الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا حرم بخلا مِنْهُ عَلَيْهِم وَهُوَ الْجواد الْكَرِيم بل أمره وَنَهْيه عين حظهم وسعادتهم العاجلة والآجلة ومصدر أمره وَنَهْيه رَحمته الواسعة وبره وجوده وإحسانه وإنعامه فَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل لكَمَال حكمته وَعلمه وَوُقُوع أَفعاله على وفْق الْمصلحَة وَالرَّحْمَة وَالْحكمَة وَقَالَ تَعَالَى أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرهم للحق كَارِهُون وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ بل آتَيْنَاهُم بذكرهم فهم عَن ذكرهم معرضون فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن الْحق لَو اتبع أهواء الْعباد فجَاء شرع الله وَدينه بأهوائهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَمَعْلُوم أَن عِنْد النفاة يجوز أَن يرد شرع الله وَدينه بأهواء الْعباد وَأَنه لَا فرق فِي نفس الْأَمر بَين مَا ورد بِهِ وَبَين مَا تَقْتَضِيه أهواؤهم إِلَّا مُجَرّد الْأَمر وَإنَّهُ لَو ورد بأهوائهم جَازَ وَكَانَ تعبدا ودينا وَهَذِه مُخَالفَة صَرِيحَة لِلْقُرْآنِ وَإنَّهُ من الْمحَال أَن يتبع الْحق أهوائهم وَأَن أهواءهم مُشْتَمِلَة على قبح عَظِيم لَو ورد الشَّرْع بِهِ لفسد الْعَالم أَعْلَاهُ وأسفله وَمَا بَين ذَلِك وَمَعْلُوم أَن هَذَا الْفساد إِنَّمَا يكون لقبح خلاف مَا شَرعه الله وَأمر بِهِ ومنافاته لصلاح الْعَالم عُلْوِيَّهُ وسفليه وَإِن خراب الْعَالم وفساده لَازم لحصوله ولشرعه وَأَن كَمَال حِكْمَة الله وَكَمَال علمه وَرَحمته وربو بَيته يَأْبَى ذَلِك وَيمْنَع مِنْهُ وَمن يَقُول الْجَمِيع فِي نفس الْأَمر سَوَاء يجوز وُرُود التَّعَبُّد بِكُل شَيْء سَوَاء كَانَ من مُقْتَضى أهوائهم أَو خلَافهَا 0
وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا فسبحان الله رب الْعَرْش} أَي لَو كَانَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض آلِهَة تعبد غير الله لفسدتا وبطلتا وَلم يقل أَرْبَاب بل قَالَ آلِهَة والإله هُوَ المعبود المألوه وَهَذَا يدل على أَنه من الْمُمْتَنع المستحيل عقلا أَن يشرع الله عبَادَة غَيره أبدا وَإنَّهُ لَو كَانَ مَعَه معبود سواهُ لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض فقبح عبَادَة غَيره قد اسْتَقر فِي الْفطر والعقول وَأَن لم يرد النَّبِي عَنهُ شرع بل الْعقل يدل على أَنه أقبح الْقَبِيح على الْإِطْلَاق وَأَنه من الْمحَال أَن يشرعه الله قطّ فصلاح الْعَالم فِي أَن يكون الله وَحده هُوَ المعبود وفساده وهلاكه فِي أَن يعبد مَعَه غَيره ومحال أَن يشرع لِعِبَادِهِ مَا فِيهِ فَسَاد الْعَالم وهلاكه بل هُوَ المنزه عَن ذَلِك 0
فصل وَقد أنكر تَعَالَى على من نسب إِلَى حكمته التَّسْوِيَة بَين الْمُخْتَلِفين
كالتسوية بَين الْأَبْرَار والفجار فَقَالَ تَعَالَى {أم نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار} وَقَالَ تَعَالَى أم حسب الَّذين اجتر حوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سَاءَ مَا يحكمون فَدلَّ على أَن هَذَا حكم سيء قَبِيح ينزه الله عَنهُ وَلم يُنكره سُبْحَانَهُ من جِهَة أَنه أخبر بِأَنَّهُ لَا يكون وَإِنَّمَا أنكرهُ من جِهَة قبحه فِي نَفسه وَإنَّهُ حكم
سيء يتعالى ويتنزه عَنهُ لمنافاته لحكمته وغناه وكماله وَوُقُوع أَفعاله كلهَا على السداد وَالصَّوَاب وَالْحكمَة فَلَا يَلِيق بِهِ أَن يَجْعَل الْبر كالفاجر وَلَا المحسن كالمسيء وَلَا الْمُؤمن كالمفسد فِي الأَرْض فَدلَّ على أَن هَذَا قَبِيح فِي نَفسه تَعَالَى الله عَن فعله 0 وَمن هَذَا أَيْضا إِنْكَاره سُبْحَانَهُ على من جوز أَن يتْرك عباده سدى فَلَا يَأْمُرهُم وَلَا ينهاهم وَلَا يثيبهم وَلَا يعاقبهم وَأَن هَذَا الحسبان بَاطِل وَالله متعال عَنهُ لمنافاته لحكمته وكماله كَمَا قَالَ تَعَالَى {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} قَالَ الشَّافِعِي رضى الله عَنهُ أَي مهملا لَا يُؤمر وَلَا ينْهَى وَقَالَ غَيره لَا يُثَاب وَلَا يُعَاقب وَالْقَوْلَان وَاحِد لِأَن الثَّوَاب وَالْعِقَاب غَايَة الْأَمر والنهى فَهُوَ سُبْحَانَهُ خلقهمْ لِلْأَمْرِ والنهى فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الْآخِرَة فَأنْكر سُبْحَانَهُ على من زعم أَنه يتْرك سدى إِنْكَار من جعل فِي الْعقل استقباح ذَلِك واستهجانه وَأَنه لَا يَلِيق أَن ينْسب ذَلِك إِلَى احكم الْحَاكِمين 0
وَمثله وَقَوله تَعَالَى {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون فتعالى الله الْملك الْحق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْكَرِيم} فنزه نَفسه سُبْحَانَهُ وباعدها عَن هَذَا الحسبان وَأَنه يتعالى عَنهُ وَلَا يَلِيق بِهِ لقبحه ولمنافاته لحكمته وَملكه وإلهيته أَفلا ترى كَيفَ ظهر فِي الْعقل الشَّهَادَة بِدِينِهِ وشرعه وبثوابه وعقابه وَهَذَا يدل على إِثْبَات الْمعَاد بِالْعقلِ كَمَا يدل على إثْبَاته بِالسَّمْعِ وَكَذَلِكَ دينه وَأمره وَمَا بعث بِهِ رسله هُوَ ثَابت فِي الْعُقُول جملَة ثمَّ علم بِالْوَحْي فقد تطابقت شَهَادَة الْعقل وَالْوَحي على توحيده وشرعه والتصديق بوعده ووعيده وَأَنه سُبْحَانَهُ دَعَا عباده على أَلْسِنَة رسله إِلَى مَا وضع فِي الْعُقُول حسنه والتصديق بِهِ جملَة فجَاء الْوَحْي مفصلا مُبينًا ومقررا ومذكرا لما هُوَ مركوز فِي الْفطر والعقول وَلِهَذَا سَأَلَ هِرقل أَبَا سُفْيَان فِي جملَة مَا سَأَلَهُ من أَدِلَّة النُّبُوَّة وشواهدها عَمَّا يَأْمر بِهِ النَّبِي فَقَالَ بِمَ يَأْمُركُمْ قَالَ يَأْمُرنَا بِالصَّلَاةِ والصدق والعفاف فَجعل مَا يَأْمر بِهِ من أَدِلَّة نبوته فَأن أكذب الْخلق وأفجرهم من أدعى النُّبُوَّة وَهُوَ كَاذِب فِيهَا على الله وَهَذَا محَال أَن يَأْمر إِلَّا بِمَا يَلِيق بكذبه وفجوره وافترائه فدعوته تلِيق بِهِ وَأما الصَّادِق الْبَار الَّذِي هُوَ أصدق الْخلق وأبرهم فدعوته لَا تكون إِلَّا أكمل دَعْوَة وَأَشْرَفهَا وأجلها وَأَعْظَمهَا فَإِن الْعُقُول وَالْفطر تشهد بحسنها وَصدق الْقَائِم بهَا فَلَو كَانَت الْأَفْعَال كلهَا سَوَاء فِي نفس الْأَمر لم يكن هُنَاكَ فرقان بَين مَا يجوز أَن يَدْعُو إِلَيْهِ الرَّسُول ومالا يجوز أَن يَدْعُو إِلَيْهِ إِذْ الْعرف وضده إِنَّمَا يعلم بِنَفس الدعْوَة وَالْأَمر وَالنَّهْي وَكَذَلِكَ مسئلة النَّجَاشِيّ لجَعْفَر وَأَصْحَابه عَمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الرَّسُول فَدلَّ على أَنه من المستقر فِي الْعُقُول وَالْفطر انقسام الْأَفْعَال إِلَى قَبِيح وَحسن فِي نَفسه وَأَن الرُّسُل تَدْعُو إِلَى حسنها وتنهى عَن قبيحها وَأَن ذَلِك من آيَات صدقهم وبراهين رسالتهم وَهُوَ أولى وَأعظم عِنْد أولي الْأَلْبَاب والحجى من مُجَرّد خوارق
الْعَادَات وَإِن كَانَ انْتِفَاع ضعفاء الْعُقُول بالخوارق فِي الْإِيمَان أعظم من انتفاعهم بِنَفس الدعْوَة وَمَا جَاءَ بِهِ من الْإِيمَان فطرق الْهِدَايَة متنوعة رَحْمَة من الله بعباده ولطفا بهم لتَفَاوت عُقُولهمْ وأذهانهم وبصائرهم فَمنهمْ من يَهْتَدِي بِنَفس مَا جَاءَ بِهِ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ من غير أَن يطْلب مِنْهُ برهانا خَارِجا عَن ذَلِك كَحال الكمل من الصَّحَابَة كالصديق رضي الله عنه وَمِنْهُم من يَهْتَدِي بمعرفته بِحَالهِ وَمَا فطر عَلَيْهِ من كَمَال الْأَخْلَاق والأوصاف وَالْأَفْعَال وَأَن عَادَة الله أَن لَا يخزي من قَامَت بِهِ تِلْكَ الْأَوْصَاف وَالْأَفْعَال لعلمه بِاللَّه ومعرفته بِهِ وَإنَّهُ لَا يخزي من كَانَ بِهَذِهِ المثابة كَمَا قَالَت أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة رضي الله عنها لَهُ إبشر فوَاللَّه لن يخزيك الله أبدا إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتصدق الحَدِيث وَتحمل الْكل وتقري الضَّعِيف وَتعين على نَوَائِب الْحق فاستدلت بمعرفتها بِاللَّه وحكمته وَرَحمته على أَن من كَانَ كَذَلِك فَإِن الله لَا يخزيه وَلَا يَفْضَحهُ بل هُوَ جدير بكرامة الله واصطفائه ومحبته وتوبته وَهَذِه المقامات فِي الْإِيمَان عجز عَنْهَا أَكثر الْخلق فاحتاجوا إِلَى الْآيَات والخوارق والآيات المشهودة بالحس فَآمن كثير مِنْهُم عَلَيْهَا وأضعف النَّاس إِيمَانًا من كَانَ إيمَانه صادرا من الْمظهر ورؤية غلبته للنَّاس فاستدلوا بذلك الْمظهر وَالْغَلَبَة والنصرة على صِحَة الرسَالَة فَأَيْنَ بصائر هَؤُلَاءِ من بصائر من آمن بِهِ وَأهل الأَرْض قد نصبوا لَهُ الْعَدَاوَة وَقد ناله من قومه ضروب الْأَذَى وَأَصْحَابه فِي غَايَة قلَّة الْعدَد والمخافة من النَّاس وَمَعَ هَذَا فقلبه ممتلىء بِالْإِيمَان واثق بِأَنَّهُ سَيظْهر على الْأُمَم وَأَن دينه سيعلو كل دين وأضعف من هَؤُلَاءِ إِيمَانًا من إيمَانه إِيمَان الْعَادة والمربا والمنشأ فَإِنَّهُ نَشأ بَين أبوين مُسلمين وأقارب وجيران وَأَصْحَاب كَذَلِك فَنَشَأَ كواحد مِنْهُم لَيْسَ عِنْده من الرَّسُول وَالْكتاب إِلَّا اسمهما وَلَا من الدّين إِلَّا مَا رأى عَلَيْهِ أَقَاربه وَأَصْحَابه فَهَذَا دين العوائد وَهُوَ أَضْعَف شَيْء وَصَاحبه بِحَسب من يقْتَرن بِهِ فَلَو قيض لَهُ من يُخرجهُ عَنهُ لم يكن عَلَيْهِ كلفة فِي الِانْتِقَال عَنهُ وَالْمَقْصُود أَن خَواص الْأمة ولبابها لما شهِدت عُقُولهمْ حسن هَذَا الدّين وجلالته وكماله وَشهِدت قبح مَا خَالفه ونقصه ورداءته خالط الْإِيمَان بِهِ ومحبته بشاشة قُلُوبهم فَلَو خير بَين أَن يلقى فِي النَّار وَبَين أَن يخْتَار دينهَا غَيره لاختار أَن يقذف فِي النَّار وتقطع أعضاؤه وَلَا يخْتَار دينا غَيره وَهَذَا الضَّرْب من النَّاس هم الَّذين اسْتَقَرَّتْ أَقْدَامهم فِي الْإِيمَان وهم أبعد النَّاس عَن الارتداد عَنهُ وأحقهم بالثبات عَلَيْهِ إِلَى يَوْم لِقَاء الله وَلِهَذَا قَالَ هِرقل لأبي سُفْيَان أيرتد أحد مِنْهُم عَن دينه سخطَة لَهُ قَالَ لَا قَالَ فَكَذَلِك الْإِيمَان إِذْ خالطت بشاشته الْقُلُوب لَا يسخطه أحد وَالْمَقْصُود أَن الداخلين فِي الْإِسْلَام المستدلين على أَنه من عِنْد الله لحسنه وكماله وَأَنه دين الله الَّذِي لَا يجوز أَن يكون من عِنْد غَيره هم خَواص الْخلق والنفاة سدوا على أنفسهم هَذَا الطَّرِيق فَلَا يُمكنهُم سلوكه