الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَرَام فَهَذَا معنى كَون الْحسن والقبح ذاتيا للْفِعْل لَا ناشئا من ذَاته وَلَا ريب عِنْد ذَوي الْعُقُول أَن مثل هَذَا يخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمَان والأمكنة وَالْأَحْوَال والأشخاص وَتَأمل حِكْمَة الرب تَعَالَى فِي أمره إِبْرَاهِيم خَلِيله بِذبح وَلَده لِأَن الله اتَّخذهُ خَلِيلًا والخلة منزلَة تقتضى إِفْرَاد الْخَلِيل بالمحبة وَأَن لَا يكون لَهُ فِيهَا مُنَازع أصلا بل قد تخللت محبته جَمِيع أَجزَاء الْقلب وَالروح فَلم يبْق فِيهَا مَوضِع خَال من حبه فضلا عَن أَن يكون محلا لمحبة غَيره فَلَمَّا سَأَلَ إِبْرَاهِيم الْوَلَد وأعطيه أَخذ شُعْبَة من قلبه كَمَا يَأْخُذ الْوَلَد شُعْبَة من قلب وَالِده فغار المحبوب على خَلِيله أَن يكون فِي قلبه مَوضِع لغيره فَأمره بِذبح الْوَلَد ليخرج حبه من قلبه وَيكون الله أحب إِلَيْهِ وآثر عِنْده وَلَا يبْقى فِي الْقلب سوى محبته فوطن نَفسه على ذَلِك وعزم عَلَيْهِ فخلصت الْمحبَّة لوَلِيّهَا ومستحقها فحصلت مصلحَة الْمَأْمُور بِهِ من الْعَزْم عَلَيْهِ وتوطين النَّفس على الِامْتِثَال فَبَقيَ الذّبْح مفْسدَة لحُصُول الْمصلحَة بِدُونِهِ فنسخه فِي حَقه لما صَار مفْسدَة وَأمر بِهِ لما كَانَ عزمه عَلَيْهِ وتوطين نَفسه مصلحَة لَهما فَأَي حِكْمَة فَوق هَذَا وَأي لطف وبر وإحسان يزِيد على هَذَا وَأي مصلحَة فَوق هَذِه الْمصلحَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْأَمر ونسخة وَإِذا تَأَمَّلت الشَّرَائِع الناسخة والمنسوخة وَجدتهَا كلهَا بِهَذِهِ الْمنزلَة فَمِنْهَا مَا يكون وَجه الْمصلحَة فِيهِ ظَاهرا مكشوفا وَمِنْهَا مَا يكون ذَلِك فِيهِ خفِيا لَا يدْرك إِلَّا بِفضل فطنة وجوده إِدْرَاك
فصل وَهَهُنَا سر بديع من أسرار الْخلق وَالْأَمر بِهِ يتَبَيَّن لَك حَقِيقَة الْأَمر
وَهُوَ أَن الله لم يخلق شَيْئا وَلم يَأْمر بِشَيْء ثمَّ ابطله وأعدمه بِالْكُلِّيَّةِ بل لَا بُد أَن يُثبتهُ بِوَجْه مَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا خلقه لحكمة لَهُ فِي خلقه وَكَذَلِكَ أمره بِهِ وشرعه إِيَّاه هُوَ لما فِيهِ من الْمصلحَة وَمَعْلُوم أَن تِلْكَ الْمصلحَة وَالْحكمَة تَقْتَضِي ابقاءه فَإِذا عَارض تِلْكَ الْمصلحَة مصلحَة أُخْرَى أعظم مِنْهَا كَانَ مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ أولى بالخلق وَالْأَمر وَيبقى فِي الأولى مَا شَاءَ من الْوَجْه الَّذِي يتَضَمَّن الْمصلحَة وَيكون هَذَا من بَاب تزاحم الْمصَالح وَالْقَاعِدَة فِيهَا شرعا وخلقا تَحْصِيلهَا واجتماعها بِحَسب الْإِمْكَان فَإِن تعذر قدمت الْمصلحَة الْعُظْمَى وَإِن فَاتَت الصُّغْرَى وَإِذا تَأَمَّلت الشَّرِيعَة والخلق رَأَيْت ذَلِك ظَاهرا وَهَذَا سر قل من تفطن لَهُ من النَّاس فَتَأمل الْأَحْكَام المنسوخة حكما حكما كَيفَ تَجِد الْمَنْسُوخ لم يبطل بِالْكُلِّيَّةِ بل لَهُ بَقَاء بِوَجْه فَمن ذَلِك نسخ الْقبْلَة وَبَقَاء بَيت الْمُقَدّس مُعظما مُحْتَرما تشد إِلَيْهِ الرّحال ويقصد بِالسَّفرِ إِلَيْهِ وَحط الأوزار عِنْده واستقباله مَعَ غَيره من الْجِهَات فِي السّفر فَلم يبطل تَعْظِيمه واحترامه بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن بَطل خُصُوص استقباله بالصلوات فالقصد إِلَيْهِ ليصلى فِيهِ بَاقٍ وَهُوَ نوع من تَعْظِيمه وتشريفه بِالصَّلَاةِ فِيهِ والتوجه إِلَيْهِ قصدا لفضيلته وشرعه لَهُ نِسْبَة من التَّوَجُّه إِلَيْهِ بالاستقبال
بالصلوات فَقدم الْبَيْت الْحَرَام عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَال لِأَن مصْلحَته أعظم وأكمل وَبَقِي قَصده وَشد الرّحال إِلَيْهِ وَالصَّلَاة فِيهِ منشأ للْمصْلحَة فتمت للْأمة المحمدية المصلحتان المتعلقتان بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَهَذَا نِهَايَة مَا يكون من اللطف وَتَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها لَهُم فَتَأمل هَذَا الْموضع وَمن ذَلِك نسخ التَّخْيِير فِي الصَّوْم بتعيينه فَإِن لَهُ بَقَاء وبيانا ظَاهرا وَهُوَ أَن الرجل كَانَ إِذا أَرَادَ أفطر وَتصدق فحصلت لَهُ مصلحَة الصَّدَقَة دون مصلحَة الصَّوْم وَإِن شَاءَ صَامَ وَلم يفد فحصلت لَهُ مصلحَة الصَّوْم دون الصَّدَقَة فحتم الصَّوْم على الْمُكَلف لِأَن مصْلحَته أتم وأكمل من مصلحَة الْفِدْيَة وَندب إِلَى الصَّدَقَة فِي شهر رَمَضَان فَإِذا صَامَ وَتصدق حصلت لَهُ المصلحتان مَعًا وَهَذَا أكمل مَا يكون من الصَّوْم وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَفْعَله النَّبِي فَإِنَّهُ كَانَ أَجود مَا يكون فِي رَمَضَان فَلم تبطل الْمصلحَة الأولى جملَة بل قدم عَلَيْهَا مَا هُوَ أكمل مِنْهَا وجوبا وَشرع الْجمع بَينهَا وَبَين الْأُخْرَى ندبا واستحبابا وَمن ذَلِك نسخ ثبات الْوَاحِد من الْمُسلمين للعشرة من الْعَدو بثباته للإثنين وَلم تبطل الْحِكْمَة الأولى من كل وَجه بل بَقِي اسْتِحْبَابه وَإِن زَالَ وُجُوبه بل إِذا غلب على ظن الْمُسلمين ظفرهم بعدوهم وهم عشرَة أمثالهم وَجب عَلَيْهِم الثَّبَات وَحرم عَلَيْهِم الْفِرَار فَلم تبطل الْحِكْمَة الأولى من كل وَجه وَمن ذَلِك نسخ وجوب الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة الرَّسُول لم يبطل حكمه بِالْكُلِّيَّةِ بل نسخ وُجُوبه وَبَقِي اسْتِحْبَابه وَالنَّدْب إِلَيْهِ وَمَا علم من تنبيهه وإشارته وَهُوَ أَنه إِذا استحبت الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة الْمَخْلُوق فاستحبابها بَين يَدي مُنَاجَاة الله عِنْد الصَّلَوَات وَالدُّعَاء أولى فَكَانَ بعض السّلف الصَّالح يتَصَدَّق بَين يَدي الصَّلَاة وَالدُّعَاء إِذا أمكنه ويتأول هَذِه الْأَوْلَوِيَّة وَرَأَيْت شيخ الْإِسْلَام ابْن تيمة يَفْعَله ويتحراه مَا أمكنه وفاوضته فِيهِ فَذكر لي هَذَا التَّنْبِيه وَالْإِشَارَة وَمن ذَلِك نسخ الصَّلَوَات الْخمسين الَّتِي فَرضهَا الله على رَسُوله لَيْلَة الْإِسْرَاء بِخمْس فَإِنَّهَا لم تبطل بِالْكُلِّيَّةِ بل اثبتت خمسين فِي الثَّوَاب وَالْأَجْر خمْسا فِي الْعَمَل وَالْوُجُوب وَقد أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِعَيْنِه حَيْثُ يَقُول على لِسَان نبيه لَا يُبدل القَوْل لَدَى هِيَ خمس وَهِي خَمْسُونَ فِي الْأجر فَتَأمل هَذِه الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالنعْمَة السابغة فَإِنَّهُ لما اقْتَضَت الْمصلحَة أَن تكون خمسين تكميلا للثَّواب وسوقا لَهُم بهَا إِلَى أعلا الْمنَازل واقتضت أَيْضا أَن تكون خمْسا لعجز الْأمة وضعفهم وَعدم احتمالهم الْخمسين جعلهَا خمْسا من وَجه وَخمسين من وَجه جمعا بَين الْمصَالح وتكميلا لَهَا وَلَو لم نطلع من حكمته فِي شَرعه وَأمره ولطفه بعباده ومراعاة مصالحهم وتحصيلها لَهُم على أتم الْوُجُوه إِلَّا على هَذِه الثَّلَاثَة وَحدهَا لكفى بهَا دَلِيلا على مَا راءها فسبحان من لَهُ فِي كل مَا خلق وَأمر حِكْمَة بَالِغَة شاهدة لَهُ بِأَنَّهُ أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وَأَنه الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَالمين وَمن ذَلِك الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين فَإِنَّهَا كَانَت وَاجِبَة على من حَضَره الْمَوْت ثمَّ نسخ الله ذَلِك بِآيَة الْمَوَارِيث وَبقيت مَشْرُوعَة فِي حق الْأَقَارِب الَّذين لَا يَرِثُونَ