المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل فلنرجع إلى كلام صاحب الرسالة قال زعموا أن القمر والزهرة - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط العلمية - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل مِفْتَاح دَار السَّعَادَة

- ‌فصل الشَّرَائِع كلهَا فِي أُصُولهَا وَإِن تباينت متفقة مركوز حسنها فِي

- ‌فصل وَقد أنكر تَعَالَى على من نسب إِلَى حكمته التَّسْوِيَة بَين الْمُخْتَلِفين

- ‌فصل وَتَحْقِيق هَذَا الْمقَام بالْكلَام فِي مقامين أَحدهمَا فِي الْأَعْمَال خُصُوصا

- ‌فصل وَأما المسئلة الثَّانِيَة وَهِي مَا تَسَاوَت مصْلحَته ومفسدته فقد اخْتلف

- ‌فصل وَهَهُنَا سر بديع من أسرار الْخلق وَالْأَمر بِهِ يتَبَيَّن لَك حَقِيقَة الْأَمر

- ‌فصل وَأما مَا خلقه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ أوجده لحكمة فِي إيجاده فَإِذا اقْتَضَت

- ‌فصل فَهَذِهِ أقوى أَدِلَّة النفاة باعترافهم بِضعْف مَا سواهَا فَلَا حَاجَة بِنَا

- ‌فصل وَإِذا قد انتهينا فِي هَذِه المسئلة إِلَى هَذَا الْموضع وَهُوَ بحرها

- ‌فصل وَقد سلم كثير من النفاة أَن كَون الْفِعْل حسنا أَو قبيحا بِمَعْنى

- ‌فصل إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَالْكَلَام على كَلِمَات النفاة من وُجُوه:

- ‌فصل والأسماء الْحسنى وَالصِّفَات الْعلَا مقتضية لآثارها من الْعُبُودِيَّة

- ‌فصل وَعكس هَذَا أَنه لم تشْتَرط الْمُكَافَأَة فِي علم وَجَهل وَلَا فِي كَمَال

- ‌فصل وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الْإِيجَاب فِي حق الله سَوَاء الْأَقْوَال فِيهِ كالأقوال

- ‌فصل وَقد ظهر بِهَذَا بطلَان قَول طائفتين مَعًا الَّذين وضعُوا لله شَرِيعَة

- ‌فصل وَأما مَا ذكره الفلاسفة من مَقْصُود الشَّرَائِع وان ذَلِك لاستكمال

- ‌فصل وَهَذِه الكمالات الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرهَا الفلاسفة للنَّفس لَا بُد مِنْهَا

- ‌فصل وَرَأَيْت لبَعض فضلائهم وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى رِسَالَة

- ‌فصل فلنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرسَالَة قَالَ زَعَمُوا أَن الْقَمَر والزهرة

- ‌فصل قَالَ صَاحب الرسَالَة ذكر جمل من احتجاجهم والاحتجاج عَلَيْهِم من إوكد

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بِالْآيَاتِ الدَّالَّة على أَن الله سُبْحَانَهُ وضع حركات

- ‌فصل وَأما ماذكره عَن إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن أَنه تمسك بِعلم النُّجُوم حِين

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق

- ‌فصل وَأما استدلاله بقوله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا} فَعجب من الْعجب فَإِن هَذَا من اقوى الْأَدِلَّة وأبينها على بطلَان قَول المنجمين والدهرية الَّذين يسندون جَمِيع مَا فِي الْعَالم من الْخَيْر وَالشَّر إِلَى النُّجُوم وحركاتها واتصالاتها ويزعمون أَن مَا تَأتي

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه كَانَ اعْتِمَاده فِي

- ‌فصل وَأما استدلاله بِأَن النَّبِي نهى عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن اسْتِقْبَال

- ‌فصل وَأما استدلاله بِحَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي إِذا ذكر الْقدر

- ‌فصل وَالَّذِي أوجب للمنجمين كَرَاهِيَة السّفر وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَب انهم قَالُوا

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ من الْأَثر عَن عَليّ أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ

- ‌فصل وَأما احتجاجه بِحَدِيث أبي الدَّرْدَاء لقد توفّي رَسُول الله وَتَركنَا

- ‌فصل وَأما مَا نسبه إِلَى الشافعى من حكمه بالنجوم على عمر ذَلِك الْمَوْلُود

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن هَذَا علم مَا خلت عَنهُ مِلَّة من الْملَل وَلَا

- ‌فصل وَأما مَا ذكره فِي أَمر الطالع عَن الْفرس وَأَنَّهُمْ كَانُوا يعتنون بطالع

- ‌فصل الْآن الْتَقت حلقتا البطان وتداعى نزال الْفَرِيقَانِ نعم وَهَهُنَا أَضْعَاف

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد أَن عمر بن

- ‌فصل وَأما محبَّة النَّبِي التَّيَمُّن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره وشأنه كُله

- ‌فصل وَأما قَوْله الشؤم فِي ثَلَاث الحَدِيث فَهُوَ حَدِيث صَحِيح من رِوَايَة

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد جَاءَت امْرَأَة إِلَى

- ‌فصل وَأما قَول النَّبِي للَّذي سل سَيْفه يَوْم أحد شم سَيْفك فَإِنِّي

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ وَنسبه إِلَى قَوْله وقدت الْحَرْب لما رأى

- ‌فصل وَأما استقباله الجبلين فِي طَرِيقه وهما مسلح ومخرىء وَترك

- ‌فصل وَأما كَرَاهِيَة السّلف أَن يتبع الْمَيِّت بِشَيْء من النَّار أَو أَن يدْخل

- ‌فصل وَأما تِلْكَ الوقائع الَّتِي ذكروها مِمَّا يدل على وُقُوع مَا تطير بِهِ

- ‌فصل وَمِمَّا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَتَطَيَّرُونَ بِهِ ويتشاءمون مِنْهُ العطاس كَمَا

- ‌فصل وَأما قَوْله لَا يُورد ممرض على مصح فالممرض الَّذِي إبِله مراض والمصح

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا مَا روى عَنهُ من نَهْيه عَن وَطْء الغيل وَهُوَ

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا قَوْله للَّذي قَالَ لَهُ إِن لي أمة وَأَنا أكره

- ‌فصل وَأما قَضِيَّة المجذوم فَلَا ريب أَنه روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ

الفصل: ‌فصل فلنرجع إلى كلام صاحب الرسالة قال زعموا أن القمر والزهرة

وَكَانَ تَركهم لهَذِهِ الْمُقَاتلَة خيرا لَهُم مِنْهَا فانهم لَا للتوحيد وَالْإِسْلَام نصروا وَلَا لأعدائه كسروا وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان

‌فصل فلنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرسَالَة قَالَ زَعَمُوا أَن الْقَمَر والزهرة

مؤنثان وان الشَّمْس وزحل والمشترى والمريخ مذكرة وان عُطَارِد ذكر أُنْثَى مشارك للجنسين جَمِيعًا وان سَائِر الْكَوَاكِب تذكر وتؤنث بِسَبَب الأشكال الَّتِي تكون لَهَا بِالْقِيَاسِ إِلَى الشَّمْس وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذا كَانَت مشرقة مُتَقَدّمَة للشمس فَهِيَ مذكرة وان كَانَت مغربة تَابِعَة كَانَت مُؤَنّثَة وان ذَلِك أَيْضا يكون بِالْقِيَاسِ إِلَى اشكالها إِلَى الْأُفق وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذا كَانَت فِي الأشكال الَّتِي من الْمشرق الى وسط السَّمَاء مِمَّا تَحت الارض فَهِيَ مذكرة لِأَنَّهَا إِذا كَانَت شرقية فَهِيَ من نَاحيَة مهب الصِّبَا وَإِذا كَانَت فِي الربعين الباقيين فَهِيَ مُؤَنّثَة لانها فِي نَاحيَة مهب الدبور وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا صَارَت الْكَوَاكِب الَّتِي يُقَال إِنَّهَا مُؤَنّثَة مذكرة وَالَّتِي يُقَال أَنَّهَا مذكرة مُؤَنّثَة وَصَارَت طباعها مستحيلة بل تصير أعيانها تنْقَلب وَأَن الْقَمَر والزهرة مؤنثتان وَالْكَوَاكِب الْخَمْسَة الْبَاقِيَة مذكرة على الْوَضع الاول فَإِن تقدم الْقَمَر والزهرة الشَّمْس وَكَانَا شرقيين صَارا مذكرين وَإِن تَأَخَّرت الْكَوَاكِب الْخَمْسَة وَكَانَت مغربة تَابِعَة كَانَت مُؤَنّثَة على الْمَوْضُوع الثَّانِي وَيصير عُطَارِد ذكرا إِذا شَرق أُنْثَى إِذا غرب وذكرا أُنْثَى إِذا لم يكن بِأحد هَاتين الصفتين

قلت وَقد أجَاب بعض فضلائهم عَن هَذَا الْإِلْزَام فَقَالَ لَيْسَ ذَلِك بممكن لأَنا قد نقُول إِن الأدكن أَبيض إِذا قسناه إِلَى الْأسود ونقول إِنَّه أسود إِذا قسناه إِلَى الابيض وَهُوَ شَيْء وَاحِد بِعَيْنِه مرّة يكون اسود وَمرَّة يكون أَبيض وَهُوَ فِي نَفسه لَا اسود وَلَا أَبيض وَكَذَلِكَ الْكَوَاكِب يُقَال أَنَّهَا ذكران وإناث بِالْقِيَاسِ إِلَى الأشكال أَعنِي الْجِهَات والجهات إِلَى الرِّيَاح والرياح إِلَى الكيفيات لِأَنَّهَا ذكران وإناث وَهَذَا تلبيس مِنْهُ فان الأدكن فِيهِ شَائِبَة الْبيَاض والسواد فَلذَلِك صدق عَلَيْهِ اسمهما لِأَن الكيفيتين محسوستان فِيهِ فتكيفه بهما أوجب أَن يُقَال عَلَيْهِ الاسمان وَأما تَقْسِيم الْكَوَاكِب إِلَى الذُّكُور وَالْإِنَاث فَهِيَ قسْمَة وضعتم فِيهَا تَمْيِيز كل نوع عَن الآخر بحقيقته وطبيعته وقلتم البروج تَنْقَسِم إِلَى ذُكُور وإناث قسْمَة تميز فِيهَا قسم عَن قسم لَا أَن حَقِيقَتهَا متركبة من طبيعتين ذكورية وأنوثية بِحَيْثُ يصدقان على كل برج برج فنظير مَا ذكرْتُمْ من الأدكن أَن يكون كل برج ذكرا وَأُنْثَى فَأَيْنَ أحد الْبَابَيْنِ من الآخر لَوْلَا التلبيس والمحال وَأَيْضًا فانقسامها إِلَى الذُّكُور وَالْإِنَاث انقسام بِحَسب الطبيعة والتأثير والتأثر الَّذِي هُوَ الْفِعْل والانفعال وَمَا كَانَ كَذَلِك لم تنْقَلب حَقِيقَته وطبيعته بِحَسب الْموضع والقرب والبعد قَالَ صَاحب الرسَالَة وَزَعَمُوا أَن الْقَمَر مُنْذُ الْوَقْت الَّذِي يهل فِيهِ إِلَى وَقت انتصافه الأول فِي الضَّوْء يكون فَاعِلا للرطوبة خَاصَّة

ص: 169

ومنذ وَقت انتصافه الأول فِي الضَّوْء إِلَى وَقت الامتلاء يكون فَاعِلا للحرارة ومنذ وَقت الامتلاء إِلَى وَقت الانتصاف الثَّانِي فِي الضَّوْء يكون فَاعِلا لليبس ومنذ وَقت الانتصاف إِلَى الْوَقْت الَّذِي يخفى فِيهِ وَيُفَارق الشَّمْس يكون فَاعِلا للبرودة وَأي شَيْء اقبح من هَذَا وَلَا سِيمَا وَقد أعْطى قَائِله أَن الْقَمَر رطب وَأَنه يفعل بطبعه لَا بِاخْتِيَارِهِ وَكَيف أَن يفعل شَيْء وَاحِد بطبعه الْأَشْيَاء المتضادة مرّة فِي الدَّهْر فضلا عَن أَن يَفْعَلهَا فِي كل شهر وَهل القَوْل بِأَن شَيْئا وَاحِدًا يفعل بطبعه فِي الْأَشْيَاء الترطيب فِي وَقت وَيفْعل بطبعه التجفيف فِي آخر وَيفْعل الاسخان فِي وَقت وَيفْعل التبريد فِي آخر إِلَّا كالقول بِأَن شَيْئا وَاحِدًا تنْقَلب عينه

وقتا بعد وَقت قلت قد قَالُوا إِن الشَّمْس لما كَانَت تفعل هَذِه الأفاعيل بِحَسب صعودها وهبوطها فِي فلكها فَإِنَّهَا إِذا كَانَت من خَمْسَة عشر دَرَجَة من الْحُوت إِلَى خَمْسَة عشر من الجوزاء فعلت الترطيب وَهُوَ زمَان الرّبيع وَكَذَلِكَ من خَمْسَة عشر دَرَجَة من الْقوس إِلَى خَمْسَة عشر من الْحُوت تفعل التبريد وَهُوَ زمَان الشتَاء وَهَذَا دورها فِي الْفلك مرّة فِي الْعَام وَالْقَمَر يَدُور فِي شهر وَاحِد صَارَت نِسْبَة دور الْقَمَر فِي الْفلك كنسبة دور الشَّمْس فِيهِ فَكَانَت نِسْبَة الشَّهْر إِلَى الْقَمَر كنسبة السّنة إِلَى الشَّمْس فالشهر يجمع الْفُصُول الْأَرْبَعَة كَمَا تجمعه السّنة وَمَا تَفْعَلهُ الشَّمْس فِي كل تسعين يَوْمًا وَكسر يَفْعَله الْقَمَر فِي سَبْعَة أَيَّام وَكسر قَالُوا فآخر الشَّهْر شَبيه بالشتاء وأوله شَبيه بِالربيعِ وَالرّبع الثَّانِي من الشَّهْر شَبيه بالصيف وَالرّبع الثَّالِث مِنْهُ شَبيه بالخريف فَهَذَا غَايَة مَا قرروا بِهِ هَذَا الحكم قَالُوا وَأما كَون الشَّيْء الْوَاحِد سَببا للضدين فقد قضا أرسطا طاليس فِي كتاب السماع الطبيعي على جَوَازه وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن الشَّمْس لَيست هِيَ السَّبَب الْفَاعِل لهَذِهِ الطبائع الْمُخْتَلفَة وَإِنَّمَا قربهَا وَبعدهَا وارتفاعها وانخفاضها أثر فِي سخونة الْهَوَاء وتبريده وَفِي تحلل البخارات وتكاثفها فَيحدث بذلك فِي الْحَيَوَان والنبات والهواء هَذِه الطبائع والكيفيات وَالشَّمْس جُزْء السَّبَب كَمَا قَرَّرْنَاهُ وَأما الْقَمَر فَلَا يُؤثر قربه وَلَا بعده وامتلاؤه ونقصانه فِي الْهَوَاء كَمَا تؤثره الشَّمْس فَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ كل شهر من شهور الْعَام يجمع الْفُصُول الْأَرْبَعَة بطبائعها وتأثيراتها وأحكامها وَهَذَا شَيْء يَدْفَعهُ الْحس فضلا عَن النّظر والمعقول وَقِيَاس الْقَمَر على الشَّمْس فِي ذَلِك من أفسد الْقيَاس فان الْفَارِق بَينهمَا فِي الصّفة وَالْحَرَكَة والتأثير أَكثر من الْجَامِع فَالْحكم على الْقَمَر بِأَنَّهُ يحدث الطبائع الْأَرْبَعَة قِيَاسا على الشَّمْس وَالْجَامِع بَينهمَا قِطْعَة للفلك فِي كل شهر كَمَا تقطعه فِي سنة لَا يعْتَمد عَلَيْهِ من لَهُ خَبره بطرق الْأَدِلَّة وسنعة الْبُرْهَان وَأما قَوْلكُم أَن أرسطا طاليس نَص فِي كِتَابه على ان الْوَاحِد قد يكون سَببا للضدين فَنحْن نذْكر كَلَامه بِعَيْنِه فِي كِتَابه ونبين مَا فِيهِ وَقَالَ فِي الْمقَالة الثَّانِيَة وايضا فَإِن الْوَاحِد قد يكون سَببا للضدين فان الشَّيْء الَّذِي بِحُضُورِهِ يكون أَمر من الْأُمُور فغيبته قد تكون سَببا لضده فَيُقَال فِي ذَلِك

ص: 170

إِن غيبَة الربان سَبَب غرق السَّفِينَة وَهُوَ الَّذِي كَانَ حُضُوره سَبَب سلامتها فَتَأمل هَذَا الْكَلَام وقابل بَينه وَبَين كَلَامهم فِي فعل الْقَمَر الامور المتضادة يظْهر لَك تلبيس الْقَوْم وجهلهم فان نظر ذَلِك يُوجب بطلَان هَذِه الطبائع والكيفيات عِنْد انْقِطَاع تعلق الْقَمَر بِهَذَا الْعَالم كَمَا بَطل عمل السَّفِينَة وجريها عِنْد غيبَة الربان عَنْهَا انْقِطَاع تعلقة بهَا فَلم يكن الربان هُوَ سَبَب الْغَرق الَّذِي هُوَ ضد السَّلامَة كَمَا كَانَ الْقَمَر سَببا لليبس الَّذِي هُوَ ضد الرُّطُوبَة وللحرارة الَّتِي هِيَ ضد الْبُرُودَة وَإِنَّمَا كَانَت أَسبَاب الْغَرق غيبَة أحد الْأَسْبَاب الَّتِي كَانَ الربان يمْنَع فعلهَا فَلَمَّا غَابَ عَنْهَا عمل ذَلِك السَّبَب عمله فغرقت وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَاج إِلَى تَقْرِير وَلَكِن الأذهان الَّتِي قد اعتادت قبُول المحالات قد يحْتَاج فِي علاجها إِلَى مَالا يحْتَاج إِلَيْهِ غَيرهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

قَالَ صَاحب الرسَالَة وَقَالُوا فِي معرفَة أَحْوَال أُمَّهَات المدن أَن ذَلِك يعلم من الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا الشَّمْس وَالْقَمَر فِي أول ابتنائها ومواضع الاوتاد فَهُوَ خَاصَّة وتد الطالع كَمَا يفعل فِي المواليد فَإِن لم يتَوَقَّف على الزَّمَان الَّذِي بنيت فِيهِ فَلْينْظر إِلَى مَوضِع وسط السَّمَاء فِي مواليد الْوُلَاة والملوك الَّذين كَانُوا فِي ذَلِك الزَّمَان الَّذِي بنيت فِيهِ تِلْكَ المدن قلت وَنَظِير هَذَا من هذيانهم قَوْلهم أَنا نَعْرِف أَحْوَال الْأَب من مولد الابْن إِذا لم يعرف مولد الْأَب قَالُوا أَن هَذَا الْموضع تالي الْمرتبَة للطالع وَهُوَ أخص الْمَوَاضِع بالطالع كَمَا أَن الْأَب أخص الْأَشْيَاء بالابن فَكَذَلِك أخص الْأَشْيَاء بِالْملكِ مَمْلَكَته فموضع وسط سمائه يدل على مدينته وَأَحْوَالهَا وكل عَاقل يعلم بطلَان هَذِه الدّلَالَة وفسادها وأته لَا ارتباط بَين طالع الْمَدِينَة وطالع السُّلْطَان كَمَا لَا ارتباط بَين طالع ولادَة الابْن وطالع ولادَة أَبِيه وَإِنَّمَا هَذِه تشبيهات بعيدَة ومناسبات فِي غَايَة الْبعد

قَالَ صَاحب الرسَالَة وَقَالُوا فِي معرفَة حَال الْوَالِدين إِن الشَّمْس وزحل يشاكلان الْآبَاء بالطبع وَلست أدرى كَيفَ تعقل دلَالَة شَيْء لَيْسَ مِمَّا يتوالد بطبعه على شَيْء من طَرِيق التوالد لِأَن الْأَب إِنَّمَا يكون أَبَا باضافته إِلَى ابْنه وَالِابْن إِنَّمَا يكون ابْنا باضافته إِلَى أَبِيه وانهم يستدلون على حَال الْأَوْلَاد بالقمر والزهرة والمشترى وَأَن أَحْوَال الْأَب تعرف من مواليد ابْنه بِأَن يُقَام مَوضِع الْكَوْكَب الدَّال عَلَيْهِ وَهُوَ الشَّمْس أَو زحل مقَام الطالع ويستدل على حَال الابْن من مولد أَبِيه بِأَن يُقَام مَوضِع الْكَوْكَب الدَّال عَلَيْهِ وَهُوَ أحد الْكَوَاكِب الثَّلَاثَة الْقَمَر والمشترى والزهرة مقَام الطالع وَقد يكون الْإِنْسَان فِي أَكثر الْأَوْقَات أَبَا فَيكون الشَّمْس وزحل يدل عَلَيْهِ من مولد ابْنه وَله فِي نَفسه مولد لامحالة وَيُمكن أَن يكون رب طالع مولده كوكبا غير الكوكبين الدالين على حَاله من مولد أَبِيه وَابْنه فَيكون حَاله يعرف من ثَلَاثَة كواكب وَثَلَاثَة بروج مُخْتَلفَة الأشكال والطبائع وتناقض هَذَا القَوْل بَين لمستعمله فضلا عَن متوهمة

قلت قد قَالُوا فِي الْجَواب عَن هَذَا أَنه

ص: 171

لَا تنَاقض فِيهِ بل هُوَ حق وَاجِب قَالُوا إِذا أردنَا أَن نَعْرِف حَال سقراط مثلا من حَيْثُ هُوَ إِنْسَان أَلَيْسَ ينظر إِلَى مَا يخص الْحَيَوَان وَالْإِنْسَان الْكُلِّي وَإِذا أردنَا أَن نَعْرِف حَاله من حَيْثُ هُوَ أَب أَن نَنْظُر إِلَى الْمُضَاف وَمَا يلْحقهُ وَإِذا أردنَا أَن نَعْرِف حَاله من حَيْثُ هُوَ عَالم نَنْظُر إِلَى الْكَيْفِيَّة وَمَا يَخُصهَا وَالْأول جَوْهَر وَالْبَاقِي أَعْرَاض وسقراط وَاحِد ونعرف أَحْوَاله من مَوَاضِع مُخْتَلفَة متباينة مرّة يكون جوهرا وَمرَّة عرضا فَكَذَلِك إِذا أردنَا أَن نَعْرِف حَاله من مولده نَظرنَا إِلَى الطالع وربه وَإِذا أردنَا أَن نَعْرِف حَاله من مولد أَبِيه نَظرنَا إِلَى الْعَاشِر وَالشَّمْس وَكَذَلِكَ إِذا أردنَا أَن نَعْرِف حَاله من مولد ابْنه نَظرنَا إِلَى مَوضِع آخر وَلَيْسَ ذَلِك متناقضا كَمَا أَن الأول لَيْسَ متناقضا فَيُقَال هَذَا تَنْبِيه فَاسد وَاعْتِبَار بَاطِل فَأَنا نَظرنَا فِي طالع الْأَب لنستدل بِهِ على حَال الْوَلَد ونظركم فِي الطالع لتستدلوا بِهِ على حَال الْأَب هُوَ اسْتِدْلَال على شَيْء وَاحِد وَحكم عَلَيْهِ بِسَبَب لَا يَقْتَضِيهِ وَلَا يُفَارِقهُ فَأَيْنَ هَذَا من تعرف إنسانية سقراط وأبوته وعدالته وَعلمه مثلا وطبيعته فَإِن هَذِه أَحْوَال مُخْتَلفَة لَهَا أَدِلَّة وَأَسْبَاب مُخْتَلفَة فنظيرها أَن نَعْرِف حَال الْوَلَد من جِهَة سعادته ومحبته وَصِحَّته وسقمه من طالعه وحاله من جِهَة مَا يُنَاسِبه من الأغذية والأدوية من مزاجه وحاله من جِهَة أَفعاله ورئاسته من أخلاقه كالحياء وَالصَّبْر والبذل وحاله من جِهَة اعْتِدَال مزاجه من اعْتِدَال أَعْضَائِهِ وتركيبه وَصورته فَهَذِهِ أَحْوَال بِحَسب اخْتِلَاف أَسبَابهَا فَأَيْنَ هَذَا من أَخذ حَال الْوَلَد وعمره وسعادته وشقاوته من طالع أَبِيه وَبِالْعَكْسِ فَالله يعين الْعُقَلَاء على تلبيسكم ومحالكم وَيثبت عَلَيْهِم مَا وهبهم من الْعُقُول الَّتِي رغبت بهَا وَرَغبُوا بهَا عَن مثل مَا أَنْتُم عَلَيْهِ

قَالَ وَزعم بطليموس أَن الْفلك إِذا كَانَ على شكل مَا ذكره فِي مولد مَا وَكَانَت الْكَوَاكِب فِي مَوَاضِع ذكرهَا وَجب أَن يكون الْوَلَد أَبيض اللَّوْن سبطا وَإِن وجد مَوْلُود فِي بِلَاد الْحَبَشَة والفلك متشكل على ذَلِك الشكل وَالْكَوَاكِب فِي الْمَوَاضِع الَّتِي ذكرهَا لم يمض ذَلِك الحكم عَلَيْهِ وَمضى على الْمَوْلُود إِن كَانَ من الصقالبة أَو من قرب مزاجه من مزاجهم وَزعم أَن الْفلك إِذا كَانَ على شكل مَا ذكره فِي مولد مَا وَكَانَت الْكَوَاكِب فِي مَوَاضِع ذكرهَا فَإِن صَاحب الْوَلَد يتَزَوَّج أُخْته إِن كَانَ مصريا فَإِن لم يكن مصريا لم يَتَزَوَّجهَا وَزعم أَن الْفلك إِذا كَانَ على شكل آخر ذكره فِي مولد من المواليد وَكَانَت الْكَوَاكِب فِي مَوَاضِع بَينهمَا تزوج الْوَلَد بِأُمِّهِ إِن كَانَ فارسيا وَإِن لم يكن فارسيا لم يَتَزَوَّجهَا

وَهَذِه مناقضة شنيعة لِأَنَّهُ ذكر عِلّة ومعلولا يُوجد بوجودها وترتفع بارتفاعها ثمَّ ذكر أَنَّهَا تُوجد من غير أَن يُوجد معلولها

قلت أَرْبَاب هَذَا الْفَنّ يَقُولُونَ لَا بُد من معرفَة الْأُصُول الَّتِي يحكم عَلَيْهَا لِئَلَّا يغلط الْحَاكِم وَيذْهب كَلَامه إِن لم يعرف الْأُصُول وهى الْجِنْس والشريعة والأخلاق والعادات مِمَّا يحْتَاج المنجم إِن يحصلها ثمَّ يحكم عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ قَالَ بطليموس أَنه يجب على المنجم النّظر فِي صور الْأَبدَان وخواص حالات الْأَنْفس

ص: 172

وَاخْتِلَاف الْعَادَات وَالسّنَن

قَالَ وَيجب على من نظر فِي هَذِه الْأَشْيَاء على الْمَذْهَب الطبيعي إِن يتشبث أبدا بالأسباب الأول الصَّحِيحَة لِئَلَّا يغلط بِسَبَب اشْتِبَاه المواليد فَيَقُول مثلا أَن الْمَوْلُود فِي بِلَاد الْحَبَش يكون أَبيض اللَّوْن سبط الشّعْر وَأَن الْمَوْلُود فِي بِلَاد الرّوم أسود اللَّوْن جعد الشّعْر أَو يغلط أَيْضا فِي السّنَن والعادات الَّتِي يخص بهَا بعض الْأُمَم فِي الباه فَيَقُول مثلا أَن الرجل من أهل انطاكية يتَزَوَّج بأخته وَكَانَ الْوَاجِب أَن ينْسب ذَلِك الْفَارِسِي وَفِي الْجُمْلَة يَنْبَغِي أَن يعلم أَولا حالات الْقَضَاء الكلى ثمَّ يَأْخُذ حالات الْقَضَاء الجزئي ليعلم مِنْهَا الْأَمر فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَكَذَلِكَ يجب ضَرُورَة أَن يقدم فِي قسْمَة الْأَزْمَان أَصْنَاف الْأَسْنَان الزمانية وموافقتها لكل وَاحِد من الْأَحْدَاث وَأَن يتفقد أمرهَا لِئَلَّا يغلط فِي وَقت من الْأَوْقَات فِي الْأَعْرَاض الْعَامَّة البسيطة الَّتِي ينظر فِيهَا فِي المواليد فَيَقُول أَن الطِّفْل يُبَاشر الْأَعْمَال أَو يتَزَوَّج أَو يفعل شَيْئا من الْأَشْيَاء الَّتِي يَفْعَلهَا من هُوَ أتم سنا مِنْهُ وَأَن الشَّيْخ الفاني يُولد لَهُ أَو يفعل شَيْئا من أَفعَال الْأَحْدَاث وَهَذَا وَنَحْوه يدل على أَن الْأُمُور وَغَيرهَا إِنَّمَا هِيَ بِحَسب اخْتِلَاف العوائد والبلاد وخواص الْأَنْفس وَاخْتِلَاف الْأَسْنَان والأغذية وقواها أَيْضا مِمَّا فِيهَا تَأْثِير قوى وَكَذَا الْهَوَاء والتربة واللباس وَغَيرهَا كل هَذِه لَهَا تَأْثِير فِي الْأَخْلَاق والأعمال وأكبرها العوائد والمربا والمنشأ فإحالة هَذِه الْأُمُور على الْكَوَاكِب والطالع والمقارنة والمفارقة والمناظر من أبين الْجَهْل وَلِهَذَا اضْطر إِمَام المنجمين ومعلمهم إِلَى مراعات هَذِه الْأُمُور وَأخْبر أَن الْحَاكِم بِدُونِ مَعْرفَتهَا والتشبث بهَا يكون مخطئا وَحِينَئِذٍ فالطالع الْمُعْتَبر الْمُؤثر إِنَّمَا هُوَ طالع العوائد وَالسّنَن والبلاد وخواص هيأت النُّفُوس الإنسانية وقوى أغذية أبدانها وهوائها وتربتها وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مشَاهد بالعيان تَأْثِيره فِي ذَلِك أفليس من أبين الْجَهْل الْإِعْرَاض عَن هَذِه الْأَسْبَاب وَالْحوالَة على حركات النُّجُوم واجتماعها وافتراقها ومقابلتها فِي تربيع أَو تثليث أَو تسديس مِمَّا لوصح لَكَانَ غَايَته ان يكون جُزْء سَبَب من الْأَسْبَاب الَّتِي تَقْتَضِي هَذِه الْآثَار ثمَّ إِن لَهَا من المقارنات والمفارقات والصوارف والعوارض مَالا يُحْصى المنجم الْقَلِيل من عشر معشاره أفليس الحكم بِمُجَرَّد معرفَة جُزْء من أَجزَاء السَّبَب بِالظَّنِّ والحدس والتقليد لمن حسن ظَنّه بِهِ حكم كَاذِب وَلِهَذَا كذب المنجم أَضْعَاف أَضْعَاف صدقه بِكَثِير حَتَّى صدَاق أَن بعض الزراقين وَأَصْحَاب الْكَشْف وأرباب الفراسة والجزائين أَكثر من صدق هَؤُلَاءِ بِكَثِير وَمَا ذَاك إِلَّا لِأَن الْمَجْهُول من جمل الْأَسْبَاب وَمَا يعارضها وَيمْنَع تأثيرها أَكثر من الْمَعْلُوم مِنْهَا فَكيف لَا يَقع الْكَذِب وَالْخَطَأ بل لَا يكَاد يَقع الصدْق وَالصَّوَاب إِلَّا على سَبِيل التصادف وَنحن لَا ننكر ارتباط المسببات بأسبابها كَمَا ارْتَكَبهُ كثير من الْمُتَكَلِّمين وكابروا العيان وجحدوا الْحَقَائِق كَمَا أَنا لَا نرضى بهذيانات الأحكاميين ومحالاتهم بل نثبت

ص: 173

الْأَسْبَاب والمسببات والعلل والمعلولات ونبين مَعَ ذَلِك بطلَان مَا يَدعُونَهُ من علم أَحْكَام النُّجُوم وَأَنَّهَا هِيَ الْمُدبرَة لهَذَا الْعَالم المسعدة المشقية المحيية المميتة المعطية للعلوم والأعمال والأرزاق والآجال وَأَن نظركم فِي هَذَا الْعَالم مُوجب لكم من علم الْغَيْب مَا انفردتم بِهِ عَن سَائِر النَّاس وَلَيْسَ فِي طوائف النَّاس أقل علما بِالْغَيْبِ مِنْكُم بل انتم أَجْهَل النَّاس بِالْغَيْبِ على الْإِطْلَاق وَمن اعْتبر حَال حذقائكم وعلمائكم واعتمادهم على ملاحم مركبة من إخبارات بعض الْكُهَّان ومنامات وفراسات وقصص متوارثة عَن أهل الْكتاب وَغَيرهم ومزج ذَلِك بتجارب حصلت مَعَ اقترانات نجومية واتصالات كوكبية يعلم بِالْحِسَابِ حُصُولهَا فِي وَقت معِين فقضيتم بِحُصُول تِلْكَ الْآثَار أَو نظيرها عِنْدهَا إِلَى أَمْثَال ذَلِك من أَسبَاب علم تقدمه الْمعرفَة الَّتِي قد جرب النَّاس مِنْهَا مثل ماجربتم فصدقت تَارَة وكذبت تَارَة فغاية الحركات النجومية والاتصالات الكوكبية أَن تكون كالعلل والأسباب الْمُشَاهدَة الَّتِي تأثيراتها مَوْقُوفَة على انضمام أُمُور أُخْرَى إِلَيْهَا وارتفاع مَوَانِع تمنعها تأثيرها فَهِيَ أَجزَاء أَسبَاب غير مُسْتَقلَّة وَلَا مُوجبَة هَذَا لَو أقمتم على تأثيرها دَلِيلا فَكيف وَلَيْسَ مَعكُمْ إِلَّا الدَّعَاوَى وتقليد بَعْضكُم بَعْضًا واعتراف حذاقكم بِأَن الَّذِي يجهل من بَقِيَّة الْأَسْبَاب المؤثرة وَمن الْمَوَانِع الصارفة أعظم من الْمَعْلُوم مِنْهَا بأضعاف مضاعفة لَا يدْخل تَحت الْوَهم فَكيف يَسْتَقِيم لعاقل الحكم بعد هَذَا وَهل يكون فِي الْعَالم أكذب مِنْهُ قَالَ صَاحب الرسَالَة وَإِذا كَانَ الْفلك مَتى تشكل شكلا مَا دلّ إِن كَانَ فِي مولد مصري على أَنه يتَزَوَّج أُخْته فَذَلِك سنة كَانَت لَهُم وَعَادَة وَإِن كَانَ فِي مولد غَيره لم يدل على ذَلِك وَنحن نجد أهل مصر فِي وقتنا هَذَا قد زَالُوا عَن تِلْكَ الْعَادة وَتركُوا تِلْكَ السّنة بدخولهم فِي الْإِسْلَام والنصرانية واستعمالهم أحكامهما فَيجب أَن تسْقط هَذِه الدّلَالَة من مواليدهم لزوالهم عَن تِلْكَ الْعَادة أَو تكون الدّلَالَة توجب ذَلِك فِي مولد كل أحد مِنْهُم وَمن غَيرهم أَو تسْقط الدّلَالَة وَتبطل بِزَوَال أهل مصر عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ جُمْهُور أهل فَارس وَأي ذَلِك كَانَ فَهُوَ دَال على قَبِيح المناقضة وَشدَّة المغالطة وَقد رَأَيْت وجههم بطليموس يَقُول فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالأربعة فَيحدث كَذَا وَكَذَا توهمنا أَنه يكون كَذَا وَكَذَا قلت الَّذِي صرح بِهِ بطليموس إِن علم أَحْكَام النُّجُوم بعد استقصاء معرفَة مَا يَنْبَغِي مَعْرفَته إِنَّمَا هُوَ على جِهَة الحدس لَا الْعلم وَالْيَقِين فَمن ذَلِك قَوْله هَذَا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن جَمِيع علم حَال هَذَا العنصر إِنَّمَا يَسْتَقِيم أَن يلْحق على جِهَة الظَّن والحدس لَا على جِهَة الْيَقِين وخاصة مِنْهُ مَا كَانَ مركبا من أَشْيَاء كَثِيرَة غير متشابهة قَالَ شَارِح كَلَامه وَإِنَّمَا ذهب إِلَى ذَلِك لِأَن الْأَفْعَال الَّتِي تصدر عَن الْكَوَاكِب إِنَّمَا هِيَ بطرِيق الْعرض وَإِنَّهَا لَا تفعل بذواتها شَيْئا وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله فِي الْبَاب الثَّانِي من كتاب الْأَرْبَعَة وَإِذا كَانَ الْإِنْسَان قد استقصى معرفَة حَرَكَة جَمِيع الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر حَتَّى أَنه لَا يذهب عَلَيْهِ شَيْء من الْمَوَاضِع والأوقات الَّتِي تحدث لَهَا فِيهَا الأشكال وَكَانَت عِنْده

ص: 174

معرفَة بطبائعها قد أَخذهَا عَن الْأَخْبَار المتواترة الَّتِي تقدمته وَأَن لم يعلم طبائعها فِي نفس جواهرها لَكِن يعلم قواها الَّتِي تفعل بهَا كَالْعلمِ بِقُوَّة الشَّمْس أَنَّهَا تسخن وكالعلم بِقُوَّة الْقَمَر أَنَّهَا ترطب وَكَذَلِكَ يعلم أَمر قوى سَائِر الْكَوَاكِب وَكَانَ قَوِيا على معرفَة أَمْثَال سَائِر هَذِه الْأَشْيَاء لَا على الْمَذْهَب الطبيعي فَقَط لَكِن يُمكنهُ أَيْضا أَن يعلم بجودة الحدس خَواص الْحَال الَّتِي تكون من امتزاج جَمِيع ذَلِك

قَالَ الشَّارِح وبطليموس يرى أَن علم الْأَحْكَام إِنَّمَا يلْحق على جِهَة الحدس لَا على جِهَة الْيَقِين قلت وَكَذَلِكَ صرح أرسطاطا لَيْسَ فِي أول كِتَابه السماع الطبيعي أَنه لَا سَبِيل إِلَى الْيَقِين بِمَعْرِِفَة تَأْثِير الْكَوَاكِب فَقَالَ لما كَانَت حَال الْعلم وَالْيَقِين فِي جَمِيع السبل الَّتِي لَهَا مباديء أَو أَسبَاب أَو استقصا آتٍ إِنَّمَا يلْزم من قبل الْمعرفَة بِهَذِهِ فَإِذا لم تعرف الْكَوَاكِب على أَي وَجه تفعل هَذِه الأفاعيل أَعنِي بذاتها أَو بطرِيق الْعرض وَلم تعرف مَا هيتها وذواتها لم تكن معرفتنا بالشَّيْء أَنه يفعل على جِهَة الْيَقِين

وَهَذَا ثَابت بن قُرَّة وَهُوَ هُوَ عِنْدهم يَقُول فِي كتاب تَرْتِيب الْعلم وَأما علم الْقَضَاء من النُّجُوم فقد اخْتلف فِيهِ أَهله اخْتِلَافا شَدِيدا وَخرج فِيهِ قوم إِلَى ادِّعَاء مَالا يَصح وَلَا يصدق بِمَا لَا اتِّصَال لَهُ بالأمور الطبيعية حَتَّى أدعوا فِي ذَلِك مَا هُوَ من علم الْغَيْب وَمَعَ هَذَا فَلم يُوجد مِنْهُ إِلَى زَمَاننَا هَذَا قريب من التَّمام كَمَا وجد غَيره هَذَا لَفظه مَعَ حسن ظَنّه بِهِ وعدله فِي الْعُلُوم وَهَذَا أَبُو نصر الفارابي يَقُول وَاعْلَم أَنَّك لَو قلبت أوضاع المنجمين فَجعلت السعد نحسا والنحس سَعْدا والحار بَارِدًا والبارد حارا وَالذكر أُنْثَى وَالْأُنْثَى ذكرا ثمَّ حكمت لكَانَتْ أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تَارَة وتخطيء تَارَة

وَهَذَا أَبُو على بن سينا قد أَتَى فِي آخر كِتَابه الشِّفَاء فِي رد هَذَا الْعلم وإبطاله بِمَا هُوَ مَوْجُود فِيهِ وقرأت بِخَط رزق الله المنجم وَكَانَ من زعمائهم فِي كتاب المقايسات لأبي حَيَّان التوحيدي مناظرة دارت بَين جمَاعَة من فضلائهم جمع جمعهم بعض الْمجَالِس فَذَكرتهَا مخلصة ممالا يتَعَلَّق بهَا بل ذكرت مقاصدها قَالَ أَبُو حَيَّان هَذِه مقايسة دارت فِي مجْلِس أبي سُلَيْمَان مُحَمَّد بن ظَاهر بن بهْرَام السجسْتانِي وَعِنْده أَبُو زَكَرِيَّا الصَّيْمَرِيّ والبوشنجاني أَبُو الْفَتْح وَأَبُو مُحَمَّد الْعَرُوضِي وَأَبُو مُحَمَّد المقدسى والقوطسي وَغُلَام زحل وكل وَاحِد من هَؤُلَاءِ إِمَام فِي شَأْنه فَرد فِي صناعته فَقيل فِي الْمجْلس لم خلا علم النُّجُوم من الْفَائِدَة وَالثَّمَرَة وَلَيْسَ علم من الْعُلُوم كَذَلِك فَإِن الطِّبّ لَيْسَ على هَذِه الْحَال ثمَّ ذكرت فَائِدَته وَالْمَنْفَعَة بِهِ وَكَذَلِكَ الْحساب والنحو والهندسة والصنائع ذكرت وَذكرت مَنَافِعهَا وثمراتها ثمَّ قَالَ السَّائِل وَلَيْسَ علم النُّجُوم كَذَلِك فَإِن صَاحبه إِذا استقضى وَبلغ الْحَد الْأَقْصَى فِي معرفَة الْكَوَاكِب وَتَحْصِيل سَيرهَا واقترانها ورجوعها ومقابلتها وتربيعها وتثليثها وتسديسها وضروب مزاجها فِي موَاضعهَا من بروجها وأشكالها ومطالعها ومعاطفها وَمَغَارِبهَا ومشارقها ومذاهبها حَتَّى إِذا

ص: 175

حكم أصَاب وَإِذا أصَاب حقق وَإِذا حقق جزم وَإِذا جزم حتم فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيع الْبَتَّةَ قلب شَيْء عَن شَيْء وَلَا صرف شَيْء عَن شَيْء وَلَا تبعيد حَال قد دنت وَلَا نفي خلة قد كتبت وَلَا رفع سَعَادَة قد حمت وأظلت أعنى أَن أمرءا مَا لَا يقدر على أَن يَجْعَل الْإِقَامَة سفرا وَلَا الْهَزِيمَة ظفرا وَلَا العقد حلا وَلَا الإبرام نقضا وَلَا الْيَأْس رَجَاء وَلَا الإخفاق دركا وَلَا الْعَدو صديقا وَلَا الْوَلِيّ عدوا وَلَا الْبعيد قَرِيبا وَلَا الْقَرِيب بَعيدا فَكَانَ الْعَالم بِهِ الحاذق المتناهي فِي خفياته بعد هَذَا التَّعَب وَالنّصب وَبعد هَذَا الكد والدأب وَبعد هَذِه الكلفة الشَّدِيدَة والمعرفة الغليظة هُوَ مُلْتَزم للمقدار مستجد لما يَأْتِي بِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار وعادت حَاله مَعَ علمه الْكثير إِلَى حَال الْجَاهِل بِهَذَا الْعلم الَّذِي انقياده كانقياده واعتباره كاعتباره وَلَعَلَّ توكل الْجَاهِل أحسن من توكل الْعَالم بِهِ وَرضَاهُ فِي الْخَيْر المشتهي ونجاته من الشَّرّ المتقي أقوى وَأَصَح من رَجَاء هَذَا المدل بزيجه وحسابه وتقويمه واسطر لَا بِهِ وَلِهَذَا لما لَقِي أَبُو الْحُسَيْن النوري مَا نيا المنجم قَالَ لَهُ أَنْت تخَاف زحل وَأَنا أَخَاف رب زحل وَأَنت ترجو الْمُشْتَرى وَأَنا أعبد رب الْمُشْتَرى وَأَنت تعدو بِالْإِشَارَةِ وَأَنا أعدو بالاستخارة فكم بَيْننَا وَهَذَا أَبُو شرْوَان وَكَانَ من الْمُلُوك الأفاضل كَانَ لَا يرفع بالنجوم رَأْسا فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ صَوَابه يشبه الحدس وَخَطأَهُ شَدِيد على النَّفس فَمَتَى أفْضى هَذَا الْفَاضِل النحرير والحاذق الْبَصِير إِلَى هَذَا الْحَد والغاية كَانَ علمه عَارِيا من الثَّمَرَة خَالِيا من الْفَائِدَة حَائِلا عَن النتيجة بِلَا عَائِدَة وَلَا مرجوع وَإِن أمراأوله على مَا قَرَّرْنَاهُ وَآخره على مَا ذَكرْنَاهُ لحري أَن لايشغل الزَّمَان بِهِ وَلَا يُوهب الْعُمر لَهُ وَلَا يعار الْهم والكد وَلَا يعاج عَلَيْهِ بِوَجْه وَلَا سَبَب هَذَا إِن كَانَت الْأَحْكَام صَحِيحَة مدركه مُحَققَة ومصابة مُلْحقَة مَعْرُوفَة محصلة وَلم يكن الْمَذْهَب على مَا زعم أَرْبَاب الْكَلَام وَالَّذين يأبون تَأْثِير هَذِه الأجرام الْعَالِيَة فِي الْأَجْسَام السافلة وينفون الوسائط بَينهمَا والوصائل ويدفعون الفواعل والقوابل ثمَّ السُّؤَال

فَأجَاب كل من هَؤُلَاءِ بِمَا سنح لَهُ فَقَالَ قَائِل مِنْهُم عَن هَذَا السُّؤَال المهول جوابان

أَحدهمَا هُوَ زجر عَن النّظر فِيهِ لِئَلَّا يكون هَذَا الْإِنْسَان مَعَ ضعف تجربته واضطراب غريزته وَضعف بنيته علا على ربه شَرِيكا لَهُ فِي غيبه متكبرا على عباده ظَانّا بِأَنَّهُ فِيمَا يَأْتِي من شَأْنه قَائِم بجده وَقدرته وَحَوله وقوته وتشميره وتقليصه وتهجيره وتقريبه فَأن هَذَا النمط محجز الْإِنْسَان عَن الْخُشُوع لخالقه والإذعان لرَبه ويبعده عَن التَّسْلِيم لمدبره ويحول بَينه وَبَين طرح الْكَاهِل بَين يَدي من هُوَ أملك لَهُ وَأولى بِهِ

وَأما الْجَواب الآخر فَهُوَ بشرى عَظِيمَة على نعْمَة جسيمة لمن حصل لَهُ هَذَا الْعلم وَذَلِكَ سر لَو اطلع عَلَيْهِ وغيب لَو وصل إِلَيْهِ لَكَانَ مَا يجده الْإِنْسَان فِيهِ من الرّوح والراحة وَالْخَيْر فِي العاجلة والآجلة تكفيه مؤنه هَذَا الْخطب الفادح وتغنيه عَن تجشم هَذَا الكد الكادح فَاجْعَلْ أَيهَا الْمُنكر لشرف هَذَا الْعلم

ص: 176

قبل عَيْنك مَا تخفي عَلَيْك خفيه ومكنونه تذللا لله تقدس اسْمه فِيمَا استبان لَك معلومه ووضح عنْدك مظنونه ثمَّ قَالَ أعلم أَن الْعلم بِهِ حق وَلَكِن الْإِصَابَة بعيدَة وَلَيْسَ كل بعيد محالا وَلَا كل قريب صَوَابا وَلَا كل صَوَاب مَعْرُوفا وَلَا كل محَال مَوْصُوفا وَإِنَّمَا كَانَ الْعلم حَقًا وَالِاجْتِهَاد فِيهِ مبلغا وَالْقِيَاس فِيهِ صَوَابا وبذل السَّعْي دونه مَحْمُودًا لاشتبال هَذَا الْعَالم السفلي بذلك الْعَالم الْعلوِي واتصال هَذِه الْأَجْسَام الْقَابِلَة بِتِلْكَ الْأَجْسَام الفاعلة واستحالة هَذِه الصُّور بحركات تِلْكَ المحركات المشاكلة بالوحدة وَإِذا صَحَّ هَذَا الِاتِّصَال والتشابك وَهَذِه الحبال والروابط صَحَّ التَّأْثِير من الْعلوِي وَقبُول التَّأْثِير من السفلي بالمواضع الشعاعية وبالمناسبات الشكلية وَالْأَحْوَال الْخفية والجلية وَإِذا صَحَّ التَّأْثِير من الْمُؤثر وقبوله من الْقَابِل صَحَّ الِاعْتِبَار واستتب الْقيَاس وَصدق الرصد وَثَبت الإلف واستحكمت الْعَادة وانكشفت الْحُدُود وانشالت الْعِلَل وتعاضدت الشواهد وَصَارَ الصَّوَاب غامرا وَالْخَطَأ مغمورا وَالْعلم جوهرا راسخا وَالظَّن عرضا زائلا فَقيل هَل تصح الْأَحْكَام أم لَا فَقَالَ الْأَحْكَام لَا تصح بأسرها وَلَا تبطل من أَصْلهَا وَذَلِكَ سَبَب يتَبَيَّن إِذا أنعم النّظر وَبسط الإصغاء وصمد نَحْو الْفَائِدَة بِغَيْر مُتَابعَة الْهوى وايثار التعصب ثمَّ قَالَ الْأُمُور الْمَوْجُودَة على ضَرْبَيْنِ ضرب لَهُ الْوُجُود الْحق وَضرب لَهُ الْوُجُود وَلَكِن لَيْسَ الْوُجُود الْحق فَأَما الْأُمُور الْمَوْجُودَة بِالْحَقِّ فقد أَعْطَتْ الْأُخْرَى نِسْبَة من جِهَة الْوُجُود الْحق وَأما الْأُمُور الْمَوْجُودَة لَا بِالْحَقِّ فقد أَعْطَتْ الْأُخْرَى نِسْبَة من جِهَة الْوُجُود وارتجعت مِنْهَا حَقِيقِيَّة ذَلِك فَالْحكم بِالِاعْتِبَارِ الفاحص عَن هَذِه الْأَسْرَار إِن أصَاب فبسبب الْوُجُود الَّذِي هُوَ هَذَا الْعَالم السفلي من ذَلِك الْعَالم الْعلوِي وَإِن أَخطَأ فبآفات هَذَا الْعَالم السفلي من ذَلِك الْعَالم الْعلوِي والإصابة فِي هَذِه الْأُمُور السيالة المتبدلة عرض والإصابة فِي أُمُور الْفلك جَوْهَر وَقد يكون هُنَاكَ مَا هُوَ كالخطأ وَلَكِن بِالْعرضِ لَا بِالذَّاتِ كَمَا يكون هَهُنَا لَا هُوَ بِالصَّوَابِ وَالْحق لَكِن بِالْعرضِ لَا بِالذَّاتِ فَلهَذَا صَحَّ بعض الْأَحْكَام وَبَطل بَعْضهَا وَمِمَّا يكون شَاهدا لهَذَا أَن هَذَا الْعَالم السفلي مَعَ تبدله فِي كل حَالَة واستحالته فِي كل طرف ولمح متقبل لذَلِك الْعَالم الْعلوِي يَتَحَرَّك شرقا إِلَى كَمَاله وعشقا لجماله وطلبا للتشبه بِهِ وتحققا بِكُل مَا أمكن من شكله فَهُوَ بِحَق التقبل معط هَذَا الْعَالم السفلي مَا يكون بِهِ مشابها للْعَالم الْعلوِي وَبِهَذَا التقبل يقبل الْإِنْسَان النَّاقِص الْكَامِل وَيقبل الْكَامِل من الْبشر الْملك وَيقبل الْملك الْبَارِي جلّ وَعز

قَالَ آخر إِنَّمَا وَجب هَذَا التقبل والتشبه لِأَن وجود هَذَا الْعَالم وجود متهافت مُسْتَحِيل لَا صُورَة لَهُ ثَابِتَة وَلَا شكل دَائِم وَلَا هَيْئَة مَعْرُوفَة وَكَانَ من هَذَا الْوَجْه فَقِيرا إِلَى مَا يمده ويشده فَأَما مَسحه فَهُوَ مَوْجُود وثابت مُقَابل لذَلِك الْعَالم الْمَوْجُود الثَّابِت وَإِنَّمَا عرض مَا عرض لِأَن أَحدهمَا مُؤثرَة وَالْآخر قَابل فَبِحَق هَذِه الْمرتبَة مَا وجد التواصل وَقَالَ

ص: 177

آخر قد يغْفل مَعَ هَذَا كُله المنجم اعْتِبَار حركات كَثِيرَة من أجرام مُخْتَلفَة لِأَنَّهُ يعجز عَن نظمها وتقويمها ومزجها وتسييرها وتفصيل أحوالها وَتَحْصِيل خواصها مَعَ بعد حَرَكَة بَعْضهَا وَقرب حَرَكَة بَعْضهَا وبطئها وسرعتها وتوسطها والتفاف صورها وَالْتِبَاس تقاطعها وتداخل أشكالها وَمن الْحِكْمَة فِي هَذَا الإغفال أَن الله تقدس اسْمه يتم بذلك الْقدر المقفل والقليل الَّذِي لَا يؤبه وَالْكثير الَّذِي لَا يحاول الْبَحْث عَنهُ أمرؤ لم يكن فِي حسبان الْخلق وَلَا فِيمَا أعملوا فِيهِ الْقيَاس وَالتَّقْدِير والتوهم وَلِهَذَا يحكم هَذَا الحاذق فِي صناعته لهَذَا الْملك وَهَذَا الماهر فِي عمله لهَذَا الْملك ثمَّ يَلْتَقِيَانِ فَتكون الدائرة على أَحدهمَا مَعَ شدَّة الوقاع وَصدق المصاع هَذَا وَقد حكم لَهُ بالظفر والغلب

وَقَالَ آخر وَهُوَ البوشنجاني إِنَّمَا يُؤْتِي أحد الْحَاكِمين لأحد السَّائِلين لَا من جِهَة غلط يكون فِي الْحساب وَلَا من قلَّة مهارة فِي الْعَمَل وَلَكِن يكون فِي طالعه إِن لَا يُصِيب فِي ذَلِك الحكم وَيكون فِي طالع الْملك إِن لَا يُصِيب منجمه فِي تِلْكَ الْحَرْب فَمُقْتَضى حَاله وَحَال صَاحبه يحول بَينه وَبَين الصَّوَاب وَيكون الآخر مَعَ صِحَة حسابه وَحسن إِدْرَاكه قد وَجب فِي طالع نَفسه وطالع صَاحبه ضد ذَلِك فَيَقَع الْأَمر الْوَاجِب وَيبْطل الآخر الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِب وَقد كَانَ المنجمان من جِهَة الْعلم والحساب أعطيا للصناعة حَقّهَا ووفيا مَا عَلَيْهِمَا ووقفا موقفا وَاحِدًا على غير مزية بَيِّنَة وَلَا عِلّة قَائِمَة

قَالَ آخر وَلَوْلَا هَذِه الْبَقِيَّة المندفنة والغاية المستترة الَّتِي اسْتَأْثر الله بهَا لَكَانَ لَا يعرض هَذَا الْخَطَأ مَعَ صِحَة الْحساب ودقة النّظر وَشدَّة الغوص وَتُوفِّي الْمَطْلُوب وَمَعَ غَلَبَة الْهوى والميل إِلَى الْمَحْكُوم لَهُ وَهَذِه الْبَقِيَّة دَائِرَة فِي أُمُور هَذَا الْخلق فاضلهم وناقصهم ومتوسطهم فِي دقيقها وجليلها وصعبها وَمن كَانَ لَهُ فِي نَفسه باعث على التصفح وَالنَّظَر والبحث وَالِاعْتِبَار وقف على مَا أَوْمَأت إِلَيْهِ وَسلم وبحكمة جليلة ضرب الله دون هَذَا الْعلم بالاسداد وطوي حقائقه عَن أَكثر الْعباد وَذَلِكَ أَن الْعلم بِمَا سَيكون وَيحدث وَيسْتَقْبل علم حُلْو عِنْد النَّفس وَله موقع عِنْد الْعقل فَلَا أحد إِلَّا وَهُوَ يتَمَنَّى إِن يعلم الْغَيْب ويطلع عَلَيْهِ وَيدْرك مَا سَوف يكون فِي غَد وبجد سَبِيلا إِلَيْهِ وَلَو ذلل السَّبِيل إِلَى هَذَا الْفَنّ لرأيت النَّاس يهرعون إِلَيْهِ وَلَا يؤثرون شَيْئا آخر عَلَيْهِ لحلاوة هَذَا الْعلم عِنْد الرّوح ولصوقه بِالنَّفسِ وغرام كل أحد بِهِ وفتنة كل إِنْسَان فِيهِ فبنعمة من الله لم يفتح هَذَا الْبَاب وَلم يكْشف دونه الغطاء حَتَّى يرتقي كل أحد رَوْضَة وَيلْزم حَده ويرغب فِيمَا هُوَ أجدى عَلَيْهِ وأنفع لَهُ أما عَاجلا وَأما آجلا فطوى الله عَن الْخلق حقائق الْغَيْب وَنشر لَهُم نبذا مِنْهُ وشيئا يَسِيرا يتعللون بِهِ ليَكُون هَذَا الْعلم محروصا عَلَيْهِ كَسَائِر الْعُلُوم وَلَا يكون مَانِعا من غَيره قَالَ فلولا هَذِه الْبَقِيَّة الَّتِي فضحت الكاملين وأعجزت القادرين لَكَانَ تعجب الْخلق من غرائب الْأَحْدَاث وعجائب الصروف وطرائف الْأَحْوَال عَبَثا وسفها

ص: 178

وتوكلهم على الله لهوا وَلَعِبًا

فَقَالَ آخر وَهَذَا يَتَّضِح بمثال وَليكن الْمِثَال أَن ملكا فِي زَمَانك وبلادك وَاسع الْملك عَظِيم الشَّأْن بعيد الصيت سابغ الهيبة مَعْرُوفا بالحكمة مَشْهُورا بالحزم يضع الْخَيْر فِي موَاضعه ويوقع الشَّرّ فِي مواقعه عِنْده جَزَاء كل سَيِّئَة وثواب كل حَسَنَة قد رتب لبريده أصلح الْأَوْلِيَاء لَهُ وَكَذَلِكَ نصب لجباية أَمْوَاله أقوم النَّاس بهَا وَكَذَلِكَ ولى عمَارَة أرضه أنهض النَّاس بهَا وَشرف آخر بكتابته وَآخر بوزارته وَآخر بنيابته فَإِذا نظرت إِلَى ملكه وجدته مؤزرا بسداد الرَّأْي ومحمود التَّدْبِير وأولياؤه حواليه وحاشيته بَين يَدَيْهِ وكل يحف إِلَى مَا هُوَ مَنُوط بِهِ ويستقصي طاقته ويبذل فِيهِ وَالْملك يَأْمر وَينْهى ويصدر ويورد ويثيب ويعاقب وَقد علم صَغِير أوليائه وَكَبِيرهمْ ووضيع رعاياه وشريفهم وَنبيه النَّاس وخاملهم أَن الْأَمر الَّذِي تعلق بِكَذَا وَكَذَا صدر من الْملك إِلَى كَاتبه لِأَنَّهُ من جنس الْكِتَابَة وعلائقها وَمَا يدْخل فِي شرائطها ووثائقها وَالْأَمر الآخر صدر إِلَى صَاحب بريده لِأَنَّهُ من أَحْكَام الْبَرِيد وفنونه وَالْأَمر الآخر ألْقى إِلَى صَاحب المعونة لِأَنَّهُ من جنس مَا هُوَ مُرَتّب لَهُ مَنْصُوب من أَجله والْحَدِيث الآخر صدر إِلَى القَاضِي لِأَنَّهُ من بَاب الدّين وَالْحكم والفصل وكل هَذَا مُسلم إِلَى الْملك لَا يفتات عَلَيْهِ فِي شَيْء مِنْهُ وَلَا يستبد بِشَيْء دونه فالأحوال على هَذَا كلهَا جَارِيَة على أُصُولهَا وقواعدها فِي مجاريها لَا يرد شَيْء مِنْهَا إِلَى غير شكله وَلَا يرتقي إِلَى غير طبقته فَلَو وقف رجل لَهُ من الحزم نصيب وَمن الْيَقَظَة قسط على هَذَا الْملك الجسيم وتصفح أبوابه بَابا بَابا وَحَالا حَالا وتخلل بَيْتا بَيْتا وَرفع سجفا سجفا لَا يُمكنهُ أَن يعلم بِمَا يثمره لَهُ هَذَا النّظر وميزه لَهُ هَذَا الْقيَاس وأوقعه عَلَيْهِ هَذَا الحدس مَا سيفعله هَذَا الْملك غَدا وَمَا يتَقَدَّم بِهِ إِلَى شهر وَمَا يكَاد يكون مِنْهُ إِلَى سنة وسنتين لِأَنَّهُ يعاني الْأَحْوَال ويقايس بَينهَا ويلتقط أَلْفَاظ الْملك ولحظاته وإشاراته وحركاته وَيَقُول فِي بَعْضهَا رَأَيْت الْملك يفعل كَذَا وَكَذَا وبفعل كَذَا وَكَذَا وَهَذَا يدل على كَذَا وَكَذَا وَإِنَّمَا جرأه هَذِه الجرأة على هَذَا الحكم والبت أَنه قد ملك لحظ الْملك وَلَفظه وحركته وسكونه وتعريضه وتصريحه وجده وهزله وشكله وسجيته وتجعده واسترساله ووجومه ونشاطه وانقباضه وانبساطه وغضبه وَرضَاهُ ثمَّ هجس فِي نفس هَذَا الْملك هاجس وخطر بِبَالِهِ خاطر فَقَالَ أُرِيد أَن أعمل عملا وأوثر أثرا وأحدث حَالا لَا يقف عَلَيْهَا أوليائي وَلَا المطيعون لي وَلَا المختصون بِقَوْلِي وَلَا المتعلقون بحبالي وَلَا أحد من أعدائي المتتبعين لأمري والمحصين لأنفاسي وَلَا أدرى كَيفَ افتتحه وَلَا اقترحه لِأَنِّي مَتى تقدّمت فِي ذَلِك إِلَى كل من يلوذ بِي وَيَطوف بناحيتي كَانَ الْأَمر فِي ذَلِك نَظِير جَمِيع أموري وَهَذَا هُوَ الْفساد الَّذِي يلْزَمنِي تجنبه وَيجب على التيقظ فِيهِ فيقدح لَهُ الْفِكر الثاقب انه يَنْبَغِي أَن يتأهب للصَّيْد ذَات يَوْم فيتقدم بذلك ويذيعه فَيَأْخُذ أَصْحَابه

ص: 179

وخاصته فِي أهبة ذَلِك واعداد الْآلَة فَإِذا تَكَامل ذَلِك لَهُ أصحر للصَّيْد وتقلب فِي الْبَيْدَاء وصمم على مَا يلوح لَهُ وأمعن وَرَاءه وركض خَلفه جَوَاده وَنهى من مَعَه أَن يتبعهُ حَتَّى إِذا وغل فِي تِلْكَ الفجاج الخاوية والمدارج المتنائية وتباعد عَن متن الجادة ووضح المحجة صَادف أنسانا فَوقف وحاوره وفاوضه فَوَجَدَهُ حصينا محصلا يتقدفهما فَقَالَ لَهُ أفيك خير فَقَالَ نعم وَهل الْخَيْر إلافي وَعِنْدِي وَإِلَّا معي الق إِلَى مَا بدا لَك وخلني وَذَلِكَ فَقَالَ لَهُ إِن الْوَاقِف عَلَيْك المكلم لَك ملك هَذَا الإقليم فَلَا ترع وأهدأ فَقَالَ السَّعَادَة فيضتني لَك وَالْجد أطلعك على فَيَقُول لَهُ الْملك أَنِّي أُرِيد أَن أطلعك لأرب فِي نَفسِي وأبلغ بك إِن بلغت لي ذَلِك أُرِيد أَن تكون عينا لي وصاحبا لي نصُوحًا وأطوي سري عَن سلخ فُؤَادك فضلا عَن غَيره فَإِذا بلغ مِنْهُ التوثقة والتوكيد ألقِي إِلَيْهِ مَا يَأْمُرهُ بِهِ ويحثه على السَّعْي فِيهِ وأزاح علته فِي جَمِيع مَا يتَعَلَّق المُرَاد بِهِ ثمَّ ثني عنان دَابَّته إِلَى وَجه عسكره وأوليائه وَالْحق بهم فَقضى وطره ثمَّ عَاد إِلَى سَرِيره وَلَيْسَ عِنْد أحد من رهطه وبطانته وغاشيته وخاصته وعامته علم بِمَا قد أسره إِلَى ذَلِك الْإِنْسَان فَبَيْنَمَا النَّاس على مكانهم وغفلاتهم إِذْ أَصْبحُوا ذَات يَوْم فِي حَادث عَظِيم وخطب جسيم وشأن هائل فَكل يَقُول ذَلِك عِنْد ذَلِك مَا أعجب هَذَا من فعل هَذَا مَتى تهَيَّأ هَذَا هَذَا صَاحب الْبَرِيد لَيْسَ عِنْده مِنْهُ أثر هَذَا صَاحب المعونة وَهُوَ عَن الْخَبَر بمعزل وَهَذَا الْوَزير الْأَكْبَر وَهُوَ متحير وَهَذَا القَاضِي وَهُوَ متفكر وَهَذَا حَاجِبه وَهُوَ ذاهل وَكلهمْ عَن الْأَمر الَّذِي دهم غافل وَقد قضى الْملك مأربته وَأدْركَ حَاجته وَطلب بغيته ونال غَرَضه فَلذَلِك ينظر المنجم إِلَى زحل وَالْمُشْتَرِي والمريخ وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَعُطَارِد والزهرة وَإِلَى البروج وطبائعها وَالرَّأْس والذنب وتقاطهما والهيلاج والكامداه وَإِلَى جَمِيع ماداني هَذَا وقاربه وَكَانَ لَهُ فِيهِ نتيجة وَثَمَرَة فيحسب ويمزج ويرسم فينقلب عَلَيْهِ أَشْيَاء كَثِيرَة من سَائِر الْكَوَاكِب الَّتِي لَهَا حركات بطيئة وآثار مطوية فينبعث فِيمَا أهمله وأغفله وأضرب عَنهُ لم يَتَّسِع لَهُ مَا يملك عَلَيْهِ حسه وعقله وفكره ورويته حَتَّى لَا يدْرِي من أَيْن أَتَى وَمن أَيْن دهى وَكَيف انفرج عَلَيْهِ الْأَمر وأنسد دونه الْمطلب وَفَاتَ الْمَطْلُوب وعزب عَنهُ الرَّأْي هَذَا وَلَا خطأ لَهُ فِي الْحساب وَلَا نقص فِي قصد الْحق وَهَذَا كي يلاذ بِاللَّه وَحده فِي الْأُمُور كلهَا وَيعلم أَنه مَالك الدهور ومدبر الْخَلَائق وَصَاحب الدَّوَاعِي والعلائق والقائم على كل نفس والحاضر عِنْد كل نفس وَأَنه إِذا شَاءَ نفع وَإِذا شَاءَ ضرّ وَإِذا شَاءَ عافا وَإِذا شَاءَ أسقم وَإِذا شَاءَ أغْنى وَإِذا شَاءَ أفقر وَإِذا شَاءَ أَحْيَا وَإِذا شَاءَ أمات وَأَنه كاشف الكربات مغيث ذَوي اللهفات قَاضِي الْحَاجَات مُجيب الدَّعْوَات لَيْسَ فَوق يَده يَد وَهُوَ الْأَحَد الصَّمد على الْأَبَد والسرمد وَقَالَ آخر هَذِه الْأُمُور وَإِن كَانَت منوطة بِهَذِهِ العلويات

ص: 180

مربوطة بالفلكيات عَنْهَا تحدث وَمن جِهَتهَا تنبعث فَإِن فِي عرضهَا مَالا يسْتَحق أَن ينْسب إِلَى شَيْء مِنْهَا إِلَّا على وَجه التَّقْرِيب وَمِثَال ذَلِك ملك لَهُ سُلْطَان وَاسع ونعمة جمة فَهُوَ يفرد كل أحد بِمَا هُوَ لَائِق بِهِ وَبِمَا هُوَ ناهض فِيهِ فيولي بَيت المَال مثلا خَازِنًا أَمينا كَافِيا شهما يفرق على يَده وَيخرج على يَده ثمَّ أَن هَذَا الْملك قد يضع فِي هَذِه الخزانة شَيْئا لَا علم للخازن بِهِ وَقد يخرج مِنْهَا شَيْئا لَا يقف الخازن عَلَيْهِ وَيكون هَذَا مِنْهُ دَلِيلا على ملكه واستبداده وتصرفه وَقدرته

وَقَالَ آخر لما كَانَ صَاحب علم النُّجُوم يُرِيد أَن يقف على أَحْدَاث الزَّمَان ومستقبل الْوَقْت من خير وَشر وخصب وجدب وسعادة ونحس وَولَايَة وعزل ومقام وسفر وغم وَفَرح وفقر ويسار ومحبة وبغض وَجدّة وَعدم ووجدان وعافية وسقم وإلفة وشتات وكساد ونفاق وإصابة وإخفاق وحياة وممات وَهُوَ إِنْسَان نَاقص فِي الأَصْل لِأَن نقصانه بالطبع وكماله بِالْعرضِ وَمَعَ هَذِه الْحَال المحوطة بالنسخ الْمَعْرُوفَة بِالظَّنِّ قد بارى بارئه وَنَازع ربه وتتبع غيبه وتحلل حكمه وعارض مَالِكه فحرمه الله فَائِدَة هَذَا الْعلم وَصَرفه عَن الِانْتِفَاع بِهِ والاستثمار من شجرته وَإِضَافَة إِلَى من لَا يُحِيط بِشَيْء مِنْهُ وَلَا يخل بِشَيْء فِيهِ ونظمه فِي بَاب القسر والقهر وَجعل غَايَة سَعْيه فِيهِ الخيبة وَنِهَايَة علمه بِهِ الْحيرَة وسلط عَلَيْهِ فِي صناعته الظَّن والحدس وَالْحِيلَة والزرق وَالْكذب والختل وَلَو شِئْت لذكرت لَك من ذَلِك صَدرا وَهُوَ مثبوت فِي الْكتب ومنثور فِي الْمجَالِس ومتداول بَين النَّاس فَلذَلِك وأشباهه حط رتبته ورده على عَقِيبه ليعلم أَنه لَا يعلم إِلَّا مَا علم وَأَنه لَيْسَ لَهُ أَن يتخطى بِمَا علم على مَا جهل فَإِن الله سُبْحَانَهُ لَا شريك لَهُ فِي غيبه وَلَا وَزِير لَهُ فِي ربو بَيته وَأَنه يؤنس بِالْعلمِ ليطاع ويعبد ويوحش بِالْجَهْلِ ليفزع إِلَيْهِ ويقصد عز رَبنَا وَجل إِلَهًا وتقدس مشارا إِلَيْهِ وَتَعَالَى مُعْتَمدًا عَلَيْهِ

وَقَالَ آخر وَهُوَ الْعَرُوضِي قد يقوى هَذَا الْعلم فِي بعض الدَّهْر حَتَّى يشغف بِهِ ويدان بتعلمه بِقُوَّة سَمَاوِيَّة وشكل فلكي فيكثر الاستنباط والبحث وتشتد الْعِنَايَة والفكر فتغلب الْإِصَابَة حَتَّى يَزُول الْخَطَأ وَقد يضعف هَذَا الْعلم فِي بعض الدَّهْر فيكثر الْخَطَأ فِيهِ بشكل آخر يَقْتَضِي ذَلِك حَتَّى يسْقط النّظر فِيهِ وَيحرم الْبَحْث عَنهُ وَيكون الدّين حَاضر الطّلب وَالْحكم بِهِ وَقد يعتدل الْأَمر فِي دهر آخر حَتَّى يكون الْخَطَأ فِي قدر ذَلِك الصَّوَاب وَالصَّوَاب فِي قدر الْخَطَأ وَتَكون الدَّوَاعِي والصوارف متكافئة وَيكون الدّين لَا يحث عَلَيْهِ كل الْحَث وَلَا يحظر على طَالبه كل الْحَظْر قَالَ وَهَذَا إِذا صَحَّ تعلق الْأَمر كُله بِمَا يتَّصل بِهَذَا الْعَالم السفلي من ذَلِك الْعَالم الْعلوِي فَإِذا الصَّوَاب وَالْخَطَأ محمولان على القوى المثبتة والأنوار الشائعة والْآثَار الذائعة والعلل الْمُوجبَة والأسباب المتوافية وَقَالَ آخر وَهُوَ البوشنجاني أَيهَا الْقَوْم اختصروا الْكَلَام وقربوا الْبَقِيَّة فَإِن الإطالة مصدة عَن الْفَائِدَة مضلة للفهم والفطنة هَل تصح الْأَحْكَام فَقَالَ غُلَام زحل لَيْسَ عَن هَذَا جَوَاب

ص: 181

يثبت على كل وَجه فصل وَلم يبن ذَلِك قَالَ لِأَن صِحَّتهَا وبطلانها يتعلقان بآثار الْفلك وَقد يقتصى شكل الْفلك فِي زمَان أَن لَا يَصح مِنْهَا شَيْء وَأَن غيص على دقائقها وَبلغ إِلَى أعماقها وَقد يَزُول ذَلِك الشكل فِي وَقت آخر إِلَى أَن يكثر الصَّوَاب فِيهَا وَالْخَطَأ ويتقاربان وَمَتى وقف الْأَمر على هَذَا الْحَد لم يثبت على قَضَاء وَلم يوثق بِجَوَاب

وَقَالَ آخر أَن الله تَعَالَى وتقدس اخترع هَذَا الْعَالم وزينه ورتبه وَحسنه ووشحه ونظمه وهذبه وَقَومه وَأظْهر عَلَيْهِ الْبَهْجَة وأبطن فِي أَثْنَائِهِ الْحِكْمَة وَحقه بِمَ اضْطر الْعُقُول إِلَى تصفحه ومعرفته وحشاه بِكُل مَا حاش النُّفُوس إِلَى علمه وتعليمه والتعجب من أعاجيبه وأمتع الْأَرْوَاح بمحاسنه وأودعه أمورا واستحزنه أسرارا ثمَّ حرك الْأَلْبَاب عَلَيْهَا حَتَّى استثارتها ولقطتها وأحبتها وعشقتها ودارت عَلَيْهَا لِأَنَّهَا عرفت بهَا رَبهَا وخالقها وإلهها وواضعها وصانعها وحافظها وكافلها ثمَّ أَنه تَعَالَى مزج بعض مَا فِيهِ بِبَعْض وَركب بعضه على بعض ونسج بعضه فِي بعض وأمد بعضه من بعض وأحال بعضه إِلَى بعض بوسائط من أشخاص وأجناس وطبائع وأنفس وعلوم وعقول وَتصرف فِي ملكه بقدرته وجوده وحكمته لَا معيب الْفضل وَلَا مَعْدُوم الِاخْتِيَار وَلَا مَرْدُود الْحِكْمَة وَلَا مجحود الذَّات وَلَا مَحْدُود الصِّفَات سُبْحَانَهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا كُله لم يستفد شَيْئا وَلم ينْتَفع بِشَيْء بل اسْتَفَادَ مِنْهُ كل شَيْء وانتفع بِهِ كل شَيْء وَبلغ غَايَته كل شَيْء بِحَسب مادته المنقادة وَصورته الْمُعْتَادَة وَلم يثبت بِشَيْء وَثَبت بِهِ كل شَيْء فَهُوَ الْفَاعِل الْقَادِر الْجواد الْوَاهِب والمنيل الْمفضل وَالْأول السَّابِق فَلَمَّا كَانَ الباحث عَن الْعَالم الْعلوِي يتصفح سكانه وَمَعْرِفَة آثاره ومواقعه وأسراره متعرضا لِأَن يكون مثبتا بهَا لبارئه مناسبا لرَبه بِهَذَا الْوَجْه الْمَعْرُوف اسْتَحَالَ أَن يَسْتَفِيد بِعِلْمِهِ كَمَا اسْتَحَالَ أَن يَسْتَفِيد خالقه بِفِعْلِهِ لمن بِقصد لصوبه وَحكمه لزمَه كليته بَدَت مِنْهُ وَصفته عَادَتْ عَلَيْهِ وَهَذِه حَال إِذا فطن لَهَا وأشرف ببصيرة ثاقبة عَلَيْهَا وَتحقّق بحقيقتها وترقي للخبرة بسني مَا فِيهَا علم اضطرارا عقليا أَنَّهَا أجل وَأَعْلَى وأنفس وأسمى وأدوم وأبقي من جَمِيع فَوَائِد سَابق الْعُلُوم الَّتِي حازها أُولَئِكَ الْعَامِلُونَ لِأَن علم أُولَئِكَ فَوَائِد علومهم فِيمَا حفظ عَلَيْهِم حد الْإِنْسَان وخلقه وعادته وخلقه وشهوته وراحته فِي اجتلاب نفع وَدفع ضَرَر ونقصت رتبتهم عَن ومشابهته والتشبه بخاصته والتحلي بحليته وَلذَلِك جبر الله نقصهم فِي علمهمْ بفوائد نالوها وَمَنَافع خبروها فَأَما من أَرَادَ معرفَة هَذِه الخفايا والأسرار من هَذِه الأجرام والأنوار على مَا هيأت لَهُ ونظمت عَلَيْهِ فَهُوَ حري جدير أَن يعري من جَمِيع مَا وجده صَاحب كل علم فِي علمه من الْمرَافِق وَالْمَنَافِع ويفرد بالحكم من رتبها على مَا هِيَ عَلَيْهِ غير مستفيد بذلك فَائِدَة وَلَا جدوى وَهَذِه لَطِيفَة شريفة مَتى وقف عَلَيْهَا حق الْوُقُوف وتقبلت حَتَّى التقبل كَانَ الْمدْرك لَهَا أجل من كل فَائت وَإِن عز

ص: 182

لِأَنَّهَا بشرية صَارَت إلهيه وجسمية استحالت روحانية وطينية انقلبت نوريه ومركب عَاد بسيطا وجزء اسْتَحَالَ كلا وَهَذَا أَمر قَلما يَهْتَدِي إِلَيْهِ ويتنبه عَلَيْهِ

وَقَالَ آخر وَهُوَ أَبُو سُلَيْمَان المنطقي وَقد سَأَلَهُ أَبُو حَيَّان تِلْمِيذه عَن هَذِه الْأَجْوِبَة وَمَا فِيهَا من حق وباطل أَن هَهُنَا أنفسا خبيثة وعقولا رديه ومعارف خسيسة لَا يجوز لأربابها أَن ينشقوا ريح الْحِكْمَة أَو يتطاولوا إِلَى غرائب الفلسفة والنهى ورد من أَجلهم وَهُوَ حق فَأَما النُّفُوس الَّتِي قوتها الْحِكْمَة وبلغتها الْعلم وعدتها الْفَضَائِل وعقدتها الْحَقَائِق وَذُخْرهَا الْخيرَات وعادتها المكارم وهمتها الْمَعَالِي فَأن النهى لم يُوَجه إِلَيْهَا والعتب لم يُوقع عَلَيْهَا وَكَيف يكون ذَلِك وَقد بَان بِمَا تكَرر من القَوْل أَن فَائِدَة هَذَا الْعلم أجل فَائِدَة وثمرته أجل ثَمَرَة ونتيجته أشرف نتيجة فَلْيَكُن هَذَا كُله كافا عَن سوء الظَّن وكافيا لَك فِيمَا وَقع فِيهِ القَوْل وَطَالَ بَين هَؤُلَاءِ السَّادة الجحاجحة فِي الْعلم والفهم وَالْبَيَان والنصح انْتَهَت الْحِكَايَة فَلْيتَأَمَّل من أنعم الله عَلَيْهِ بِالْعقلِ وَالْعلم وَالْإِيمَان وصانه عَن تَقْلِيد هَؤُلَاءِ وأمثالهم من أهل الْحيرَة والضلال مَا فِي هَذِه المحاورة وَمَا انطوت عَلَيْهِ من اعترافهم بغاية علمهمْ ومستقر أَقْدَامهم فِيهِ وَمَا حكمُوا بِهِ على أنفسهم من مقتضي حِكْمَة الله فيهم أَن يسلبهم ثَمَرَات عُلُوم النَّاس وفوائدها وَأَن يكسوهم لِبَاس الخيبة وقهر النَّاس لَهُم وإذلالهم إيَّاهُم وَإِن يَجْعَل نصيب كل أحد من الْعلم والسعادة فَوق نصِيبهم وَأَن يَجْعَل رزقهم من أَبْوَاب الْكَذِب وَالظَّن والزرق وَهُوَ أَخبث مكاسب الْعَالم ومكسب البغايا وأرباب المواخير خير من مكاسب هَؤُلَاءِ لأَنهم كسبوها بذنوب وشهوات وَهَؤُلَاء اكتسبوا مَا اكتسبوه بِالْكَذِبِ على الله وادعاء مَا يعلمُونَ هم فِيهِ كذب أنفسهم

وَالْعجب من شَهَادَتهم على أنفسهم أَن حِكْمَة الله سُبْحَانَهُ اقْتَضَت ذَلِك فيهم لتعاطيهم مشاركته فِي غيبه والاطلاع على أسرار مَمْلَكَته وتعديهم طور الْعُبُودِيَّة الَّتِي هِيَ سمتهم إِلَى طور الربوبية الَّذِي لم يَجْعَل لأحد سَبِيلا إِلَيْهِ فاقتضت حِكْمَة الْعَزِيز الْحَكِيم إِن عاملهم بنقيض قصودهم وَعكس مراداتهم وَجعل كل وَاحِد فَوْقهم فِي كل مِلَّة وَرمي النَّاس بِاللِّسَانِ الْعَام وَالْخَاص لَهُم بِأَنَّهُم أكذب النَّاس فأنهم هم الزَّنَادِقَة الدهرية أَعدَاء الرُّسُل وسوس المَال وَإِن طالعهم على من حسن الظَّن بهم وتقيد بأحكامهم فِي حركاته وسكناته وتدبيره شَرّ طالع وَالْملك وَالْولَايَة المسوس بهم أذلّ ملك وَأقله وَمن لَهُ شَيْء من تجارب الْأُمَم وأخبار الدول والوزراء وَغَيرهم فَعنده من الْعلم بِهَذَا مَا لَيْسَ عِنْد غَيره وَلِهَذَا الْمُلُوك وَالْخُلَفَاء والوزراء الَّذين لَهُم قبُول فِي الْعَالم وصيت ولسان صدق هم أَعدَاء هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَة كالمنصور والرشيد والمهدى وكخلفاء بني أُميَّة وكالملوك المؤيدين فِي الْإِسْلَام قَدِيما وحديثا كَانُوا أَشد النَّاس إبعاد لهَؤُلَاء عَن أَبْوَابهم وَلم تقم لَهُم سوق فِي عَهدهم إِلَّا عِنْد أشباههم ونظرائهم من كل مُنَافِق متستر بِالْإِسْلَامِ أَو جَاهِل مفرط

ص: 183

فِي الْجَهْل أَو نَاقص الْعقل وَالدّين وَهَؤُلَاء المذكورون فِي هَذِه المحاورة لما صحوا وخلا بَعضهم بِبَعْض وَلم يُمكنهُم أَن يعتمدوا من التلبيس وَالْكذب والزرق مَعَ بَعضهم بَعْضًا مَا يعتمدونه مَعَ غَيرهم تكلمُوا بِمَا عِنْدهم فِي ذَلِك من الإعتراف بِالْجَهْلِ وَأَن الْأَمر إِنَّمَا هُوَ حدس وَظن وزرق وَأَن أَحْوَال الْعَالم الْعلوِي أجل وَأعظم من أَن تدخل تَحت معارفهم وتكال بقفزان عُقُولهمْ وَأَن جهلهم بذلك يُوجب ولابد جهلهم الْأَحْكَام وَأَنَّهُمْ لَا توثق لَهُم بِشَيْء مِمَّا فِيهِ لجَوَاز تشكل الْفلك بشكل يقتضى بطلَان جَمِيع الاحكام وتشكله بشكل يكون بُطْلَانهَا وصحتها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ على السوَاء وَلَيْسَ لَهُم علم بِانْتِفَاء هَذَا الشكل وَلَا بِوَقْت حُصُوله فَإِنَّهُ لَيْسَ جَارِيا على قانون مضبوط وَلَا على حِسَاب مَعْرُوف وَمَعَ هَذَا فَكيف يَنْبَغِي لعاقل الوثوق بِشَيْء من علم أحكامهم وَهَذِه شَهَادَة فضلائهم وأئمتهم وَلَو أَن خصومهم الَّذين لَا يشاركونهم فِي صناعتهم قَالُوا هَذَا القَوْل لم يكن مَقْبُولًا كقبوله مِنْهُم وَالْحَمْد لله الَّذِي أشهد أهل الْعلم وَالْإِيمَان جهل هَؤُلَاءِ وحيرتهم وضلالهم وكذبهم وافترئهم بِشَهَادَتِهِم على نُفُوسهم وعَلى صناعتهم وَأَن اسْتَفَادَ كل ذِي علم بِعَمَلِهِ وكل ذِي صناعَة بصناعته أعظم من استفادتهم بعلمهم وَأَن أحدا مِنْهُم لَا يُمكنهُ أَن يعِيش إِلَّا فِي كنف من لم يحط من هَذَا الْعلم بِشَيْء وَتَحْت ظلّ من هُوَ أَجْهَل النَّاس وَمن الْعجب قَوْلهم أَن طالع أحد الْملكَيْنِ المتغالبين قد يكون مقتضيا أَن لَا يُصِيب منجمه فِي تِلْكَ الْحَرْب وطالع المنجم يَقْتَضِي خطأه فِي ذَلِك الحكم وطالع خَصمه ومنجمه بالضد فليعجب ذُو اللب من هَذَا الهذيان وتهافته فَإِذا كَانَ الطالع مقتضيا أَن لَا يُصِيب المنجم فِي تِلْكَ الْحَرْب وَقد أعْطى الْحساب وَالْحكم حَقه عِنْد أَرْبَاب الْفَنّ بِحَيْثُ يشْهد كل وَاحِد مِنْهُم أَن الحكم مَا حكم بِهِ أفليس هَذَا من أبين الدَّلَائِل على بطلَان الوثوق بالطالع وَأَن الحكم بِهِ حكم بِغَيْر علم وَحكم بِمَا يجوز كذبه فَمَا فِي الْوُجُود أعجب من هَذَا الطالع الصَّادِق الْكَاذِب الْمُصِيب المخطيء وأعجب من هَذَا أَن الطالع بِعَيْنِه يكون قد حكم بِهِ لظفر عَدو هَذَا عَلَيْهِ منجمه فَوَافَقَ الْقَضَاء وَالْقدر ذَلِك الطالع وَذَلِكَ الحكم فَيكون أحد المنجمين قد أصَاب لملكه طالعا وَحكما وَالْآخر قد أَخطَأ لملكه وَقد خرجا بطالع وَاحِد وأعجب من هَذَا كُله تشكل الْفلك بشكل وَحُصُول طالع سعد فِيهِ بِاتِّفَاق ملأكم فَيحدث مَعَه من علو كلمة من لَا يعبؤن بِهِ وَلَا يعدونه وَظُهُور أَمرهم واستيلائهم على المملكة والرئاسة والعز والحياة ولهجهم بذمكم وعيبكم وإبداء جهلكم وزندقتكم وإلحادكم محتاجون أَن تنضوواإليهم وتعتصموا بحبلهم وتترسوا بهم وتقولون لَهُم بألسنتكم مَا تنطوي قُلُوبكُمْ على خلاقه مِمَّا لَو أظهر تموه لكنتم حصائد سيوفهم كَمَا صرتم حصائد ألسنتهم فَأَي سعد فِي هَذَا الطالع لعمري أم أَي خير فِيهِ وليت شعري كَيفَ لم يُوجب لكم هَذَا الطالع بارقة من سَعَادَة أَو لائحا من عز وَقبُول وَلَكِن هَذِه حِكْمَة رب

ص: 184