المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل فهذه أقوى أدلة النفاة باعترافهم بضعف ما سواها فلا حاجة بنا - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط العلمية - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل مِفْتَاح دَار السَّعَادَة

- ‌فصل الشَّرَائِع كلهَا فِي أُصُولهَا وَإِن تباينت متفقة مركوز حسنها فِي

- ‌فصل وَقد أنكر تَعَالَى على من نسب إِلَى حكمته التَّسْوِيَة بَين الْمُخْتَلِفين

- ‌فصل وَتَحْقِيق هَذَا الْمقَام بالْكلَام فِي مقامين أَحدهمَا فِي الْأَعْمَال خُصُوصا

- ‌فصل وَأما المسئلة الثَّانِيَة وَهِي مَا تَسَاوَت مصْلحَته ومفسدته فقد اخْتلف

- ‌فصل وَهَهُنَا سر بديع من أسرار الْخلق وَالْأَمر بِهِ يتَبَيَّن لَك حَقِيقَة الْأَمر

- ‌فصل وَأما مَا خلقه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ أوجده لحكمة فِي إيجاده فَإِذا اقْتَضَت

- ‌فصل فَهَذِهِ أقوى أَدِلَّة النفاة باعترافهم بِضعْف مَا سواهَا فَلَا حَاجَة بِنَا

- ‌فصل وَإِذا قد انتهينا فِي هَذِه المسئلة إِلَى هَذَا الْموضع وَهُوَ بحرها

- ‌فصل وَقد سلم كثير من النفاة أَن كَون الْفِعْل حسنا أَو قبيحا بِمَعْنى

- ‌فصل إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَالْكَلَام على كَلِمَات النفاة من وُجُوه:

- ‌فصل والأسماء الْحسنى وَالصِّفَات الْعلَا مقتضية لآثارها من الْعُبُودِيَّة

- ‌فصل وَعكس هَذَا أَنه لم تشْتَرط الْمُكَافَأَة فِي علم وَجَهل وَلَا فِي كَمَال

- ‌فصل وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الْإِيجَاب فِي حق الله سَوَاء الْأَقْوَال فِيهِ كالأقوال

- ‌فصل وَقد ظهر بِهَذَا بطلَان قَول طائفتين مَعًا الَّذين وضعُوا لله شَرِيعَة

- ‌فصل وَأما مَا ذكره الفلاسفة من مَقْصُود الشَّرَائِع وان ذَلِك لاستكمال

- ‌فصل وَهَذِه الكمالات الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرهَا الفلاسفة للنَّفس لَا بُد مِنْهَا

- ‌فصل وَرَأَيْت لبَعض فضلائهم وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى رِسَالَة

- ‌فصل فلنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرسَالَة قَالَ زَعَمُوا أَن الْقَمَر والزهرة

- ‌فصل قَالَ صَاحب الرسَالَة ذكر جمل من احتجاجهم والاحتجاج عَلَيْهِم من إوكد

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بِالْآيَاتِ الدَّالَّة على أَن الله سُبْحَانَهُ وضع حركات

- ‌فصل وَأما ماذكره عَن إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن أَنه تمسك بِعلم النُّجُوم حِين

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق

- ‌فصل وَأما استدلاله بقوله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا} فَعجب من الْعجب فَإِن هَذَا من اقوى الْأَدِلَّة وأبينها على بطلَان قَول المنجمين والدهرية الَّذين يسندون جَمِيع مَا فِي الْعَالم من الْخَيْر وَالشَّر إِلَى النُّجُوم وحركاتها واتصالاتها ويزعمون أَن مَا تَأتي

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه كَانَ اعْتِمَاده فِي

- ‌فصل وَأما استدلاله بِأَن النَّبِي نهى عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن اسْتِقْبَال

- ‌فصل وَأما استدلاله بِحَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي إِذا ذكر الْقدر

- ‌فصل وَالَّذِي أوجب للمنجمين كَرَاهِيَة السّفر وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَب انهم قَالُوا

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ من الْأَثر عَن عَليّ أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ

- ‌فصل وَأما احتجاجه بِحَدِيث أبي الدَّرْدَاء لقد توفّي رَسُول الله وَتَركنَا

- ‌فصل وَأما مَا نسبه إِلَى الشافعى من حكمه بالنجوم على عمر ذَلِك الْمَوْلُود

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن هَذَا علم مَا خلت عَنهُ مِلَّة من الْملَل وَلَا

- ‌فصل وَأما مَا ذكره فِي أَمر الطالع عَن الْفرس وَأَنَّهُمْ كَانُوا يعتنون بطالع

- ‌فصل الْآن الْتَقت حلقتا البطان وتداعى نزال الْفَرِيقَانِ نعم وَهَهُنَا أَضْعَاف

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد أَن عمر بن

- ‌فصل وَأما محبَّة النَّبِي التَّيَمُّن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره وشأنه كُله

- ‌فصل وَأما قَوْله الشؤم فِي ثَلَاث الحَدِيث فَهُوَ حَدِيث صَحِيح من رِوَايَة

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد جَاءَت امْرَأَة إِلَى

- ‌فصل وَأما قَول النَّبِي للَّذي سل سَيْفه يَوْم أحد شم سَيْفك فَإِنِّي

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ وَنسبه إِلَى قَوْله وقدت الْحَرْب لما رأى

- ‌فصل وَأما استقباله الجبلين فِي طَرِيقه وهما مسلح ومخرىء وَترك

- ‌فصل وَأما كَرَاهِيَة السّلف أَن يتبع الْمَيِّت بِشَيْء من النَّار أَو أَن يدْخل

- ‌فصل وَأما تِلْكَ الوقائع الَّتِي ذكروها مِمَّا يدل على وُقُوع مَا تطير بِهِ

- ‌فصل وَمِمَّا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَتَطَيَّرُونَ بِهِ ويتشاءمون مِنْهُ العطاس كَمَا

- ‌فصل وَأما قَوْله لَا يُورد ممرض على مصح فالممرض الَّذِي إبِله مراض والمصح

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا مَا روى عَنهُ من نَهْيه عَن وَطْء الغيل وَهُوَ

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا قَوْله للَّذي قَالَ لَهُ إِن لي أمة وَأَنا أكره

- ‌فصل وَأما قَضِيَّة المجذوم فَلَا ريب أَنه روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ

الفصل: ‌فصل فهذه أقوى أدلة النفاة باعترافهم بضعف ما سواها فلا حاجة بنا

قبيحا وَأَن الَّذِي يحسن وَيجب إِنَّمَا هُوَ التورية وَهِي صدق وَقد يُطلق عَلَيْهَا الْكَذِب بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإفهام لَا إِلَى الْعِنَايَة الطَّرِيق الثَّانِي ان تخلف الْقبْح عَن الْكَذِب لفَوَات شَرط أَو قيام مَانع يَقْتَضِي مصلحَة رَاجِعَة على الصدْق لَا تخرجه عَن كَونه قبيحا لذاته وَتَقْرِيره مَا تقدم وَقد تقدم أَن الله سُبْحَانَهُ حرم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير للمفسدة الَّتِي فِي تنَاولهَا وَهِي ناشئة من ذَوَات هَذِه الْمُحرمَات وتخلف التَّحْرِيم عَنْهَا عِنْد الضَّرُورَة لَا يُوجب أَن تكون ذَاتهَا غير مقتضية للمفسدة الَّتِي حرمت لأَجلهَا فَهَكَذَا الْكَذِب المتضمن نجاة نَبِي أَو مُسلم الْوَجْه الرَّابِع قَوْله لَو كَانَ ذاتيا لاجتمع النقيضان فِي صدق من قَالَ لأكذبن غَدا إِلَى آخر مَا ذكر جَوَابه أَنه مَتى يجْتَمع النقيضان إِذا كَانَ الْحسن والقبح بِاعْتِبَار وَاحِد من جِهَة وَاحِدَة أَو إِذا كَانَا باعتبارين من جِهَتَيْنِ أَو أَعم من ذَلِك فَإِن عنيتم الأول فَمُسلم وَلَكِن لَا نسلم الْمُلَازمَة فَإِنَّهُ لَا يلْزم من اجْتِمَاع الْحسن والقبح فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة أَن يكون لجِهَة وَاحِدَة وَاعْتِبَار وَاحِد فَإِن اجْتِمَاع الْحسن والقبح فيهمَا باعتبارين مُخْتَلفين من جِهَتَيْنِ متباينتين وَهَذَا لَيْسَ مُمْتَنعا فَإِنَّهُ إِذا كَانَ كذبا كَانَ قبيحا بِالنّظرِ إِلَى ذَاته وحسنا بِالنّظرِ إِلَى تضمنه صدق الْخَبَر الأول وَنَظِيره إِن يَقُول وَالله لأشربن الْخمر غَدا أَو وَالله لآسرقن هَذَا الثَّوْب غَدا وَنَحْوه وَأَن عنيتم الثَّانِي فَهُوَ حق وَلَكِن لَا نسلم انْتِفَاء اللَّازِم وَأَن عنيتم الثَّالِث منعنَا الْمُلَازمَة أَيْضا على التَّقْدِير الأول وَانْتِفَاء اللَّازِم على التَّقْدِير الثَّانِي وَهَذَا وَاضح جدا الْوَجْه الْخَامِس قَوْله الْقَتْل وَالضَّرْب حسن إِذا كَانَ حدا أَو قصاصا وقبيح فِي غَيره فَلَو كَانَ ذاتيا لاجتمع النقيضان كَلَام فِي غَايَة الْفساد فَإِن الْقَتْل وَالضَّرْب وَاحِد بالنوع والقبيح مَا كَانَ ظنا وعدوانا والحس مِنْهُ مَا كَانَ جَزَاء على إساءة أما حدا وَأما قصاصا فَلم يرجع الْحسن والقبح إِلَى وَاحِد بِالْعينِ وَنَظِير هَذَا السُّجُود فَإِنَّهُ فِي غَايَة الْحسن لذاته إِذا كَانَ عبودية وخضوعا للْوَاحِد المعبود وَفِي غَايَة الْقبْح إِذا كَانَ لغيره وَلَو سلمنَا أَن الْقَتْل وَالضَّرْب الْوَاحِد بِالْعينِ إِذا كَانَ حدا أَو قصاصا فَإِنَّهُ يكون حسنا قبيحا لم يكن ذَلِك محالا لِأَنَّهُ باعتبارين فَهُوَ حسن لما تضمنه من الزّجر والنكال وعقوبة الْمُسْتَحق وقبيح بِالنّظرِ إِلَى الْمَقْتُول الْمَضْرُوب فَهُوَ قَبِيح لَهُ حسن فِي نَفسه وَهَذَا كَمَا أَنه مَكْرُوه مبغوض لَهُ وَهُوَ مَحْبُوب مرضى لفَاعِله والآمر بِهِ فَأَي محَال فِي هَذَا فَظهر أَن هَذَا الدَّلِيل فَاسد وَالله أعلم

‌فصل فَهَذِهِ أقوى أَدِلَّة النفاة باعترافهم بِضعْف مَا سواهَا فَلَا حَاجَة بِنَا

إِلَى ذكرهَا وَبَيَان فَسَادهَا فقد تبين الصُّبْح لذِي عينين وجلبت عَلَيْك المسئلة رافلة فِي حلل أدلتها الصَّحِيحَة وبراهينها

ص: 37

المستقيمة وَلَا تغضض طرف بصيرتك عَن هَذِه المسئلة فَأن شَأْنهَا عَظِيم وخطبها جسيم وَقد احْتج بَعضهم بِدَلِيل أفسد من هَذَا كُله فَقَالُوا لَو حسن الْفِعْل أَو قبح لذاته اَوْ لصفته لم يكن الباريء تَعَالَى مُخْتَارًا فِي الحكم لِأَن الحكم بالمرجوح على خلاف الْمَعْقُول فليزم الآخر فَلَا اخْتِيَار وَتَقْرِير هَذَا الِاسْتِدْلَال بِبَيَان الْمُلَازمَة الْمَذْكُورَة أَولا وَبَيَان انْتِفَاء اللَّازِم ثَانِيًا أما الْمقَام الأول وَهُوَ بَيَان الْمُلَازمَة فَإِن الْفِعْل لَو حسن لذاته اَوْ لصفته لَكَانَ راجحا على الْحسن فِي كَونه مُتَعَلقا للْوُجُوب أَو النّدب وَلَو قبح لذاته أَو لصفته لَكَانَ راجحا على الْحسن فِي كَونه مُتَعَلقا للتَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة فَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن يتَعَلَّق الحكم بالراجح الْمُقْتَضِي لَهُ اَوْ الْمَرْجُوح الْمُقْتَضِي لضده

وَالثَّانِي بَاطِل قطعا لَا لاستلزامه تَرْجِيح الْمَرْجُوح وَهُوَ بَاطِل بِصَرِيح الْعقل فَتعين الأول ضَرُورَة فَإِذا كَانَ تعلق الحكم بالراجح لَازِما ضَرُورَة لم يكن الْبَارِي مُخْتَارًا فِي حكمه فَتَأمل هَذِه الشُّبْهَة مَا أفسدها وَأبين بُطْلَانهَا وَالْعجب مِمَّن يرضى لنَفسِهِ ان يحْتَج يمثلها وحسبك فَسَاد الْحجَّة مضمونها أَن الله تَعَالَى لم يشرع السُّجُود لَهُ وتعظيمه وشكره وَيحرم السُّجُود للصنم وتعظيمه لحسن هَذَا وقبح هَذَا مَعَ استوائهما تفريقا بَين المتماثلين فَأَي برهَان أوضح من هَذَا على فَسَاد هَذِه الشُّبْهَة الْبَاطِلَة

الثَّانِي أَن يُقَال هَذَا يُوجب أَن تكون أَفعاله كلهَا مستلزمة للترجيح بِغَيْر مُرَجّح إِذْ لَو ترجح الْفِعْل مِنْهَا بمرجح لزم عدم الِاخْتِيَار بِعَين مَا ذكرْتُمْ إِذا لحكم بالمرجح لَازم فَإِن قيل لَا يلْزم الِاضْطِرَار وَترك الِاخْتِيَار لِأَن الْمُرَجح هُوَ الْإِرَادَة وَالِاخْتِيَار قيل فَهَلا قنعتم بِهَذَا الْجَواب منا وقلتم إِذا كَانَ اخْتِيَاره تَعَالَى مُتَعَلقا بِالْفِعْلِ لما فِيهِ من الْمصلحَة الداعية إِلَى فعله وشرعه وتحريمه لَهُ مَا فِيهِ من الْمفْسدَة الداعية إِلَى تَحْرِيمه وَالْمَنْع مِنْهُ فَكَانَ الحكم بالراجح فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُتَعَلقا بِاخْتِيَارِهِ تَعَالَى وإرادته فَإِنَّهُ الْحَكِيم فِي خلقه وَأمره فَإِذا علم فِي الْفِعْل مصلحَة راجحة شَرْعِيَّة وأوجبه شَرعه وَوَضعه وَإِذا علم فِيهِ مفْسدَة راجحة كرهه وأبغضه وَحرمه هَذَا فِي شَرعه وَكَذَلِكَ فِي خلقه لم يفعل شَيْئا إِلَّا ومصلحته راجحة وحكمته ظَاهِرَة واشتماله على الْمصلحَة وَالْحكمَة الَّتِي فعله لأَجلهَا لَا يُنَافِي اخْتِيَاره بل لَا يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ إِلَّا لما فِيهِ من الْمصلحَة وَالْحكمَة وَكَذَلِكَ تَركه لما فِيهِ من خلاف حكمته فَلَا يلْزم من تعلق الْحِكْمَة بالراجح أَن لَا يكون الحكم اختياريا فَإِن الْمُخْتَار الَّذِي هُوَ أحكم الْحَاكِمين لَا يخْتَار إِلَّا مَا يكون على وفْق الْحِكْمَة والمصلحة

الثَّالِث أَن قَوْله إِذا لزم تعلق الحكم بالراجح لم يكن مُخْتَارًا تلبيس فَإِنَّهُ إِنَّمَا تعلق بالراجح بِاخْتِيَارِهِ وإرادته واختياره وإرادته اقْتَضَت تعلقه بالراجح على وَجه اللُّزُوم فَكيف لَا يكون مُخْتَارًا واختياره استلزم تعلق الحكم بالراجح الرَّابِع إِن تعلق حكمه تَعَالَى بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ أَو الْمنْهِي عَنهُ إِمَّا أَن يكون جَائِز الْوُجُود والعدم أَو رَاجِح الْوُجُود أَو رَاجِح الْعَدَم فَإِن كَانَ جَائِز الطَّرفَيْنِ لم بترجح أَحدهمَا إِلَّا بمرجح وَإِن كَانَ راجحا فالتعلق لَازم لِأَن الحكم

ص: 38

يمْتَنع ثُبُوته مَعَ الْمُسَاوَاة وَمَعَ المرجوحية

أما الأول فَلَا ستلزامه التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَأما الثَّانِي فَلَا ستلزامه تَرْجِيح الْمَرْجُوح وَهُوَ بَاطِل بِصَرِيح الْعقل فَلَا يثبت إِلَّا مَعَ الْمُرَجح التَّام وَحِينَئِذٍ فيلزله عدم الِاخْتِيَار وَمَا يجيبون بِهِ عَن الْإِلْزَام الْمَذْكُور هُوَ جوابكم بِعَيْنِه عَن شبهتكم الَّتِي استدللتم بهَا الْخَامِس أَن هَذِه الشُّبْهَة الْفَاسِدَة مستلزمة لأحد الْأَمريْنِ وَلَا بُد أما التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَإِمَّا أَن لَا يكون الْبَارِي تَعَالَى مُخْتَارًا كَمَا قررتم وَكِلَاهُمَا بَاطِل السَّادِس أَنَّهَا تَقْتَضِي أَن لَا يكون فِي الْوُجُود قَادر مُخْتَار إِلَّا من يرجح أحد المتساويين على الآخر بِلَا مُرَجّح وَأما من رجح أحد الجائزين بمرجح فَلَا يكون مُخْتَارًا وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل بل الْقَادِر الْمُخْتَار لَا يرجح أحد مقدريه على الآخر إِلَّا بمرجح وَهُوَ مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَاحْتج النفاة أَيْضا بقوله تَعَالَى وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا وَوجه الِاحْتِجَاج بِالْآيَةِ أَنه سُبْحَانَهُ نفي التعذيب قبل بعثة الرُّسُل فَلَو كَانَ حسن الْفِعْل وقبحه ثَابتا لَهُ قبل الشَّرْع لَكَانَ مرتكب الْقبْح وتارك الْحسن فَاعِلا لِلْحَرَامِ وتاركا الْوَاجِب لِأَن قبحه عقلا يَقْتَضِي تَحْرِيمه عقلا عنْدكُمْ وَحسنه عقلا يَقْتَضِي وُجُوبه عقلا فَإِذا فعل الْمحرم وَترك الْوَاجِب اسْتحق الْعَذَاب عنْدكُمْ وَالْقُرْآن نَص صَرِيح أَن الله لَا يعذب بِدُونِ بعثة الرُّسُل فَهَذَا تَقْرِير الِاسْتِدْلَال احتجاجا والتزاما وَلَا ريب أَن الْآيَة حجَّة على تنَاقض المثبتين إِذا أثبتوا التعذيب قبل الْبعْثَة فَيلْزم تناقضهم وَإِبْطَال جمعهم بَين هذَيْن الْحكمَيْنِ إِثْبَات الْحسن والقبح عقلا وَإِثْبَات التعذيب على ذَلِك بِدُونِ الْبعْثَة وَلَيْسَ إبِْطَال القَوْل بِمَجْمُوع الْأَمريْنِ مُوجبا لإبطال كل وَاحِد مِنْهُمَا فَلَعَلَّ الْبَاطِل هُوَ قَوْلهم بِجَوَاز التعذيب قبل الْبعْثَة وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَيّن لِأَنَّهُ خلاف نَص الْقُرْآن وَخلاف صَرِيح الْعقل أَيْضا فَأن الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَقَامَ الْحجَّة على الْعباد برسله قَالَ تَعَالَى رسلًا مبشرين ومنذرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل فَهَذَا صَرِيح بِأَن الْحجَّة إِنَّمَا قَامَت بالرسل وَأَنه بعد مجيئهم لَا يكون للنَّاس على الله حجَّة وَهَذَا يدل على أَنه لَا يعذبهم قبل مَجِيء الرُّسُل إِلَيْهِم لِأَن الْحجَّة حِينَئِذٍ لم تقم عَلَيْهِم فَالصَّوَاب فِي المسئلة اثبات الْحسن والقبح عقلا وَنفي التعذيب على ذَلِك إِلَّا بعد بعثة الرُّسُل فالحسن والقبح الْعقلِيّ لَا يسْتَلْزم التعذيب وَإِنَّمَا يستلزمة مُخَالفَة الْمُرْسلين وَأما الْمُعْتَزلَة فقد أجابوا عَن ذَلِك بِأَن قَالُوا الْحسن والقبح الْعقلِيّ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب على فعل الْقَبِيح وَترك الْحسن وَلَا يلْزم من اسْتِحْقَاق الْعقَاب وُقُوعه لجَوَاز الْعَفو عَنهُ قَالُوا وَلَا يرد هَذَا علينا حَيْثُ نمْنَع الْعَفو بعد الْبعْثَة إِذا أَو عد الرب على الْفِعْل لِأَن الْعَذَاب قد صَار وَاجِبا بِخَبَرِهِ ومستحقا بارتكاب الْقَبِيح وَهُوَ سُبْحَانَهُ لم يحصل مِنْهُ إيعاد قبل الْبعْثَة فَلَا يقبح الْعَفو لِأَنَّهُ لَا يسْتَلْزم خلفا فِي الْخَبَر وَإِنَّمَا غَايَته ترك حق لَهُ قد وَجب قبل الْبعْثَة وَهَذَا حسن وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا أَن سَبَب الْعقَاب قَائِم قبل الْبعْثَة وَلَكِن لَا يلْزم من وجود سَبَب الْعَذَاب حُصُوله لِأَن هَذَا السَّبَب قد نصب الله تَعَالَى لَهُ شرطا وَهُوَ بعثة الرُّسُل وَانْتِفَاء التعذيب قبل الْبعْثَة هُوَ لَا نتفاء شَرطه لَا لعدم

ص: 39

سَببه ومقتضيه وَهَذَا فصل الْخطاب فِي هَذَا الْمقَام وَبِه يَزُول كل إِشْكَال فِي المسئلة وينقشع غيمها ويسفر صبحها وَالله الْمُوفق للصَّوَاب

وَاحْتج بَعضهم أَيْضا بِأَن قَالَ لَو كَانَ الْفِعْل حسنا لذاته لَا متنع الشَّارِع من نسخه قبل إِيقَاع الْمُكَلف لَهُ وَقبل تمكنه مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ حسنا لذاته فَهُوَ منشأ للْمصْلحَة الراجحة فَكيف ينْسَخ وَلم تحصل مِنْهُ تِلْكَ الْمصلحَة وَأجَاب الْمُعْتَزلَة عَن هَذَا بالتزامه وَمنعُوا النّسخ قبل وَقت الْفِعْل ونازعهم جُمْهُور هَذِه الْأمة فِي هَذَا الأَصْل وجوزوا وُقُوع النّسخ قبل حُضُور وَقت الْفِعْل ثمَّ انقسموا قسمَيْنِ فنفاة التحسين والتقبيح بنوه على أصلهم ومثبتو التحسين والتقبيح أجابوا عَن ذَلِك بِأَن الْمصلحَة كَمَا تنشأ من الْفِعْل فَأَنَّهَا أَيْضا قد تنشأ من الْعَزْم عَلَيْهِ وتوطين النَّفس على الِامْتِثَال وَتَكون الْمصلحَة الْمَطْلُوبَة هِيَ الْعَزْم وتوطين النَّفس لَا إِيقَاع الْفِعْل فِي الْخَارِج فَإِذا أَمر الْمُكَلف بِأَمْر فعزم عَلَيْهِ وتهيأ لَهُ ووطن نَفسه على امتثاله فحصلت الْمصلحَة المرادة مِنْهُ لم يمْتَنع نسخ الْفِعْل وَإِن لم يوقعه لِأَنَّهُ لَا مصلحَة لَهُ فِيهِ وَهَذَا كأمر إِبْرَاهِيم الْخَلِيل بِذبح وَلَده فَإِن الْمصلحَة لم تكن فِي ذبحه وَإِنَّمَا كَانَت فِي استسلام الْوَالِد وَالْولد لأمر الله وعزمهما عَلَيْهِ وتوطينهما أَنفسهمَا على امتثاله فَلَمَّا حصلت هَذِه الْمصلحَة بَقِي الذّبْح مفْسدَة فِي حَقّهمَا فنسخه الله وَرَفعه وَهَذَا هُوَ الْجَواب الْحق الشافي فِي المسئلة وَبِه تتبين الْحِكْمَة الباهرة فِي إِثْبَات مَا أثْبته الله من الْأَحْكَام وَنسخ مَا نسخه مِنْهَا بعد وُقُوعه وَنسخ مَا نسخ مِنْهَا قبل إِيقَاعه وَأَن لَهُ فِي ذَلِك كُله من الحكم الْبَالِغَة مَا تشهد لَهُ بِأَنَّهُ احكم الْحَاكِمين وَأَنه اللَّطِيف الْخَبِير الَّذِي بهرت حكمته الْعُقُول فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين

وَمِمَّا احْتج بِهِ النفاة أَيْضا أَنه لَو حسن الْفِعْل أَو قبح لغير الطّلب لم يكن تعلق الطّلب لنَفسِهِ لتوقفه على أَمر زَائِد

وَتَقْرِير هَذِه الْحجَّة ان حسن الْفِعْل وقبحه لَا يجوز ان يكون لغير نفس الطّلب بل لَا معنى لحسنه إِلَّا كَونه مَطْلُوبا للشارع أيجاده وَلَا لقبحه إِلَّا كَونه مَطْلُوبا لَهُ إعدامه لِأَنَّهُ لَو حسن وقبح لِمَعْنى غير الطّلب الشَّرْعِيّ لم يكن الطّلب مُتَعَلقا بالمطلوب لنَفسِهِ بل كَانَ التَّعَلُّق لأجل ذَلِك الْمَعْنى فَيتَوَقَّف الطّلب على حُصُول الِاعْتِبَار الزَّائِد على الْفِعْل وَهَذَا بَاطِل لِأَن التَّعَلُّق نِسْبَة بَين الطّلب وَالْفِعْل وَالنِّسْبَة بَين الْأَمريْنِ لَا تتَوَقَّف إِلَّا على حصولهما فَإِذا حصل الْفِعْل تعلق الطّلب بِهِ سَوَاء حصل فِيهِ اعْتِبَار زَائِد على ذَاته أَولا فَإِن قُلْتُمْ الطّلب وَأَن لم يتَوَقَّف إِلَّا على الْفِعْل الْمَطْلُوب وَالْفَاعِل الْمَطْلُوب مِنْهُ لَكِن تعلقه بِالْفِعْلِ مُتَوَقف على جِهَة الْحسن والقبح الْمُقْتَضِي لتَعلق الطّلب بِهِ قُلْنَا الطّلب قديم والجهة الْمُوجبَة لِلْحسنِ والقبح حَادِثَة وَلَا يَصح توقف الْقَدِيم على الْحَادِث وسر الدَّلِيل أَن تعلق الطّلب بِالْفِعْلِ ذاتي فَلَا يجوز أَن يكون مُعَللا بِأَمْر زَائِد على الْفِعْل إِذْ لَو كَانَ تعلقه بِهِ مُعَللا لم يكن ذاتيا وَهَذَا وَجه تَقْرِير هَذِه الشُّبْهَة وان كَانَ كثير من شرَّاح الْمُخْتَصر لم يفهموا تقريرها على هَذَا الْوَجْه فقرروها على وَجه

ص: 40

آخر لَا يُفِيد شَيْئا وَبعد فَهِيَ شُبْهَة فَاسِدَة من وُجُوه: أَحدهَا أَن يُقَال مَا تعنون بِأَن تعلق الطّلب بِالْفِعْلِ ذاتي لَهُ أتعنون بِهِ أَن التَّعَلُّق مقوم لماهية الطّلب وَأَن تقوم الْمَاهِيّة بِهِ كتقومها بجنسها وفصلها أم تعنون بِهِ أَنه لَا تعقل مَاهِيَّة الطّلب الا بالتعلق الْمَذْكُور أم أمرا آخر فَإِن عنيتم الأول والتعلق نِسْبَة إضافية وَهِي عدمية عنْدكُمْ لَا وجود لَهَا فِي الْأَعْيَان فَكيف تكون النِّسْبَة العدمية مقومة للماهية الوجودية وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنه لَيْسَ لمتعلق الطّلب من الطّلب صفة ثبوتية لِأَن هَذَا هُوَ الْكَلَام النَّفْسِيّ وَلَيْسَ لمتعلق القَوْل فِيهِ صفة ثبوتية وَأَن عنيتم الثَّانِي فَلَا يلْزم من ذَلِك توقف الطّلب على اعْتِبَار زَائِد على الْفِعْل يكون ذَلِك الِاعْتِبَار شرطا فِي الطّلب وَأَن عنيتم أمرا ثَالِثا فَلَا بُد بَيَانه وعَلى تَقْدِير بَيَانه فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي توقف التَّعَلُّق على الشَّرْط الْمَذْكُور الثَّانِي أَن غَايَة مَا قررتموه قررتموه أَن التَّعَلُّق ذاتي للطلب والذاتي لَا يُعلل كَمَا ادعيتموه فِي الْمنطق دَعْوَى مُجَرّدَة وَلم تقرروه وَلم تبينوا مَا معنى كَونه غير مُعَلل حَتَّى ظن بعض المقلدين من المنطقيين أَن مَعْنَاهُ ثبوتية الذَّات لنَفسِهِ بِغَيْر وَاسِطَة وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد لَا يَقُوله من يدرى مَا يَقُول وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه لَا تحْتَاج الذَّات فِي اتصافها بِهِ إِلَى عِلّة مُغَايرَة لعِلَّة وجودهَا بل عِلّة وجودهَا هِيَ عِلّة اتصاف الذَّات فَهَذَا معنى كَونه غير مُعَلل بعلة خارجية عَن عِلّة الذَّات بل عِلّة الذَّات علته وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع استقصاء الْكَلَام على ذَلِك وَالْمَقْصُود أَن كَون التَّعَلُّق ذاتيا للطلب فَلَا يُعلل بِغَيْر عِلّة الطّلب لَا يُنَافِي توقفه على شَرط فَهَب أَن صفة الْفِعْل لَا تكون عِلّة للتعلق فَمَا الْمَانِع أَن تكون شرطا لَهُ وَيكون تعلق الطّلب بِالْفِعْلِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ على الْجِهَة الْمَذْكُورَة فَإِذا انْتَفَت تِلْكَ الْجِهَة انْتَفَى التَّعَلُّق لانْتِفَاء شَرطه وَهَذَا مِمَّا لم يتَعَرَّضُوا لبطلانه أصلا وَلَا سَبِيل لكم إِلَى أبطالة الثَّالِث أَن قَوْلك الطّلب قديم والجهة الْمَذْكُورَة حَادِثَة للْفِعْل وَلَا يَصح توقف الْقَدِيم على الْحَادِث كَلَام فِي غَايَة الْبطلَان فَإِن الْفِعْل الْمَطْلُوب حَادث والطلب مُتَوَقف عَلَيْهِ إِذْ لَا تتَصَوَّر مَاهِيَّة الطّلب بِدُونِ الْمَطْلُوب فَمَا كَانَ جوابكم عَن توقف الطّلب على الْفِعْل الْحَادِث فَهُوَ جَوَابنَا عَن توقفه على جِهَة الْفِعْل الْحَادِثَة فَإِن جِهَته لَا تزيد عَلَيْهِ بل هِيَ صفة من صِفَاته فَإِن قُلْتُمْ التَّوَقُّف هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ لتَعلق الطّلب بالمطلوب لَا لنَفس الطّلب وَلَا تَجِدُونَ محذورا فِي توقف التَّعَلُّق لِأَنَّهُ حَادث قُلْنَا فَهَلا قنعتم بِهَذَا الْجَواب فِي صفة الْفِعْل وقلتم التَّوَقُّف على الْجِهَة الْمَذْكُورَة هُوَ توقف التَّعَلُّق لَا توقف نفس الطّلب فنسبة التَّعَلُّق إِلَى جِهَة الْفِعْل كنسبته إِلَى ذَاته وَنسبَة الطّلب إِلَى الْجِهَة كنسبته إِلَى نفس الْفِعْل سَوَاء بِسَوَاء فنسبة الْقَدِيم إِلَى أحد الحادثين كنسبته إِلَى الآخر وَنسبَة تعلقه بِأحد الحادثين كنسبة تعلقه بِالْآخرِ فَتبين فَسَادًا الدَّلِيل الْمَذْكُور وحسبك بِمذهب فَسَادًا استلزامه جَوَاز ظُهُور المعجزة على يَد الْكَاذِب وَإنَّهُ لَيْسَ بقبيح واستلزامه جَوَاز نِسْبَة الْكَذِب إِلَى أصدق

ص: 41