخذت الْجنَّة وَالنَّار كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره من أَكثر من مائَة وَجه أَن شَاءَ الله
وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ عِنْد الْقَوْم من هَذَا خبر بل هم فِي وَاد وَأهل الشَّأْن فِي وَاد وَهَذَا هُوَ الدّين الَّذِي الَّذِي أَجمعت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِ من أَوَّلهمْ إِلَيّ خاتمتهم كلهم جَاءَ بِهِ وَأخْبر عَن الله أَنه دينه الَّذِي رضيه لِعِبَادِهِ وشرعه لَهُم وَأمرهمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت} وَقَالَ تَعَالَى وَمَا أرسلنَا من قبلك رَسُولا إِلَّا نوحي إِلَيْهِ أَنه لَا اله إِلَّا أَنا فاعبدون
وَقَالَ تَعَالَى وَمن يبتع غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَقَالَ تَعَالَى واسأل من رسلنَا أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ وَقَالَ يأيها الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا أَنى بِمَا تَعْمَلُونَ عليم وَأَن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون وَقَالَ تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ كبر على الْمُشْركين} وَقَالَ تَعَالَى فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ منيبين إِلَيْهِ وَاتَّقوا وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فالغاية الحميدة الَّتِي يحصل بهَا كَمَال بني آدم وسعادتهم ونجاحهم هِيَ معرفَة الله
ومحبته وعبادته وَحده لَا شريك لَهُ وَهِي حَقِيقَة قَول العَبْد لَا اله إِلَّا الله وَبهَا بعث الرُّسُل وَنزلت جَمِيع الْكتب وَلَا تصلح النَّفس وَلَا تزكو وَلَا تكمل إِلَّا بذلك قَالَ تَعَالَى فويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة أَي لَا يُؤْتونَ مَا تزكّى بِهِ أنفسهم من التَّوْحِيد والأيمان وَلِهَذَا فَسرهَا غير وَاحِد من السّلف بِأَن قَالُوا لَا يأْتونَ الزَّكَاة لَا يَقُولُونَ لَا اله إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن يكون الله أحب إِلَى العَبْد من كل مَا سواهُ هُوَ اعظم وَصِيَّة جَاءَت بهَا الرُّسُل ودعوا إِلَيْهَا الْأُمَم وسنبين أَن شَاءَ الله عَن قريب بالبراهين الشافية أَن النَّفس لَيْسَ لَهَا نجاة وَلَا سَعَادَة وَلَا كَمَال إِلَّا بِأَن يكون الله وَحده محبوبها ومعبودها لَا أحب إِلَيْهَا مِنْهُ وَلَا آثر عِنْدهَا من
مرضاته والتقرب إِلَيْهِ وَأَن النَّفس محتاجة بل مضطرة إِلَيْهِ حَيْثُ هُوَ معبودها ومحبوبها وَغَايَة مرادها أعظم من اضطرارها إِلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ رَبهَا وخالقها وفاطرها وَلِهَذَا كَانَ من آمن بِاللَّه خالقه ورازقه وربه ومليكه وَلم يُؤمن بِأَنَّهُ لَا اله يعبد وَيُحب ويخشى وَيخَاف غَيره بل أشرك مَعَه فِي عِبَادَته غَيره فَهُوَ كَافِر بِهِ مُشْرك شركا لَا يغفره الله لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} فَأخْبر أَن من أحب شَيْئا سوى الله مثل مَا يحب الله فقد اتخذ من دون الله أندادا وَلِهَذَا يَقُول أهل النَّار لمعبوداتهم وهم مَعَهم فِيهَا {تالله إِن كُنَّا لفي ضلال مُبين إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين} وَهَذِه التَّسْوِيَة إِنَّمَا كَانَت فِي الْحبّ والتأله لَا فِي الْخلق وَالْقُدْرَة والربوبية وَهِي الْعدْل الَّذِي أخبر بِهِ عَن الْكفَّار بقوله وَالْحَمْد لله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يعدلُونَ وَأَصَح الْقَوْلَيْنِ أَن الْمَعْنى ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يعدلُونَ فيجعلون لَهُ عدلا يحبونه ويعبدونه ويعبدونه كَمَا يحبونَ الله ويعبدونه فَمَا ذكر الفلاسفة من الْحِكْمَة العملية والعلمية لَيْسَ فِيهَا من الْعُلُوم والأعمال مَا تستعد بِهِ النُّفُوس وتنجو بِهِ من الْعَذَاب فَلَيْسَ فِي