الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأميت يعْنى أَنا أفعل كَمَا يفعل الله فَأَكُون رَبًّا مثله فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم فَأن كنت صَادِقا فافعل مثل فعله فِي طُلُوع الشَّمْس فَإِذا أطلعها من جِهَة فأطلعها انت من جِهَة أخري ثمَّ تَأمل مَا فِي ضمن هَذِه المناظرة من حسن الِاسْتِدْلَال بافعال الرب المشهودة المحسوسة الَّتِى تَسْتَلْزِم وجوده وَكَمَال قدرته ومشيئته وَعلمه ووحدانيته من الْإِحْيَاء والإماتة المشهودين الَّذين لَا يقدر عَلَيْهِمَا إِلَّا الله وَحده وإتيانه تَعَالَى بالشمس من الْمشرق لَا يقدر أحد سواهُ على ذَلِك وَهَذَا برهَان لَا يقبل الْمُعَارضَة بِوَجْه وَإِنَّمَا لَيْسَ عَدو الله وأوهم الْحَاضِرين أَنه قَادر من الْإِحْيَاء والإماتة على مَا هُوَ مماثل لمقدور الرب تَعَالَى فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم فَأن كَانَ الْأَمر كَمَا زعمت فأرني قدرتك على الْإِتْيَان بالشمس من الْمغرب لتَكون مماثله لقدرة الله على الْإِتْيَان بهَا من الْمشرق فَأَيْنَ الِانْتِقَال فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال والمناظرة بل هَذَا من أحسن مَا يكون من المناظرة وَالدَّلِيل الثَّانِي مكمل لِمَعْنى الدَّلِيل الأول ومبين لَهُ ومقرر لتضمن الدَّلِيلَيْنِ افعال الرب الدَّالَّة عَلَيْهِ وعَلى وحدانيته وانفراده بالربوبية والإلهية كَمَا لَا تقدر انت وَلَا غير الله على مثلهَا وَلما علم عَدو الله صِحَة ذَلِك وان من هَذَا شَأْنه على كل شَيْء قدير لَا يعجزه شَيْء وَلَا يستصعب عَلَيْهِ مُرَاد خَافَ أَن يَقُول لإِبْرَاهِيم فسل رَبك أَن يَأْتِي بهَا من مغْرِبهَا فيفعل ذَلِك فَيظْهر لأتباعه بطلَان دَعْوَاهُ وَكذبه وانه لَا يصلح للربوبية فبهت وامسك وَفِي هَذِه المناظرة نُكْتَة لَطِيفَة جدا وَهِي أَن شرك الْعَالم إِنَّمَا هُوَ مُسْند إِلَى عبَادَة الْكَوَاكِب والقبور ثمَّ صورت الْأَصْنَام على صورها كَمَا تقدم فتضمن الدليلان اللَّذَان اسْتدلَّ بهما إِبْرَاهِيم إبِْطَال إلهية تِلْكَ جملَة بِأَن الله وَحده هُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت وَلَا يصلح الْحَيّ الَّذِي يَمُوت للإلهية لَا فِي حَال حَيَاته وَلَا بعد مَوته فَإِن لَهُ رَبًّا قَادِرًا قاهرا متصرفا فِيهِ إحْيَاء وإماتة وَمن كَانَ كَذَلِك فَكيف يكون إِلَهًا حَتَّى يتَّخذ الصَّنَم على صورته ويعبد من دونه وَكَذَلِكَ الْكَوَاكِب أظهرها وأكبرها للحس 0
هَذِه الشَّمْس وَهِي مربوبة مُدبرَة مسخرة لَا تصرف لَهَا فِي نَفسهَا بِوَجْه مَا بل رَبهَا وخالقها سُبْحَانَهُ يَأْتِي بهَا من مشرقها فتنقاد لأَمره ومشيئته فَهِيَ مربوبة مسخرة مُدبرَة لَا أَله يعبد من دون الله 0
فصل وَأما استدلاله بِأَن النَّبِي نهى عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن اسْتِقْبَال
الشَّمْس وَالْقَمَر واستدبارهما فَكَأَنَّهُ وَالله أعلم لما رأى بعض الْفُقَهَاء قد قَالُوا ذَلِك فِي كتبهمْ فِي آدَاب التخلى وَلَا تسْتَقْبل الشَّمْس وَالْقَمَر ظن أَنهم إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لنهى النَّبِي عَنهُ فاحتج بِالْحَدِيثِ وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل فَإِن النَّبِي لم ينْقل عَنهُ ذَلِك فِي كلمة وَاحِدَة لَا بِإِسْنَاد صَحِيح وَلَا ضَعِيف وَلَا مُرْسل وَلَا مُتَّصِل وَلَيْسَ لهَذِهِ الْمَسْأَلَة أصل فِي الشَّرْع وَالَّذين ذكروها من الْفُقَهَاء مِنْهُم من قَالَ الْعلَّة
أَن اسْم الله مَكْتُوب عَلَيْهِمَا وَمِنْهُم من قَالَ لِأَن نورهما من نور الله وَمِنْهُم من قَالَ إِن التنكب عَن استقبالهما واستدبارهما أبلغ فِي التستر وَعدم ظُهُور الفرجين وَبِكُل حَال فَمَا لهَذَا وَلَا أَحْكَام النُّجُوم فان كَانَ هَذَا دَالا على دعواكم فدلالة النَّهْي عَن اسْتِقْبَال الْكَعْبَة بذلك أقوى وَأولى وَأما استدلاله بِأَن النَّبِي قَالَ يَوْم موت وَلَده ابراهيم إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فاذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فافزعوا إِلَى الصَّلَاة وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح وَهُوَ من أعظم الْحجَج على بطلَان قَوْلكُم فانه صلى الله عليه وسلم أخبر أَنَّهُمَا آيتان من آيَات الله وآيات الله لَا يحصيها إِلَّا الله فالمطر والنبات وَالْحَيَوَان وَاللَّيْل وَالنَّهَار وَالْبر وَالْبَحْر وَالْجِبَال وَالشَّجر وَسَائِر الْمَخْلُوقَات آيَاته تَعَالَى الدّلَالَة عَلَيْهِ وَهِي فِي الْقُرْآن أَكثر من أَن نذكرها هَهُنَا فهما آيتان لَا ربان وَلَا إلهان وَلَا ينفعان وَلَا يضران وَلَا لَهما تصرف فِي أَنفسهمَا وذواتهما الْبَتَّةَ فضلا عَن إعطائهما كل مَا فِي الْعَالم من خير وَشر وَصَلَاح وَفَسَاد بل كل مَا فِيهِ من ذراته وأجزائه وكلياته وجزئياته لَهُ تَعَالَى الله عَن قَول المفترين الْمُشْركين علوا كَبِيرا وَفِي وَقَوله لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أَن موت الْمَيِّت وحياته لَا يكون سَببا فِي انكسافهما كَمَا كَانَ يَقُوله كثير من جهال الْعَرَب وَغَيرهم عِنْد الانكساف إِن ذَلِك لمَوْت عَظِيم أَو لولادة عَظِيم فَأبْطل النَّبِي ذَلِك وَأخْبر أَن موت الْمَيِّت وحياته لَا يُؤثر فِي كسوفهما الْبَتَّةَ
وَالثَّانِي أَنه لَا يحصل عَن انكسافهما موت وَلَا حَيَاة فَلَا يكون انكسافهما سَببا لمَوْت ميت وَلَا لحياة حَيّ وَإِنَّمَا ذَلِك تخويف من الله لِعِبَادِهِ أجْرى الْعَادة بحصوله فِي اوقات مَعْلُومَة بِالْحِسَابِ كطلوع الْهلَال وإبداره وسراره فَأَما سَبَب كسوف الشَّمْس فَهُوَ توَسط الْقَمَر بَين جرم الشَّمْس وَبَين أبصارنا فان الْقَمَر عِنْدهم جسم كثيف مظلم وفلكه دون فلك الشَّمْس فاذا كَانَ على مسامته إِحْدَى نقطتي الرَّأْس أَو الذَّنب أَو قَرِيبا مِنْهُمَا حَالَة الإجتماع من تَحت الشَّمْس حَال بَيْننَا وَبَين نور الشَّمْس كسحابة تمر تحتهَا إِلَى أَن يتجاوزها من الْجَانِب الآخر فَإِن لم يكن للقمر عرض ستر عَنَّا نور كل الشَّمْس وَإِن كَانَ لَهُ عرض فبقدر مَا يُوجِبهُ عرضه وَذَلِكَ أَن الخطوط الشعاعية تخرج من بصر النَّاظر إِلَى المرئي على شكل مخروط راسه عِنْد نقطة الْبَصَر وقاعدته عِنْد جرم المرئي فَإِن وجهنا أبصارنا إِلَى جرم الشَّمْس حَالَة كسوفها فَإِنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى الْقَمَر أَو لَا مخروط الشعاع فاذا توهمنا نُفُوذه مِنْهُ إِلَى الشَّمْس وَقع جرم الشَّمْس فِي وسط المخروط وَإِن لم يكن للقمر عرض انكسف كل الشَّمْس وَإِن كَانَ للقمر عرض فبقدر مَا يُوجِبهُ عرضه ينحرف جرم الشَّمْس عَن مخروط الشعاع وَلَا يَقع كُله فِيهِ فينكسف بعضه وَيبقى الْبَاقِي على ضيائه وَذَلِكَ إِذا كَانَ الْعرض المرئي اقل من نصف مَجْمُوع قطر الشَّمْس وَالْقَمَر حَتَّى إِذا سَاوَى الْعرض المرئي نصف مَجْمُوع القطرين كَانَ صفحة الْقَمَر تماس مخروط الشعاع فَلَا ينكسف
وَلَا يكون لكسوف الشَّمْس لبث لِأَن قَاعِدَة المخروط الْمُتَّصِل بالشمس مسَاوٍ لقطريها فَكَمَا ابْتَدَأَ الْقَمَر بالحركة بعد تَمام الموازاة بَينه وَبَين الشَّمْس تحرّك المخروط وابتدأت الشَّمْس بالإسفار إِلَّا أَن كسوف الشَّمْس يخْتَلف باخْتلَاف أوضاع المساكن حَتَّى أَنه يرى فِي بَعْضهَا وَلَا يرى فِي بَعْضهَا وَيرى فِي بَعْضهَا أقل وَفِي بَعْضهَا أَكثر بِسَبَب اخْتِلَاف المنظر إِذْ الكاسف لَيْسَ عارضا فِي جرم الشَّمْس يستوى فِيهِ النظار من جَمِيع الْأَمَاكِن بل الكاسف شَيْء متوسط بَينهَا وَبَين الْأَبْصَار وَهُوَ قريب مِنْهَا والمحجوب عَنَّا بعيد فيختلف التَّوَسُّط باخْتلَاف مَوَاضِع الناظرين وَكَذَلِكَ يخْتَلف كسوف الشَّمْس فِي مباديها وَعند انجلائها فِي كمية مَا ينكسف مِنْهَا وَفِي زمَان كسوفها الَّذِي هُوَ من أول البدو إِلَى وسط الْكُسُوف وَمن وسط الْكُسُوف إِلَى آخر الانجلاء
فَإِن قيل فجرم الْقَمَر أَصْغَر من جرم الشَّمْس بِكَثِير فَكيف يحجب عَنَّا كل الشَّمْس قيل إِنَّمَا يحجب عَنَّا جرم الشَّمْس لقُرْبه منا وَبعدهَا عَنَّا لِأَن الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِفين فِي الصغر وَالْكبر إِذا قرب الصَّغِير من الْكَبِير يرى من أَطْرَاف الْكَبِير أَكثر مَا يرى مِنْهَا مَعَ بعد الْأَصْغَر عَنهُ وَكلما بعد الْأَصْغَر عَنهُ وازداد قربه من النَّاظر تناقص مَا يرى من أَطْرَاف الْأَكْبَر إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى حد لَا يرى من الْأَكْبَر شَيْء والحس شَاهد بذلك
وَأما سَبَب خُسُوف الْقَمَر فَهُوَ توَسط الأَرْض بَينه وَبَين الشَّمْس حَتَّى يصير الْقَمَر مَمْنُوعًا من اكْتِسَاب النُّور من الشَّمْس وَيبقى ظلام ظلّ الأَرْض فِي مَمَره لِأَن الْقَمَر لَا ضوء لَهُ أبدا وَأَنه يكْتَسب الضَّوْء من الشَّمْس وَهل هَذَا الِاكْتِسَاب خَاص بالقمر أم يُشَارِكهُ فِيهِ سَائِر الْكَوَاكِب فَفِيهِ قَولَانِ لأرباب الْهَيْئَة: أَحدهمَا أَن الشَّمْس وَحدهَا هِيَ المضيئة بذاتها وَغَيرهَا من الْكَوَاكِب مستضيئة بضيائها على سَبِيل الْعرض كَمَا عرف ذَلِك فِي الْقَمَر وَالْقَوْل الثَّانِي أَن الْقَمَر مَخْصُوص بالكمودة دون سَائِر الْكَوَاكِب وَغَيره من الْكَوَاكِب مضيئة بذاتها كَالشَّمْسِ ورد هَؤُلَاءِ على ارباب القَوْل الأول بِأَن الْكَوَاكِب لَو استفادت أضواءها من الشَّمْس لاختلف مقادير تِلْكَ الأضواء فِيمَا كَانَ تَحت فلك الشَّمْس مِنْهَا بِسَبَب الْقرب والبعد من الشَّمْس كَمَا فِي الْقَمَر فَإِنَّهُ يخْتَلف ضوؤه بِحَسب قربه وَبعده من الشَّمْس
وَالَّذِي حمل أَرْبَاب القَوْل الأول عَلَيْهِ مَا وجدوه من تعلق حركات الْكَوَاكِب بحركات الشَّمْس وظنوا أَن ضوءها من ضيائها وَلَيْسَ الْغَرَض اسْتِيفَاء الْحجَّاج من الْجَانِبَيْنِ وَمَا لكل قَول وَعَلِيهِ وَالْمَقْصُود ذكر سَبَب الخسوف القمرى وَلما كَانَت الأَرْض جسما كثيفا فَإِذا أشرقت الشَّمْس على جَانب مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقع لَهَا ظلّ فِي الْجِهَة الْأُخْرَى لِأَن كل ذِي ظلّ يَقع فِي الْجِهَة الْمُقَابلَة للجرم المضىء فَمَتَى أشرقت عَلَيْهَا من نَاحيَة الشرق وَقعت أظلالها فِي نَاحيَة الغرب وَإِذا وَقعت عَلَيْهَا من نَاحيَة الغرب مَالَتْ أظلالها إِلَى نَاحيَة الْمشرق وَالْأَرْض
أَصْغَر من جرم الشَّمْس بِكَثِير فينبعث ظلها ويرتفع فِي الْهَوَاء على شكل مخروط قَاعِدَته قريبَة من تدوير الارض ثمَّ لَا يزَال ينخرط تدويره حَتَّى يدق ويتلاشى لِأَن قطر الشَّمْس لما كَانَ أعظم من قطر الأَرْض فالخطوط الشعاعية الْمَارَّة من جَوَانِب الشَّمْس إِلَى جَوَانِب الأَرْض تكون متلاقية لَا متوازية فَإِذا مرت على الاسْتقَامَة إِلَى الأَرْض انقذفت على جوانبها فتلتقي لَا محَالة إِلَى نقطة فينحصر ظلّ الأَرْض فِي سطح مخروط فَيكون مخروطا لَا محَالة قَاعِدَته حَيْثُ ينبعث من الأَرْض وَرَأسه عِنْد نقطة تلافي الخطوط وَلَو كَانَ قطر الأَرْض مُسَاوِيا لقطر الشَّمْس لكَانَتْ الخطوط الشعاعية تخرج إِلَيْهَا على التوازي فَيكون الظل متساوي الغلظ إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى مُحِيط الْعَالم وَلَو كَانَ قطر الشَّمْس أَصْغَر من قطر الأَرْض لكَانَتْ الخطوط تخرج على التلاقي فِي جِهَة الشَّمْس وأوسعها عِنْد قطر الأَرْض ولكان الظل يزْدَاد غلظا كلما بعد عَن الأَرْض إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى مُحِيط الْعَالم وَيلْزم من ذَلِك أَن ينخسف الْقَمَر فِي كل اسْتِقْبَال والوجود بِخِلَافِهِ وَلما ثَبت أَن ظلّ الأَرْض مخروطي الشكل وَقد وَقع فِي الْجِهَة الْمُقَابلَة لجِهَة الشَّمْس فَيكون نقطة رَأسه فِي سطح فلك البروج لَا محَالة ويدور بدوران الشَّمْس مسامتا للنقطة الْمُقَابلَة لموْضِع الشَّمْس وَهَذَا الظل الَّذِي يكون فَوق الأَرْض هُوَ اللَّيْل فَإِن كَانَت الشَّمْس فَوق الأَرْض كَانَ الظل تَحت الرض بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا وَنحن فِي ضِيَاء الشَّمْس وَذَلِكَ النَّهَار وَالزَّمَان الَّذِي يوازي دوَام الظل فَوق الأَرْض هُوَ زمَان اللَّيْل فَإِذا اتّفق مُرُور الْقَمَر على محاذاة نقطتى الرَّأْس والذنب حَالَة الِاسْتِقْبَال يَقع فِي مخروط الظل لَا محَالة لِأَن الْخط الْخَارِج من مَرْكَز الْعَالم الْمَار بمركز الشَّمْس ثمَّ بمركز الْقَمَر من الْجَانِب الآخر ينطبق على سهم مخروط الظل فَيَقَع الْقَمَر فِي وسط المخروط فينخسف كُله ضَرُورَة لِأَن الأَرْض تَمنعهُ من قبُول ضِيَاء الشَّمْس فيبقي الْقَمَر على جَوْهَرَة الأصلى فَإِن كَانَ للقمر عرض ينحرف عَن سهم المخروط بَقِي الضَّوْء فِيهِ بِقَدرِهِ وطبعه وَقد يَقع كُله فِي المخروط وَلَكِن يمر فِي جَانب مِنْهُ وَقد يَقع بعضه فِي المخروط ويبقي بعضه خَارِجا وَرُبمَا يماس مخروط الظل وَلَا يَقع من جرمه شَيْء وَإِنَّمَا يخْتَلف هَذَا باخْتلَاف بعده من الْخط الْخَارِج من مَرْكَز الْعَالم الْمَار بمركز الشَّمْس المطابق لسهم المخروط حَتَّى إِذا عظم عرضه بِأَن لَا يبْقى بَينه وَبَين إِحْدَى نقطتي الرَّأْس والذنب أَكثر من ثَلَاثَة عشر دقيقة لَا يماس المخروط أصلا وَإِذا وَقع فِي جَانب مِنْهُ قل مكثه وَرُبمَا لم يكن لَهُ مكث أصلا وَإِنَّمَا يعرف ذَلِك بِتَقْدِيم معرفَة قطر الظل وقطر يخْتَلف باخْتلَاف أبعاده عَن الأَرْض وَكَذَلِكَ قطر الظل أَيْضا يخْتَلف باخْتلَاف أبعاد الشَّمْس عَن الأَرْض فَإِن الشَّمْس مَتى قربت من الأَرْض كَانَ ظلّ الأَرْض دَقِيقًا قَصِيرا وَإِذا بَعدت عَنْهَا كَانَ ظلّ الأَرْض طَويلا غليظا لِأَنَّهَا مَتى بَعدت عَن الأَرْض يرى قطرها أَصْغَر وَأقرب تلاقيا مِنْهَا وَكلما كَانَ أعظم مِقْدَارًا فِي رأى
الْعين فالخطوط الشعاعية أقصر وَأقرب تلاقيا فَلذَلِك يخْتَلف قطع الْقَمَر غلظ الظل فِي أَوْقَات الكسوفات والموضع الَّذِي يقطعة الْقَمَر من الظل يسمونه فلك الجوزهر وَإِذا عرف عرف قطر الظل وَعرف مِقْدَار قطر نصف الْقَمَر وَجمع بَينهمَا وَنصف ذَلِك وَعرف عرض الْقَمَر إِن كَانَ لَهُ عرض فَإِن كَانَ الْعرض مُسَاوِيا لنصف مَجْمُوع القطرين فَإِن الْقَمَر يماس دَائِرَة الظل وَلَا ينكسف وَإِن كَانَ الْعرض أقل من نصف مجموعهما فَإِنَّهُ ينكسف فَينْظر إِن كَانَ مُسَاوِيا لنصف قطر الظل انكسف من الْقَمَر مثل نصف صفحته وَإِن كَانَ الْعرض أقل من نصف قطر الظل فينتقص الْعرض من نصف قطر الظل فَإِن كَانَ الْبَاقِي مثل قطر الْقَمَر انكسف كُله وَلَا يكون لَهُ مكث وَإِذا لم يكن لَهُ عرض انكسف كُله وَيمْكث زَمَانا أَكثر وأطول مَا يَمْتَد زمَان الْكُسُوف الْقمرِي أَربع سَاعَات وَأما زمَان لكسوف الشمسى فَلَا يزِيد على ساعتين وكسوف الْقَمَر يخْتَلف باخْتلَاف أوضاع المساكن إِذْ الْكُسُوف عَارض فِي جِهَة وَهُوَ عبوره فِي ظلام ظلّ الأَرْض بِخِلَاف كسوف الشَّمْس وَإِنَّمَا يخْتَلف الْوَقْت فَقَط بِأَن يكون فِي بعض المساكن على مضى سَاعَة من اللَّيْل وَفِي بَعْضهَا على مضى نصف سَاعَة وَقد يطلع منكسفا فِي بعض المساكن وينكسف بعد الطُّلُوع فِي بَعْضهَا وَقد لَا يرى منكسفا أصلا إِذا كَانَت الشَّمْس فَوق الأَرْض حَالَة الِاسْتِقْبَال وَيرى الخسوف فِي الْقَمَر أبدا يكون من طرفه الشَّرْقِي إِذْ هُوَ الذَّاهِب إِلَى الِاسْتِقْبَال نَحْو للشرق وَالدُّخُول فِي الظل بحركته ثمَّ ينحرف قَلِيلا قَلِيلا إِلَى الشمَال أَو الْجنُوب فِي بَدْء انجلائه أَيْضا من طرفه الشَّرْقِي وَأما فِي الشَّمْس فبدء الْكُسُوف من طرفها الغربي إِذْ الكاسف لَهَا يَأْتِي إِلَيْهَا من نَاحيَة الغرب وَكَذَلِكَ الانجلاء أَيْضا من الطّرف الغربي لَكِن بانحراف مِنْهُ إِلَى الشمَال والجنوب وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا الْفَصْل وَلم يكن من غرضنا لِأَن كثيرا من هَؤُلَاءِ الأحكاميين يموهون على الْجُهَّال بِأَمْر الْكُسُوف ويؤهمونهم إِن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس وَالظفر وَالْغَلَبَة وَغَيرهَا هِيَ من جنس الحكم بالكسوف فَيصدق بذلك الأغمار والرعاع وَلَا يعلمُونَ أَن الْكُسُوف يعلم بِحِسَاب سير النيرين فِي منازلهما وَذَلِكَ أَمر قد أجْرى الله تَعَالَى الْعَادة المطردة بِهِ كَمَا أجراها فِي الأبدار والسرار والهلال فَمن علم مَا ذَكرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْل علم وَقت الْكُسُوف ودوامه ومقداره وَسَببه
وَأما انه يَقْتَضِي من التأثيرات فِي الْخَيْر وَالشَّر والسعد والنحس والإماتة والإحياء وَكَذَا وَكَذَا مِمَّا يحكم بِهِ المنجمون فَقَوْل على الله وعَلى خلقه بِمَا لَا يعلمُونَ نعم لَا ننكر أَن الله سُبْحَانَهُ يحدث عِنْد الكسوفين من أفضيته وأقداره مَا يكون بلَاء لقوم ومصيبة لَهُم وَيجْعَل الْكُسُوف سَببا لذَلِك وَلِهَذَا أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم عِنْد الْكُسُوف بالفزع إِلَى مَا ذكر الله وَالصَّلَاة والعتاقة وَالصَّدَََقَة وَالصِّيَام لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء تدفع مُوجب الكسف الَّذِي جعله الله سَببا لما جعله فلولا انْعِقَاد سَبَب التخويف لما أَمر بِدفع مُوجبه بِهَذِهِ
الْعِبَادَات وَللَّه تَعَالَى فِي أَيَّام دهره أَوْقَات يحدث فِيهَا مَا يَشَاء من الْبلَاء والنعماء وَيَقْضِي من الْأَسْبَاب بِمَا يدْفع مُوجب تِلْكَ الْأَسْبَاب لمن قَامَ بِهِ أَو يقلله أَو يخففه فَمن فزع إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَاب أَو بَعْضهَا انْدفع عَنهُ الشَّرّ الذى جعل الله الْكُسُوف سَببا لَهُ أَو بعضه وَلِهَذَا قل مَا يسلم أَطْرَاف الأَرْض حَيْثُ يخفي الْإِيمَان وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل فِيهَا من شَرّ عَظِيم يحصل بِسَبَب الْكُسُوف وتسلم مِنْهُ الْأَمَاكِن الَّتِى يظْهر فِيهَا نور النُّبُوَّة وَالْقِيَام بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل أَو يقل فِيهَا جدا وَلما كسفت الشَّمْس على عهد النبى قَامَ فَزعًا مسرعا يجز رِدَاءَهُ ونادى فِي النَّاس الصَّلَاة جَامِعَة وخطبهم بِتِلْكَ الْخطْبَة البليغة وَأخْبر أَنه لم ير كيومه ذَلِك فِي الْخَيْر وَالشَّر وَأمرهمْ عِنْد حُصُول مثل تِلْكَ الْحَالة بالعتاقة وَالصَّدَََقَة وَالصَّلَاة وَالتَّوْبَة فصلوات الله وَسَلَامه على أعلم الْخلق بِاللَّه وبأمره وشأنه وتعريفه أُمُور مخلوقاته وتدبيره وأنصحهم للْأمة وَمن دعاهم إِلَى مَا فِيهِ سعادتهم فِي معاشهم ومعادهم ونهاهم عَمَّا فِيهِ هلاكهم فِي معاشهم ومعادهم وَلَقَد خفى مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل على طائفتين هلك بسببهما من شَاءَ الله وَنَجَا من شركهما من سبقت لَهُ الْعِنَايَة من الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وقفت مَعَ مَا شاهدته وعلمته من أُمُور هَذِه الْأَسْبَاب والمسببات وإحالة الْأَمر عَلَيْهَا وظنت أَنه لَيْسَ لَهَا شىء فكفرت بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وجحدت المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوات وَغَيرهَا مَا انْتهى إِلَيْهِ علومها ووقفت عِنْده أَقْدَامهَا من الْعلم بِظَاهِر من الْمَخْلُوقَات وَأَحْوَالهَا وَجَاء نَاس جهال رَأَوْهُمْ قد أَصَابُوا فِي بَعْضهَا أَو كثير مِنْهَا فَقَالُوا كل مَا قَالَه هَؤُلَاءِ فَهُوَ صَوَاب لما ظهر لنا من صوابهم وانضاف إِلَى ذَلِك أَن أُولَئِكَ لما وقفُوا على الصَّوَاب فِيمَا أدتهم إِلَيْهِ أفكارهم من الرياضيات وَبَعض الطبيعيات وثقوا بعقولهم وفرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وظنوا أَن سَائِر مَا خدمته أفكارهم من الْعلم بِاللَّه وشأنه وعظمته هُوَ كَمَا أوقعهم عَلَيْهِ فكرهم وَحكمه حكم مَا شهد بِهِ الْحس من الطبيعيات والرياضيات فتفاقم الشَّرّ وعظمت الْمُصِيبَة وَجحد الله وَصِفَاته وخلقه للْعَالم وإعادته لَهُ وَجحد كَلَامه وَرُسُله وَدينه وَرَأى كثير من هَؤُلَاءِ انهم هم خَواص النَّوْع الإنساني وَأهل الْأَلْبَاب وَأَن ماعداهم هم القشور وَأَن الرُّسُل إِنَّمَا قَامُوا بسياستهم لِئَلَّا يَكُونُوا كَالْبَهَائِمِ فهم بِمَنْزِلَة قُم المارستان وَأما أهل الْعُقُول والرياضيات والأفكار فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الرُّسُل بل هم يعلمُونَ الرُّسُل مَا يصنعونه للدعوة الإنسانية كَمَا تَجِد فِي كتبهمْ وينبغى للرسول أَن يفعل كَذَا كَذَا وَالْمَقْصُود أَن هَؤُلَاءِ لما أوقفتهم أفكارهم على الْعلم بِمَا خفى على كثير من اسرار الْمَخْلُوقَات وطبائعها وأسبابها ذَهَبُوا بأفكارهم وعقولهم وتجاوزوا مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وظنوا أَن إصابتهم فِي الْجَمِيع سَوَاء وَصَارَ الْمُقَلّد لَهُم فِي كفرهم إِذا خطر لَهُ إِشْكَال على مَذْهَبهم أودهمه مَا لَا حِيلَة لَهُ فِي دَفعه من تناقضهم وَفَسَاد أصولهم يحسن الظَّن بهم وَيَقُول لاشك أَن علومهم مُشْتَمِلَة على حِكْمَة
وَالْجَوَاب عَنهُ إِنَّمَا يعسر على إِدْرَاكه لِأَن من لم يحصل الرياضيات وَلم يحكم المنطقيات وتمده عُلُوم قد صقلتها أذهان الْأَوَّلين وأحكمتها أفكار الْمُتَقَدِّمين فالفاضل كل الْفَاضِل من يفهم كَلَامهم
وَأما الِاعْتِرَاض عَلَيْهِم وَإِبْطَال فَاسد أصولهم فعندهم من الْمحَال الَّذِي لَا يصدق بِهِ وَهَذَا من خداع الشَّيْطَان وتلبيسه بغروره لهَؤُلَاء الْجُهَّال مقلدى أهل الضلال كَمَا لَيْسَ على أئمتهم وسلفهم بِأَن أوهمهم ان كل مَا نالوه بأفكارهم فَهُوَ صَوَاب كَمَا ظَهرت إصابتهم فِي الرياضيات وَبَعض الطبيعيات فَركب من ضلال هَؤُلَاءِ وَجَهل أتباعهم مَا اشتدت بِهِ البلية وعظمت لأَجله الرزية وَضرب لآجله الْعَالم وَجحد مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَكفر بِاللَّه وَصِفَاته وأفعاله وَلم يعلم هَؤُلَاءِ أَن الرجل يكون أماما فِي الْحساب وَهُوَ أَجْهَل خلق الله بالطب والهيئة والمنطق وَيكون راسا فِي الطِّبّ وَيكون من اجهل الْخلق بِالْحِسَابِ والهيئة وَيكون مقدما فِي الهندسة وَلَيْسَ لَهُ علم بِشَيْء من قضايا الطِّبّ وَهَذِه عُلُوم مُتَقَارِبَة وَالْعَبْد بَينهَا وَبَين عُلُوم الرُّسُل الَّتِى جَاءَت بهَا عَن الله أعظم من العَبْد بَين بَعْضهَا وَبَعض فَإِذا كَانَ الرجل إِمَامًا فِي هَذِه الْعُلُوم وَلم يعلم بِأَيّ شَيْء جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَلَا تحلى بعلوم الْإِسْلَام فَهُوَ كالعامى بِالنِّسْبَةِ إِلَى علومهم بل أبعد مِنْهُ وَهل يلْزم من معرفَة الرجل هَيْئَة الأفلاك والطب والهندسة والحساب أَن يكون عَارِفًا بالآلهيات واحوال النُّفُوس البشرية وصفاتها ومعادها وسعادتها وشقاوتها وَهل هَذَا إِلَّا بِمَنْزِلَة من يظنّ أَن الرجل إِذا كَانَ عَالما بأحوال الْأَبْنِيَة وأوضاعها وَوزن الْأَنْهَار والقنى والقنطرة كَانَ عَالما بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وَمَا ينبغى لَهُ وَمَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ فعلوم هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَة هَذِه الْعُلُوم الَّتِى هِيَ نتائج الأفكار والتجارب فَمَا لَهَا ولعلوم الْأَنْبِيَاء الَّتِى يتلقونها عَن الله بوسائط الْمَلَائِكَة هَذَا وَإِن تعلق الرياضيات الَّتِى هِيَ نظر فِي نوعى الْكمّ الْمُتَّصِل والمنفصل والمنطقيات الَّتِى هى نظر فِي المعقولات الثَّانِيَة وَنسبَة بَعْضهَا إِلَى بعض بِالْكُلِّيَّةِ والجزئية وَالسَّلب والإيجاب وَغير ذَلِك بِمَعْرِِفَة رب الْعَالمين وأسمائه وَصِفَاته وأفعاله وَأمره وَنَهْيه وَمَا جَاءَت بِهِ رسله وثوابه وعقابه وَمن الخدع الإبليسية قَول الْجُهَّال أَن فهم هَذِه الْأُمُور مَوْقُوف على فهم هَذِه القضايا الْعَقْلِيَّة وَهَذَا هُوَ عين الْجَهْل والحمق وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَول الْقَائِل لَا يعرف حُدُوث الرمانة من لم يعرف عدد حباتها وَكَيْفِيَّة تركيبها وطبعها وَلَا يعرف حُدُوث الْعين من لم يعرف عدد طبقاتها وتشريحها وَمَا فِيهَا من التَّرْكِيب وَلَا يعرف حُدُوث هَذَا الْبَيْت من لم يعرف عدد لبنَاته وأخشابه وطبائعها ومقاديرها وَغير ذَلِك من الْكَلَام الَّذِي يضْحك مِنْهُ كل عَاقل وينادي على جهل قَائِله وحمته بل الْعلم بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وأفعاله وَدينه لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء من ذَلِك وَلَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ وآيات الله الَّتِى دَعَا عباده إِلَى النّظر فِيهَا دَالَّة عَلَيْهِ بِأول النّظر دلَالَة يشْتَرك فِيهَا كل سليم الْعقل والحاسة واما أَدِلَّة هَؤُلَاءِ فخيالات وهمية وَشبه عسرة الْمدْرك بعيدَة التَّحْصِيل متناقضة الْأُصُول غير
مؤدية إِلَى معرفَة الله وَرُسُله والتصديق بهَا مستلزمة للكفر بِاللَّه وَجحد مَا جَاءَت بِهِ رسله وَهَذَا لَا يصدق بِهِ إِلَّا من عرف مَا عِنْد هَؤُلَاءِ وَعرف مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل ووازن بَين الْأَمريْنِ فَحِينَئِذٍ يظْهر لَهُ التَّفَاوُت وَأما من قلدهم وَأحسن ظَنّه بهم وَلم يعرف حَقِيقَة مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل فَلَيْسَ هَذَا عشه بل هُوَ فِي أَوديَة هائم حيران ينقاد لكل حيران 0
يَغْدُو من الْعلم فِي ثَوْبَيْنِ من طمع
…
معلمين بحرمان وخذلان
والطائفة الثَّانِيَة رَأَتْ مُقَابلَة هَؤُلَاءِ برد كل مَا قَالُوهُ من حق وباطل وظنوا ان من ضَرُورَة تَصْدِيق الرُّسُل رد مَا علمه هَؤُلَاءِ بِالْعقلِ الضرورى وَعَلمُوا مقدماته بالحس فنازعوهم فِيهِ وتعرضوا لإبطاله بمقدمات جدلية لَا تغنى من الْحق شَيْئا وليتهم مَعَ هَذِه الْجِنَايَة الْعَظِيمَة لم يضيفوا ذَلِك إِلَى الرُّسُل بل زَعَمُوا إِن الرُّسُل جاؤا وَبِمَا يَقُولُونَهُ فسَاء ظن أُولَئِكَ الْمَلَاحِدَة بالرسل وظنوا أَنهم هم أعلم وَأعرف مِنْهُم وَمن حسن ظَنّه بالرسل قَالَ أَنهم لم يخف عَلَيْهِم مَا نقُوله وَلَكِن خاطبوهم بِمَا تحتمله عقولم من الْخطاب الجمهورى النافع لِلْجُمْهُورِ وَأما الْحَقَائِق فكتموها عَنْهُم وَالَّذِي سلطهم على ذَلِك جحد هَؤُلَاءِ لحقهم ومكابرتهم إيَّاهُم على مَا لايمكن المكابرة عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مَعْلُوم لَهُم بِالضَّرُورَةِ كمكابرتهم إيَّاهُم فِي كَون الأفلاك كروية الشكل وَالْأَرْض كَذَلِك وَأَن نور الْقَمَر مُسْتَفَاد من نور الشَّمْس وَأَن الْكُسُوف القمرى عبارَة عَن انمحاء ضوء الْقَمَر بتوسط الأَرْض بَينه وَبَين الشَّمْس من حَيْثُ انه يقتبس نوره مِنْهَا وَالْأَرْض كرة وَالسَّمَاء مُحِيطَة بهَا من الجوانب فَإِذا وَقع الْقَمَر فِي ظلّ الأَرْض انْقَطع عَنهُ نور الشَّمْس كَمَا قدمْنَاهُ وكقولهم أَن الْكُسُوف الشمسى مَعْنَاهُ وُقُوع جرم الْقَمَر بَين النَّاظر وَبَين الشَّمْس عِنْد اجْتِمَاعهمَا فِي العقدتين على دقيقة وَاحِدَة وكقولهم بتأثير الْأَسْبَاب المحسوسة فِي مسبباتها وَإِثْبَات القوى والطبائع وَالْأَفْعَال وانفعالات مِمَّا تقوم عَلَيْهِ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة والبراهين اليقينية فيخوض هَؤُلَاءِ مَعَهم فِي إِبْطَاله فيغريهم ذَلِك بكفرهم وإلحادهم وَالْوَصِيَّة لأصحابهم بالتمسك بِمَا هم عَلَيْهِ فَإِذا قَالَ لَهُم هَؤُلَاءِ هَذَا الذى تذكرونه على خلاف الشَّرْع والمصير إِلَيْهِ كفر وَتَكْذيب الرُّسُل لم يستريبوا فِي ذَلِك وَلم يلحقهم فِيهِ شكّ وَلَكنهُمْ يستريبون بِالشَّرْعِ وتنقص مرتبَة الرُّسُل من قُلُوبهم وضرر الدّين وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل بهؤلاء من أعظم الضَّرَر وَهُوَ كضرره بأولئك الْمَلَاحِدَة فهما ضرران على الدّين ضَرَر من يطعن فِيهِ وضرر من بنضره بِغَيْر طَريقَة وَقد قيل إِن الْعَدو الْعَاقِل أقل ضَرَرا من الصّديق الْجَاهِل فَإِن الصّديق الْجَاهِل يَضرك من حَيْثُ يقدر أَنه بنقعك والشأن كل الشَّأْن أَن تجْعَل الْعَاقِل صديقك وَلَا تَجْعَلهُ عَدوك وتغريه بمحاربة الدّين وَأَهله 0 فَإِن قلت فقد أطلت فِي شَأْن الْكُسُوف وأسبابه وَجئْت بِمَا شِئْت بِهِ من الْبَيَان الذى لم يشْهد لَهُ الشَّرْع بِالصِّحَّةِ وَلم يشْهد لَهُ بِالْبُطْلَانِ بل جَاءَ الشَّرْع بِمَا هُوَ أهم مِنْهُ وَأجل فَائِدَة من الْأَمر عِنْد الكسوفين
بِمَا يكون سَببا لصلاح الْأمة فِي معاشها ومعادها وَأما أَسبَاب الْكُسُوف وحسابه وَالنَّظَر فِي ذَلِك فَإِنَّهُ من الْعلم الَّذِي لايضر الْجَهْل بِهِ وَلَا ينفع نفع الْعلم بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَبَين عُلُوم هَؤُلَاءِ فَكيف نصْنَع بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عَن النبى أَن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فافزعوا إِلَى ذكر الله وَالصَّلَاة فَكيف يلائم هَذَا مَا قَالَه هَؤُلَاءِ فِي الْكُسُوف قيل وأى مناقضة بَينهمَا وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا نفي تَأْثِير الْكُسُوف فِي الْمَوْت والحياة على أحد الْقَوْلَيْنِ أَو نفي تَأْثِير النيرين بِمَوْت أحد أَو حَيَاته على القَوْل الآخر وَلَيْسَ فِيهِ تعرض لإبطال حِسَاب الْكُسُوف وَإِلَّا الْأَخْبَار بِأَنَّهُ من الْغَيْب الذى لَا يُعلمهُ إِلَّا الله وَأمر النَّبِي عِنْده بِمَا أَمر بِهِ من الْعتَاقَة وَالصَّلَاة وَالدُّعَاء وَالصَّدَََقَة كأمره بالصلوات عِنْد الْفجْر والغروب والزوال مَعَ تضمن ذَلِك دفع مُوجب الْكُسُوف الَّذِي جعله الله سُبْحَانَهُ سَببا لَهُ فشرع النَّبِي للْأمة عِنْد انْعِقَاد هَذَا السَّبَب مَا هُوَ أَنْفَع لَهُم وأجدى عَلَيْهِم فِي دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بِعلم الْهَيْئَة وشأن الْكُسُوف وأسبابه فَإِن قيل فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه وَالْإِمَام أَحْمد والنسائى من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير قَالَ انكسفت الشَّمْس على عهد النبى فَخرج فَزعًا يجر ثَوْبه حَتَّى أُتِي الْمَسْجِد فَلم يزل يصلى حَتَّى انجلت ثمَّ قَالَ أَن نَاسا يَزْعمُونَ أَن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا ينكسفان إِلَّا لمَوْت عَظِيم من العظماء وَلَيْسَ كَذَلِك أَن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا تجلى الله لشىء من خلقه خشع لَهُ
قيل قد قَالَ أَبُو حَامِد الغزالى ان هَذِه الزِّيَادَة لم يَصح نقلهَا فَيجب تَكْذِيب قَائِلهَا وَإِنَّمَا المروى مَا ذكرنَا يعْنى الحَدِيث الَّذِي لَيست هَذِه الزِّيَادَة فِيهِ قَالَ وَلَو كَانَ صَحِيحا لَكَانَ تَأْوِيله أَهْون من مُكَابَرَة أُمُور قَطْعِيَّة فكم من ظواهر أولت بالأدلة الْعَقْلِيَّة الَّتِى لَا تتبين فِي الوضوح إِلَى هَذَا الْحَد وَأعظم فانفرج بِهِ الملحدة ان يُصَرح نَاصِر الشَّرْع بِأَن هَذَا وامثاله على خلاف الشَّرْع فيسهل عَلَيْهِ طَرِيق إبِْطَال الشَّرْع وَإِن كَانَ شَرطه أَمْثَال ذَلِك وَلَيْسَ الْأَمر فِي هَذِه الزِّيَادَة كَمَا قَالَه أَبُو حَامِد فَأن اسنادها لَا مطْعن فِيهِ قَالَ ابْن مَاجَه حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى وَأحمد بن ثَابت وَحميد بن الْحسن قَالُوا حَدثنَا عبد الْوَهَّاب قَالَ حَدثنَا خَالِد الْحذاء عَن أبي قلَابَة عَن النُّعْمَان بن بشير فَذكره وَهَؤُلَاء كلهم ثِقَات حفاظ لَكِن لَعَلَّ هَذِه اللَّفْظَة مدرجة فِي الحَدِيث من كَلَام بعض الروَاة وَلِهَذَا لَا تُوجد فِي سَائِر أَحَادِيث الْكُسُوف فقد رَوَاهَا عَن النَّبِي بضعَة عشر صحابيا عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وَأَسْمَاء بنت أبي بكر وعَلى بن أبي طَالب وَأبي بن كَعْب وَأَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر وَجَابِر بن عبد الله فِي حَدِيثه وَسمرَة بن جُنْدُب وَقبيصَة الهلالى وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة فَلم يذكر أحد مِنْهُم هَذِه اللَّفْظَة الَّتِى ذكرت فِي حَدِيث النُّعْمَان بن بشير فَمن هَهُنَا نَخَاف أَن تكون أدرجت فِي الحَدِيث إدراجا