الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل وَتَحْقِيق هَذَا الْمقَام بالْكلَام فِي مقامين أَحدهمَا فِي الْأَعْمَال خُصُوصا
ومراتبها فِي الْحسن والقبح وَالثَّانِي فِي الموجودات عُمُوما ومراتبها فِي الْخَيْر وَالشَّر أما الْمقَام الأول فالأعمال إِمَّا أَن تشْتَمل على مصلحَة خَالِصَة أَو راجحة واما أَن تشْتَمل على مفْسدَة خَالِصَة أَو راجحة واما أَن تستوي مصلحتها ومفسدتها فَهَذِهِ أَقسَام خَمْسَة مِنْهَا أَرْبَعَة تأت بهَا الشَّرَائِع فتأتي بِمَا مصْلحَته خَالِصَة أَو راجحة آمرة بِهِ مقتضية لَهُ وَمَا مفسدته خَالِصَة أَو راجحة فَحكمهَا فِيهِ النَّهْي عَنهُ وَطلب إعدامه فتأتي بتحصيل الْمصلحَة الْخَالِصَة ولراجحه أَو تكميلهما بِحَسب الْإِمْكَان وتعطيل الْمفْسدَة الْخَالِصَة أَو الراجحة أَو تقليلهما بِحَسب الْإِمْكَان فمدار الشَّرَائِع والديانات على هَذِه الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة وتنازع النَّاس هُنَا فِي مسئلتين
المسئلة الأولى فِي وجود الْمصلحَة الْخَالِصَة والمفسدة الْخَالِصَة فَمنهمْ من مَنعه وَقَالَ لَا وجود لَهُ قَالَ لِأَن الْمصلحَة هِيَ النَّعيم واللذة وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ والمفسدة هِيَ الْعَذَاب والألم وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَالُوا والمأمور بِهِ لَا بُد أَن يقْتَرن بِهِ مَا يحْتَاج مَعَه إِلَى الصَّبْر على نوع من الْأَلَم وَإِن كَانَ فِيهِ لَذَّة سرُور وَفَرح فَلَا بُد من وُقُوع أَذَى لَكِن لما كَانَ هَذَا مغمورا بِالْمَصْلَحَةِ لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلم تعطل الْمصلحَة لأَجله فَترك الْخَيْر الْكثير الْغَالِب لآجل الشَّرّ الْقَلِيل المغلوب شَرّ كثير قَالُوا وَكَذَلِكَ الشَّرّ الْمنْهِي عَنهُ إِنَّمَا يَفْعَله الْإِنْسَان لإن لَهُ فِيهِ غَرضا ووطرا مَا وَهَذِه مصلحَة عاجلة لَهُ فَإِذا نهى عَنهُ وَتَركه فَأَتَت عَلَيْهِ مصْلحَته ولذته العاجلة وَإِن كَانَت مفسدته أعظم من مصْلحَته بل مصْلحَته مغمورة جدا فِي جنب مفسدته كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْخمر وَالْميسر {قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} فالربا وَالظُّلم وَالْفَوَاحِش وَالسحر وَشرب الْخمر وَإِن كَانَت شرورا ومفاسد فَفِيهَا مَنْفَعَة وَلَذَّة لفاعلها وَلذَلِك يؤثرها ويختارها وَإِلَّا فَلَو تجردت مفسدتها من كل وَجه لما أَثَرهَا الْعَاقِل وَلَا فعلهَا أصلا وَلما كَانَت خَاصَّة الْعقل النّظر إِلَى العواقب والغايات كَانَ أَعقل النَّاس أتركهم لما ترجحت مفسدته فِي الْعَاقِبَة وَإِن كَانَت فِيهِ لَذَّة مَا وَمَنْفَعَة يسيرَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مضرته
ونازعهم آخَرُونَ وَقَالُوا الْقِسْمَة تَقْتَضِي إِمْكَان هذَيْن الْقسمَيْنِ والوجود يدل على وقوعهما فَإِن معرفَة الله ومحبته وَالْإِيمَان بِهِ خير مَحْض من كل وَجه لَا مفْسدَة فِيهَا بِوَجْه مَا قَالُوا وَمَعْلُوم أَن الْجنَّة خير مَحْض لَا شَرّ فِيهَا أصلا وَإِن النَّار شَرّ مَحْض لَا خير فِيهِ أصلا وَإِذا كَانَ هَذَانِ القسمان موجودان فِي الْآخِرَة فَمَا المخل بوجودهما فِي الدُّنْيَا قَالُوا أَيْضا فالمخلوقات كلهَا مِنْهَا مَا هُوَ خير مَحْض لَا شَرّ فِيهِ أصلا كالأنبياء وَالْمَلَائِكَة
وَمِنْهَا هُوَ شَرّ مَحْض لَا خير فِيهِ أصلا كإبليس وَالشَّيَاطِين وَمِنْهَا مَا هُوَ خير وَشر وَأَحَدهمَا غَالب على الآخر فَمن النَّاس من يغلب خَيره على شَره وَمِنْهُم من
يغلب شَره على خَيره فَهَكَذَا الْأَعْمَال مِنْهَا مَا هُوَ خَالص الْمصلحَة وراجحها وخالص الْمفْسدَة وراجحها هَذَا فِي الْأَعْمَال كَمَا أَن ذَلِك فِي الْعمَّال قَالُوا وَقد قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَرَة {ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ} فَهَذَا دَلِيل على أَنه مضرَّة خَالِصَة لَا مَنْفَعَة فِيهَا إِمَّا لِأَن بعض أَنْوَاعه مضرَّة خَالِصَة لَا مَنْفَعَة فِيهَا بِوَجْه فَمَا كل السحر يحصل غَرَض السَّاحر بل يتَعَلَّم مائَة بَاب مِنْهُ حَتَّى يحصل غَرَضه بَاب وَالْبَاقِي مضرَّة خَالِصَة وَقس على هَذَا فَهَذَا من الْقسم الْخَالِص الْمفْسدَة وَإِمَّا لِأَن الْمَنْفَعَة الْحَاصِلَة للساحر لما كَانَت مغمورة مستهلكة فِي جنب الْمفْسدَة الْعَظِيمَة فِيهِ جعلت كلا منفعَته فَيكون من الْقسم الرَّاجِح الْمفْسدَة وعَلى الْقَوْلَيْنِ فَكل مَأْمُور بِهِ فَهُوَ رَاجِح الْمصلحَة على تَركه وَإِن كَانَ مَكْرُوها للنفوس قَالَ تَعَالَى كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خيرا لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شرا لكم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ فَبين أَن الْجِهَاد الَّذِي أمروا بِهِ وَإِن كَانَ مَكْرُوها للنفوس شاقا عَلَيْهَا فمصلحته راجحة وَهُوَ خير لَهُم وَأحمد عَاقِبَة وَأعظم فَائِدَة من التقاعد عَنهُ وإيثار الْبَقَاء والراحة فالشر الَّذِي فِيهِ مغمور بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تضمنه من الْخَيْر وَهَكَذَا كل مَنْهِيّ عَنهُ فَهُوَ رَاجِح الْمفْسدَة وَإِن كَانَ محبوبا للنفوس مُوَافقا للهوى فمضرته ومفسدته أعظم مِمَّا فِيهِ من الْمَنْفَعَة وَتلك الْمَنْفَعَة واللذة مغمورة مستهلكة فِي جنب مضرته كَمَا قَالَ تَعَالَى {وإثمهما أكبر من نفعهما} وَقَالَ وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شرا لكم وَفصل الْخطاب فِي المسئلة إِذا أُرِيد بِالْمَصْلَحَةِ الْخَالِصَة أَنَّهَا فِي نَفسهَا خَالِصَة من الْمفْسدَة لَا يشوبها مفْسدَة فَلَا ريب فِي وجودهَا وَإِن أُرِيد بهَا الْمصلحَة الَّتِي لَا يشوبها مشقة وَلَا أَذَى فِي طريقها والوسيلة إِلَيْهَا وَلَا فِي ذَاتهَا فَلَيْسَتْ بموجودة بِهَذَا الإعتبار إِذْ الْمصَالح والخيرات وَاللَّذَّات والكمالات كلهَا لَا تنَال إِلَّا بحظ من الْمَشَقَّة وَلَا يعبر إِلَيْهَا إِلَّا على جسر من التَّعَب وَقد أجمع عقلاء كل أمة على أَن النَّعيم لَا يدْرك بالنعيم وَإِن من آثر الرَّاحَة فَاتَتْهُ الرَّاحَة وَإِن بِحَسب ركُوب الْأَهْوَال وإحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة فَلَا فرحة لمن لَا هم لَهُ وَلَا لَذَّة لمن لَا صَبر لَهُ وَلَا نعيم لمن لَا شقاء لَهُ وَلَا رَاحَة لمن لَا تَعب لَهُ بل إِذا تَعب العَبْد قَلِيلا استراح طَويلا وَإِذا تحمل مشقة الصَّبْر سَاعَة قَادَهُ لحياة الْأَبَد وكل مَا فِيهِ أهل النَّعيم الْمُقِيم فَهُوَ صَبر سَاعَة وَالله الْمُسْتَعَان وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَكلما كَانَت النُّفُوس أشرف والهمة أعلا كَانَ تَعب الْبدن أوفر وحظه من الرَّاحَة أقل كَمَا قَالَ المتنبي:
وَإِذا كَانَت النُّفُوس كبارًا
…
تعبت فِي مرادها الْأَجْسَام
وَقَالَ ابْن الرُّومِي:
قلب يظل على أفكاره وئد
…
تمْضِي الْأُمُور وَنَفس لهوها التَّعَب
وَقَالَ مُسلم فِي صَحِيحه قَالَ يحيى بن أبي كثير لَا ينَال الْعلم براحة الْبدن وَلَا ريب