الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرصد الممتحن المأموني فِي البروج دَرَجَات وَمن الرصد الحاكمي دقائق وسلك فِي الْأَحْكَام طرقا غير الطّرق الْمَعْهُودَة مِنْهُ الْيَوْم وَزعم أَن عَلَيْهَا الْمعول وَأَن طرق من تقدمه لَيست بِشَيْء وَلَو حدث فِي هَذَا الْعَصْر من يشبه من تقدمه لرأينا اخْتِلَافا آخر وَلَكِن هَذِه الصِّنَاعَة قد مَاتَت وَلم يبْق بأيدي المنتسبين إِلَيْهَا إِلَّا تَقْلِيد هَؤُلَاءِ الضلال فِيمَا فهموه من كَلَامهم الْبَاطِل وَمَا لم يفهموه مِنْهُ فقد يظنون أَنه صَحِيح وَلَكِن إفهامهم نبت عَنهُ وَهَذَا شَأْن جَمِيع أهل الضلال مَعَ رُؤَسَائِهِمْ ومتبوعيهم فجهال النَّصَارَى إِذا ناظرهم الموحد فِي تثليثهم وتناقضه وتكاذبه قَالُوا الْجَواب على القسيس والقسيس يَقُول الْجَواب على المطران والمطران يحِيل الْجَواب على البترك والبترك على الأسقف والأسقف على الْبَاب وَالْبَاب على الثلاثمائة وَالثَّمَانِيَة عشر أَصْحَاب الْمجمع الَّذِي اجْتَمعُوا فِي عهد قسطنطين وَوَضَعُوا لِلنَّصَارَى هَذَا التَّثْلِيث والشرك المناقض للعقول والأديان ولعلهم عِنْد الله أحسن حَالا من أَكثر الْقَائِلين بِأَحْكَام النُّجُوم الْكَافرين بِرَبّ الْعَالمين وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر
فصل وَرَأَيْت لبَعض فضلائهم وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى رِسَالَة
بليغة فِي الرَّد عَلَيْهِم وإبداء تناقضهم كتبهَا لما بَصَره الله رشده واراه بطلَان مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الضلال الْجُهَّال كتبهَا نصيحة لبَعض إخوانه فَأَحْبَبْت أَن أوردهَا بلفظها وان تَضَمَّنت بعض الطول والتكرار وأتعقب بعض كَلَامه بتقرير مَا يحْتَاج إِلَى تَقْرِير وسؤال يُورد عَلَيْهِ ويطعن بِهِ على كَلَامه ثمَّ بِالْجَوَابِ عَنهُ ليَكُون قُوَّة للمسترشد وبيانا للمتحير وتبصرة للمهتدي ونصيحة لأخواني الْمُسلمين وَهَذَا أَولهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عصمك الله من قبُول المحالات واعتقاد مَا لم تقم عَلَيْهِ الدلالات وضاعف لَك الْحَسَنَات وَكَفاك الْمُهِمَّات بمنه وَرَحمته كنت أدام الله توفيقك وتسديدك ذكرت لي اهتمامك بِمَا قد لهج بِهِ وُجُوه أهل زَمَاننَا من النّظر فِي الْأَحْكَام النُّجُوم وتصديق كل مَا يَأْتِي من أدعى أَنه عَارِف بهَا من علم الْغَيْب الَّذِي تفرد الله سبحانه وتعالى بِهِ وَلم يَجعله لأحد من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَلَا مَلَائكَته المقربين وَلَا عباده الصَّالِحين من معرفَة طَوِيل الْأَعْمَار وقصيرها وَحميد العواقب وذميمها وَسَائِر مَا يَتَجَدَّد وَيحدث ويتخوف ويتمنى وسألنى أَن اعْمَلْ كتابا أذكر فِيهِ بعض مَا وَقع من اخْتلَافهمْ فِي أصُول الْأَحْكَام الدَّالَّة على وهمهم قبح اعْتِقَادهم وَمَا يسْتَدلّ بِهِ من طَرِيق النّظر وَالْقِيَاس على ضعف مَذْهَبهم وألخص ذَلِك وَاخْتَصَرَهُ واقربه بِحَسب الوسع والطاقة فوعدتك بذلك وَقد ضمنته كتابي هَذَا وَالله أسأَل
عونا على مَا قرب مِنْهُ وتوفيقا لما أزلف لَدَيْهِ انه قريب مُجيب فعال لما يُرِيد لست مُسْتَعْملا للتحامل على من أثبت تَأْثِير الْكَوَاكِب فِي هَذَا الْعَالم وَترك إنصافهم كَمَا فعل قوم ردوا عَلَيْهِم فانهم دفعوهم عَن أَن يكون لَهَا تَأْثِير الْبَتَّةَ غير وجود الضياء فِي الْمَوَاضِع الَّتِي تطلع فِيهَا الشَّمْس وَالْقَمَر وَعَدَمه فِيمَا غابا عَنهُ وَمَا جرى هَذَا المجرى بل أسلم لَهُم أَنَّهَا تُؤثر تَأْثِيرا مَا يجْرِي على الْأَمر الطبيعي مثل أَن يكون الْبَلَد الْقَلِيل الْعرض مزاجه يمِيل عَن الِاعْتِدَال إِلَى الْحر واليبس وَكَذَلِكَ مزاج أَهله ضَعِيف وألوانهم سود وصفر كالنوبة والحبشة وَأَن يكون الْبَلَد الْكثير الْعرض مزاجه يمِيل عَن الِاعْتِدَال إِلَى الْبرد والرطوبة وَكَذَلِكَ مزاج أَهله وأجسامهم عبلة والوانهم بيض وشعورهم شقر مثل التّرْك والصقالبة وَمثل أَن يكون النَّبَات يَنْمُو ويقوى ويتكامل وينضج ثمره بالشمس وَالْقَمَر فان أهل الصَّحرَاء وَمن يعانيها مجمعون على أَن القثاء تطول وتغلظ بالقمر وَقد شاهدت غير شَجَرَة كَبِيرَة حاملة من التِّين والتوت وَغَيرهمَا فَمَا قَابل الشَّمْس مِنْهُ أسْرع نضج الثَّمر الْكَائِن فِيهِ وَمَا خفى مِنْهَا عَنْهَا بَقِي ثمره فجا وَتَأَخر إِدْرَاكه وَمِثَال ذَلِك مَا شَاهد من حَال الريحان الَّذِي يُقَال لَهُ اللينوفر وَحَال الْخَبَّازِي وورق الخطمى والأدريون وَأَشْيَاء كَثِيرَة من النَّبَات فانا نرَاهُ يَتَحَرَّك وينفتح مَعَ طُلُوع الشَّمْس ويضعف إِذا غَابَتْ لِأَن هَذِه أُمُور محسوسة وَلَيْسَ الْكَلَام فِي هَذَا التَّأْثِير كَيفَ هُوَ وعَلى أَي سَبِيل يَقع فَمَا يَلِيق بغرضنا هَهُنَا فَلذَلِك أَدَعهُ فَأَما مَا يزعمونه فِيمَا عدا هَذَا من أَن النُّجُوم توجب أَن يعِيش فلَان كَذَا كَذَا سنة وَكَذَا كَذَا شهرا وينتهون فِي التَّحْدِيد إِلَى جُزْء من سَاعَة وَأَن يدل على تَقْلِيد رجل بِعَيْنِه الْملك وتقليد آخر بِعَيْنِه الوزارة وَطول مُدَّة كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْولَايَة وقصرها وَمَا فعله الْإِنْسَان وَمَا يَفْعَله فِي منزله وَمَا يضمره فِي قلبه وَمَا هُوَ مُتَوَجّه فِيهِ من حاجاته وَمَا هُوَ فِي بطن الْحَامِل وَالسَّارِق وَمن هُوَ والمسروق وَمَا هُوَ وَأَيْنَ هُوَ وكميته وكيفيته وَمَا يجب بالكسوف وَمَا يحدث مَعَه وَالْمُخْتَار من الْأَعْمَال فِي كل يَوْم بِحَسب اتِّصَال الْقَمَر بالكواكب من أَن يكون هَذَا الْيَوْم صَالحا للقاء الْمُلُوك والرؤساء وَأَصْحَاب السيوف وَهَذَا يَوْم مَحْمُود للقاء الْكتاب والوزراء وَهَذَا الْيَوْم مَحْمُود للقاء الْقُضَاة وَهَذَا الْيَوْم مَحْمُود لأمور النِّسَاء وَهَذَا الْيَوْم مَحْمُود لشرب الدَّوَاء والفصد والحجامة وَهَذَا الْيَوْم مَحْمُود للعب الشطرنج والنرد وَغير ذَلِك فمحال أَن يكون مَعْلُوما من طَرِيق الْحس وَلَيْسَ نَص من كتاب الله بل قد نَص الله سبحانه وتعالى فِيهِ على بُطْلَانه بقوله تبارك وتعالى قل لَا يعلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله وَلَا من سنة رَسُول الله بل قد جَاءَ عَنهُ أَنه قَالَ من أَتَى عرافا أَو كَاهِنًا أَو منجما فَصدقهُ بِمَا يَقُول فقد كفر بِمَا أنزل على مُحَمَّد وَلَا هَاهُنَا ضَرُورَة تَدْعُو إِلَى القَوْل بِهِ وَلَا هُوَ أول فِي الْمَعْقُول وَلَا يأْتونَ عَلَيْهِ ببرهان وَلَا دَلِيل
مقنع وَهَذِه هِيَ الطّرق الَّتِي تثبت بهَا الموجودات وَتعلم بهَا حقائق الْأَشْيَاء لَا طَرِيق هَاهُنَا غَيرهَا وَلَا شَيْء لأحكام النُّجُوم مِنْهَا وانا ابتدئ الْآن بِوَصْف جملَة من اخْتلَافهمْ فِي الْأُصُول الَّتِي يبنون عَلَيْهَا أَمرهم ويفرعون عَنْهَا أحكامهم وأذكر المستبشع من أقاويلهم وقضاياهم وَظَاهر مناقضاتهم ثمَّ آتى بِطرف من احتجاجهم والاحتجاج عَلَيْهِم وَالله والموفق للصَّوَاب بفضله
ذكر اخْتلَافهمْ فِي الْأُصُول زَعَمُوا جَمِيعًا أَن الْخَيْر وَالشَّر والاعطاء وَالْمَنْع وَمَا أشبه ذَلِك يكون فِي الْعَالم بالكواكب وبحسب السُّعُود مِنْهَا والنحوس وعَلى حسب كَونهَا من البروج الْمُوَافقَة والمنافرة لَهَا وعَلى حسب نظر بَعْضهَا إِلَى بعض من التسديس والتربيع والتثليث والمقابلة وعَلى حسب محاسدة بَعْضهَا بَعْضًا وعَلى حسب كَونهَا فِي شرفها وهبوطها ووبالها ثمَّ اخْتلفُوا على أَي وَجه يكون ذَلِك فَزعم قوم مِنْهُم أَن فعلهَا بطبائعها وَزعم آخَرُونَ أَن ذَلِك لَيْسَ فعلا لَهَا لَكِنَّهَا تدل عَلَيْهِ بطبائعها قلت وَزعم آخَرُونَ أَنَّهَا تفعل فِي الْبَعْض بِالْعرضِ وَفِي الْبَعْض بِالذَّاتِ قَالَ وَزعم آخَرُونَ أَنَّهَا تفعل بِالِاخْتِيَارِ لَا بالطبع أَلا أَن السعد مِنْهَا لَا يخْتَار إِلَّا الْخَيْر والنحس مِنْهَا لَا يخْتَار إِلَّا الشَّرّ وَهَذَا بِعَيْنِه نفى للاختيار فان حَقِيقَة الْقَادِر الْمُخْتَار الْقُدْرَة على فعل أَي الضدين شَاءَ وَترك أَيهمَا شَاءَ قلت لَيْسَ هَذَا بِشَيْء فانه لَا يلْزم من كَون الْمُخْتَار مَقْصُود الِاخْتِيَار على نوع وَاحِد سلب اخْتِيَاره وَلَكِن الَّذِي يبطل هَذَا أَنهم يَقُولُونَ أَن الْكَوْكَب النحس سعد فِي برج كَذَا وَفِي بَيت كَذَا وَإِذا كَانَ النَّاظر إِلَيْهِ من النُّجُوم كَذَا وَكَذَا وَكَذَلِكَ الْكَوْكَب السعد وَيَقُولُونَ أَنَّهَا تفعل بِالذَّاتِ خيرا وبالعرض شرا وَبِالْعَكْسِ وَقد يَقُولُونَ أَنَّهَا تخْتَار فِي زمَان خلاف مَا تخْتَار فِي زمَان آخر وَقد تتفق كلهَا أَو أَكْثَرهَا على إِيثَار الْخَيْر فَيكون فِي الْعَالم فِي ذَلِك الْوَقْت على الْأَكْثَر الْخَيْر والنفع وَالْحسن قَالُوا كَمَا كَانَ فِي زمن بهمن وَفِي أَيَّام أنوشروان وبضد ذَلِك أَيْضا فَيُقَال إِذا كَانَت مختارة وَقد تتفق على إِرَادَة الْخَيْر وعَلى إِرَادَة الْخَيْر وَالشَّر بَطل دلَالَة حُصُولهَا فِي البروج الْمعينَة وَدلَالَة نظر بَعْضهَا إِلَى بعض بتسديد أَو تربيع أَو تثليث أَو مُقَابلَة لِأَن هَذَا شَأْن من يَقع فعله إِلَّا عَن وَجه وَاحِد فِي وَقت معِين على شُرُوط مُعينَة وَلَا ريب أَن هَذَا يَنْفِي الِاخْتِيَار فَكيف يَصح قَوْلكُم بذلك وجمعكم بَين هَاتين القضيتين أَعنِي جَوَاز اخْتِيَارهَا فِي زمَان خلاف مَا تختاره فِي زمَان آخر وَجَوَاز اتفاقها على الْخَيْر واتفاقها على الشَّرّ من غير ضَابِط وَلَا دَلِيل يدلكم عَلَيْهِ ثمَّ تحكمون بِتِلْكَ الْأَحْكَام مستندين فِيهَا إِلَى حركاتها الْمَخْصُوصَة وأوضاعها وَنسبَة بَعْضهَا إِلَى بعض وَهل هَذَا الاضحكة للعقلاء قَالَ وَزعم آخَرُونَ أَنَّهَا لَا تفعل بِاخْتِيَار بل تدل بِاخْتِيَار وَهَذَا كَلَام لَا يعقل مَعْنَاهُ إِلَّا أَنى ذكرته لما كَانَ مقولا وَاخْتلفُوا فَقَالَت فرقة من الْكَوَاكِب مَا هُوَ سعد وَمِنْهَا مَا هُوَ نحس وَهِي تسعد غَيرهَا وتنحسه وَقَالَت فرقة هِيَ فِي أَنْفسهَا طبيعة وَاحِدَة
وانما تخْتَلف دلالتها على السُّعُود والنحوس وان لم تكن فِي أَنْفسهَا مُخْتَلفَة وَاخْتلفُوا فَقَالَ قوم أَنَّهَا تُؤثر فِي الْأَبدَان والأنفس جَمِيعًا وَقَالَ الْبَاقُونَ بل فِي الْأَبدَان دون الْأَنْفس قلت أَكثر المنجمين على القَوْل بِأَنَّهَا تسعد وتنحس غَيرهَا وَأما الْفرْقَة الَّتِي قَالَت هِيَ دَالَّة على السعد والنحس فَقَوْلهم وان كَانَ أقرب إِلَى التَّوْحِيد من قَول الْأَكْثَرين مِنْهُم فَهُوَ أَيْضا قَول مُضْطَرب متناقض فان الدّلَالَة الحسية لَا تخْتَلف وَلَا تتناقض وَهَذَا قَول من يَقُول مِنْهُم أَن الْفلك طبيعة مُخَالفَة لطبيعة الاستقصاب الكائنة الْفَاسِدَة وَأَنَّهَا لَا حارة وَلَا بَارِدَة وَلَا يابسة وَلَا رطبَة وَلَا سعد وَلَا نحس فِيهَا وانما يدل بعض أجرامها وَبَعض أَجْزَائِهَا على الْخَيْر وَبَعضهَا على الشَّرّ وارتباط الْخَيْر وَالشَّر والسعد والنحس بهَا ارتباط المدلولات بأدلتها لَا ارتباط المعلومات بعللها وَلَا ريب أَن قَائِل هَذَا أَعقل وَأقرب من أَصْحَاب القَوْل بالاقتضاء الطبيعي والعلية وَأما القَوْل بتأثيرها فِي الْأَبدَان والأنفس فَهُوَ قَول بطليموس وشيعته وَأكْثر الْأَوَائِل من المنجمين وَهَؤُلَاء لَهُم قَولَانِ أَحدهمَا أَنَّهَا تفعل فِي الْأَنْفس بِالذَّاتِ وَفِي الْأَبدَان بِالْعرضِ لِأَن الْأَبدَان تنفعل عَن الْأَنْفس وَالثَّانِي أَنَّهَا هِيَ سَبَب جَمِيع مَا فِي عَالم الْكَوْن وَالْفساد وفعلها فِي ذَلِك كُله بِالذَّاتِ وَكَأَنَّهُ لاخلاف بَين الطَّائِفَتَيْنِ فان الَّذين قَالُوا فعلهَا فِي النُّفُوس لَا يضيفون انفعال الْأَبدَان إِلَى غَيرهَا بذاتها بل بوسائط قَالَ وَاخْتلف رؤساؤهم بطليموس ودورسوس وانطيقوس وريمسس وَغَيرهم من عُلَمَاء الرّوم والهند وبابل فِي الْحُدُود وَغَيرهَا وتضادوا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يَأْخُذُونَ مِنْهَا دليلهم فبعضهم يغلب رب بَيت الطالع وَبَعْضهمْ يَقُول بِالدَّلِيلِ المستولى على الحظوظ وَاخْتلفُوا فَزعم بطليموس أَنهم يعلم مِنْهُم السَّعَادَة بِأَن يَأْخُذ أبدا الْعدَد الَّذِي يحصل من مَوضِع الشَّمْس إِلَى مَوضِع الْقَمَر ويبتدئ من الطالع فيرصد مِنْهُ مثل ذَلِك الْعدَد وَيَأْخُذ إِلَى الْجِهَة الَّتِي تتلو من البروج فَيكون قد عرف مَوضِع السهْم وَزعم غَيره أَنه يعد من الشَّمْس ثمَّ يَبْتَدِئ من الطالع فيعد مثل ذَلِك إِلَى الْجِهَة الْمُتَقَدّمَة من البروج قلت وَزعم آخَرُونَ أَن بطليموس يرى أَن جَمِيع مَا يكون وَيفْسد إِنَّمَا يعرف دَلِيله من مَوضِع التقاء النيرين إِمَّا الِاجْتِمَاع واما الامتلاء لِأَن هذَيْن الكوكبين عِنْده مثل الرئيسين العظيمين أَحدهمَا يأتمر لصَاحبه وَهُوَ الْقَمَر وهما سَببا جَمِيع مَا يحدث فِي عَالم الْكَوْن وَالْفساد وَأَن الْكَوَاكِب الْجَارِيَة والثابتة مِنْهُمَا بِمَنْزِلَة الْجند والعسكر من السُّلْطَان فَإِذا اراد النّظر فِي أَمر من الْأُمُور فان كَانَ بعد الِاجْتِمَاع أَو عِنْده فانه يَأْخُذ الدَّلِيل عَلَيْهِ من الْكَوْكَب المستولى على جُزْء الِاجْتِمَاع وجزئي الشَّمْس وَالْقَمَر فِي الْحَال وشاركه مَعَ الشَّمْس بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطالع وَإِذا كَانَ بعد الامتلاء أَو عِنْده فانه ينظر أَي النيرين كَانَ فَوق الأَرْض عِنْد الامتلاء وَينظر إِلَى الْكَوْكَب المستولى على ذَلِك الْجُزْء وجزء النير الَّذِي كَانَ بعد الشَّمْس من الطالع كبعد الْقَمَر من سهم السَّعَادَة
فَلذَلِك يجب عِنْده أَن يُؤْخَذ الْعدَد أبدا من الشَّمْس إِلَى الْقَمَر لتبقى تِلْكَ النِّسْبَة وَهِي الْبعد بَين كل وَاحِد من النيرين طالعه مَحْفُوظ فَهَذَا قَول آخر غير قَول أُولَئِكَ وللفرس مَذْهَب آخر وَهُوَ أَنهم قَالُوا لما كَانَت الشَّمْس لَهَا نوبَة النَّهَار وَالْقَمَر لَهُ نوبَة اللَّيْل وَكَانَ سهم السَّعَادَة بِالنَّهَارِ يُؤْخَذ من الشَّمْس إِلَى الْقَمَر وَجب أَن يعكس ذَلِك بِاللَّيْلِ لِأَن نِسْبَة النَّهَار إِلَى الشَّمْس مثل نِسْبَة اللَّيْل إِلَى الْقَمَر وكل وَاحِد من النيرين يَنُوب وَاحِدًا من الزمانين فَيَأْخُذُونَ مِنْهُم السَّعَادَة بِاللَّيْلِ من الْقَمَر إِلَى الشَّمْس وبالنهار بِالْعَكْسِ وَزَعَمُوا أَن كَلَام بطليموس إِنَّمَا يدل على هَذَا لِأَنَّهُ قَالَ وان أَخذنَا من الشَّمْس إِلَى الْقَمَر إِلَى خلاف تأليف البروج وألقيناه بِالْعَكْسِ كَانَ مُوَافقا للْأولِ فَقَالُوا يجب أَن يعكس الْأَمر بِاللَّيْلِ فَهَذَا اخْتِلَاف المنجمين على بطليموس ينْقض بعضه بَعْضًا وَلَيْسَ بأيدي الطَّائِفَة برهَان يرجحون بِهِ قولا على قَول أَن يتبعُون إِلَّا الظَّن وان الظَّن لَا يغنى من الْحق شَيْئا فَأَعْرض عَن من تولى عَن ذكرنَا وَلم يرد إِلَى الْحَيَاة الدُّنْيَا ذَلِك مبلغهم من الْعلم أَن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بِمن اهْتَدَى قَالَ وَاخْتلفُوا فرتبت طَائِفَة مِنْهُم البروج الْمَذْكُورَة والمؤنثة من البرج الطالع فعدوا وَاحِدًا مذكرا وَآخر مؤنثا وصيروا الِابْتِدَاء بالمذكر وَقسمت طَائِفَة أُخْرَى البروج أَرْبَعَة أَجزَاء وَجعلُوا البروج المذكرة هِيَ الَّتِي من الطالع إِلَى وسط السَّمَاء وَالَّتِي يقابلها من الغرب إِلَى وتد الأَرْض وَجعلُوا الربعين الباقيين مؤنثين قلت وَمن هذيانهم فِي هَذَا الَّذِي أضحكوا بِهِ عَلَيْهِم الْعُقَلَاء أَنهم جعلُوا البروج قسمَيْنِ حَار المزاج وبارد المزاج وَجعلُوا الْحَار مِنْهَا ذكرا والبارد أُنْثَى وابتدؤا بِالْحملِ وصيروه ذكرا حارا ثمَّ الَّذِي بعده مؤنثا بَارِدًا ثمَّ هَكَذَا إِلَى آخرهَا فَصَارَت سِتَّة ذُكُورا وَسِتَّة أناثا وَلَيْسَت على الْأَوَائِل وَاحِد ذكر وَثَلَاثَة أخر أُنْثَى مُخَالف لَهُ فِي الطبيعة والذكورية والأنوثية مَعَ أَن قسْمَة الْفلك إِلَى البروج قسْمَة فَرضِيَّة وضعية فَهَل فِي أَنْوَاع هذيان الهاذين أعجب من هَذَا وَلما رأى من بِهِ رَمق من عقل مِنْهُم تهافت هَذَا الْكَلَام وسخرية الْعُقَلَاء مِنْهُ رام تقريبه بغاية جهده وحذقه فَقَالَ إِنَّمَا ابْتَدَأَ بِالذكر دون الْأُنْثَى لِأَن الذّكر أشرف من الْأُنْثَى لِأَنَّهُ فَاعل وَالْأُنْثَى منفعلة فاعجبوا يَا معشر الْعُقَلَاء واسألوا الله أَن لَا يخسف بعقولكم كَمَا خسف بعقول هَؤُلَاءِ لهَذَا الهذيان افترى فِي البروج ناكحا ومنكوحا يكون المنكوح مِنْهَا منفعلا لناكحه بالذكورية والأنوثية تَابِعَة لهَذَا الْفِعْل والانفعال فِيهَا قَالَ وَأَيْضًا فالذكورية بِسَبَب الِانْفِرَاد وازواج فِيهَا فان الْأَفْرَاد ذُكُور والأزواج إناث وَهَذَا أعجب من الأول أَن الذّكر يَنْضَم إِلَى الذّكر فَيصير المضموم إِلَيْهِ أُنْثَى فتبا للمصغي إِلَيْكُم والمجوز عقله صدقكُم واصابتكم وَأما أَنْتُم فقد أشهد الله سُبْحَانَهُ عقلاء عباده وأنبأهم مِقْدَار عقولكم وسخافتها فَللَّه الْحَمد والْمنَّة قَالَ هَذَا الْمُنْتَصر لَهُم وانما جعلُوا الْأَفْرَاد لذكور والأزواج للْأُنْثَى لِأَن الْفَرد
يحفظ طَبِيعَته أعنى يَنْقَسِم دَائِما إِلَى فَرد وَالزَّوْج لَا يحفظ طَبِيعَته أَعنِي يَنْقَسِم مرّة إِلَى الْأَفْرَاد وَمرَّة إِلَى الْأزْوَاج كَمَا يعرض ذَلِك للْأُنْثَى فانها تَلد مرّة مثلهَا وَمرَّة ذكرا مُخَالفا لَهَا وَمرَّة ذكرين وَمرَّة أنثيين وَمرَّة ذكرا وَأُنْثَى وَفَسَاد هَذَا وَالْعلم بِفساد عقل صَاحبه وَنَظره مغن لذِي اللب عَن تطلب دَلِيل فَسَاده قَالَ الْمُنْتَصر وانما جعلُوا للبرج الْأُنْثَى بل برج الذّكر فلَان الطبيعة هَكَذَا ألف الاعداد وَاحِدًا فَردا وَآخر زوجا هَكَذَا بَالغا مَا بلغ هَذِه الْقِسْمَة عِنْدهم هِيَ قسْمَة ذاتية للبروج وَلها قسْمَة ثَانِيَة بِالْعرضِ وَهِي أَنهم يبدؤن من الطالع إِلَى الثَّانِي عشر فَيَأْخُذُونَ وَاحِدًا ذكرا وَهُوَ الأول وَآخر أُنْثَى وَهُوَ مَا يَلِيهِ وَهَذِه تخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف الطالع وَالْقِسْمَة الأولى إِنَّمَا كَانَت ذاتية لِأَن الِابْتِدَاء لَهَا بِرَأْس الْحمل وَهُوَ مَوضِع تقاطع الدائرتين اللَّتَيْنِ هما فلك البروج ومعدل النَّهَار وَأما اللَّيْل للْقِسْمَة فانه لَا يبْقى على حَال وَاحِدَة لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الْجُزْء المماس لأفق الْبَلَد وَهُوَ دَائِما يتَغَيَّر بحركته مَعَ الْكل وَحُصُول الْأَجْزَاء كلهَا وَاحِدًا بعد آخر على الْأُفق دوره وَاحِدَة وَأما قسْمَة الْفلك أَربَاعًا فانهم قَالُوا إِذا خرج خطّ من أفق الْمشرق إِلَى أفق الْمغرب وَخط من وتد الأَرْض إِلَى وسط السَّمَاء انقسمت البروج أَرْبَعَة أَقسَام كل قسم ثَلَاثَة بروج على طبيعة وَاحِدَة ابْتِدَاء كل قسم من طرف قطر إِلَى طرف الْقطر الَّذِي يَلِيهِ وأطراف هذَيْن القطرين تسمى أوتاد الْعَالم وَالْقسم الأول من وتد الْمشرق إِلَى وتد الْعَاشِر ذكر شَرْقي مخفف سريع وَمن وتد الْعَاشِر إِلَى وتد الغارب مؤنث جنوبي محرق وسط وَمن ذيل الغارب إِلَى وتد الرَّابِع ذكر مقبل رطب غربي بطيء وَمن وتد الرَّابِع إِلَى وتد الطالع مؤنث دَلِيل مبرد شمَالي وسط وَهَذِه الْقِسْمَة مُخَالفَة لتِلْك القسمتين لَان هَذِه قسْمَة البروج بأَرْبعَة أَقسَام مُتَسَاوِيَة كل ثَلَاثَة بروج مِنْهَا تسعين دَرَجَة لَهَا طبيعة تخصها مَعَ أَن الْفلك شَيْء وَاحِد وطبيعة وَاحِدَة وقسمته إِلَى الدرج والبروج قسْمَة وهمية بِحَسب الْوَضع فَكيف اخْتلفت طبائعها وأحكامها وتأثيراتها وَاخْتلفت بالذكروية والأنوثية ثمَّ أَن بعض الْأَوَائِل مِنْهُم لم يقْتَصر على ذَلِك بل ابْتَدَأَ بالدرجة الأولى من الْحمل فنسبها إِلَى الذكورية وَالثَّانيَِة إِلَى الأنوثية هَكَذَا إِلَى آخر الْحُوت وَلَا ريب أَن الهذيان لَازم لمن قَالَ بقسمة البروج إِلَى ذكر وَأُنْثَى وَقَالَ الذّكر طبيعة الْفَرد وَالْأُنْثَى طبيعة الزَّوْج فان هَذَا بِعَيْنِه لَازم لَهُم فِي دَرَجَات البرج الْوَاحِد وَكَأن هَذَا الْقَائِل تصور لُزُومه لأولئك فَالْتَزمهُ وَأما بطليموس فَلهُ هذيان آخر فانه ابْتَدَأَ بِأول دَرَجَة كل برج ذكر فنسب مِنْهَا إِلَى تَمام أثنى عشر دَرَجَة وبضعا إِلَى الذكورية وَمِنْه إِلَى تَمام خمس وَعشْرين دَرَجَة إِلَى الأنوثية ثمَّ قسم بَاقِي البرج بالنصفين فنسب النّصْف الأول إِلَى الذّكر وَالنّصف الآخر إِلَى الْأُنْثَى وعَلى هَذِه الْقِسْمَة ابْتَدَأَ بالبروج الْأُنْثَى فنسب الثُّلُث وَنصف السُّدس إِلَى الأنوثية وَمثلهَا بعده إِلَى الذكروية وبقى
سدس قسمه بنصفين فنسب النّصْف الأول إِلَى الْأُنْثَى وَالْآخر إِلَى الذّكر كَمَا عمل بالبرج الذّكر حَتَّى أَتَى على البروج كلهَا وَأما دوروسوس فَلهُ هذيان آخر فانه يقسم البروج كلهَا كل برج ثَمَانِيَة وَخمسين دقيقة وَمِائَة وَخمسين ثَانِيَة ثمَّ ينظر فان كَانَ البرج ذكرا أعْطى الْقِسْمَة الأولى للذّكر ثمَّ الثَّانِيَة للْأُنْثَى إِلَى أَن يَأْتِي على الْأَقْسَام كلهَا وان البرج أُنْثَى أعْطى الْقِسْمَة الأولى للذّكر إِلَى أَن يَأْتِي على الْأَقْسَام كلهَا وَلَو قدر أَن جَاهِلا آخر تفنن فِي هَذِه الأوضاع وقلبها وَتكلم عَلَيْهَا لَكَانَ من جنس كَلَامهم وَلم يكن عِنْدهم من الْبُرْهَان مَا يردون بِهِ قَوْله بل أَن رَأَوْهُ قد أصَاب فِي بعض أَحْكَامه لَا فِي أَكْثَرهَا أَحْسنُوا بِهِ الظَّن وتقلد واقوله وجعلوه قدوة لَهُم وَهَذَا شَأْن الْبَاطِل عدنا إِلَى كَلَام عِيسَى فِي رسَالَته قَالَ وَاخْتلفُوا فِي الْحُدُود فَزعم أهل مصر أَنَّهَا تُؤْخَذ من أَرْبَاب الْبيُوت وَزعم الكلدانيون أَنَّهَا تُؤْخَذ من مُدبر الْمِثْلِيَّات وَإِذا كَانَ اخْتِلَاف الَّذين يعتدون بهم فِي أصولهم هَذَا الِاخْتِلَاف وَلَيْسَ هم مِمَّن يُطَالب بالبرهان وَلَا يعْتَقد الشَّيْء حَتَّى يَصح على الْبَحْث وَالْقِيَاس فيعرفون مَعَ من الْحق من رُؤَسَائِهِمْ وَفِي أَي قَول هُوَ من أَقْوَالهم فيعملون بِهِ وانما طريقتهم التَّسْلِيم لما وجدوه فِي الْكتب المنقولة من لِسَان إِلَى لِسَان فَكيف يجوز لَهُم أَن يتفردوا باعتقاد قَول من هَذِه الْأَقْوَال وينصرفوا عَمَّا سواهُ إِلَّا على طَرِيق الشَّهْوَة والتخمين وَالله الْمُسْتَعَان ذكر بعض مَا يستبشع من أَقْوَالهم ويستدل بِهِ على مناقضتهم
من ذَلِك زعمهم أَن الْفلك جسم وَاحِد وطبيعة وَاحِدَة وَأَنه شَيْء وَاحِد وَلَيْسَ باشياء مُخْتَلفَة ثمَّ زَعَمُوا بعد ذَلِك أَن بعضه ذكر وَبَعضه أُنْثَى وَلَا دلَالَة لَهُم على ذَلِك وَلَا برهَان وَلَا وجدنَا جسما وَاحِدًا فِي الشَّاهِد بعضه ذكر وَبَعضه أُنْثَى قلت قد رام بعض المبلسين من فضلائهم تَصْحِيح هَذَا الهذيان فَقَالَ لَيْسَ يَسْتَحِيل أَن يكون جسم وَاحِد بعضه أُنْثَى وَبَعضه ذكر كَالرّجلِ مثلا فان الْعين وَالْأُذن وَالْيَد وَالرجل مِنْهُ مُؤَنّثَة وَالرَّأْس والصلب والصدر وَالظّهْر مِنْهُ ذكر وَأَيْضًا فان الْجِسْم مركب من الهيولى وَالصُّورَة والهيولي مذكرة وَالصُّورَة مُؤَنّثَة وَأَيْضًا لما وجد المنجمون الشَّمْس تدل على الْآبَاء وَالْأَب ذكر وَالْقَمَر يدل على الآم وَهِي أُنْثَى قَالُوا أَن الشَّمْس ذكر وَالْقَمَر أُنْثَى قَالُوا وَقد قَالَ أرسطو فِي كتاب الْحَيَوَان طمث الْمَرْأَة يقل فِي نُقْصَان الشَّهْر وَكَذَلِكَ قَالَ بعض النَّاس أَن الْقَمَر أُنْثَى قَالُوا وَأَيْضًا فالشمس إِذا كَانَت قَرِيبا من سمت الرؤس كَانَ الْحر واليبس وهما من طبيعة الذكورية وَالْقَمَر إِذا كَانَ يقرب من سمت الرؤس بِاللَّيْلِ كَانَ الْبرد والرطوبة وهما من طبيعة الْأُنْثَى فليعجب الْعَاقِل اللبيب من هَذِه الخرافات فَأَما أَعْضَاء الْإِنْسَان الذُّكُور وَالْأُنْثَى فَذَلِك أَمر رَاجع إِلَى مُجَرّد اللَّفْظ والحاق عَلامَة التَّأْنِيث فِي تصغيره وَوَصفه وَخَبره وعود الضَّمِير عَلَيْهِ بِلَفْظ التَّأْنِيث وَجمعه جمع الْمُؤَنَّث وَلَيْسَ ذَلِك عَائِد إِلَى طبيعة الْعُضْو ومزاجه فنظير هَذَا قَول النُّحَاة الشَّمْس مُؤَنّثَة للحاق الْعَلامَة لَهَا فِي تصغيرها فَنَقُول شميسة وَفِي الْخَبَر عَنْهَا نَحْو الشَّمْس طالعة وَالْقَمَر مُذَكّر لعدم
لحاق الْعَلامَة لَهُ فِي شَيْء من ذَلِك فعلى هَذَا الْوَجْه وَقع التَّذْكِير والتأنيث فِي أَعْضَاء الْحَيَوَان وَأما قسمتكم البروج وأجزاء الْفلك إِلَى مُذَكّر ومؤنث فَلَيْسَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَار بل بِاعْتِبَار الْفِعْل والانفعال والحرارة والرطوبة فتشبيه أحد الْبَابَيْنِ بِالْآخرِ تلبيس وَجَهل وَأما تركب الْجِسْم من الهيولى وَالصُّورَة فَأكْثر الْعُقَلَاء نفوه وَقَالُوا هُوَ شَيْء وَاحِد مُتَّصِل متوارد عَلَيْهِ الِاتِّصَال والانفصال كَمَا يتوارد عَلَيْهِ غَيرهمَا من الْأَغْرَاض فيقبلها وَلَا يلْزم من قبُول الِاتِّصَال والانفصال أَن يكون هُنَاكَ شَيْء آخر غير الجسمية يقبل بِهِ ذَلِك وَالَّذين قَالُوا بتركيبه مِنْهُمَا لم يقل أحد مِنْهُم أصلا أَنه مركب من ذكر وَأُنْثَى وَالصُّورَة مُؤَنّثَة فِي اللَّفْظ لَا فِي الطبيعة واضحكاه على عُقُولهمْ السخيفة وَأما دلَالَة الشَّمْس على الْأَب وَهُوَ مُذَكّر وَدلَالَة الْقَمَر على الْأُم وَهِي أُنْثَى فَلَو سلمت لكم هَذِه الدّلَالَة كَيفَ يلْزم مِنْهَا تذكير مادل على الذّكر وتأنيث مَا يدل على الْأُنْثَى وَأَيْنَ الارتباط الْعقلِيّ بَين الدَّلِيل والمدلول فِي ذَلِك كَيفَ وَدلَالَة الشَّمْس على الْأَب وَالْقَمَر على الْأُم مبْنى على تِلْكَ الدعاوي الْبَاطِلَة الَّتِي لَيْسَ لَهَا مُسْتَند إِلَيْهِ إِلَّا خيالات وأوهام لَا يرضاها الْعُقَلَاء
وَأما مَا حكوه عَن ارسطو فَنقل محرف وَنحن نذْكر نَصه فِي الْكتاب الْمَذْكُور فان لنا بِهِ نُسْخَة مصححه قد اعتنى بهَا قَالَ فِي الْمقَالة الثَّامِنَة عشر بعد أَن تكلم فِي عِلّة الاذكار والايناث وَذكر قَول من قَالَ أَن سَبَب الاذكار حرارة الرَّحِم وَسبب الايناث برودته وأبطل هَذَا بِأَن الرَّحِم مُشْتَمل على الذّكر وَالْأُنْثَى مَعًا فِي الْإِنْسَان وَفِي كل حَيَوَان يلد قَالَ فقد كَانَ يَنْبَغِي على قَول هَذَا الْقَائِل أَن يكون التوأمان إِمَّا ذكرين واما أنثيين وأبطله بِوُجُوه أخر وَهَذَا رَأْي أَنْبِذ فَلَيْسَ وَذكر قَول ديمقراطيس أَن ذَلِك لَيْسَ لأجل حرارة الرَّحِم وبرودته بل بِحَسب المَاء الَّذِي يخرج من الذّكر وطبيعته فِي الْحَرَارَة والبرودة وَجعل قُوَّة الاذكار والايناث تَابِعَة لماء الذّكر وَذكر قَول طَائِفَة أُخْرَى أَن خُرُوج المَاء من النَّاحِيَة الْيُمْنَى من الْبدن هِيَ عِلّة الاذكار وَخُرُوجه من النَّاحِيَة الْيُسْرَى هِيَ عِلّة الايناث قَالَ أَن النَّاحِيَة الْيُمْنَى من الْجَسَد أسخن من النَّاحِيَة الْيُسْرَى وأنضج وأدفأ من غَيرهَا وَرجع قَول ديمقراطيس بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه الآراء ثمَّ قَالَ فقد بَينا الْعلَّة الَّتِي من أجلهَا يخلق فِي الرَّحِم ذكر وَأُنْثَى والأغراض الَّتِي تعرض تشهد لما بَينا أَن الْأَحْدَاث يلدون الْإِنَاث أَكثر من الشَّبَاب والمتشيبون يلدون إِنَاثًا أَيْضا أَكثر من الشَّبَاب لِأَن الْحَرَارَة الَّتِي فِي الْأَحْدَاث لَيست بتامة بعد الْحَرَارَة الَّتِي فِي الشُّيُوخ نَاقِصَة والأجسام الرّطبَة الَّتِي خلقتها شَبيهَة بخلقة بعض النِّسَاء تَلد إِنَاثًا أَكثر ثمَّ قَالَ فَإِذا كَانَت الرّيح شمالا كَانَ الْوَلَد ذكرا وَإِذا كَانَت جنوبا كَانَ الْمَوْلُود أُنْثَى لِأَن الأجساد إِذا هبت الْجنُوب كَانَت رطبَة وَكَذَلِكَ يكون الزَّرْع أَكثر وَكلما كثر الزَّرْع يكون الطَّبْخ غير نضج ولحال هَذِه الْعلَّة يكون زرع الذكرية وَيكون دم طمث النِّسَاء من قبل الطباع عِنْد خُرُوجه أرطب أَيْضا قلت وَمرَاده بالزرع المَاء الَّذِي يكون من
الرِّجَال قَالَ ولحال هَذِه الْعلَّة يكون طمث النِّسَاء من قبل الطباع فِي نقص الْأَهِلّة أَكثر لِأَن تِلْكَ الْأَيَّام أبرد من سَائِر ايام الشَّهْر وَهِي أرطب أَيْضا لنَقص الْأَهِلّة وَقلة الْحَرَارَة وَالشَّمْس تصير الصَّيف والشتاء فِي كل سنة فَأَما الْقَمَر فيفعل ذَلِك فِي كل شهر فَتَأمل كَلَام الرجل فَأَنَّهُ لم يتَعَرَّض لكَون الْقَمَر ذكر وَلَا أُنْثَى وَلَا أحَال على ذَلِك وانما أحَال على الْأُمُور الطبيعية فِي الكائنات الفاسدات وَبَين تَأْثِير النيرين فِي الرُّطُوبَة واليبوسة والحرارة والبرودة وَجعل لذَلِك تَأْثِيرا فِي الاذكار والايناث لَا للنجوم والطوالع وَمَعَ أَن كَلَامه أقرب إِلَى الْعُقُول من كَلَام المنجمين فَهُوَ بَاطِل من وُجُوه كَثِيرَة مَعْلُومَة بالحس وَالْعقل وأخبار الْأَنْبِيَاء فان الاذكار والايناث لَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل وَلَا يسْتَند إِلَى أَمر طبيعي وانما هُوَ مُجَرّد مَشِيئَة الْخَالِق البارئ المصور الَّذِي يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور ويزوجهم ذكرانا وإناثا وَيجْعَل من يَشَاء عقيما انه عليم قدير الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى وَكَذَا هُوَ قرين الْأَجَل والرزق والسعادة والشقاوة حَيْثُ يسْتَأْذن الْملك الْمُوكل بالمولود ربه وخالقه فَيَقُول يَا رب أذكر أم أُنْثَى سعيد أم شقي فَمَا الرزق فَمَا الْأَجَل فَيقْضى الله مَا يَشَاء وَيكْتب الْملك
ولاستقصاء الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَوضِع هُوَ أليق بهَا من هَذَا وَقد أشبعنا الْكَلَام فِيهَا فِي كتاب الرّوح وَالنَّفس وَأَحْوَالهَا وشقاوتها وسعادتها ومقرها بعد الْمَوْت وَالْمَقْصُود الْكَلَام على أَقْوَال الأحكاميين من أَصْحَاب النُّجُوم وَبَيَان تهافتها وَأَنَّهَا إِلَى المحالات والتخيلات أقرب مِنْهَا إِلَى الْعُلُوم والحقائق وَأما قَول الْمُنْتَصر لكم أَن الشَّمْس إِذا كَانَت مسامتة الرؤوس كَانَ الْحر واليبس وهما من طبيعة الذُّكُور وَإِذا كَانَ الْقَمَر مسامة للرؤس كَانَ الْبرد والرطوبة وهما من طبيعة الْإِنَاث فَيُقَال هَذَا لَا يدل على تَأْنِيث الْقَمَر وتذكير الشَّمْس بِوَجْه من الْوُجُوه فان الْبرد والرطوبة يكونَانِ أَيْضا بِسَبَب بعد الشَّمْس من المسامتة وميلها عَن الرُّءُوس وحصولها فِي البروج الشمالية سَوَاء كَانَ الْقَمَر مسامتا أَو غير مسامت فَيَنْبَغِي على قَوْلكُم أَن يكون سَبَب هَذَا الْبرد أُنْثَى وَهَذَا لَا يَقُوله عَاقل بل الْأَسْبَاب طبيعية من برد الْهَوَاء وتكاثفه وتأثير الشَّمْس فِي تَحْلِيل الأبخرة الَّتِي تكون مِنْهَا الْحَرَارَة بِسَبَب بعْدهَا عَن الرؤس وَلَيْسَ سَبَب ذَلِك أُنْثَى اقتضته وفعلته فقد جمعتم إِلَى جهلكم بالطبيعة وَالْكذب على الْخلقَة القَوْل الْبَاطِل على الله وعَلى خلقه وَلَيْسَ الْعجب إِلَّا مِمَّن يدعى شَيْئا من الْعقل والمعرفة كَيفَ ينقاد لَهُ عقله بالإصغاء إِلَى محالاتكم وهذاياناتكم وَلَكِن كل مَجْهُول مهيب وَلما تكايس من تكايس مِنْكُم فِي أَمر الهيولي وَزعم أَنَّهَا أُنْثَى وان الصُّورَة ذكر وان الْجِسْم الْوَاحِد مُشْتَمل على الذّكر وَالْأُنْثَى أضْحك عقلاء الفلاسفة عَلَيْهِ فان زعيمهم ومعلمهم الأول قد نَص فِي كتاب الْحَيَوَان لَهُ على أَن الهيولى فِي الْجِسْم كالذكر وان قُلْتُمْ فَهَذَا يشْهد لقولنا أَيْضا لِأَنَّهَا أَن كَانَت عِنْده كالذكر فالصورة أُنْثَى فَصَارَ الْجِسْم الْوَاحِد بعضه ذكر وَبَعضه أُنْثَى قُلْنَا الْقَائِلُونَ
بتركب الْأَجْسَام من الهيولى وَالصُّورَة لم يَقُولُوا أَن أَحدهمَا متميز عَن الآخر كَمَا زعمتم ذَلِك فِي أَجزَاء الْفلك بل عِنْدهم الهيولي وَالصُّورَة قد اتحدا وصارا شَيْئا وَاحِدًا فالإشارة الحسية إِلَى أَحدهمَا هِيَ بِعَينهَا إِشَارَة إِلَى الآخر وَأَنْتُم جعلتم الْجُزْء الْمُذكر من الْقلب مباينا للجزء الْأُنْثَى مِنْهُ بِالْوَضْعِ والحقيقة وَالْإِشَارَة إِلَى أَحدهمَا غير الْإِشَارَة إِلَى آخر وللكلام مَعَ أَصْحَاب الهيولي مقَام آخر لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه فان دَعْوَى تركب الْجِسْم مِنْهُمَا دَعْوَى فَاسِدَة من وُجُوه كَثِيرَة وَلَيْسَ يَصح شَيْء مِنْهُ غير الهيولي الصناعية كالخشب للسرير والطبيعية كالمني للمولود وَهِي الْمَادَّة الصناعية والطبيعية وَمَا سوى ذَلِك فخيال ومحال وَالله الْمُسْتَعَان عدنا إِلَى كَلَام صَاحب الرسَالَة قَالَ وَمن ذَلِك زعمهم انه أَن اتّفق مَوْلُود ابْن ملك وان حجام فِي الْبَلَد وَالْوَقْت والطالع والدرجة وَكَانَت سَائِر دلالات السَّعَادَة مَوْجُودَة فِي مولديهما وَجب أَن يكون من ابْن الْملك ملك جليل سائس مُدبر وَمن ابْن الْحجام حجام حاذق وَهَذَا يخرج النُّجُوم عَن أَن تكون تدل على مَا يتحدد من حَال الْإِنْسَان ويجعلها تدل على حذقه وصناعة أَبِيه وتقصيره فِيهَا قلت وَمِمَّا يُوضح فَسَاد قَوْلهم فِي ذَلِك أَن بطليموس جعل الْكَوَاكِب الدَّالَّة على الصناعات ثَلَاثَة المريخ والزهرة وَعُطَارِد وَقَالَ لِأَن الصناعات العملية تحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة أَشْيَاء ضَرُورِيَّة أَحدهَا الْمعرفَة وَالثَّانِي الْآلَة وَالثَّالِث الطَّاقَة فِي الْكَفّ ليخرج الْمَعْلُول الْمَصْنُوع حسنا والآلة للمريخ الَّتِي يُشِير إِلَيْهَا يكون على الْأَكْثَر إِمَّا حَدِيد واما مصاحبة للحديد وَلذَلِك يَقُولُونَ صورته صُورَة شَاب بيمناه سيف مسلول وبيسراه رَأس سِنَان وَهُوَ رَاكب أسدا وثيابه حمر تلهب وَآخَرُونَ مِنْهُم يَقُولُونَ على رَأسه بَيْضَة وبيسراه طبرزين وَعَلِيهِ خرقَة حَمْرَاء وَهُوَ رَاكب فرسا أَشهب والمعرفة لعطارد وَلذَلِك يَقُولُونَ صورته صُورَة شَاب بيمناه حَبَّة وبيسراه لوح يقرأه وعَلى رَأسه تَاج وثبابه ملوثة بالتزاويق والنقوش وَمَا شاكل ذَلِك للزهرة وَلذَلِك يَقُولُونَ صورتهَا صُورَة امْرَأَة حَسَنَة بَين يَديهَا مدق تضرب بِهِ وَهِي راكبة على جمل وَمِنْهُم من يَقُول امْرَأَة جالسة مرخاة الشّعْر ذوائبها بيسراها وباليمنى مرْآة تنظر فِيهَا نظيفة الثَّوْب وَعَلَيْهَا طوق واسورة وخلاخل وَأما الشَّمْس وَالْقَمَر فهما الدالان على الْملك فالشمس صورتهَا صُورَة رجل بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَصا يتَوَكَّأ عَلَيْهَا وباليسرى جزر رَاكب عجلة تجرها أَرْبَعَة نمور وَمِنْهُم من يَقُول صورتهَا صُورَة رجل جَالس قَابض على أَرْبَعَة أَعِنَّة أَفْرَاس وَوَجهه كالطبق يلتهب نَارا قَالُوا وَدَلَائِل الْملك لَيست بِأَعْيَانِهَا هِيَ دَلَائِل الصناعات وَدَلَائِل الصناعات هِيَ دلالات الْملك بل قد يجوز أَن يدل على رياسة مَا إِلَّا أَن الْملك أخص من الرياسة وَلكُل وَاحِد من الْكَوَاكِب على الْإِطْلَاق دلَالَة على رياسة مَا فِي معنى من الْمعَانِي فَيُقَال أَرَأَيْتُم أَن حصلت أَدِلَّة الْملك فِي طالع مَوْلُود لَيْسَ من الْملك فِي شَيْء بل أَكثر المولودين لَا ينالون الْملك الْبَتَّةَ
وانما يَنَالهُ وَاحِد من النَّاس وَلَا يلْزم أَن يكون فِي آبَائِهِ ملك وَلَا يكون ابْن ملك فَمَا بَال طالع الْملك الْمُشْتَرك بَين عدَّة أَوْلَاد خص هَذَا وَحده حَتَّى أَن أَكْثَرَكُم ينظر بِنَصّ بطليموس إِلَى جنس الْمَوْلُود وَمَا يصلح لَهُ فَيحكم على ابْن الْملك بِالْملكِ وعَلى ابْن الْحجام بالحجامة فان كَانَ طالعهما وَاحِدًا حكم بتقدم ابْن الْحجام فِي رياسة صناعته وَكَونه كملكهم وَمَعْلُوم أَن الْحس والوجود أكبر المكذبين لكم فِي هَذِه الْحُكَّام فَمَا كثر من نَالَ الْملك وَلَيْسَ هُوَ من أَبنَاء الْمُلُوك الْبَتَّةَ وَلَا كَانَ طالعه يَقْتَضِي ذَلِك وَحرمه من يَقْتَضِيهِ طالعه بزعمكم مِمَّن أَبوهُ ملك وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي غير الْملك من الطالع الَّذِي يَقْتَضِي كَون الْمَوْلُود حكيما عَالما أَو حاذقا فِي صناعته كم قد أخلف وَحصل الْعلم وَالْحكمَة والتقدم فِي الصِّنَاعَة لغير أَرْبَاب ذَلِك الطالع وَفِي ذَلِك أبين تَكْذِيب لكم وابطال لقولكم وَالله الْمُسْتَعَان قَالَ صَاحب الرسَالَة وَأبْعد من ذَلِك قَوْلهم أَن الْكَوَاكِب الْمُتَحَيِّرَة أجل من الثوابت وَأبين تَأْثِيرا فِي الْعَالم وان كل وَاحِد من الْكَوَاكِب الثَّابِتَة يفعل فعلا وَاحِدًا لَا يَزُول عَنهُ من غير أَن ينحس أَو يسْعد وان عُطَارِد هُوَ من الْكَوَاكِب الْمُتَحَيِّرَة لَيْسَ لَهُ طبع يعرف وَأَنه نحس إِذا قَارن النحوس وَسعد إِذا قَارن السُّعُود وَمن ذَلِك قَوْلهم أَن قُوَّة الْقَمَر الترطيب وان الْعلَّة فِي ذَلِك قرب فلكه من الأَرْض وقبوله البخارات الرّطبَة الَّتِي ترْتَفع إِلَيْهِ مِنْهَا وان قُوَّة زحل أَن يبرد ويجفف تجفيفا يَسِيرا وان عِلّة ذَلِك بعده عَن حرارة الشَّمْس وَعَن البخارات الرّطبَة الَّتِي ترْتَفع من الأَرْض وان قُوَّة المريخ مجففة محرقة لمشاكلة لَونه للون النَّار ولقربه من الشَّمْس لِأَن الكرة الَّتِي فِيهَا الشَّمْس مَوْضُوعَة تَحْتَهُ قلت فَلْيتَأَمَّل الْعَاقِل مَا فِي هَذَا الْكَلَام من ضروب الْمحَال وَمَا للفلك ووصول البخارات الأرضية إِلَيْهِ وَهل فِي قُوَّة البخارات تصاعدها إِلَى سطح الْفلك مَعَ الْبعد المفرط والبخار إِذا ارْتَفع فغاية ارتفاعه كارتفاع السَّحَاب لَا يتعداه وَهل تتأثر العلويات بطبائع السفليات وتتكيف بكيفياتها وتنفعل عَنْهَا
وَمِمَّا يدل على فَسَاد ذَلِك أَيْضا أَن الْقَمَر لَو كَانَ مترطبا من البخارات وَجب أَن تزداد رطوبته فِي كل يَوْم لِأَنَّهُ دَائِم الْقبُول للبخارات وَلَا يَقُولُونَ ذَلِك وان الْتِزَامه مِنْهُم مكابر وَقَالَ كل يَوْم يزْدَاد رُطُوبَة
قلت لَهُ فَمَا تنكر أَن تكون دلَالَة زحل والمريخ على النحوس تتزايد وَتَكون دلَالَته على النحوس فِي الْيَوْم أَكثر من دلَالَته فِي الأمس وَلَو فتح عَلَيْكُم هَذَا الْبَاب فَلَعَلَّ السعد يَنْقَلِب نحسا وَبِالْعَكْسِ وَهَذَا يرفع الْأمان عَن أصُول هَذَا الْعلم
وَأَيْضًا فَإِذا جوزتم انفعال الفلكيات عَن أَجزَاء هَذَا الْعَالم السفلي لزمكم تَجْوِيز فَسَاد هَذِه الْكَوَاكِب من هَذِه الأجرام العنصرية ولزمكم تَجْوِيز أَن ترْتَفع إِلَى الْقَمَر من الأدخنة مَا يُوجب جفافه وبلوغه فِي اليبس الْغَايَة وَأَيْضًا فاذا جوزتم ذَلِك فَلم لَا تجوزون نُفُوذ تِلْكَ البخارات إِلَى مَا ورا
فلك الْقَمَر حَتَّى يترطب فلك الأفلاك فان قُلْتُمْ فلك الْقَمَر عائق عَن ذَلِك
قُلْنَا وكرة الْأَثر حائلة بَين عالمنا هَذَا وَبَين فلك الْقَمَر فَكيف جوزتم وُصُول البخارات الأرضية إِلَى فلك الْقَمَر وَفِي مشابهة لون المريخ للون النَّار مِمَّا يَقْتَضِي تَأْثِيره الإحراق والتجفيف وَهل فِي الهذيان أعجب من هَذَا فان أَرَادوا النَّار البسيطة فَإِنَّهَا لَا لون لَهَا وان أَرَادوا النَّار الْحَادِثَة فَهِيَ بِحَسب مادتها الَّتِي توجب حمرتها وصفرتها وبياضها وَأما كَون الشَّمْس تَحْتَهُ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تأثيرها فِيهِ واعطاؤه قُوَّة التجفيف والاحراق فَإِن الشَّمْس لَو أثرت فِيهِ ذَلِك واعطه إِيَّاه لكَانَتْ الشَّمْس بِهَذَا التَّأْثِير والإعطاء للزهرة أولى لِأَن كرتها فَوق كرة الزهرة ونسبتها إِلَى كرة الزهرة كنسبتها إِلَى كرة المريخ فَهَلا كَانَت قُوَّة الزهرة التجفيف والإحراق بل تَأْثِير الشَّمْس فِيمَا تحتهَا أولى من تأثيرها فِيمَا فَوْقهَا قَالَ صَاحب الرسَالَة وان الْكَوَاكِب الثَّابِتَة الَّتِي فِي الدب الْأَكْبَر قوتها كقوة المريخ وَهَذَا غلط عَظِيم لِأَن لون هَذِه الْكَوَاكِب غير مشبه للون النَّار وَلَيْسَت الكرة الَّتِي فِيهَا الشَّمْس مَوْضُوعَة تحتهَا بل الكرة الَّتِي فِيهَا زحل مَوْضُوعَة تحتهَا فَهِيَ بِأَن يكون حَالهَا مشبها لحَال زحل أولى لِأَنَّهَا فَوْقه وَبعدهَا عَن الشَّمْس وَعَن حرارات الأَرْض أَكثر من بعده قلت وَالْعجب من هَؤُلَاءِ يعلمُونَ قَول مقدمهم بطليموس أَن طبائع الأجرام السماوية وَاحِدَة ثمَّ يحكمون على بَعْضهَا بالحرارة وعَلى بَعْضهَا بالبرودة وَكَذَلِكَ بالرطوبة واليبوسة قَالَ وَزَعَمُوا أَن عُطَارِد معتدل فِي التجفيف والترطيب لِأَنَّهُ لَا يبعد فِي وَقت من الْأَوْقَات عَن حر الشَّمْس بعدا كثيرا وَلَا وَضعه فَوق كرة الْقَمَر وان الْكَوَاكِب الثَّابِتَة الَّتِي فِي الْجَانِي حَالهَا شَبيهَة بِحَالهِ وَلَيْسَ يُوجد لَهَا من السببين اللَّذين دلا على طبيعة عُطَارِد شَيْئا بل الدّور يُوجد لَهَا ضد ذَلِك وَهُوَ أَنَّهَا بعيدَة من الشَّمْس فِي أَكثر الْأَوْقَات وان فلكها أبعد أفلاك الْكَوَاكِب من كرة الْقَمَر وَقَالُوا أَن الْكَوَاكِب الَّتِي من النعاد 1 تشبه حَال عُطَارِد وزحل فِي بعض الْأَوْقَات وتشبه حَال المُشْتَرِي والمريخ فِي بَعْضهَا
قلت وَقد اسْتدلَّ فضلاؤكم على اخْتِلَاف طبائع الْكَوَاكِب باخْتلَاف ألوانها فَقَالُوا زحل لَونه الغبرة والكمودة فحكمنا بِأَنَّهُ على طبع السَّوْدَاء وَهُوَ الْبرد واليبس فان السَّوْدَاء لَهَا من الألوان الغبرة وَأما المريخ فانه يشبه لَونه لون النَّار فَلَا جرم قُلْنَا طبعه حَار يَابِس وَأما الشَّمْس فَهِيَ حارة يابسة لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَن لَوْنهَا يشبه لون الْحمرَة الثَّانِي أَنا نعلم بِالتَّدْبِيرِ أَنَّهَا مسخة للأجسام منشفة للرطوبات وَأما الزهرة فانا نرى لَوْنهَا كالمركب من الْبيَاض والصفرة ثمَّ أَن الْبيَاض يدل على طبيعة البلغم الَّذِي هُوَ الْبرد والرطوبة والصفرة تدل على الْحَرَارَة وَلما كَانَ بَيَاض الزهرة أَكثر من صفرتها حكمنَا عَلَيْهَا بِأَن بردهَا ورطوبتها أَكثر وَأما المُشْتَرِي فَلَمَّا
كَانَت صفرته أَكثر مِمَّا فِي الزهرة كَانَت سخونته أَكثر من سخونته الزهرة وَكَانَ فِي غَايَة الِاعْتِدَال وَأما الْقَمَر فَهُوَ أَبيض وَفِيه كمودة فبياضه يدل على الْبرد وَأما عُطَارِد فانا نرى عَلَيْهِ اللوان مُخْتَلفَة فَرُبمَا رَأَيْنَاهُ أَخْضَر وَرُبمَا رَأَيْنَاهُ أغبر وَرُبمَا رَأَيْنَاهُ على خلاف هذَيْن اللونين وَذَلِكَ فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة مَعَ كَونه من الْأُفق على ارْتِفَاع وَاحِد فَلَا جرم قُلْنَا انه لكَونه قَابلا للألوان الْمُخْتَلفَة يجب أَن يكون لَهُ طبائع مُخْتَلفَة إِلَّا أَنا لما وجدنَا فِي الْغَالِب عَلَيْهِ الغبرة الأرضية قُلْنَا طَبِيعَته أميل إِلَى الأَرْض واليبس وَهَذَا التَّقْرِير بَاطِل من وُجُوه عديدة
أَحدهَا أَن الْمُشَاركَة فِي بعض الصِّفَات لَا تَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي الْمَاهِيّة والطبيعة وَلَا فِي صفة أُخْرَى
الْوَجْه الثَّانِي أَن الدّلَالَة بِمُجَرَّد اللَّوْن على الطبيعة ضَعِيفَة جدا فان النورة والنوشادر والزرنيخ والزئبق المصعد والكبريت فِي غَايَة الْبيَاض مَعَ أَن طبائعها فِي غَايَة الْحَرَارَة الثَّالِث أَن ألوان الْكَوَاكِب لَيست كَمَا ذكرْتُمْ فزحل رصاصي اللَّوْن وَهَذَا مُخَالف للغبرة والسواد الْخَالِص وَأما المُشْتَرِي فَلَا بُد أَن بياضه أَكثر من صفرته فَيلْزم على قَوْلكُم أَن برده أَكثر من حره وهم يُنكرُونَ ذَلِك وَأما الزهرة فَلَا صفرَة فِيهَا الْبَتَّةَ بل الزرقة ظَاهِرَة فِي أمرهَا فَيلْزم أَن تكون خَالِصَة الْبرد وَأما المريخ فان كَانَ حره لشبهه بالنَّار فِي لَونه فَهَذِهِ المشابهة فِي الشَّمْس وَالنَّار أتم فَيلْزم أَن تكون حرارة الشَّمْس وسخونتها أقوى من حرارة المريخ وهم لَا يَقُولُونَ ذَلِك وَأما عُطَارِد فانا وان رَأَيْنَاهُ مُخْتَلف اللَّوْن فِي الْأَوْقَات الْمُخْتَلفَة إِلَّا أَن السَّبَب فِيهِ أَنا لَا نرَاهُ إِلَّا إِذا كَانَ قَرِيبا من الْأُفق وَحِينَئِذٍ يكون بَيْننَا وَبَينه بخارات مُخْتَلفَة فَلَا جرم أَن اخْتلف لَونه لهَذَا السَّبَب وَأما الْقَمَر فقد قَالَ زعيمكم الْمُؤخر أَبُو معشر أَنه لَا ينْسب لَونه إِلَى الْبيَاض إِلَّا من عدم الْحس الْبَصْرِيّ فَتبين بطلَان قَوْلكُم فِي طبائع الْكَوَاكِب وتناقضه واختلافه وَلما علم بعض فضلائكم فَسَاد قَوْلكُم فِي طبائع الْكَوَاكِب وان الْعقل يشْهد بتكذيبه صدف عَنهُ وَأنْكرهُ وَقَالَ إِنَّمَا نشِير بِهَذِهِ القوى والطبائع إِلَى مَا يحدث عَن كل وَاحِد من الأجرام السماوية وينفعل بهَا من الكائنات الفاسدات لَا أَنَّهَا بطبائعها تفعل ذَلِك بل يحدث عَنْهَا مَا يكون حارا أَو بَارِدًا أَو رطبا أَو يَابسا كَمَا يُقَال أَن الْحَرَكَة تسخن وَالصَّوْم يجفف لَا على أَنَّهَا تفعل ذَلِك بطبائعها بل بِمَا يحدث عَنْهَا فبطليموس قَالَ أَن الْقَمَر مرطب وَالشَّمْس تسخن بِحَسب مَا يحدث عَنْهُمَا وتنفعل المنفعلات بِتِلْكَ القوى لَا بِأَن طبائعها مكيفات فَقَالَ نَحن لم ننازعكم فِي تَأْثِير الشَّمْس وَالْقَمَر فِي هَذَا الْعَالم بالرطوبة والبرودة واليبوسة وتوابعها وتأثيرها فِي أبدان الْحَيَوَان والنبات وَلَكِن هما جُزْء من السَّبَب الْمُؤثر وليسا بمؤثر تَامّ فان تَأْثِير الشَّمْس مثلا إِنَّمَا كَانَ بِوَاسِطَة الْهَوَاء وقبوله للسخونة والحرارة بانعكاس شُعَاع الشَّمْس عَلَيْهِ عِنْد مقابلتها لجرم الأَرْض وَيخْتَلف هَذَا الْقبُول عِنْد قرب الشَّمْس من الأَرْض وَبعدهَا
فيختلف حَال الْهَوَاء وأحول الأبخرة فِي تكاثفها وبرودتها وتلطفها وحرارتها فتختلف التأثيرات باخْتلَاف هَذِه الْأَسْبَاب وَالسَّبَب جُزْء الشَّمْس فِي ذَلِك وَالْأَرْض جُزْء والمقابلة الْمُوجبَة لانعكاس الأشعة جُزْء وَالْمحل الْقَابِل للتأثير والانفعال جُزْء وَنحن لَا ننكر أَن قُوَّة الْبرد بِسَبَب بعد الشَّمْس عَن سمت رؤسنا وَقُوَّة الْحر بِسَبَب قرب الشَّمْس من سمت رؤسنا وَلَا ننكر أَن الشَّمْس إِذا طلت فَإِن الْحَيَوَان ناطقة وبهيمة يخرج من مكامنه وأكنته وَتظهر الْقُوَّة وَالْحَرَكَة فيهم ثمَّ مادامت الشَّمْس صاعدة فِي الرّبع الشَّرْقِي فحركات الْحَيَوَان فِي الازدياد وَالْقُوَّة والاستكمال قإذا مَالَتْ الشَّمْس عَن وسط السَّمَاء أخذت حركات الْحَيَوَان وقواهم فِي الضعْف وتستمر هَذِه الْحَال إِلَى غرُوب الشَّمْس ثمَّ كلما ازْدَادَ نور الشَّمْس عَن هَذَا الْعَالم بعدا ازْدَادَ الضعْف والفتور فِي حَرَكَة الْحَيَوَان وهدأت الأجساد وَرجعت الْحَيَوَانَات إِلَى مكامنها فَإِذا طلعت الشَّمْس رجعُوا إِلَى الْحَالة الأولى وَلَا ننكر أَيْضا ارتباط فُصُول الْعَالم الْأَرْبَعَة بحركات الشَّمْس وحلولها فِي أبراجها وَلَا ننكر أَن السودَان لما كَانَ مسكنهم خطّ الاسْتوَاء إِلَى محاذاة ممر رَأس السرطان وَكَانَت الشَّمْس تمر على رُؤْسهمْ فِي السّنة إِمَّا مرّة وَإِمَّا مرَّتَيْنِ تسودت أبدانهم وجعدت شُعُورهمْ وَقلت رطوبانهم فَسَاءَتْ أَخْلَاقهم وضعفت عُقُولهمْ وَأما الَّذين مساكنهم أقرب إِلَى محاذاة ممر السرطان فالسواد فيهم أقل وطبائعهم أعدل وأخلاقهم أحسن وأجسامهم الطف كَأَهل الْهِنْد واليمن وَبَعض أهل الغرب وَعكس هَؤُلَاءِ الَّذين مساكنهم على ممر رَأس السرطان إِلَى محاذاة بَنَات نعش الْكُبْرَى فَهَؤُلَاءِ لأجل أَن الشَّمْس لَا تسامت رُؤْسهمْ وَلَا تبعد عَنْهُم أَيْضا بعدا كثيرا لم يعرض لَهُم حر شَدِيد وَلَا برد شَدِيد قَالُوا إِنَّهُم متوسطة وأجسامهم معتدلة وأخلاقهم فاضلة كَأَهل الشَّام وَالْعراق وخراسان وَفَارِس والصين ثمَّ من كَانَ من هَؤُلَاءِ أميل إِلَى نَاحيَة الْجنُوب كَانَ أتم فِي الذكاء والفهم وَمن كَانَ مِنْهُم يمِيل إِلَى نَاحيَة الشرق فهم أقوى نفوسا وَأَشد ذكورة وَمن كَانَ يمِيل إِلَى نَاحيَة الغرب غلب عَلَيْهِ اللين والرزانة وَمن تَأمل هَذَا حق التَّأَمُّل وسافر بفكره فِي أقطار الْعَالم علم حِكْمَة الله فِي نشره مَذْهَب أهل الْعرَاق وَمَا فِيهِ من اللين وَمَا شاكله كُله فِي أهل الْمشرق وَمذهب أهل المدنية وَمَا فِيهِ من الشدَّة وَالْقُوَّة فِي أهل الْمغرب وَأما من كَانَت مساكنهم محاذية لبنات نعش وهم الصقالبة وَالروم فَإِنَّهُم لِكَثْرَة بعدهمْ عَن مسامتة الشَّمْس صَار الْبرد غَالِبا عَلَيْهِم والرطوبة الفضلية فيهم لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْحَرَارَة هُنَاكَ مَا ينشفها وينضجها فَلذَلِك صَارَت ألوانهم بَيْضَاء وشعورهم سبطة شقراء وأبدانهم رخصَة وطبائعهم مائلة إِلَى الْبُرُودَة وأذهانهم جامدة وكل وَاحِد من هذَيْن الطَّرفَيْنِ وهما الأقليم الأول وَالسَّابِع يقل فِيهِ الْعمرَان وَيَنْقَطِع بعضه عَن بعض لأجل غَلَبَة اليبس ثمَّ لاتزال الْعِمَارَة تزداد فِي الإقليم
الثَّانِي وَالسَّادِس وَالْخَامِس ويقل الخراب فِيهَا وَأما الإقليم الرَّابِع فَإِنَّهُ أَكثر الأقاليم عمَارَة وأقلها خرابا بِالْفَصْلِ الْوسط على الْأَطْرَاف بِسَبَب اعْتِدَال المزاج وَهُوَ الَّذِي انتشرت فِيهِ دَعْوَة الْإِسْلَام وَضرب الدّين بجرانة فِيهِ وَظهر فِيهِ أعظم من ظُهُوره فِي سَائِر الأقاليم وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي زويت لي الأَرْض فَرَأَيْت مشارقها وَمَغَارِبهَا وسيبلغ ملك أمتِي مازوى لي مِنْهَا فَكَانَ انتشار دَعوته فِي أعدل الأَرْض وَلذَلِك انتشرت شرقا وغربا أَكثر من انتشارها جنوبا وَشمَالًا وَلِهَذَا زويت لَهُ فَأرى مشارقها وَمَغَارِبهَا وَبشر أمته بانتشار مملكتها فِي هذَيْن الربعين فَإِنَّهُمَا أعدل الأَرْض وَأَهْلهَا أكمل النَّاس خلقا وخلقا فَظهر الْكَمَال لَهُ فِي الْكتاب وَالدّين وَالْأَصْحَاب والشريعة والبلاد والممالك صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ فَإِن قيل فقد فضلْتُمْ الإقليم الرَّابِع على سَائِر الأقاليم مَعَ أَن شَيْئا من الْأَدْوِيَة لَا تتولد فِيهِ الأدواء ضَعِيفا وَإِنَّمَا تتكون الْأَدْوِيَة فِي سَائِر الأقاليم قيل هَذَا من أدل الدَّلَائِل على فَضله عَلَيْهَا لِأَن طبيعة الدَّوَاء لَا تكون معتدلة إِذْ لَو حصل فِيهَا الِاعْتِدَال لَكَانَ غذَاء لَا دَوَاء والطبيعة الْخَارِجَة عَن الِاعْتِدَال لَا تحدث إِلَّا فِي المساكن الْخَارِجَة عَن الِاعْتِدَال وَكَذَلِكَ حَال الشَّمْس فِي الْمَوَاضِع الَّتِي تسامتها فموضع حضيضها وغابة قربهَا من الأَرْض فِي البراري الجنوبية تكون تِلْكَ الْأَمَاكِن محترقة نارية لَا يتكون فِيهَا حَيَوَان الْبَتَّةَ وَلذَلِك وَالله أعلم كَانَ أَكثر البخار من الْجَانِب الجنوبي دون الشمالي لِأَن الشَّمْس إِذا كَانَت فِي حضيضها كَانَت أقرب إِلَى الأَرْض وَإِذا كَانَت فِي أوجها كَانَت أبعد وَعند قربهَا من الأَرْض يعظم تسخينها والسخونة جاذبة للرطوبات وَإِذا انجذبت الرطوبات إِلَى الْجَانِب الجنوبي انْكَشَفَ الْجَانِب الشمالي ضَرُورَة وَصَارَ مُسْتَقرًّا للحيوان الأرضي والجنوبي أعظم الْجَانِبَيْنِ رُطُوبَة وأكثرها مياها ومقرا للحيوان المائي وَأما الْمَوَاضِع المسامتة لأوج الشَّمْس فِي الشمَال فَهِيَ غير محترقة بل معتدلة لبعد الشَّمْس من الأَرْض وَسبب التَّفَاوُت الْقَلِيل الْحَاصِل بَين أقرب قرب الشَّمْس من الأَرْض وَأبْعد بعْدهَا مِنْهَا صَار الجنوبي محترقا والجانب الشمالي معتدلا فَلَو كَانَت الشَّمْس حَاصِلَة فِي فلك الْكَوَاكِب لفسد هَذَا الْعَالم من شدَّة الْبرد وَلَو فَرضنَا أَنَّهَا انحدرت إِلَى فلك الْقَمَر لأحرقت هَذَا الْعَالم فاقتضت حِكْمَة الْعَزِيز الْعَلِيم الْحَكِيم أَن وضع الشَّمْس وسط الْكَوَاكِب السَّبْعَة وَجعل حركتها المعتدلة وقربها المعتدل سَببا لاعتدال هَذَا الْعَالم وَجعل قربهَا وَبعدهَا وارتفاعها وانخفاضها سَببا لفصوله الَّتِي هِيَ نظام مصالحة فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين وَأحسن الْخَالِقِينَ وَأهل الإقليم الأول لأجل قربهم من الْموضع المحازى لحضيض الشَّمْس كَانَت سخونة هوائهم شَدِيدَة وَلَا جرم كَانُوا أَشد سواءا من مَكَان خطّ الاسْتوَاء وَأهل الإقليم الثَّانِي سخونة هوائهم ألطف فَكَانُوا سمر الألوان والإقليم الثَّالِث وَالرَّابِع أعدل الأقاليم مزاجا بِسَبَب اعْتِدَال الْهَوَاء بِسَبَب تَعْدِيل ارْتِفَاع الشَّمْس لَا تكون فِي
بعْدهَا عَن الأَرْض فههنا وَإِن حصلت مسامتة مفيدة لمزيد السخونة لَكِن حصل أَيْضا الْبعد المقلل للسخونة فَحصل الِاعْتِدَال من بعض الْوُجُوه وَفِي الْجَانِب الجنوبي وَإِن حصل مزِيد الْقرب من الأَرْض لَكِن لم يحصل هُنَاكَ مسامتة للمساكن المعمورة لخط الِاعْتِدَال فِي الْجَانِبَيْنِ بِهَذِهِ الطَّرِيق وَصَارَ أهل الإقليم الثَّالِث وَالرَّابِع أفضل النَّاس صورا وأخلاقا وَأما الإقليم الْخَامِس فَإِن سخونة الْهَوَاء هُنَاكَ اقل من الِاعْتِدَال بِمِقْدَار يسير فَلَا جرم صَار فِي جُزْء الْبرد وَصَارَت طبائع أَهله أقل نضجا من طبائع أهل الإقليم الرَّابِع إِلَّا أَن بعدهمْ عَن الِاعْتِدَال قَلِيل وَأما أهل الإقليم السَّادِس وَالسَّابِع فَإِن أَهلهَا محرورون ولغلبة الْبرد والرطوبة عَلَيْهِم يشْتَد بَيَاض ألوانهم وزرقة عيونهم وَأما الْمَوَاضِع الَّتِي تقرب من أَن يكون الْخط فِيهَا فَوق الرَّأْس فهناك لَا يصل تسخين الشَّمْس إِلَيْهَا فَلَا جرم عظم الْبرد فِيهَا وَلم يكن هُنَاكَ حَيَوَان الْبَتَّةَ وَهَذَا كُله يدل على أَن الشَّمْس جُزْء السَّبَب وَأَن الْهَوَاء جُزْء السَّبَب وَالْأَرْض جُزْء وانعكاس الشعاع جُزْء وَقبُول المنفعلات جُزْء مَجْمُوع ذَلِك سَبَب وَاحِد قدرَة الْعَلِيم الْقَدِير وأجرى عَلَيْهِ نظام الْعَالم وَقدر سُبْحَانَهُ أَشْيَاء أخر لَا يعرفهَا هَؤُلَاءِ الْجُهَّال وَلَا عِنْدهم مِنْهَا خبر من تَدْبِير الْمَلَائِكَة وحركاتهم وَطَاعَة استقصات الْعَالم ومواده لَهُم وتصريفهم تِلْكَ الْموَاد بِحَسب مَا رسم لَهُم من التَّقْدِير الإلهي وَالْأَمر الرباني ثمَّ قدر تَعَالَى أَشْيَاء آخر تمانع هَذِه الْأَسْبَاب عِنْد التصادم وتدافعها وتقهر مُوجبهَا ومقتضاها ليظْهر عَلَيْهَا اثر الْقَهْر والتسخير والعبودية وَأَنَّهَا مصرفة مُدبرَة بتصريف قاهر قَادر كَيفَ يَشَاء ليدل عباده على أَنه هُوَ وَحده الفعال لما يُرِيد لخلقه كَيفَ يَشَاء وَأَن كل مَا فِي المملكة الإلهية طوع قدرته وَتَحْت مَشِيئَته وَأَنه لَيْسَ شَيْء يسْتَقلّ وَحده بِالْفِعْلِ إِلَّا الله وكل مَا سواهُ لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بمشارك ومعاون وَله مَا يعاوقه ويمانعه ويسلبه تَأْثِيره فَتَارَة يسلب سُبْحَانَهُ النَّار إحراقها ويجعلها بردا كَمَا جعلهَا على خَلِيله بردا وَسلَامًا وَتارَة يمسك بَين أَجزَاء المَاء فَلَا يتلاقى كَمَا فعل بالبحر لمُوسَى وَقَومه وَتارَة يشق الأجرام السماوية كَمَا شقّ الْقَمَر لخاتم أنبيائه وَرُسُله وَفتح السَّمَاء لمصعده وعروجه وَتارَة يقلب الجماد حَيَوَانا كَمَا قلب عَصا مُوسَى ثعبانا وَتارَة يُغير هَذَا النظام ويطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا كَمَا أخبر بِهِ أصدق خلقه عَنهُ فَإِذا أَتَى الْوَقْت الْمَعْلُوم فشق السَّمَوَات وفطرها ونثر الْكَوَاكِب على وَجه الأَرْض ونسف جبال الْعَالم ودكها مَعَ الأَرْض وكور شمس الْعَالم وقمره وَرَأى ذَلِك الْخَلَائق عيَانًا ظهر لِلْخَلَائِقِ كلهم صدقه وَصدق رسله وَعُمُوم قدرته وكمالها وَأَن الْعَالم بأسره منقاد لمشيئته طوع قدرته لَا يستعصي عَلَيْهِ انفعاله لما يشاؤه ويريده مِنْهُ وَعلم الَّذين كفرُوا وكذبوا رسله من الفلاسفة والمنجمين وَالْمُشْرِكين والسفهاء الَّذين سموا أنفسهم الْحُكَمَاء أَنهم كَانُوا كاذبين
وَاجْتمعَ جمَاعَة من الكبراء والفضلاء يَوْمًا فَقَرَأَ قارىء {إِذا الشَّمْس كورت وَإِذا النُّجُوم انكدرت وَإِذا الْجبَال}
سيرت حَتَّى بلغ علمت نفس مَا أحضرت وَفِي الْجَمَاعَة أَبُو الْوَفَاء ين عقيل فَقَالَ لَهُ قَائِل يَا سَيِّدي هَب أَنه أنشر الْمَوْتَى للبعث والحساب وَزوج النُّفُوس بقرنائها للثَّواب وَالْعِقَاب فَمَا الْحِكْمَة فِي هدم الْأَبْنِيَة وتسيير الْجبَال ودك الأَرْض وَفطر السَّمَاء ونثر النُّجُوم وتخريب هَذَا الْعَالم وتكوير شمسه وَخسف قمره فَقَالَ ابْن عقيل على البديهة إِنَّمَا بني لَهُم هَذِه الدَّار للسُّكْنَى والتمتع وَجعلهَا وَمَا فِيهَا للاعتبار والتفكر وَالِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِحسن التَّأَمُّل والتذكر فَلَمَّا انْقَضتْ مُدَّة السُّكْنَى وأجلاهم عَن الدَّار وخربها لانتقال السَّاكِن مِنْهَا فَأَرَادَ أَن يعلمهُمْ بِأَن فِي أحالة الْأَحْوَال وَإِظْهَار تِلْكَ الْأَهْوَال وإبداء ذَلِك الصنع الْعَظِيم بَيَانا لكَمَال قدرته وَنِهَايَة حكمته وعظمة ربو بَيته وعرا جَلَاله وَعظم شَأْنه وتكذيبا لأهل الْإِلْحَاد وزنادقة المنجمين وَعباد الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر والأوثان ليعلم الَّذين كفرُوا أَنهم كَانُوا كاذبين فَإِذا رَأَوْا أَن منار آلِهَتهم قد انْهَدم وَأَن معبوداتهم قد انتثرت والأفلاك الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا وَمَا حوته هِيَ الأرباب المستولية على هَذَا الْعَالم قد تشققت وانفطرت ظَهرت حِينَئِذٍ فضائحهم وَتبين كذبهمْ وَظهر أَن الْعَالم مربوب مُحدث مُدبر لَهُ رب يصرفهُ كَيفَ يَشَاء تَكْذِيبًا لملاحده الفلاسفة الْقَائِلين بقدمه فكم لله من حِكْمَة فِي هدم هَذِه الدَّار وَدلَالَة على عَظِيم قدرته وعزته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد الْمَخْلُوقَات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين وَنحن لَا ننكر وَلَا ندفع أَن الزَّرْع والنبات لَا يَنْمُو وَلَا ينشأ إِلَّا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي تطلع عَلَيْهَا الشَّمْس وَنحن نعلم أَيْضا أَن وجود بعض النَّبَات فِي بعض الْبِلَاد لَا سَبَب لَهُ الإختلاف الْبلدَانِ فِي الْحر وَالْبرد الَّذِي سَببه حَرَكَة الشَّمْس وتقاربها فِي قربهَا وَبعدهَا من ذَلِك الْبَلَد وَأَيْضًا فَأن النّخل ينْبت فِي الْبِلَاد الحارة وَلَا ينْبت فِي الْبِلَاد الْبَارِدَة وَشَجر الموز لَا ينْبت فِي الْبِلَاد الْبَارِدَة وَكَذَلِكَ ينْبت فِي الْبِلَاد الجنوبية أَشجَار وفواكه وحشائش لَا يعرف شَيْء مِنْهَا فِي جَانب الشمَال وَبِالْعَكْسِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانَات يخْتَلف تكونها بِحَسب اخْتِلَاف حرارة الْبِلَاد وبرودتها فَإِن النسْر والفيل يكونَانِ بِأَرْض الْهِنْد وَلَا يكونَانِ فِي سَائِر الأقاليم الَّتِي هِيَ دونهَا فِي الْحَرَارَة وَكَذَلِكَ غزال الْمسك والكركند وَغير ذَلِك وَكَذَلِكَ لَا ندفع تَأْثِير الْقَمَر فِي وَقت امتلائه فِي الرطوبات حَتَّى فِي جزر الْبحار ومدها فَإِن مِنْهَا مَا يَأْخُذ فِي الازدياد من حِين يُفَارق الْقَمَر الشَّمْس إِلَى وَقت الامتلاء ثمَّ إِنَّه يَأْخُذ فِي الانتقاص وَلَا يزَال نقصانه يسْتَمر بِحَسب نُقْصَان الْقَمَر حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى غَايَة نقصانه عِنْد حُصُول المحاق وَمن الْبحار مَا يحصل فِيهِ الْمَدّ والجزر فِي كل يَوْم وَلَيْلَة مَعَ طُلُوع الْقَمَر وغروبه وَذَلِكَ مَوْجُود فِي بَحر فَارس وبحر الْهِنْد وَكَذَلِكَ بَحر الصين وكيفيته أَنه إِذا بلغ الْقَمَر مشرقا من مَشَارِق الْبَحْر ابْتَدَأَ الْبَحْر بِالْمدِّ وَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى أَن يصير الْقَمَر إِلَى وسط سَمَاء ذَلِك
الْمَوَاضِع فَعِنْدَ ذَلِك يَنْتَهِي منتهاه فَإِذا زَالَ الْقَمَر من مغرب ذَلِك الْموضع ابْتَدَأَ الْمَدّ من تَحت الأَرْض وَلَا يزَال زَائِدا إِلَى أَن يصل الْقَمَر إِلَى وتد الأَرْض فَحِينَئِذٍ يَنْتَهِي الْمَدّ منتهاهمنتهاه ثمَّ يبتديء الجزر ثَانِيًا وَيرجع المَاء كَمَا كَانَ وسكان الْبَحْر كلما رَأَوْا فِي الْبَحْر انتفاخا وهيجان ريَاح عَاصِفَة وأمواج شَدِيدَة علمُوا أَنه ابْتَدَأَ الْمَدّ فَإِذا ذهب الانتفاخ وَقلت الأمواج والرياح علمُوا أَنه وَقت الجزر وَأما أَصْحَاب الشطوط والسواحل فانهم يَجدونَ عِنْدهم فِي وَقت الْمَدّ للْمَاء حَرَكَة من أَسْفَله إِلَى أَعْلَاهُ فَإِذا رَجَعَ المَاء وَنزل فَذَلِك وَقت الجزر وَكَذَلِكَ أَيَّام بحرانات الْأَمْرَاض بِحَسب زِيَادَة الْقَمَر ونقصانه منطبقة عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ الأخلاط الَّتِي فِي بدن الْإِنْسَان مادام الْقَمَر آخِذا فِي الزِّيَادَة فَإِنَّهَا تكون أَزِيد وَيكون ظَاهر الْبدن أَكثر رُطُوبَة وحسنا فَإِذا نقص ضوء الْقَمَر صَارَت الأخلاط فِي غور الْبدن وَالْعُرُوق وأزداد ظَاهر الْبدن يبسا وَكَذَلِكَ ألبان الْحَيَوَانَات تتزايد من أول الشَّهْر إِلَى نصفه فَإِذا أَخذ الْقَمَر فِي النُّقْصَان نقصت غزارتها وَكَذَلِكَ أدمغة الْحَيَوَانَات فِي أول الشَّهْر أَزِيد مِنْهَا فِي نصفه الْأَخير وَإِن حدث فِي أَجْوَاف الطُّيُور بيض فِي النّصْف الأول من الشَّهْر كَانَ بياضه أَكثر من بَيَاض الْحَادِث فِي نصفه الثَّانِي وَكَذَلِكَ الْإِنْسَان إِذا نَام أَو قعد فِي ضوء الْقَمَر حدث فِي بدنه الاسترخاء والكسل وهاج عَلَيْهِ الزُّكَام والصداع وَإِذا وضعت لُحُوم الْحَيَوَانَات مكشوفة تَحت ضوء الْقَمَر تَغَيَّرت طعومها وتعفنت وَكَذَلِكَ السّمك فِي الْبحار وَالْآجَام الْجَارِيَة تُوجد من أول الشَّهْر إِلَى وَقت الامتلاء أَكثر وخروجها من قعور الْبحار وَالْآجَام أظهر وَمن بعد الامتلاء إِلَى الِاجْتِمَاع فَإِنَّهَا تدخل قعور الْبحار وَالْآجَام الَّذِي يظْهر من سمين السّمك فالنصف الأول أَكثر من الَّذِي يظْهر فِي الثَّانِي مِنْهُ وَكَذَلِكَ حرشة الأَرْض يكون خُرُوجهَا من إجحرتها فِي النّصْف الأول من الشَّهْر أَكثر من خُرُوجهَا فِي النّصْف الثَّانِي وَأَصْحَاب الْغِرَاس يَزْعمُونَ أَن الْأَشْجَار والغروس إِذا غرست وَالْقَمَر زَائِد الضَّوْء كَانَ نشؤها وكمالها وإسراعها فِي النَّبَات أَحْمد من الَّتِي تغرس فِي محاقة وَذَهَاب نوره وَكَذَلِكَ تكون الرياحين والبقول والأعشاب من الِاجْتِمَاع إِلَى الامتلاء أَزِيد نشوا وَأكْثر نموا وَفِي النّصْف الثَّانِي بالضد من ذَلِك وَكَذَلِكَ القثاء والقرع وَالْخيَار والبطيخ يَنْمُو نموا بَالغا عِنْد ازدياد الضَّوْء وَأما فِي وسط الشَّهْر عِنْد حُصُول الإمتلاء فهناك يعظم النمو حَتَّى يظْهر التَّفَاوُت للحس فِي اللَّيْلَة الْوَاحِدَة وَكَذَلِكَ الْيَنَابِيع تزداد فِي النّصْف الأول من الشَّهْر وتنقص فِي النّصْف الثَّانِي إِلَى غير ذَلِك من الْوُجُوه الَّتِي تُؤثر فِيهَا الشَّمْس وَالْقَمَر فِي هَذَا الْعَالم فَنحْن لم ندفعكم عَن هَذِه التأثيرات وإضعافها إِنَّمَا الَّذِي أنكرهُ عَلَيْكُم الْعُقَلَاء من أهل الْملَل وَغَيرهم أَن جملَة الْحَوَادِث فِي هَذَا الْعَالم خَيرهَا وشرها وصلاحها وفسادها وَجَمِيع أشخاصه وأنواعه وصوره وَقواهُ ومدد بَقَاء أشخاصه وَجَمِيع أحوالها الْعَارِضَة لَهَا وَتَكون الْجَنِين وَمُدَّة لبثه فِي بطن أمه وَخُرُوجه إِلَى الدُّنْيَا
وعمره ورزقه وشقاوته وسعادته وَحسنه وقبحه وأخلاقه وحذقه وبلادته وجهله وَعلمه بل ونزول الأمطار وَاخْتِلَاف أَنْوَاع الشّجر والنبات فِي الشكل واللون والطعوم والروائح والمقادير بل انقسام الْحَيَوَان إِلَى الطير وأصنافه والبحري وأنواعه والبرى وأقسامه وأشكال هَذِه الْحَيَوَانَات وَاخْتِلَاف صورها وأنواعها وأفعالها وأخلاقها ومنافعها بل وَتَكون الْمَعَادِن المنطبعة كالحديد والرصاص والنحاس وَالذَّهَب وَالْفِضَّة بل وَغير المنطبعة كالملح والقارو والزرنيخ والنفط والزئبق بل الْعَدَاوَة الْوَاقِعَة بَين الذئاب وَالْغنم والحيات وَالسِّبَاع وَبني آدم والصداقة والعداوة بَين أَفْرَاد النَّوْع الْوَاحِد سِيمَا بَين ذكوره وإناثه وَبِالْجُمْلَةِ فالأرزاق والآجال والعز والذل والرفعة والخفض والغناء والفقر والغناء والفقر والإحياء والإماتة وَالْمَنْع والإعطاء والضر النَّفْع وَالْهدى والضلال والتوفيق والخذلان وَجَمِيع مَا فِي الْعَالم والأشخاص وأفعالها وقواها وصفاتها وهيأتها والمعطى لَهُ هَذِه واتصالاتها وانفصالاتها واتصالاتها بنقط وانفصالاتها عَن نقط ومقارنتها ومفارقتها ومساقتها ومباينتها فَهِيَ المعطية لهَذَا كُله الْمُدبرَة الفاعلة فَهِيَ الْآلهَة والأرباب على الْحَقِيقَة وَمَا تحتهَا عبيد خاضعون لَهَا ناظرون إِلَيْهَا فَهَذَا كَمَا أَنه الْكفْر الَّذِي خَرجُوا بِهِ عَن جَمِيع الْملَل وَعَن جملَة شرائع الْأَنْبِيَاء وَلم يُمكنهُم أَن يقيموا بَين أَرْبَاب الْملَل أَلا بالتستر بهم ومنافقتهم والتزي بزيهم ظَاهرا وَإِلَّا فَقتل هَؤُلَاءِ من الْأَمر الضَّرُورِيّ فِي كل مِلَّة لأَنهم سوسها وأعداؤها فَهُوَ من الهذيان الَّذِي أضحكوا بِهِ الْعُقَلَاء على عُقُولهمْ حَتَّى رد عَلَيْهِم من لَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر من الفلاسفة كالفارابي وَابْن سينا وَغَيرهمَا من عقلاء الفلاسفة وَسَخِرُوا مِنْهُم واستضعفوا عُقُولهمْ ونسبوهم إِلَى الزرق والزينجة والتلبيس وَقد رد عَلَيْهِم أفضل الْمُتَأَخِّرين من فلاسفة الْإِسْلَام أَبُو البركات الْبَغْدَادِيّ فِي كتاب التَّعْبِير لَهُ فَقَالَ وَأما أَحْكَام النُّجُوم فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ مِنْهُ أَكثر من قَوْلهم بِغَيْر دَلِيل الْحر الْكَوَاكِب وبردها ورطوبتها ويبوستها واعتدالها كَمَا يَقُولُونَ بِأَن زجل مِنْهَا بَارِد يَابِس والمريخ حَار يَابِس وَالْمُشْتَرِي معتدل والاعتدال خير والافراط شَرّ وينتجون من ذَلِك أَن الْخَيْر يُوجب سَعَادَة وَالشَّر يُوجب منحسة وَمَا جانس ذَلِك مِمَّا لم يقل بِهِ عُلَمَاء الطبيعيين وَلم تنتجه مقدماتهم فِي أنظارهم وَإِنَّمَا الَّذِي أنتجته هُوَ أَن السَّمَاء والسماويات فعالة فِيمَا تحويه وتشتمل عَلَيْهِ وتتحرك حوله فعلا على الاطلاق لم يحصل لَهُ من الْعلم الطبيعي حد وَلَا تَقْدِير والقائلون بِهِ ادعوا حُصُوله من التَّوْقِيف والتجربة وَالْقِيَاس مِنْهُمَا كَمَا ادّعى أهل الكيمياء وَإِلَّا فَمَتَى يَقُول صَاحب الْعلم الطبيعي بِحَسب أنظاره الَّتِي سبقت أَن المُشْتَرِي سعيد والمريخ نحسن والمريخ حَار يَابِس وزحل بَارِد يَابِس والحار والبارد من الملموسات وَمَا دله على هَذَا الْمس كَمَا يسْتَدلّ بلمس الملموسات فَإِن ذَلِك مَا ظهر للحس كَمَا ظهر فِي الشَّمْس حَيْثُ تسخن الارض بشعاعها وَإِن كَانَ فِي السَّمَاء بَيَان شَيْء من طبائع الاضداد فَالْأولى أَن تكون كلهَا حارة لِأَن كواكبها كلهَا منيرة وَمَتى
يَقُول الطبيعي بتقطع الْفلك وقسمته كَمَا قسمه المنجمون قسْمَة وهمية إِلَى بروج ودرج ودقائق وَذَلِكَ جَائِز للمتوهم كجواز غَيره غير وَاجِب فِي الْوُجُود وَلَا حَاصِل ونقلوا ذَلِك التَّوَهُّم الْجَائِز إِلَى الْوُجُود الْوَاجِب فِي أحكامهم وَكَانَ الأَصْل فِيهِ على زعمهم حَرَكَة الشَّمْس فِي الْأَيَّام والشهور فَجعلُوا مِنْهَا قسْمَة وهمية وجعلوها حَيْثُ حكمُوا كالحاصلة الوجودية المتميزة بحدود وخطوط كَأَن الشَّمْس بحركتها من وَقت إِلَى وَقت مثله خطت فِي السَّمَاء خُطُوطًا وأقامت فِيهَا جدرانا وحدودا وغرست فِي أَجْزَائِهَا طباعا مُعْتَبرا بِنَفْي فَتبقى بِهِ الْقِسْمَة إِلَى تِلْكَ البروج والدرج مَعَ جَوَاز الشَّمْس عَنْهَا وَلَيْسَ فِي جَوْهَر الْفلك اخْتِلَاف يتَمَيَّز مَوضِع مِنْهُ عَن مَوضِع سوى الْكَوَاكِب وَالْكَوَاكِب تتحرك عَن أمكنتها فَتبقى الْأَمْكِنَة على التشابه فَمَا يتَمَيَّز دَرَجَة عَن دَرَجَة وَيبقى اختلافها بعد حَرَكَة المتحرك فِي سمتها فَكيف يقيس الطبيعي على هَذِه الاصول وينتج مِنْهَا نتائج وَيحكم بحسنها أحكاما فَكيف أَن يَقُول بالحدود الَّتِي تجْعَل خمس دَرَجَات من برج الْكَوْكَب وَسِتَّة لآخر وَأَرْبَعَة لآخر وَيخْتَلف فِيهَا المصريون والبابليون وَيصدق الحكم مَعَ الِاخْتِلَاف وأرباب اليبوسات كَأَنَّهَا أَمْلَاك بنيت بصكوك وحكام الْأسد للشمس والسرطان للقمر وَإِذا نظر النَّاظر وجد الْأسد اسدا من جِهَة كواكب شكلوها بشكل الْأسد ثمَّ انْتَقَلت عَن موَاضعهَا الَّتِي كَانَ بهَا أسدا كَأَن الْملك بنيت للشمس مَعَ انْتِقَال السَّاكِن وَكَذَلِكَ السرطان للقمر هَذَا من ظواهر الصِّنَاعَة وَمَا لَا يمارى فِيهِ وَمن طالعه الْأسد فالشمس كوكبه وربه بَيته وَمن الدقائق فِي الْحَقَائِق النجومية المذكرة والمؤنثة والمظلمة والنيرة والزائدة فِي السَّعَادَة ودرج الْآثَار من جِهَة أَنَّهَا أَجزَاء الْفلك الَّتِي قطعوها وَمَا انْقَطَعت مَعَ انْتِقَال أَن الْكَوْكَب ينظر إِلَى الْكَوْكَب من سِتِّينَ دَرَجَة نظر تسديس لانه سدس الْفلك وَلَا ينظر إِلَيْهِ من خمسين وَلَا سبعين وَقد كَانَ قبل السِّتين بِخمْس درج وَهُوَ اقْربْ من سِتِّينَ وَبعدهَا بِخمْس درج وَهُوَ ابعد من السِّتين لَا ينظر فليت شعري مَا هُوَ هَذَا النّظر أَتَرَى الْكَوْكَب يظْهر للكوكب ثمَّ يحتجب عَنهُ أَو شعاعه يخْتَلط بشعاعه عِنْد حد لَا يخْتَلط بِهِ قبله وَلَا بعده وَكَذَلِكَ التربيع من الرّبع الَّذِي هُوَ تسعون دَرَجَة والتثليث من الثُّلُث الَّذِي هُوَ مائَة وَعِشْرُونَ فَلم لَا يكون التخميس من الْخمس والتسبيع من السَّبع والتعشير من الْعشْر وَالْحمل حَار يَابِس من البروج النارية والثور بَارِد يَابِس من الأرضية والجوزاء حارة رطبَة من الهوائية والسرطان بَارِد رطب من المائية مَا قَالَ الطبيعي قطّ هَذَا وَلَا يَقُول بِهِ وَإِذا احْتَجُّوا وقاسوا كَانَت مبادىء قياساتهم أَن الْحمل مُنْقَلب لِأَن الشَّمْس إِذا نزلت فِيهِ يَنْقَلِب الزَّمَان من الشتَاء إِلَى الرّبيع والثور ثَابت لِأَنَّهُ إِذا نزلت الشَّمْس فِيهِ يثبت الرّبيع على ربيعيته وَالْحق أَنه لَا انقلاب فِي الْحمل وَلَا ثبات فِي الثور بل هُوَ فِي كل يَوْم غير
مَا هُوَ فِي الآخر ثمَّ إِن الزَّمَان انْقَلب بحلول الشَّمْس فِيهِ وَهُوَ يبْقى دهره منقلبا مَعَ خُرُوج الشَّمْس مِنْهُ وحلولها فِيهِ أتراها تخْتَلف فِيهِ أثرا وتحيل مِنْهُ طباعا وتبقي تِلْكَ الاستحالة إِلَى أَن تعود فتجددها وَلم لَا يَقُول قَائِل أَن السرطان حَار يَابِس لِأَن الشَّمْس إِذا نزلت اشْتَدَّ حر الزَّمَان وَمَا يجانس هَذَا مِمَّا لَا يلْزم لَا هُوَ وَلَا ضِدّه مَا فِي الْفلك اخْتِلَاف معرفَة الطبيعي إِلَّا بِمَا فِيهِ من الْكَوَاكِب ومواضعها وَهُوَ وَاحِد متشابه الْجَوْهَر والطبع وَهَذِه أَقْوَال قَالَهَا قَائِلا فقبلها قَابل ونقلها ناقل فَحسن بهَا ظن السَّامع واغتر بهَا من لَا خبْرَة لَهُ وَلَا قدرَة لَهُ على النّظر ثمَّ حكم بحسبها الحاكمون بجيد وردىء وسلب وَإِيجَاب سعد ونحوس فصادف بعضه مُوَافقَة الْوُجُود فَصدق فاغتر بِهِ المغترون وَلم يلتفتوا إِلَى مَا كذب مِنْهُ فيكذبون بل عذروا وَقَالُوا هُوَ منجم مَا هُوَ نَبِي حَتَّى يصدق فِي كل مَا يَقُول وَاعْتَذَرُوا لَهُ بِأَن الْعلم أوسع من أَن يُحِيط بِهِ وَلَو أحَاط بِهِ لصدق فِي كل شَيْء ولعمر الله أَنه لَو أحَاط بِهِ علما صَادِقا لصدق والشأن أَن يُحِيط بِهِ على الْحَقِيقَة لَا على أَن يفْرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إِلَى الْوُجُود ويثبته فِي الْمَوْجُود وينسب إِلَيْهِ ويقيس عَلَيْهِ وَالَّذِي يَصح مِنْهُ ويلتفت إِلَيْهِ الْعُقَلَاء هِيَ أَشْيَاء غير هَذِه الخرفات الَّتِي لَا أصل لَهَا مِمَّا حصل بتوقيف أَو تجربة حَقِيقِيَّة كالقرانات والانتقالات والمقابلة من جملَة الاتصالات فانها الْمُقَارنَة من جِهَة أَن تِلْكَ غَايَة الْقرب وَهَذِه غَايَة الْبعد وممر كَوْكَب من الْمُتَحَيِّرَة تَحت كَوْكَب من الثَّابِتَة وَمَا يفْرض للمتحيرة من رُجُوع واستقامة وَرُجُوع فِي شمال وانخفاض فِي جنوب وَغير ذَلِك وَكَأَنِّي أُرِيد أَن اختصر الْكَلَام هَهُنَا وأوفق إشارتك واعمل بِحَسب اختيارك رِسَالَة فِي ذَلِك أذكر مَا قيل فِيهَا من علم إحكام النُّجُوم من أصُول حَقِيقِيَّة أَو مجازية أَو وهمية أَو غلطية وفروع نتائج أنتجت عَن تِلْكَ الْأُصُول وأذكر الْجَائِز من ذَلِك والممتع والقريب والبعيد فَلَا أرد علم الْأَحْكَام من كل وَجه كَمَا رده من جَهله وَلَا أقبل فِيهِ كل قَول كَمَا قبله من لم يعقله بل أوضح مَوضِع الْقبُول وَالرَّدّ فِي المقبول وَمَوْضِع التَّوَقُّف والتجويز وَالَّذِي من المنجم وَالَّذِي من التنجيم وَالَّذِي مِنْهُمَا وأوضح لَك أَنه لَو أمكن الْإِنْسَان أَن يُحِيط بشكل كل مَا فِي الْفلك علما لأحاط علما بِكُل مَا يحويه الْفلك لِأَن مِنْهُ مبادى الْأَسْبَاب لكنه لَا يُمكن وَيبعد عَن الْإِمْكَان بعدا عَظِيما وَالْبَعْض الْمُمكن مِنْهُ لَا يهدى إِلَى بعض الحكم لِأَن الْبَعْض الآخر الْمَجْهُول قد يُنَاقض الْمَعْلُوم فِي حكمه وَيبْطل مَا يُوجِبهُ فنسبه الْمَعْلُوم إِلَى الْمَجْهُول من الإحكام كنسبة الْمَعْلُوم إِلَى الْمَجْهُول من الاسباب وَكفى بذلك بعدا انْتهى كَلَامه وَلَو ذَهَبْنَا نذْكر من رد عَلَيْهِم من عقلاء الفلاسفة والطبائعين والرياضيين لطال ذَلِك جدا هَذَا غير رد الْمُتَكَلِّمين عَلَيْهِم فَإنَّا لَا نقنع بِهِ وَلَا نرضى أَكْثَره فَإِن فِيهِ من المكابرات والمنوع الْفَاسِدَة والسؤالات الْبَارِدَة والتطويل الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ تَحْصِيل مَا يضيع الزَّمَان فِي غير شَيْء