الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَريَّة فِي أَخذ هَذِه بِهَذِهِ سِيمَا وَقد أَبَاحَ لأوليائه دِمَاء أعدائه وجعلهم قرابين لَهُم وانما اقْتَضَت حكمته أَن يكفوا عَنْهُم إِذا صَارُوا تَحت قهرهم وإذلالهم كالعبيد لَهُم يؤدون إِلَيْهِم الْجِزْيَة الَّتِي هِيَ خراج رُؤْسهمْ مَعَ بَقَاء السَّبَب الْمُوجب لاباحة دِمَائِهِمْ وَهَذَا التّرْك والكف لَا يَقْتَضِي اسْتِوَاء الدمين عقلا وَلَا شرعا وَلَا مصلحَة وَلَا ريب أَن الدمين قبل الْقَهْر والإذلال لم يَكُونَا بمستويين لأجل الْكفْر فَأَي مُوجب لِاسْتِوَائِهِمَا بعد الاستذلال والقهر وَالْكفْر قَائِم بِعَيْنِه فَهَل فِي الْحِكْمَة وقواعد الشَّرِيعَة وموجبات الْعُقُول أَن يكون الإذلال والقهر للْكَافِرِ مُوجبا لمساواة دَمه لدم الْمُسلم هَذَا مِمَّا تأباه الْحِكْمَة والمصلحة والعقول وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى وكشف الغطاء وأوضح الْمُشكل بقوله الْمُسلمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ أَو قَالَ الْمُؤْمِنُونَ فعلق الْمُكَافَأَة بِوَصْف لَا يجوز إلغاؤه وإهداره وتعليقها بِغَيْرِهِ إِذْ يكون أبطالا لما اعْتَبرهُ الشَّارِع واعتبارا لما أبْطلهُ فَإِذا علق الْمُكَافَأَة بِوَصْف الْأَيْمَان كَانَ كتعليقه سَائِر الْأَحْكَام بالأوصاف كتعليق الْقطع بِوَصْف السّرقَة وَالرَّجم بِوَصْف الزِّنَا وَالْجَلد بِوَصْف الْقَذْف وَالشرب وَلَا فرق بَينهمَا أصلا فَكل من علق الْأَحْكَام بِغَيْر الْأَوْصَاف الَّتِي علقها بِهِ الشَّارِع كَانَ تَعْلِيقه مُنْقَطِعًا منصرما وَهَذَا مِمَّا اتّفق أَئِمَّة الْفُقَهَاء على صِحَّته فقد أدّى نظر الْعقل إِلَى أَن دم عَدو الله الْكَافِر لَا يُسَاوِي دم وليه وَلَا يكافيه أبدا وَجَاء الشَّرْع بِمُوجبِه فَأَي مُعَارضَة هَاهُنَا وَأي حيرة أَن هُوَ إِلَّا بَصِيرَة على بَصِيرَة وَنور على نور وَلَيْسَ هَذَا مَكَان اسْتِيعَاب الْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة وانما الْغَرَض التَّنْبِيه على أَن فِي صَرِيح الْعقل الشَّهَادَة لما جَاءَ بِهِ الشَّرْع فِيهَا
فصل وَعكس هَذَا أَنه لم تشْتَرط الْمُكَافَأَة فِي علم وَجَهل وَلَا فِي كَمَال
وقبح وَلَا فِي شرف وضعة وَلَا فِي عقل وجنون وَلَا فِي أَجْنَبِيَّة وقرابة خلا الْوَالِد وَالْولد وَهَذَا من كَمَال الْحِكْمَة وَتَمام النِّعْمَة وَهُوَ فِي غَايَة الْمصلحَة إِذْ لَو روعيت هَذِه الْأُمُور لتعطلت مصلحَة الْقصاص إِلَّا فِي النَّادِر الْبعيد إِذْ قل أَن يَسْتَوِي شخصان من كل وَجه بل لَا بُد من التَّفَاوُت بَينهمَا فِي هَذِه الْأَوْصَاف أَو فِي بَعْضهَا فَلَو أَن الشَّرِيعَة جَاءَت بِأَن لَا يقْتَصّ إِلَّا من مكافئ من كل وَجه لفسد الْعَالم وَعظم الْهَرج وانتشر الْفساد وَلَا يجوز على عَاقل وضع هَذِه السياسة الجائرة وواضعها إِلَى السَّفه أقرب مِنْهُ إِلَى الْحِكْمَة فَلَا جرم أهدتك الشَّرَائِع إِلَى اعْتِبَار ذَلِك وَأما الْوَلَد وَالْوَالِد فَمنع من جَرَيَان الْقصاص بَينهمَا حَقِيقَة البعضية والجزئية الَّتِي بَينهمَا فان الْوَلَد جُزْء من الْوَالِد وَلَا يقْتَصّ لبَعض أَجزَاء الْإِنْسَان من بعض وَقد أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِك بقوله {وَجعلُوا لَهُ من عباده جُزْءا} وَهُوَ قَوْلهم الْمَلَائِكَة بَنَات الله فَدلَّ على أَن الْوَلَد جُزْء من الْوَالِد وعَلى هَذَا الأَصْل امْتنعت شَهَادَته لَهُ وقطعه بِالسَّرقَةِ من مَاله وَحده أَبَاهُ على قذفه وَعَن هَذَا الأَصْل ذهب كثير من السّلف وَمِنْهُم الْأَمَام أَحْمد وَغَيره إِلَى أَن لَهُ أَن يتَمَلَّك
مَا شَاءَ من مَال وَلَده وَهُوَ كالمباح فِي حَقه وَقد ذكرنَا هَذِه الْمَسْأَلَة مستقصاة بأدلتها وَبينا دلَالَة الْقُرْآن عَلَيْهَا من وُجُوه مُتعَدِّدَة فِي غير هَذَا الْموضع وَهَذَا المأخذ أحسن من قَوْلهم أَن الْأَب لما كَانَ هُوَ السَّبَب فِي أيجاد الْوَلَد فَلَا يكون الْوَلَد سَببا فِي إعدامه وَفِي الْمَسْأَلَة مَسْلَك آخر وَهُوَ مَسْلَك قوي جدا وَهُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ جعل فِي قلب الْوَالِد من الشَّفَقَة على وَلَده والحرص على حَيَاته مَا يوازي شفقته على نَفسه وحرصه على حَيَاة نَفسه وَرُبمَا يزِيد على ذَلِك فقد يُؤثر الرجل حَيَاة وَلَده على حَيَاته وَكَثِيرًا مَا يحرم الرجل نَفسه حظوظها ويؤثر بهَا وَلَده وَهَذَا الْقدر مَانع من كَونه يُرِيد إعدامه واهلاكه بل لَا يقْصد فِي الغلب إِلَّا تأديبه وعقوبته على إساءته فَلَا يَقع قَتله فِي الْأَغْلَب عَن قصد وتعمد بل عَن خطأ وَسبق يَد وَإِذا وَقع ذَلِك غَلطا الْحق بِالْقَتْلِ الَّذِي لم يقْصد بِهِ إزهاق النَّفس فأسباب التُّهْمَة والعداوة الحاملة على الْقَتْل لَا تكَاد تُوجد فِي الْآبَاء وان وجدت نَادرا فَالْعِبْرَة بِمَا اطردت عَلَيْهِ عَادَة الخليقة وَهنا للنَّاس طَرِيقَانِ
أَحدهمَا أَنا إِذا تحققنا التُّهْمَة وَقصد الْقَتْل والإزهاق بِأَن يضجعه ويذبحه مثلا أجرينا الْقصاص بَينهمَا لتحَقّق قصد الْجِنَايَة وَانْتِفَاء الْمَانِع من الْقصاص وَهَذَا قَول أهل الْمَدِينَة وَالثَّانِي أَنه لَا يجرى الْقصاص بِحَال وَأَن تحقق قصد الْقَتْل لمَكَان الْجُزْئِيَّة والبعضية الْمَانِعَة من الاقتصاص من بعض الْأَجْزَاء لبَعض وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين وَلَا يرد عَلَيْهِم قتل الْوَلَد لوالده وان كَانَ بعضه لِأَن الْأَب لم يخلق من نُطْفَة الابْن فَلَيْسَ الْأَب بِجُزْء لَهُ حَقِيقَة وَلَا حكما بِخِلَاف الْوَلَد فانه جُزْء حَقِيقَة وَلَيْسَ هَذَا مَوْضُوع استقصاء الْكَلَام على هَذِه الْمسَائِل إِذْ الْمَقْصُود بَيَان اشتمالها على الحكم والمصالح الَّتِي يُدْرِكهَا الْعقل وان لم يسْتَقلّ بهَا فَجَاءَت الشَّرِيعَة بهَا مقررة لما اسْتَقر فِي الْعقل إِدْرَاكه وَلَو من بعض الْوُجُوه وَبعد النُّزُول عَن هَذَا الْمقَام فأقصى مَا فِيهِ أَن يُقَال أَن الشَّرِيعَة جَاءَت بِمَا يعجز الْعقل عَن إِدْرَاكه لَا بِمَا يحيله الْعقل وَنحن لَا ننكر ذَلِك وَلَكِن لَا يلْزم مِنْهُ نفى الحكم والمصالح الَّتِي اشْتَمَلت عَلَيْهَا الْأَفْعَال فِي ذواته وَالله أعلم
الْوَجْه الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم وَظهر بِهَذَا أَن الْمعَانِي المستنبطة رَاجِعَة إِلَى مُجَرّد استنباط الْعقل وَوضع الذِّهْن من غير أَن يكون الْفِعْل مُشْتَمِلًا عَلَيْهَا كَلَام فِي غَايَة الْفساد والبطلان لَا يرتضيه أهل الْعلم والأنصاف وتصوره حق التَّصَوُّر كَاف فِي الْجَزْم بِبُطْلَانِهِ من وُجُوه عديدة أَحدهَا أَن الْعقل والفطرة يَشْهَدَانِ بِبُطْلَانِهِ والوجود يكذبهُ فان أَكثر الْمعَانِي المستنبطة من الْأَحْكَام لَيست من أوضاع الأذهان الْمُجَرَّدَة عَن اشْتِمَال الْأَفْعَال عَلَيْهَا ومدعي ذَلِك فِي غَايَة المكابرة الَّتِي لَا تجدي عَلَيْهِ إِلَّا توهين الْمقَالة وَهَذِه الْمعَانِي المستنبطة من الْأَحْكَام مَوْجُودَة مَشْهُودَة يعلم الْعُقَلَاء أَنَّهَا لَيست من أوضاع الذِّهْن بل الذِّهْن أدْركهَا وَعلمهَا وَكَانَ نِسْبَة الذِّهْن إِلَى إِدْرَاكهَا كنسبة الْبَصَر إِلَى إِدْرَاك الألوان وَغَيرهَا وكنسبة
السّمع إِلَى إِدْرَاك الْأَصْوَات وكنسبة الذَّوْق إِلَى إِدْرَاك الطعوم والشم إِلَى إِدْرَاك الروائح فَهَل يسوغ لعاقل أَنا يدعى أَن هَذِه المدركات من أوضاع الْحَواس وَكَذَلِكَ الْعقل إِذا أدْرك مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْكَذِب والفجور وخراب الْعَالم وَالظُّلم واهلاك الْحَرْث والنسل وَالزِّنَا بالأمهات وَغير ذَلِك من القبائح وَأدْركَ مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الصدْق وَالْبر وَالْإِحْسَان وَالْعدْل وشكران الْمُنعم والعفة وَفعل كل جميل من الْحسن لم تكن تِلْكَ الْمعَانِي الَّتِي اشْتَمَلت عَلَيْهَا هَذِه الْأَفْعَال مُجَرّد وضع الذِّهْن واستنباط الْعقل ومدعي ذَلِك مصاب فِي عقله فان الْمعَانِي الَّتِي اشْتَمَلت عَلَيْهَا المنهيات الْمُوجبَة لتحريمها أُمُور ناشئة من الْأَفْعَال لَيست أوضاعا ذهنية والمعاني الَّتِي اشْتَمَلت عَلَيْهَا المأمورات الْمُوجبَة لحسنها لَيست مُجَرّد أوضاع ذهنية بل أُمُور حَقِيقِيَّة ناشئة من ذَوَات الْأَفْعَال ترَتّب آثارها عَلَيْهَا كترتب آثَار الْأَدْوِيَة والأغذية عَلَيْهَا وَمَا نَظِير هَذِه الْمقَالة إِلَّا مقَالَة من يزْعم أَن القوى والْآثَار المستنبطة من الأغذية والأدوية لَا حَقِيقَة لَهَا إِنَّمَا هِيَ أوضاع ذهنية وَمَعْلُوم أَن هَذَا بَاب من السفسطة فاعرض مَعَاني الشَّرِيعَة الْكُلية على عقلك وَانْظُر ارتباطها بأفعالها وتعلقها بهَا ثمَّ تَأمل هَل تجدها أمورا حَقِيقِيَّة تنشأ من الْأَفْعَال فَإِذا فعل الْفِعْل نَشأ مِنْهُ أَثَره أَو تجدها أوضاعا ذهنية لَا حَقِيقَة لَهَا وَإِذا أردْت معرفَة بطلَان الْمقَالة فكرر النّظر فِي أدلتها فأدلتها من أكبر الشواهد على بُطْلَانهَا بل الْعَاقِل يَسْتَغْنِي بأدلة الْبَاطِل عَن إِقَامَة الدَّلِيل على بُطْلَانه بل نفس دَلِيله هُوَ دَلِيل بُطْلَانه
الْوَجْه الثَّانِي أَن استنباط الْعُقُول وَوضع الأذهان لما لَا حَقِيقَة لَهُ من بَاب الخيالات والتقديرات الَّتِي لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا علم وَلَا مَعْلُوم وَلَا صَلَاح وَلَا فَسَاد إِذْ هِيَ خيالات مُجَرّدَة وأوهام مقدرَة كوضع الذِّهْن سَائِر مَا يَضَعهُ من المقدرات الذهنية وَمَعْلُوم أَن الْمعَانِي المستنبطة من الْأَحْكَام هِيَ من أجل الْمَعْلُوم ومعلومها من أشرف المعلومات وأنفعها للعباد وَهِي منشأ مصالحهم فِي معاشهم ومعادهم وترتب آثارها عَلَيْهَا مشهود فِي الْخَارِج مَعْقُول فِي الْفطر قَائِم فِي الْعُقُول فَكيف يدعى أَنه مُجَرّد وضع ذهني لَا حَقِيقَة لَهُ
الْوَجْه الثَّالِث أَن استنباط الذِّهْن لما يستنبطه من الْمعَانِي واعتقاده أَن الْأَفْعَال مُشْتَمِلَة عَلَيْهَا مَعَ كَون الْأَمر لَيْسَ كَذَلِك جهل مركب واعتقاد بَاطِل فانه إِذا اعْتقد أَن الْأَفْعَال مُشْتَمِلَة على تِلْكَ الْمعَانِي وَإِنَّهَا منشأها وَلَيْسَ كَذَلِك كَانَ اعتقادا للشَّيْء بِخِلَاف مَا هُوَ بِهِ وَهَذَا غَايَة الْجَهْل فَكيف يَدعِي هَذَا فِي اشرف الْعُلُوم وأزكاها وأنفعها وَأَعْظَمهَا متضمنا لمصَالح الْعباد فِي المعاش والمعاد وَهل هُوَ الا لب الشَّرِيعَة ومضمونها فَكيف يسوغ أَن يدعى فِيهَا هَذَا الْبَاطِل ويرمى بِهَذَا الْبُهْتَان
وَبِالْجُمْلَةِ فبطلان هَذَا القَوْل أظهر من أَن يتَكَلَّف رده وَلم يقل هَذَا القَوْل من شم للفقه رَائِحَة أصلا الْوَجْه التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم لَو كَانَت صِفَات نفسية للْفِعْل لزم من ذَلِك أَن تكون
الْحَرَكَة الْوَاحِدَة مُشْتَمِلَة على صِفَات متناقضة وأحوال متنافرة فَيُقَال وَمَا الَّذِي يحِيل أَن يكون الْفِعْل مُشْتَمِلًا على صفتين مختلفتين تَقْتَضِي كل مِنْهُمَا أثرا غير الْأَثر الآخر وَتَكون إِحْدَى الصفتين والأثرين أولى بِهِ وَتَكون مصْلحَته أرجح فَإِذا رتب على صفته الْأُخْرَى أَثَرهَا فَاتَت الْمصلحَة الراجحة الْمَطْلُوبَة شرعا وعقلا بل هَذَا هُوَ الْوَاقِع وَنحن نجد هَذَا حسا فِي قوى الأغذية والأدوية وَنَحْوهَا من صِفَات الْأَجْسَام الحسية المدركة بالحس فَكيف بِصِفَات الْأَفْعَال المدركة بِالْعقلِ وأمثلة ذَلِك فِي الشَّرِيعَة تزيد على الْألف فَهَذِهِ الصَّلَاة فِي وَقت النَّهْي فِيهَا مصلحَة تَكْثِير الْعِبَادَة وَتَحْصِيل الأرباح ومزيد الثَّوَاب والتقرب إِلَى رب الأرباب وفيهَا مفْسدَة المشابهة بالكفار فِي عبَادَة الشَّمْس وَفِي تَركهَا مصلحَة سد ذَرِيعَة الشّرك وفطم النُّفُوس عَن المشابهة للْكفَّار حَتَّى فِي وَقت الْعِبَادَة وَكَانَت هَذِه الْمفْسدَة أولى بِالصَّلَاةِ فِي أَوْقَات النَّهْي من مصلحتها فَلَو شرعت لما فِيهَا من الْمصلحَة لفاتت مصلحَة التّرْك وحصلت مفْسدَة المشابهة الَّتِي هِيَ أقوى من مصلحَة الصَّلَاة حِينَئِذٍ وَلِهَذَا كَانَت مصلحَة أَدَاء الْفَرَائِض فِي هَذِه الْأَوْقَات أرجح من مفْسدَة المشابهة بِحَيْثُ لما انغمرت هَذِه الْمفْسدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَرِيضَة لم يمْنَع مِنْهَا بِخِلَاف النَّافِلَة فان فِي فعلهَا فِي غير هَذِه الْأَوْقَات غنية عَن فعلهَا فِيهَا فَلَا تفوت مصلحتها فَيَقَع فعلهَا فِي وَقت النَّهْي مفْسدَة راجحة وَمن هَاهُنَا جوز كثير من الْفُقَهَاء ذَوَات الْأَسْبَاب فِي وَقت النَّهْي لترجح مصلحتها فَأَنَّهَا لَا تقضى وَلَا يُمكن تداركها وَكَانَت مفْسدَة تفويتها أرجح من مفْسدَة المشابهة الْمَذْكُورَة وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع استقصاء هَذِه الْمَسْأَلَة فَمَا الَّذِي يحِيل اشْتِمَال الْحَرَكَة الْوَاحِدَة على صِفَات مُخْتَلفَة بِهَذِهِ المثابة وَيكون بَعْضهَا أرجح من بعض فَيقْضى للراجح عقلا وَشرعا وعَلى هَذَا الْمِثَال مسَائِل عَامَّة للشريعة وَلَوْلَا إلاطالة لكتبنا مِنْهَا مَا يبلغ ألف مِثَال والعالم ينتبه بالجزئيات للقاعدة الْكُلية
الْوَجْه السِّتُّونَ قَوْلكُم وَلَيْسَ معنى قَوْلنَا أَن الْعقل استنبط مِنْهَا أَنَّهَا كَانَت مَوْجُودَة فِي الشَّيْء فاستخرجها الْعقل بل الْعقل تردد بَين إضافات الْأَحْوَال بَعْضهَا إِلَى بعض وَنسب الحركات والأشخاص نوعا إِلَى نوع وشخصا إِلَى شخص فطرأ عَلَيْهِ من تِلْكَ الْمعَانِي مَا حكيناه وَرُبمَا يبلغ مبلغا يشذ عَن الإحصاء فَعرف أَن الْمعَانِي لم ترجع إِلَى الذَّات بل إِلَى مُجَرّد الخواطر وَهِي متعارضة فَيُقَال يَا عجبا لعقل يروج عَلَيْهِ مثل هَذَا الْكَلَام ويبنى عَلَيْهِ هَذِه الْقَاعِدَة الْعَظِيمَة وَذَلِكَ بِنَاء على شفا جرف هار وَقد تقدم مَا يكفى فِي بطلَان هَذَا الْكَلَام ونزيدها هُنَا أَنه كَلَام فَاسد لفظا وَمعنى فان الاستنباط هُوَ اسْتِخْرَاج الشَّيْء الثَّابِت الْخَفي الَّذِي لَا يعثر عَلَيْهِ كل أحد وَمِنْه استنباط المَاء وَهُوَ استخراجه من مَوْضِعه وَمِنْه قَوْله تَعَالَى وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول والى أولى المر مِنْهُم لعلمه الَّذِي يستنبطونه مِنْهُم أَي يستخرجون حَقِيقَته وتدبيره بفطنهم وذكائهم وَإِيمَانهمْ ومعرفتهم بمواطن الْأَمْن وَالْخَوْف
وَلَا يَصح معنى إِلَّا فِي شَيْء ثَابت لَهُ حَقِيقَة خُفْيَة يستنبطها الذِّهْن ويستخرجها فَأَما مَا لَا حَقِيقَة لَهُ فانه مُجَرّد ذهنه فَلَا استنباط فِيهِ بِوَجْه وَأي شَيْء يستنبط مِنْهُ وانما هُوَ تَقْدِير وَفرض وَهَذَا لَا يُسمى استنباطا فِي عقل وَلَا لُغَة وَحِينَئِذٍ فيقلب الْكَلَام عَلَيْكُم وَيكون من يقلبه أسعد بِالْحَقِّ مِنْكُم فَنَقُول وَلَيْسَ معنى قَوْلنَا أَن الْعقل استنبط من تِلْكَ الْأَفْعَال أَن ذَلِك مُجَرّد خواطر طارئة وانما مَعْنَاهُ أَنَّهَا كَانَت مَوْجُودَة فِي الْأَفْعَال فاستخرجها الْعقل باستنباطه كَمَا يسْتَخْرج المَاء الْمَوْجُود من الأَرْض باستنباطه وَمَعْلُوم أَن هَذَا هُوَ الْمَعْقُول المطابق لِلْعَقْلِ واللغه وَمَا ذكرتموه فخارج عَن الْعقل واللغة جَمِيعًا فَعرف أَنه لَا يَصح معنى الاستنباط إِلَّا لشَيْء مَوْجُود يَسْتَخْرِجهُ الْعقل ثمَّ ينْسب إِلَيْهِ أَنْوَاع تِلْكَ الْأَفْعَال وأشخاصها فان كَانَ أولى بِهِ حكم لَهُ بالاقتضاء والتأثير وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُول وَهُوَ الَّذِي يعرضه الْفُقَهَاء والمتكلمون على مناسبات الشَّرِيعَة وأوصافها وعللها الَّتِي ترْبط بهَا الْأَحْكَام فَلَو ذهب هَذَا من أَيْديهم لَا نسد عَلَيْهِم بَاب الْكَلَام فِي الْقيَاس والمناسبات وَالْحكم واستخراج مَا تضمنته الشَّرِيعَة من ذَلِك وَتَعْلِيق الْأَحْكَام بأوصافها الْمُقْتَضِيَة لَهَا إِذا كَانَ مرد الْأَمر بزعمكم إِلَى مُجَرّد خواطر طارئة على الْعقل وَمُجَرَّد وضع الذِّهْن وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل وَأبين الْمحَال وَلَقَد أنصفكم خصومكم فِي ادعائهم عَلَيْكُم لَازم هَذَا الْمَذْهَب وَقَالُوا لَو رفع الْحسن والقبح من الْأَفْعَال الإنسانية إِلَى مُجَرّد تعلق الْخطاب بهَا لبطلت الْمعَانِي الْعَقْلِيَّة الَّتِي تستنبط من الْأُصُول الشَّرْعِيَّة فَلَا يُمكن أَن يُقَاس فعل على فعل وَلَا قَول على قَول وَلَا يُمكن أَن يُقَال لم كَانَ كَذَا أذلا تَعْلِيل للذوات وَلَا صِفَات للأفعال هِيَ عَلَيْهَا فِي نفس الْأَمر حَتَّى ترتبط بهَا الْأَحْكَام وَذَلِكَ رفع للشرائع بِالْكُلِّيَّةِ من حَيْثُ إِثْبَاتهَا لَا سِيمَا والتعلق أَمر عدمي وَلَا معتنى لحسن الْفِعْل أَو قبحه إِلَّا التَّعَلُّق العدمي بَينه وَبَين الْخطاب فَلَا حسن فِي الْحَقِيقَة وَلَا قبح لَا شرعا وَلَا عقلا لَا سِيمَا إِذا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك نفى فعل العَبْد واختياره بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنه مجبوب مَحْض فَهَذَا فعله وَذَلِكَ صفة فعله فَلَا فعل لَهُ وَلَا وصف لقَوْله الْبَتَّةَ فَأَي تَعْطِيل وَرفع للشرائع أَكثر من هَذَا فَهَذَا إلزامهم لكم كَمَا أَنكُمْ الزمتموهم نَظِير ذَلِك فِي نفي صفة الْكَلَام وأنصفتموهم فِي الْإِلْزَام الْوَجْه الْحَادِي وَالسِّتُّونَ قَوْلكُم لَو ثَبت الْحسن والقبح العقليين لتَعلق بهما الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم شَاهدا وغائبا وَاللَّازِم محَال فالملزوم كَذَلِك إِلَى آخِره فَنَقُول الْكَلَام هَاهُنَا فِي مقامين أَحدهمَا فِي التلازم الْمَذْكُور بَين الْحسن والقبح العقليين وَبَين الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم غَائِبا وَالثَّانِي فِي انْتِفَاء اللَّازِم وثبوته فَأَما الْمقَام الأول فلمثبتي الْحسن والقبح طَرِيقَانِ أَحدهمَا ثُبُوت التلازم وَالْقَوْل باللازم وَهَذَا القَوْل هُوَ الْمَعْرُوف عَن الْمُعْتَزلَة وَعَلِيهِ يناظرون وَهُوَ القَوْل الَّذِي نصب خصومهم الْخلاف مَعَهم فِيهِ وَالْقَوْل الثَّانِي إِثْبَات الْحسن والقبح فانهم يَقُولُونَ بإثباته ويصرحون بِنَفْي الْإِيجَاب قبل الشَّرْع على العَبْد وبنفي
أيجاب الْعقل على الله شَيْئا الْبَتَّةَ كَمَا صرح بِهِ كثير من الْحَنَفِيَّة والحنابلة كَأبي الْخطاب وَغَيره وَالشَّافِعِيَّة كسعد بن عَليّ الزنجاني الْأَمَام الْمَشْهُور وَغَيره ولهؤلاء فِي نفي الْإِيجَاب الْعقلِيّ من الْمعرفَة بِاللَّه وثبوته خلاف فالأقوال إِذا أَرْبَعَة لَا مزِيد عَلَيْهَا
أَحدهَا نفي الْحسن والقبح وَنفي الْإِيجَاب الْعقلِيّ فِي العمليات دون العلميات كالمعرفة وَهَذَا اخْتِيَار أبي الْخطاب وَغَيره فَعرف أَنه لَا تلازم بَين الْحسن والقبح وَبَين الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم العقليين فَهَذَا أحد المقامين
وَأما الْمقَام الثَّانِي وَهُوَ انْتِفَاء اللَّازِم وثبوته فللناس فِيهِ هَهُنَا ثَلَاثَة طرق
أَحدهمَا الْتِزَام ذَلِك وَالْقَوْل بِالْوُجُوب وَالتَّحْرِيم العقليين شَاهدا وغائبا وَهَذَا قَول الْمُعْتَزلَة وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ بترتب الْوُجُوب شَاهدا وبترتب الْمَدْح والذم عَلَيْهِ وَأما الْعقَاب فَلهم فِيهِ اخْتِلَاف وتفصيل وَمن أثْبته مِنْهُم لم يُثبتهُ على الْوُجُوب الثَّابِت بعد الْبعْثَة وَلَكنهُمْ يَقُولُونَ أَن الْعَذَاب الثَّابِت بعد الْإِيجَاب الشَّرْعِيّ نوع آخر غير الْعَذَاب الثَّابِت على الْإِيجَاب الْعقلِيّ وَبِذَلِك يجيبون عَن النُّصُوص النافية للعذاب قبل الْبعْثَة وَأما الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم العقليان غَائِبا فهم مصرحون بهما ويفسرون ذَلِك باللزوم الَّذِي أوجبته حكمته وحرمته وَأَنه يَسْتَحِيل عَلَيْهِ خِلَافه كَمَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ الْحَاجة وَالنَّوْم والتعب واللغوب فَهَذَا معنى الْوُجُوب والامتناع فِي حق الله عِنْدهم فَهُوَ وجوب اقتضته ذَاته وحكمته وغناه وَامْتِنَاع يَسْتَحِيل عَلَيْهِ الاتصاف بِهِ لمنافاته كَمَاله لَهُ وغناه قَالُوا وَهَذَا فِي الْأَفْعَال نَظِير مَا يَقُولُونَهُ فِي الصِّفَات أَنه يجب لَهُ كَذَا وَيمْتَنع عَلَيْهِ كَذَا فقولنا نَحن فِي الْأَفْعَال نَظِير قَوْلكُم فِي الصافت مَا يجب لَهُ مِنْهَا وَمَا يمْتَنع كليه فَكَمَا أَن ذَلِك وجوب وَامْتِنَاع ذاتي يَسْتَحِيل عَلَيْهِ خِلَافه فَهَكَذَا مَا تَقْتَضِيه حكمته وتأباه وجوب وَامْتِنَاع يَسْتَحِيل عَلَيْهِ الْإِخْلَال بِهِ وان كَانَ مَقْدُورًا لَهُ لكنه لَا يخل بِهِ لكَمَال حكمته وَعلمه وغناه والفرقة الثَّانِيَة منعت ذَلِك جملَة وأحالت القَوْل بِهِ وجوزت على الرب تَعَالَى كل شَيْء مُمكن وَردت الإحالة والامتناع فِي أَفعاله إِلَى غير الْمُمكن من المحالات كالجمع بَين النقيضين وبابه فقابلوا الْمُعْتَزلَة أَشد مُقَابلَة واقتسما طرفِي الإفراط والتفريط ورد هَؤُلَاءِ الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم الَّذِي جَاءَت بِهِ النُّصُوص إِلَى مُجَرّد صدق الْمُخَير فَمَا أخبر بِأَنَّهُ يكون فَهُوَ وَاجِب لتصديق الْعلم لمعلومه والمخبر لخبره وَقد يفسرون التَّحْرِيم بالامتناع عقلا كتحريم الظُّلم على نَفسه فانهم يفسرون الظُّلم بالمستحيل لذاته كالجمع بَين النقيضين وَلَيْسَ عِنْدهم فِي الْمَقْدُور شَيْء هُوَ ظلم يتنزه الله عَنهُ مَعَ قدرته عَلَيْهِ لغناه وحكمته وعدله فَهَذَا قَول هَؤُلَاءِ والفرقة الثَّالِثَة هم الْوسط بَين هَاتين الْفرْقَتَيْنِ فان الْفرْقَة الأولى أوجبت على الله شَرِيعَة بعقولها وَحرمت عَلَيْهِ وأوجبت مَا لم يحرمه على نَفسه وَلم يُوجِبهُ على نَفسه والفرقة الثَّانِيَة جوزت عَلَيْهِ مَا يتعالى ويتنزه عَنهُ لمنافاته حكمته وحمده وكماله والفرقة الْوسط أَثْبَتَت لَهُ مَا أثْبته لنَفسِهِ من الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم الَّذِي هُوَ مُقْتَضى
أَسْمَائِهِ وَصِفَاته الَّذِي لَا يَلِيق بِهِ نسبته إِلَى ضِدّه لِأَنَّهُ مُوجب كَمَاله وحكمته وعدله وَلم تدخله تَحت شَرِيعَة وَضَعتهَا بعقولها كَمَا فعلت الْفرْقَة الأولى وَلم يجوز عَلَيْهِ مَا نزه نَفسه عَنهُ كَمَا فعلته الْفرْقَة الثَّانِيَة قَالَت الْفرْقَة الْوسط قد أخبر تَعَالَى أَنه حرم الظُّلم على نَفسه كَمَا قَالَ على لِسَان رَسُوله يَا عبَادي أَنى حرمت الظُّلم على نَفسِي وَقَالَ {وَلَا يظلم رَبك أحدا} وَقَالَ {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} وَقَالَ {وَلَا يظْلمُونَ فتيلا} وَقَالَ {وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد} فَأخْبر عَن تَحْرِيمه على نَفسه وَنفى عَن نَفسه فعله وارادته وَلِلنَّاسِ فِي تَفْسِير هَذَا الظُّلم ثَلَاثَة أَقْوَال بِحَسب أصولهم وقواعدهم أَحدهَا أَن الظُّلم الَّذِي حرمه وتنزه عَن فعله وارادته هُوَ نَظِير الظُّلم من الْآدَمِيّين بَعضهم لبَعض وشبهوه فِي الْأَفْعَال مَا يحسن مِنْهُمَا وَمَا لَا يحسن بعباده فضر بواله من قبل أنفسهم الْأَمْثَال وصاروا بذلك مشبهة ممثلة فِي الْأَفْعَال فامتنعوا من إِثْبَات الْمثل الْأَعْلَى الَّذِي أثْبته لنَفسِهِ ثمَّ ضربوا لَهُ الْأَمْثَال ومثلوه فِي أَفعاله بخلقه كَمَا أَن الْجَهْمِية المعطلة امْتنعت من إِثْبَات الْمثل الْأَعْلَى الَّذِي أثْبته لنَفسِهِ ثمَّ ضربوا لَهُ الْأَمْثَال ومثلوه فِي صِفَاته بالجمادات النَّاقِصَة بل بالمعدومات وَأهل السّنة نزهوه عَن هَذَا وَهَذَا وأثبتوا لَهُ مَا أثْبته لنَفسِهِ من صِفَات الْكَمَال ونزهوه فِيهَا عَن الشّبَه والمثال فأثبتوا لَهُ الْمثل الْأَعْلَى وَلم يضْربُوا لَهُ الْأَمْثَال فَكَانُوا أسعد الطوائف بمعرفته وأحقهم بِالْإِيمَان بِهِ وبولايته ومحبته وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء ثمَّ الْتزم أَصْحَاب هَذَا التَّفْسِير عَنهُ من اللوازم الْبَاطِلَة مَا لَا قبل لَهُم بِهِ
قَالُوا عَن هَذَا التَّفْسِير الْبَاطِل أَنه تَعَالَى إِذا أَمر العَبْد وَلم يعنه بِجَمِيعِ مقدوره تَعَالَى من وُجُوه الْإِعَانَة كَانَ ظَالِما لَهُ والتزموا لذَلِك أَنه لَا يقدر أَن يهدي ضَالًّا كَمَا قَالُوا أَنه لَا يقدر أَن يضل مهتديا وَقَالُوا عَنهُ أَيْضا أَنه إِذا أَمر اثْنَيْنِ بِأَمْر وَاحِد وَخص أَحدهمَا بإعانته على فعل الْمَأْمُور بِهِ كَانَ ظَالِما وَقَالُوا عَنهُ أَيْضا أَنه إِذا اشْترك اثْنَان فِي ذَنْب يُوجب الْعقَاب فعاقب بِهِ أَحدهمَا وَعفى عَن الآخر كَانَ ظَالِما إِلَى غير ذَلِك من اللوازم الْبَاطِلَة الَّتِي جعلُوا لأَجلهَا ترك تسويته بَين عباده فِي فَضله وإحسانه ظلما فعارضهم أَصْحَاب التَّفْسِير الثَّانِي وَقَالُوا الظُّلم المنزه عَنهُ فِي الْأُمُور الممتنعة لذاتها فَلَا يجوز أَن يكون مَقْدُورًا وَلَا أَنه تَعَالَى تَركه بمشيئته واختياره وانما هُوَ من بَاب الْجمع بَين الضدين وَجعل الْجِسْم الْوَاحِد فِي مكانين وقلب الْقَدِيم مُحدثا والمحدث قَدِيما وَنَحْو ذَلِك وَألا فَكل مَا يقدره الذِّهْن وَكَانَ وجوده مُمكنا والرب قَادر عَلَيْهِ فَلَيْسَ بظُلْم سَوَاء فعله أَو لم يَفْعَله وتلقى هَذَا القَوْل عَنْهُم طوائف من أهل الْعلم وفسروا الحَدِيث بِهِ وأسندوا ذَلِك وقووه بآيَات وآثار زَعَمُوا أَنَّهَا تدل عَلَيْهِ كَقَوْلِه {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك} يَعْنِي لم تتصرف فِي غير ملكك بل أَن عذبت عذبت من تملك وعَلى هَذَا فجوزوا تَعْذِيب كل عبد لَهُ وَلَو كَانَ محسنا وَلم
يرَوا ذَلِك ظلما بقوله تَعَالَى {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَبقول النَّبِي أَن الله لَو عذب أهل سماواته وَأهل أرضه لعذبهم وَهُوَ غير ظَالِم لَهُم وَبِقَوْلِهِ فِي دُعَاء الْهم والحزن اللَّهُمَّ أَنى عَبدك وَابْن عَبدك مَاض فِي حكمك عدل فِي قضاؤك وَبِمَا روى عَن اياس بن مُعَاوِيَة قَالَ مَا ناظرت بعقلي كُله أحدا إِلَّا الْقَدَرِيَّة قلت لَهُم مَا الظُّلم قَالُوا أَن تَأْخُذ مَا لَيْسَ لَك أَو أَن تتصرف فِيمَا لَيْسَ لَك قلت فَللَّه كل شَيْء وَالْتزم هَؤُلَاءِ عَن هَذَا القَوْل لَوَازِم بَاطِلَة كَقَوْلِهِم أَن الله تَعَالَى يجوز عَلَيْهِ أَن يعذب أنبياءه وَرُسُله وَمَلَائِكَته وأولياءه وَأهل طَاعَته ويخلدهم فِي الْعَذَاب اليم وَيكرم أعداءه من الْكفَّار وَالْمُشْرِكين وَالشَّيَاطِين ويخصهم بجنته وكرامته وَكِلَاهُمَا عدل وَجَائِز عَلَيْهِ وَأَنه يعلم أَنه لَا يفعل ذَلِك بِمُجَرَّد خَبره فَصَارَ مُمْتَنعا لإخباره أَنه لَا يَفْعَله لَا لمنافاته حكمته وَلَا فرق بَين المرين بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَلَكِن أَرَادَ هَذَا وَأخْبر بِهِ وَأَرَادَ الآخر وَأخْبر بِهِ فَوَجَبَ هَذَا لارادته وَخَبره وَامْتنع ضِدّه لعدم إِرَادَته واختياره بِأَن لَا يكون والتزموا لَهُ أَيْضا أَنه يجوز أَن يعذب الْأَطْفَال الَّذين لَا ذَنْب لَهُم أصلا ويخلدهم فِي الْجَحِيم وَرُبمَا قَالُوا بِوُقُوع ذَلِك فَأنْكر على الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا أَصْحَاب التَّفْسِير الثَّالِث وَقَالُوا الصَّوَاب الَّذِي دلّت عَلَيْهِ النُّصُوص أَن الظُّلم الَّذِي حرمه الله على نَفسه وتنزه عَنهُ فعلا وارادة هُوَ مَا فسره بِهِ سلف الْأمة وأئمتها أَنه لَا يحمل الْمَرْء سيئات غَيره وَلَا يعذب بِمَا لم تكسب يَدَاهُ وَلم يكن سعى فِيهِ وَلَا ينقص من حَسَنَاته فَلَا يجازي بهَا أَو بِبَعْضِهَا إِذا قارنها أَو طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يَقْتَضِي إِبْطَالهَا أَو اقتصاص المظلومين مِنْهَا وَهَذَا الظُّلم الَّذِي نفى الله تَعَالَى خَوفه عَن العَبْد بقوله {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما} قَالَ السّلف والمفسرون لَا يخَاف أَن يحمل عَلَيْهِ من سيئات غَيره وَلَا ينقص من حَسَنَاته مَا يتَحَمَّل فَهَذَا هُوَ الْعُقُول من الظُّلم وَمن عدم خَوفه وَأما الْجمع بَين النقيضين وقلب الْقَدِيم مُحدثا والمحدث قَدِيما فمما يتنزه كَلَام آحَاد الْعُقَلَاء عَن تَسْمِيَته ظلما وَعَن نفي خَوفه عَن العَبْد فَكيف بِكَلَام رب الْعَالمين وَكَذَلِكَ قَوْله {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين} فنفى أَن يكون تعذيبه لَهُم ظلما ثمَّ أخبر أَنهم هم الظَّالِمُونَ بكفرهم وَلَو كَانَ الظُّلم الْمَنْفِيّ هُوَ الْمحَال لم يحسن مُقَابلَة قَوْله وَمَا ظلمناهم بقوله وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين بل يَقْتَضِي الْكَلَام أَن يُقَال مَا ظلمناهم وَلَكِن تصرفنا فِي ملكنا وعبيدنا فَلَمَّا نفى الظُّلم عَن نَفسه وأثبته لَهُم دلّ على أَن الظُّلم الْمَنْفِيّ أَن يعذبهم بِغَيْر جرم وَأَنه إِنَّمَا عذبهم بجرمهم وظلمهم وَلَا تحْتَمل الْآيَة غير هَذَا وَلَا يجوز تَحْرِيف كَلَام الله لنصر المقالات وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ نقيرا} وَلَا ريب أَن هَذَا مَذْكُور فِي سِيَاق التحريض على الْأَعْمَال الصَّالِحَة والاستكثار مِنْهَا فان صَاحبهَا يَجْزِي بهَا
وَلَا ينقص مِنْهَا بذرة وَلِهَذَا يُسمى تَعَالَى موفيه كَقَوْلِه {وَإِنَّمَا توفون أجوركم يَوْم الْقِيَامَة} وَقَوله {ووفيت كل نفس مَا عملت وَهُوَ أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ} فَترك الظُّلم هُوَ الْعدْل لافعل كل مُمكن وعَلى هَذَا قَامَ الْحساب وَوضع الموازين الْقسْط ووزنت الْحَسَنَات والسيئات وتفاوتت الدَّرَجَات العلى بِأَهْلِهَا والدركات السُّفْلى بِأَهْلِهَا وَقَالَ تَعَالَى {إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة} أَي لَا يضيع جَزَاء من أحسن وَلَو بمثقال ذرة فَدلَّ على أَن اضاعتها وَترك المجازاة بهَا مَعَ عدم مَا يُبْطِلهَا ظلم يتعالى الله عَنهُ وَمَعْلُوم أَن ترك المجازاة عَلَيْهَا مَقْدُور يتنزه الله عَنهُ لكَمَال عدله وحكمته وَلَا تحْتَمل الْآيَة قطّ غير مَعْنَاهَا الْمَفْهُوم مِنْهَا وَقَالَ تَعَالَى {من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا وَمَا رَبك بظلام للعبيد} أَي لَا يُعَاقب العَبْد بِغَيْر إساءة وَلَا يحرمه ثَوَاب إحسانه وَمَعْلُوم أَن ذَلِك مَقْدُور لَهُ تَعَالَى وَهُوَ نَظِير قَوْله {أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} فَأخْبر انه لَيْسَ على أحد فِي وزر غَيره شَيْء
وَأَنه لَا يسْتَحق إِلَّا مَا سعاه وَأَن هَذَا هُوَ الْعدْل الَّذِي نزه نَفسه عَن خِلَافه {وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد} بَين أَن هَذَا الْعقَاب لم يكن ظلما من الله للعباد بل لذنوبهم واستحقاقهم وَمَعْلُوم أَن الْمحَال الَّذِي لَا يُمكن وَلَا يكون مَقْدُورًا أصلا لَا يصلح أَن يمدح الممدوح بِعَدَمِ إِرَادَته وَلَا فعله وَلَا يحمد على ذَلِك وانما يكون الْمَدْح بترك الْأَفْعَال لمن هُوَ قَادر عَلَيْهَا وَأَن يتنزه عَنْهَا لكماله وغناه وحمده وعَلى هَذَا يتم قَوْله أَنى حرمت الظُّلم على نَفسِي وَمَا شاكله من النُّصُوص فاما أَن يكون الْمَعْنى أَنى حرمت على نَفسِي مَا لَا حَقِيقَة لَهُ وَمَا لَيْسَ بممكن مثل خلق مثلى وَمثل جعل الْقَدِيم مُحدثا والمحدث قَدِيما وَنَحْو ذَلِك من المحالات وَيكون الْمَعْنى أَنى أخْبرت عَن نَفسِي بِأَن مَا لَا يكون مَقْدُورًا لَا يكون منى فَهَذَا مِمَّا يتَيَقَّن الْمنصف أَنه لَيْسَ مرَادا فِي اللَّفْظ قطعا وَأَنه يجب تَنْزِيه كَلَام الله وَرَسُوله عَن حَملَة على مثل ذَلِك قَالُوا وَأما استدلالكم بِتِلْكَ النُّصُوص الدَّالَّة على أَنه سُبْحَانَهُ أَن عذبهم فانهم عباده وَأَنه غير ظَالِم لَهُم وَأَنه لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وَأَن قَضَاءَهُ فيهم عدل بمناظرة اياس للقدرية فَهَذِهِ النُّصُوص وأمثالها كلهَا حق يجب القَوْل بموجبها وَلَا تحرف مَعَانِيهَا وَالْكل من عِنْد الله وَلَكِن أَي دَلِيل فِيهَا يدل على أَنه تَعَالَى يجوز عَلَيْهِ أَن يعذب أهل طَاعَته وينعم أهل مَعْصِيَته وَأَنه يعذب بِغَيْر جرم وَيحرم المحسن جَزَاء عمله وَنَحْو ذَلِك بل كلهَا متفقة مُتَطَابِقَة دَالَّة على كَمَال الْقُدْرَة وَكَمَال الْعدْل وَالْحكمَة فالنصوص الَّتِي ذَكرنَاهَا تَقْتَضِي كَمَال عدله وحكمته وغناه وَوَضعه الْعقُوبَة وَالثَّوَاب مواضعهما وَأَنه لَا يعدل بهما عَن سُنَنهمَا والنصوص الَّتِي ذكرتموها تَقْتَضِي كَمَال قدرته وانفراده بالربوبية وَالْحكم وَأَنه لَيْسَ فَوْقه آمُر وَلَا ناه يتعقب أَفعاله بسؤال وَأَنه
لَو عذب أهل سماواته وأرضه لَكَانَ ذَلِك تعذيبا لحقه عَلَيْهِم وَكَانُوا إِذْ ذَاك مستحقين للعذاب لِأَن أَعْمَالهم لَا تفي بنجاتهم كَمَا قَالَ النَّبِي لن يُنجى أحدا مِنْكُم عمله قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل فرحمته لَهُم لَيست فِي مُقَابلَة أَعْمَالهم وَلَا هِيَ ثمنا لَهَا فَإِنَّهَا خير مِنْهَا كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث نَفسه وَلَو رَحِمهم لكَانَتْ رَحمته لَهُم خيرا لَهُم من أَعْمَالهم أَي فَجمع بَين الْأَمريْنِ فِي الحَدِيث أَنه لَو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم وَلم يكن ظَالِما لَهُم وَأَنه لَو رَحِمهم لَكَانَ ذَلِك مُجَرّد فَضله وَكَرمه لَا بأعمالهم إِذْ رَحمته خير من أَعْمَالهم فصلوات الله وَسَلَامه على من خرج هَذَا الْكَلَام أَولا من شَفَتَيْه فانه أعرف الْخلق بِاللَّه وبحقه وأعلمهم بِهِ وبعدله وفضله وحكمته وَمَا يسْتَحقّهُ على عباده وطاعات العَبْد كلهَا لَا تكون مُقَابلَة لنعم الله عَلَيْهِم وَلَا مُسَاوِيَة لَهَا بل وَلَا للقليل مِنْهَا فَكيف يسْتَحقُّونَ بهَا على الله النجَاة وَطَاعَة الْمُطِيع لَا نِسْبَة لَهَا إِلَى نعْمَة من نعم الله عَلَيْهِ فَتبقى سَائِر النعم تتقاضاه شكرا وَالْعَبْد لَا يقوم بمقدوره الَّذِي يجب لله عَلَيْهِ فَجَمِيع عباده تَحت عَفوه وَرَحمته وفضله فَمَا نجا مِنْهُم أحدا إِلَّا بعفوه ومغفرته وَلَا فَازَ بِالْجنَّةِ إِلَّا بفضله وَرَحمته وَإِذا كَانَت هَذِه حَال الْعباد فَلَو عذبهم لعذبهم وَهُوَ غير ظَالِم لَهُم لَا لكَونه قَادِرًا عَلَيْهِم وهم ملكه بل لاستحقاقهم وَلَو رَحِمهم لَكَانَ ذَلِك بفضله لَا بأعمالهم
وَأما قَوْله فانهم عِبَادك فَلَيْسَ المُرَاد بِهِ أَنَّك قَادر عَلَيْهِم مَالك لَهُم وَأي مدح فِي هَذَا وَلَو قلت لشخص أَن عذبت فلَانا فانك قَادر على ذَلِك أَي مدح يكون فِي ذَلِك بل فِي ضمن ذَلِك الْأَخْبَار بغاية الْعدْل وَأَنه تَعَالَى أَن عذبهم فانهم عباده الَّذين أنعم عَلَيْهِم بإيجادهم وخلقهم ورزقهم وإحسانه إِلَيْهِم لَا بوسيلة مِنْهُم وَلَا فِي مُقَابلَة بذل بذلوه بل ابتدأهم بنعمه وفضله فَإِذا عذبهم بعد ذَلِك وهم عبيده لم يعذبهم إِلَّا بجرمهم واستحقاقهم وظلمهم فان من أنعم عَلَيْهِم ابْتِدَاء بجلائل النعم كَيفَ يعذبهم بِغَيْر اسْتِحْقَاق أعظم النقم
وَفِيه أَيْضا أَمر آخر ألطف من هَذَا وَهُوَ أَن كَونهم عباده يَقْتَضِي عِبَادَته وَحده وتعظيمه واجلاله كَمَا يجل العَبْد سَيّده ومالكه الَّذِي لَا يصل إِلَيْهِ نفع إِلَّا على يَده وَلَا يدْفع عَنهُ ضرا إِلَّا هُوَ فَإِذا كفرُوا بِهِ أقبح الْكفْر وأشركوا بِهِ أعظم الشّرك ونسبوه إِلَى كل نقيصة مِمَّا تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا كَانُوا أَحَق عباده وأولاهم بِالْعَذَابِ وَالْمعْنَى هم عِبَادك الَّذين أشركوا بك وَعدلُوا بك وجحدوا حَقك فهم عباد مستحقون للعذاب وَفِيه أَمر آخر أَيْضا لَعَلَّه ألطف مِمَّا قبله وَهُوَ أَن تُعَذبهُمْ فانهم عِبَادك وشأن السَّيِّد المحسن الْمُنعم أَن يتعطف على عَبده ويرحمه ويحنو عَلَيْهِ فَإِن عذبت هَؤُلَاءِ وهم عبيدك لَا تُعَذبهُمْ إِلَّا باستحقاقهم وإجرامهم وَألا فَكيف يشقى العَبْد بسيده وَهُوَ مُطِيع لَهُ مُتبع لمرضاته فَتَأمل هَذِه الْمعَانِي ووازن بَينهَا وَبَين قَوْله من يَقُول أَن تُعَذبهُمْ فَأَنت الْملك الْقَادِر وهم