الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالْكُلِّيَّةِ وأنكروها جملَة فَلَا حِكْمَة عِنْدهم وَلَا تَعْلِيل وَلَا محبَّة تزيد على الْمَشِيئَة وَلما أنكر الْمُعْتَزلَة رُجُوع الْحِكْمَة إِلَيْهِ تَعَالَى سلطوا عَلَيْهِم خصومهم فأبدوا تناقضهم وكشفوا عَوْرَاتهمْ وَلما سلك أهل السّنة القَوْل الْوسط وتوسطوا بَين الْفَرِيقَيْنِ لم يطْمع أحد فِي مناقضتهم وَلَا فِي إِفْسَاد قَوْلهم وَأَنت إِذا تَأَمَّلت حجج الطَّائِفَتَيْنِ وَمَا ألزمته كل مِنْهُمَا لِلْأُخْرَى علمت أَن من سلك القَوْل الْوسط لم يلْزمه شَيْء من إلزاماتهم وَلَا تناقضهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين هادي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم
فصل وَقد سلم كثير من النفاة أَن كَون الْفِعْل حسنا أَو قبيحا بِمَعْنى
الملاءمة والمنافرة والكمال وَالنُّقْصَان عَقْلِي وَقَالَ نَحن لَا ننازعكم فِي الْحسن والقبح بِهَذَيْنِ الاعتبارين وَإِنَّمَا النزاع فِي إثْبَاته عقلا بِمَعْنى كَونه مُتَعَلق الْمَدْح والذم عَاجلا وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب آجلا فعندنا لَا مدْخل لِلْعَقْلِ فِي ذَلِك وَإِنَّمَا يعلم بِالسَّمْعِ الْمُجَرّد قَالَ هَؤُلَاءِ فيطلق الْحسن والقبح بِمَعْنى الملاءمة والمنافرة وَهُوَ عَقْلِي وَبِمَعْنى الْكَمَال وَالنُّقْصَان وَهُوَ عَقْلِي وَبِمَعْنى إستلزامه للثَّواب وَالْعِقَاب وَهُوَ مَحل النزاع وَهَذَا التَّفْصِيل لَو أعطي حَقه والتزمت لوازمه رفع النزاع وَأعَاد المسئلة اتفاقية وَأَن كَون الْفِعْل صفة كَمَال أَو نُقْصَان يسْتَلْزم إثباب تعلق الملاءمة والمنافرة لِأَن الْكَمَال مَحْبُوب للْعَالم وَالنَّقْص مبغوض لَهُ وَلَا معنى للملاءمة والمنافرة إِلَّا الْحبّ والبغض فَإِن الله سُبْحَانَهُ يحب الْكَامِل من الْأَفْعَال والأقوال والأعمال ومحبته لذَلِك بِحَسب كَمَاله وَيبغض النَّاقِص مِنْهَا ويمقته ومقته لَهُ بِحَسب نقصانه وَلِهَذَا أسلفنا أَن من أصُول المسئلة إِثْبَات صفة الْحبّ والبغض لله فَتَأمل كَيفَ عَادَتْ المسئلة إِلَيْهِ وتوقفت عَلَيْهِ وَالله سُبْحَانَهُ يحب كل مَا أَمر بِهِ وَيبغض كل مَا نهى عَنهُ وَلَا يُسمى ذَلِك ملاءمة أَو منافرة بل يُطلق عَلَيْهِ الْأَسْمَاء الَّتِي أطلقها على نَفسه وأطلقها عَلَيْهِ رَسُوله من محبته للْفِعْل الْحسن الْمَأْمُور بِهِ وبغضه للْفِعْل الْقَبِيح ومقته لَهُ وَمَا ذَاك إِلَّا لكَمَال الأول ونقصان الثَّانِي فَإِذا كَانَ الْفِعْل مستلزما للكمال وَالنُّقْصَان وأستلزامه لَهُ عَقْلِي والكمال وَالنُّقْصَان يسْتَلْزم الْحبّ والبغض الَّذِي سميتموه ملاءمة ومنافرة واستلزامه عَقْلِي فبيان كَون الْفِعْل حسنا كَامِلا محبوبا مرضيا وَكَونه قبيحا نَاقِصا مسحوطا مبغوضا أَمر عَقْلِي بَقِي حَدِيث الْمَدْح والذم وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَمن أحَاط علما بِمَا اسلفناه فِي ذَلِك انكشفت لَهُ المسئلة واسفرت عَن وَجههَا وَزَالَ عَنْهَا كل شُبْهَة وإشكال فَأَما الْمَدْح والذم فترتبه على النُّقْصَان والكمال والمتصف بِهِ وذمهم لمؤثر النَّقْص والمتصف بِهِ أَمر عَقْلِي فطري وإنكاره يزاحم المكابرة وَأما الْعقَاب فقد قَررنَا أَن ترتبه على فعل الْقَبِيح مَشْرُوط بِالسَّمْعِ وَأَنه إِنَّمَا انتفي عِنْد انْتِفَاء السّمع انْتِفَاء الْمَشْرُوط لانْتِفَاء شَرطه لَا انتفاءه لَا انْتِفَاء سَببه فَإِن سَببه قَائِم ومقتضيه مَوْجُود إِلَّا أَنه لم يتم لتوقف على شَرطه وعَلى
هَذَا فكونه مُتَعَلقا للثَّواب وَالْعِقَاب والمدح والذم عَقْلِي وَأَن كَانَ وُقُوع الْعقَاب مَوْقُوفا على شَرط وَهُوَ وُرُود السّمع وَهل يُقَال أَن الِاسْتِحْقَاق لَيْسَ بِثَابِت لِأَن وُرُود السّمع شَرط فِيهِ هَذَا فِيهِ طَرِيقَانِ للنَّاس وَلَعَلَّ النزاع لَفْظِي فَإِن أُرِيد بالاستحاق الِاسْتِحْقَاق التَّام فَالْحق نَفْيه وَأَن أُرِيد بِهِ قيام السَّبَب والتخلف لفَوَات شَرط أَو وجود مَانع فَالْحق إثْبَاته فَعَادَت الْأَقْسَام الثَّلَاثَة أعنى الْكَمَال وَالنُّقْصَان والملاءمة والمنافرة والمدح والذم إِلَى عرف وَاحِد وَهُوَ كَون الْفِعْل محبوبا أَو مبغوضا وَيلْزم من كَونه محبوبا أَن يكون كمالا وَأَن يسْتَحق عَلَيْهِ الْمَدْح وَالثَّوَاب وَمن كَونه مبعوضا أَن يكون نقصا يسْتَحق بِهِ الذَّم وَالْعِقَاب فَظهر أَن الْتِزَام لَوَازِم هَذَا التَّفْصِيل وإعطاءه حَقه يرفع النزاع وَيُعِيد المسئلة اتفاقية وَلَكِن أصُول الطَّائِفَتَيْنِ تأبى الْتِزَام ذَلِك فَلَا بُد لَهما من التناقص إِذا طردوا أصولهم وَأما من كَانَ أَصله إِثْبَات الْحِكْمَة واتصاف الرب تَعَالَى بهَا وَإِثْبَات الْحبّ والبغض لَهُ وأنهما أَمر وَرَاء الْمَشِيئَة الْعَامَّة فأصول مستلزمه لفروعه وفروعه دَالَّة على أُصُوله فأصوله وفروعه لَا تتناقص وأدلته لَا تتمانع وَلَا تتعارض قَالَ النفاة لَو قدر نَفسه وَقد خلق تَامّ الْخلقَة كَامِل الْعقل دفْعَة وَاحِدَة من أَن يتخلق بأخلاق قوم وَلَا تأدب بتأديب الْأَبَوَيْنِ وَلَا تربي فِي الشَّرْع وَلَا تعلم من متعلم ثمَّ عرض عَلَيْهِ أَمْرَانِ أَحدهمَا الِاثْنَيْنِ أَكثر من الْوَاحِد وَالثَّانِي أَن الْكَذِب قَبِيح بِمَعْنى أَنه يسْتَحق من الله تَعَالَى لوما عَلَيْهِ لم نشك أَنه لَا يتَوَقَّف فِي الأول ويتوقف فِي الثَّانِي وَمن حكم بِأَن الْأَمريْنِ سيان بِالنِّسْبَةِ إِلَى عقله خرج عَن قضايا الْعُقُول وعاند كعناد الفضول كَيفَ وَلَو تقرر عِنْده أَن الله تَعَالَى لَا يتَضَرَّر بكذب وَلَا ينْتَفع بِصدق وَأَن الْقَوْلَيْنِ فِي حكم التَّكْلِيف على وتيرة وَاحِدَة لم يُمكنهُ أَن يرد أَحدهمَا دون الثَّانِي بِمُجَرَّد عقله وَالَّذِي يُوضحهُ أَن الصدْق وَالْكذب على حَقِيقَة ذاتية لَا تتَحَقَّق ذاتهما إِلَّا بأركان تِلْكَ الْحَقِيقَة مثلا كَمَا يُقَال أَن الصدْق إِخْبَار عَن أَمر على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالْكذب أَخْبَار عَن أَمر على خلاف مَا هُوَ بِهِ وَنحن نعلم أَن من أدْرك هَذِه الْحَقِيقَة عرف الْمُحَقق وَلم يخْطر بِبَالِهِ كَونه حسنا أَو قبيحا فَلم يدْخل الْحسن والقبح إِذا فِي صفاتهما الذاتية الَّتِي تحققت حقيقتهما بهَا ولوازمها فِي الْوَهم بالبديهة كَمَا بَينا ولألزمها فِي الْوُجُود ضَرُورَة فَأن من الْأَخْبَار الَّتِي هِيَ صَادِقَة مَا يلام عَلَيْهِ من الدّلَالَة على هرب من ظَالِم وَمن الْأَخْبَار الَّتِي هِيَ كَاذِبَة مَا يُثَاب عَلَيْهَا مثل إِنْكَار الدّلَالَة عَلَيْهِ فَلم يدْخل كَون الْكَذِب قبيحا فِي حد الْكَذِب وَلَا لزمَه فِي الْوَهم وَلَا لزمَه فِي الْوُجُود فَلَا يجوز أَن يعد من الصِّفَات الذاتية الَّتِي تلْزم النَّفس وجودا وعدما عِنْدهم وَلَا يجوز أَن يعد من الصِّفَات التابعة للحدوث فَلَا يعقل بالبديهة وَلَا بِالنّظرِ فَإِن النّظر لَا بُد أَن يرد إِلَى الضَّرُورِيّ أَي
البديهي وَإِذ لَا بديهي فَلَا مرد لَهُ أصلا فَلم يبْق لَهُم إِلَّا الاسترواح إِلَى عادات النَّاس من تَسْمِيَة مَا يضر بهم قبيحا وَمَا يَنْفَعهُمْ حسنا وَنحن لَا ننكر أَمْثَال تِلْكَ الاسامي على أَنَّهَا تخْتَلف بعادة قوم وزمان وَمَكَان دون مَكَان وَإِضَافَة دون إِضَافَة وَمَا يخْتَلف بِتِلْكَ النّسَب والإضافات لَا حَقِيقَة لَهُ فِي الذَّات فَرُبمَا يستحسن قوم ذبح الْحَيَوَان وَرُبمَا يستقبحه قوم وَرُبمَا يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى قوم وزمان حسنا وَرُبمَا يكون قبيحا لَكنا وَضعنَا الْكَلَام فِي حكم التَّكْلِيف بِحَيْثُ يجب الْحسن بِهِ وجوبا يُثَاب عَلَيْهِ قطعا وَلَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ لوم أصلا وَمثل هَذَا يمْتَنع إِدْرَاكه عقلا قَالُوا فَهَذِهِ طَريقَة أهل الْحق على أحسن مَا تقرر وَأحسن مَا تحرر قَالُوا وَأَيْضًا فَنحْن لَا ننكر اشتهار حسن الْفَضَائِل الَّتِي ذكر ضَربهمْ بهَا الْأَمْثَال وقبحها بَين الْخلق وَكَونهَا محمودة مشكورة مثني على فاعلها أَو مذمومه مذموما فاعلها وَلَكنَّا نثبتها إِمَّا بالشرائع وَأما بالأغراض وَنحن إِنَّمَا ننكرها فِي حق الله عز وجل لانْتِفَاء الْأَغْرَاض عَنهُ فإمَّا إِطْلَاق النَّاس هَذِه الْأَلْفَاظ فِيمَا يَدُور بَينهم فيستمد من الْأَغْرَاض وَلَكِن قد تبدو الْأَغْرَاض وتخفي فَلَا ينتبه لَهَا إِلَّا الْمُحَقِّقُونَ قَالُوا وَنحن ننبه على مثارات الْغَلَط فِيهِ وَهِي ثَلَاثَة مثارات يغلط الْوَهم فِيهَا الأولى أَن الْإِنْسَان يُطلق اسْم الْقبْح على مَا يُخَالف غَرَضه وَأَن كَانَ يُوَافق غَرَض غَيره من حَيْثُ أَنه لَا يلْتَفت إِلَى الْغَيْر فَإِن كل طبع مشغوف بِنَفسِهِ ومستحقر لغيره فَيَقْضِي بالقبح مُطلقًا وَرُبمَا يضيف الْقبْح إِلَى ذَات الشَّيْء وَيَقُول هُوَ فِي نَفسه قَبِيح فقد قضى بِثَلَاثَة أُمُور هُوَ مُصِيب فِي وَاحِد مِنْهَا وَهُوَ أصل الاستقباح مخطىء فِي أَمريْن أَحدهمَا إِضَافَة الْقبْح إِلَى ذَاته وغفل عَن كَونه قبيحا لمُخَالفَة غَرَضه وَالثَّانِي حكمه بالقبح مُطلقًا ومنشؤه عدم الِالْتِفَات إِلَى غَيره بل عَن الِالْتِفَات إِلَى بعض أَحْوَال نَفسه فَإِنَّهُ قد يستحسن فِي بعض الْأَحْوَال عين مَا يستقبحه إِذا اخْتلف الْغَرَض الغلطة الثَّانِيَة سَببهَا أَن الْوَهم غَالب لِلْعَقْلِ فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا فِي حَالَة نادرة قد لَا يلْتَفت الْوَهم إِلَى تِلْكَ الْحَالة النادرة عِنْد ذكرهَا كحكمه على الْكَذِب بِأَنَّهُ قَبِيح مُطلقًا وغفلته عَن الْكَذِب الَّذِي يُسْتَفَاد مِنْهُ عصمَة نَبِي أَو ولى وَإِذا قضى بالقبح مُطلقًا وَاسْتمرّ عَلَيْهِ مرّة وتكرر ذَلِك على سَمعه وَلسَانه إنغرس فِي قلبه استقباحه والنفرة مِنْهُ فَلَو وَقعت تِلْكَ الْحَالة النادرة وجد فِي نَفسه نفرة عَنهُ لطول نشوه على الاستقباح فَإِنَّهُ ألقِي إِلَيْهِ مُنْذُ الصِّبَا على سَبِيل التَّأْدِيب والإرشاد أَن الْكَذِب قَبِيح لَا يَنْبَغِي أَن يقدم عَلَيْهِ أحد وَلَا يُنَبه على حسنه فِي بعض الْأَحْوَال خيفة من أَن لَا تستحكم نفرته عَن الْكَذِب فَيقدم عَلَيْهِ وَهُوَ قَبِيح فِي أَكثر الْأَحْوَال وَالسَّمَاع فِي الصغر كالنقش فِي الْحجر وينغرس فِي النَّفس ويجد التَّصْدِيق بِهِ مُطلقًا وَهُوَ صدق لَكِن لَا على الْإِطْلَاق بل فِي أَكثر الْأَحْوَال اعتقده مُطلقًا الغلطة الثَّالِثَة سَببهَا سبق الْوَهم إِلَى الْعَكْس فَأن من رأى شَيْئا مَقْرُونا بِشَيْء يظنّ أَن الشَّيْء لَا محَالة مقرون بِهِ مُطلقًا وَلَا يدْرِي أَن الْأَخَص أبدا مقرون الأعمبالأعم لَا يلْزم
أَن يكون مَقْرُونا بالأخص ومثاله نفرة نفس الَّذِي نهشته الْحَيَّة عَن الْحَبل المرقش اللَّوْن لِأَنَّهُ وجد الْأَذَى مَقْرُونا بِهَذِهِ الصُّورَة فَتوهم أَن هَذِه الصُّورَة مقرونة بالأذى وَكَذَلِكَ ينفر عَن الْعَسَل إِذا شبهه بالعذرة لِأَنَّهُ وجد الاستقذار مَقْرُونا بالرطب الْأَصْفَر فَتوهم أَن الرطب الْأَصْفَر يقْتَرن بِهِ الاستقذار وَقد يغلب عَلَيْهِ الْوَهم حَتَّى يتَعَذَّر الْأكل وَأَن كَانَ حكم الْعقل يكذب الْوَهم وَلَكِن خلقت قوى النَّفس مطيعة للأوهام وَأَن كَانَت كَاذِبَة حَتَّى أَن الطَّبْع ينفر عَن حسناء سميت باسم الْيَهُود إِذْ وجد الِاسْم مَقْرُونا بالقبح فَظن أَن الْقبْح أَيْضا يلازم الِاسْم وَلِهَذَا يُورد على بعض الْعَوام مسئلة عقلية جلية فيقبلها فَإِذا قلت هَذَا مَذْهَب الاشعري أَو المعتزلي أَو الظَّاهِرِيّ أَو غَيره نفر عَنهُ أَن كَانَ سيء الِاعْتِقَاد فِيمَن نسبتها إِلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا طبع الْعَاميّ بل طبع أَكثر الْعُقَلَاء المتوسمين بِالْعلمِ إِلَّا الْعلمَاء الراسخين الَّذين أَرَاهُم الله الْحق حَقًا وقواهم على إتباعه وَأكْثر الْخلق ترى نُفُوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مَعَ علمهمْ بكذبها وَأكْثر أَقْدَام الْخلق وإحجامهم بِسَبَب هَذِه الأوهام فَأن الْوَهم عَظِيم الِاسْتِيلَاء وَكَذَلِكَ ينفر طبع الْإِنْسَان عَن الْمبيت فِي بَيت فِيهِ ميت مَعَ قِطْعَة بِأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّك وَلكنه يتَوَهَّم فِي كل سَاعَة حركته ونطقه قَالُوا فَإِذا انْتَبَهت لهَذِهِ المثارات عرفت بهَا سر القضايا الَّتِي تستحسنها الْعُقُول وسر استحسانها إِيَّاهَا والقضايا الَّتِي تستقبحها الْعُقُول وسر استقباحها لَهَا ولنضرب لذَلِك مثلين وهما مِمَّا يحْتَج بهما علينا أهل الْإِثْبَات
الْمثل الأول الْملك الْعَظِيم المستولي على الأقاليم إِذا رأى ضَعِيفا مشرفا على الْهَلَاك فَإِنَّهُ يمِيل إِلَى إنقاذه ويستحسنه وَأَن كَانَ لَا يعْتَقد أصل الدّين لينتظر ثَوابًا أَو مجازاة وَلَا سِيمَا إِذا لم يعرفهُ الْمِسْكِين وَلم يره بِأَن كَانَ أعمى أَصمّ لَا يسمع الصَّوْت وَأَن كَانَ لَا يُوَافق ذَلِك غَرَضه بل رُبمَا يتعب بِهِ بل يحكم الْعُقَلَاء بِحسن الصَّبْر على السَّيْف إِذا أكره على كلمة الْكفْر أَو على إفشاء السِّرّ وَنقض الْعَهْد وَهُوَ على خلاف غَرَض الْكَفَرَة وعَلى الْجُمْلَة فاستحسان مَكَارِم الْأَخْلَاق وإفاضة النعم لَا يُنكره إِلَّا من عاند الْمثل الثَّانِي الْعَاقِل إِذا سنحت لَهُ حَاجَة وَأمكن قَضَاؤُهَا بِالصّدقِ كَمَا أمكن بِالْكَذِبِ بِحَيْثُ تَسَاويا فِي حُصُول الْغَرَض مِنْهُمَا كل التَّسَاوِي فَإِنَّهُ يُؤثر الصدْق ويختاره ويميل إِلَيْهِ طبعه وَمَا ذَاك إِلَّا لحسنه فلولا أَن الْكَذِب على صفة يجب عِنْده الِاحْتِرَاز عَنهُ وَإِلَّا لما ترجح الصدْق عِنْده قَالُوا وَهَذَا الْغَرَض وَاضح فِي حق من أنكر الشَّرَائِع وَفِي حق من لم تبلغه الدعْوَة حَتَّى لَا يلزموننا كَون التَّرْجِيح بالتكليف فَهَذَا من حججهم وَنحن نجيب عَن ذَلِك فَتبين أَنه لَا يثبت حكم على هذَيْن المثالين فَنَقُول أما قَضِيَّة إنقاذ الْملك وَحسنه حَتَّى فِي حق من لم تبلغه الدعْوَة وَأنكر الشَّرَائِع فسببه دفع الْأَذَى الَّذِي يلْحق الْإِنْسَان من رقة الْقلب وَهُوَ طبع يَسْتَحِيل الأنفكاك عَنهُ وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان يقدر نَفسه فِي تِلْكَ البلية وَيقدر غَيره معرضًا عَن الإنقاذ فيستقبحه مِنْهُ لمُخَالفَة غَرَضه فَيَعُود وَيقدر ذَلِك الاستقباح من المشرف على الْهَلَاك فِي حق نَفسه فَيدْفَع عَن نَفسه ذَلِك الْقبْح
المتوهم فَإِن فرض فِي بَهِيمَة أَو شخص لَا رقة فِيهِ يُفِيد تصَوره لَو تصَوره فَيبقى أَمر آخر وَهُوَ طلب الثَّنَاء على إحسانه فَإِن فرض بِحَيْثُ لَا يعلم أَنه المنفذ فيتوقع أَن يعلم فَيكون ذَلِك التوقع باعثا فَإِن فرض فِي مَوضِع يَسْتَحِيل أَن يعلم فيبقي ميل وترجيح يضاهي نفرة طبع السَّلِيم عَن الْحَبل وَذَلِكَ أَنه رأى هَذِه الصُّورَة مقرونة بالثناء فيظن أَن الثَّنَاء مقرون بهَا بِكُل حَال كَمَا أَنه لما رأى الْأَذَى مَقْرُونا بِصُورَة الْحَبل فطبعه ينفر عَن الْأَذَى فينفر عَن المقرون بِهِ فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مَكْرُوه بل الْإِنْسَان إِذا جَالس من عشقه فِي مَكَان فَإِذا نتهي إِلَيْهِ أحس فِي نَفسه ذَلِك الْمَكَان من غَيره قَالَ الشَّاعِر
أَمر على الديار ديار ليلى
…
أقبل ذَا الْجِدَار وَذَا الجدارا
وَمَا حب الديار شغفن قلبِي
…
وَلَكِن حب من سكن الديارا
وَقَالَ ابْن الرُّومِي منبها على سَبَب حب الأوطان
وحبب أوطان الرِّجَال إِلَيْهِم
…
مآرب قَضَاهَا الشَّبَاب هنالكا
إِذا ذكرُوا أوطانهم ذكر تهموا
…
عهودا جرت فِيهَا فحنوا لذلكا
قَالَ وشواهد ذَلِك مِمَّا يكثر وكل ذَلِك من حكم الْوَهم قَالُوا وَأما الصَّبْر على السَّيْف فِي تَركه كلمة الْكفْر مَعَ طمأنينة النَّفس فَلَا يستحسنه جَمِيع الْعُقَلَاء لَوْلَا الشَّرْع بل رُبمَا استقبحوه فَإِنَّمَا يستحسنه من ينْتَظر الثَّوَاب على الصَّبْر أَو من ينْتَظر الثَّنَاء عَلَيْهِ بالشجاعة والصلابة فِي الدّين فكم من شُجَاع ركب متن الْخطر وهجم على عدد وَهُوَ يعلم أَنه لَا يطيقهم ويستحقر مَا يَنَالهُ من الْأَلَم لما يعتاضه من توهم الثَّنَاء وَالْحَمْد وَلَو بعد مَوته وَكَذَلِكَ إخفاء السِّرّ وَحفظ الْعَهْد إِنَّمَا يتواصى النَّاس بهما لما فيهمَا من الْمصَالح وَلذَلِك أَكْثرُوا الثَّنَاء عَلَيْهِمَا فَمن يحْتَمل الضَّرَر لَا لله فَإِنَّمَا يحْتَملهُ لأجل الثَّنَاء فَإِن فرض من لَا يستولي عَلَيْهِ هَذَا الْوَهم وَلَا ينْتَظر الثَّنَاء وَالثَّوَاب فَهُوَ يستقبح السَّعْي فِي هَلَاك نَفسه بِغَيْر فَائِدَة ويستحمق من يفعل ذَلِك قطعا فَمن يسلم أَن مثل ذَلِك يُؤثر الْهَلَاك على الْحَيَاة قَالُوا وَهَذَا هُوَ الْجَواب عَمَّن عرضت لَهُ حَاجَة وَأمكن قَضَاؤُهَا بِالصّدقِ وَالْكذب واستويا عِنْده وإيثاره الصدْق على أَنا نقُول تَقْدِير اسْتِوَاء الصدْق وَالْكذب فِي الْمَقْصُود مَعَ قطع النّظر عَن الْغَيْر تَقْدِير مُسْتَحِيل لِأَن الصدْق وَالْكذب متنافيان وَمن الْمحَال تَسَاوِي المتنافيين فِي جَمِيع الصِّفَات فلأجل ذَلِك التَّقْدِير المستحيل يستبعد الْعقل إِيثَار الْكَذِب وَمنع إِيثَار الصدْق قَالُوا وَلَا يلْزم من استبعاد منع إِيثَار الصدْق على التَّقْدِير المستحيل استبعاده فِي نفس الْأَمر وَإِنَّمَا يلْزم لَو كَانَ التَّقْدِير المستلزم وَاقعا وَهُوَ مَمْنُوع قَالُوا وَلَئِن سلمنَا أَن ذَلِك التَّقْدِير مُمكن فغايته أَن يدل على حسن الصدْق شَاهدا وَلَكِن لَا
يلْزم حسنه غَائِبا إِلَّا بطرِيق قِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد وَهُوَ فَاسد لوضوح الْفرق الْمَانِع من الْقيَاس وَالَّذِي يقطع دابر الْقيَاس أَن السَّيِّد لَو رأى عبيده وإماءه يموج بَعضهم فِي بعض ويركبون الظُّلم وَالْفَوَاحِش وَهُوَ مطلع عَلَيْهِم قَادر على مَنعهم لقبح ذَلِك مِنْهُ وَالله عز وجل قد فعل ذَلِك بعباده بل أعانهم وأمدهم وَلم يقبح مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَلَا يَصح قَوْلهم انه سُبْحَانَهُ تَركهم لينزجروا بِأَنْفسِهِم ليستحقوا الثَّوَاب لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قد علم أَنهم لَا ينزجرون وَلم لم يمنعهُم قهرا فكم من مَمْنُوع من الْفَوَاحِش لعِلَّة وَعجز وَذَلِكَ أحسن من تَمْكِينه مَعَ الْعلم بِأَنَّهُ لَا ينزجر وَبِالْجُمْلَةِ فَقِيَاس أَفعَال الله على أَفعَال الْعباد بَاطِل قطعا ومحض التَّشْبِيه فِي الْأَفْعَال وَلِهَذَا جمعت الْمُعْتَزلَة الْقَدَرِيَّة بَين التعطيل فِي الصِّفَات والتشبيه فِي الْأَفْعَال فهم معطلة مشبهة لباسهم معلم من الطَّرفَيْنِ كَيفَ وَأَن إنقاذ الغريق الَّذِي استدللتم بِهِ حجَّة عَلَيْكُم فَإِن نفس الإغراق والإهلاك يحسن مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَلَا يقبح وَهُوَ أقبح شَيْء منا فالأنقاذ إِن كَانَ حسنا فالإغراق يجب أَن يكون قبيحا فَإِن قُلْتُمْ لَعَلَّ فِي ضمن الإغراق والإهلاك سرا لم نطلع عَلَيْهِ وغرضا لم نصل إِلَيْهِ فقدروا مثله فِي ترك إنقاذنا نَحن للغرقى بل فِي إهلاكنا لمن نهلكه والفعلان من حَيْثُ التَّكْلِيف والإيجاب مستويان عقلا وَشرعا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يتَضَرَّر بِمَعْصِيَة العَبْد وَلَا ينْتَفع بِطَاعَتِهِ وَلَا تتَوَقَّف قدرته فِي الْإِحْسَان إِلَى العَبْد على فعل يصدر من العَبْد بل كلما أنعم عَلَيْهِ ابْتِدَاء بأجزل الْمَوَاهِب وَأفضل العطايا من حسن الصُّورَة وَكَمَال الْخلقَة وقوام البنية وإعداد الْآلَة وإتمام الأداة تَعْدِيل الْقَامَة وَمَا متعهُ بِهِ من روح الْحَيَاة وفضله من حَيَاة الْأَرْوَاح وَمَا أكْرمه بِهِ من قبُول الْعلم وهداه إِلَى مَعْرفَته الَّتِي هِيَ أَسْنَى جوائزه وَأَن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها فَهُوَ سُبْحَانَهُ أقدر على الإنعام عَلَيْهِ دواما فَكيف يُوجب على العبيد عبَادَة شاقة فِي الْحَال لارتقاب ثَوَاب فِي ثَانِي الْحَال أَلَيْسَ لَو ألقِي إِلَيْهِ زِمَام الِاخْتِيَار حَتَّى يفعل مَا يَشَاء جَريا على سوق طبعه المائل إِلَى لذيذ الشَّهَوَات ثمَّ أجزل لَهُ فِي الْعَطاء من غير حِسَاب كَانَ ذَلِك أروح للْعَبد وَلم يكن قبيحا عِنْد الْعقل فقد تعَارض الْأَمْرَانِ:
أَحدهمَا أَن يكلفهم فيأمر وَينْهى حَتَّى يطاع ويعصى ثمَّ يثيبهم ويعاقبهم على فعلهم الثَّانِي أَنه لَا يكلفهم بِأَمْر وَلَا نهى إِذْ لَا ينْتَفع سُبْحَانَهُ مِنْهُم بِطَاعَة لَا يتَضَرَّر مِنْهُم بِمَعْصِيَة كلا بل لَا تكون نعمه ثَوابًا بل ابْتِدَاء وَإِذا تعَارض فِي الْعُقُول هَذَانِ الْأَمْرَانِ فَكيف يَهْتَدِي الْعقل إِلَى اخْتِيَار أَحدهمَا حَقًا وقطعا فَكيف تعرفنا الْعُقُول وجوبا على النَّفس بالمعرفة وعَلى الْجَوَارِح بِالطَّاعَةِ وعَلى الْبَارِي سُبْحَانَهُ بالثواب وَالْعِقَاب قَالُوا وَلَا سِيمَا على أصُول الْمُعْتَزلَة الْقَدَرِيَّة فَإِن التَّكْلِيف بِالْأَمر والنهى والإيجاب من الله لَا حَقِيقَة لَهُ على أصلهم فَإِنَّهُ لَا يرجع إِلَى ذَات الرب تَعَالَى صفة يكون بهَا آمرا ناهيا مُوجبا مُكَلّفا بِالْأَمر والنهى لِلْخلقِ وَمَعْلُوم أَنه لَا يرجع إِلَى ذَاته من الْخلق صفة
وَالْعقل عِنْدهم إِنَّمَا يعرفهُ على هَذِه الصّفة ويستحيل عِنْدهم أَن يعرفهُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي وَيطْلب مِنْهُ شَيْئا أَو يَأْمُرهُ وينهاه بِشَيْء كَمَا يعقل كَمَا يعقل الْأَمر وَالنَّهْي بِالطَّلَبِ الْقَائِم بالآمر والناهي فَإِذا لم يقم بِهِ طلب اسْتَحَالَ أَن يكون آمرا ناهيا فغاية الْعقل عِنْدهم أَن يعرفهُ على صفة يَسْتَحِيل عَلَيْهِ الاتصاف بِالْأَمر والنهى فَكيف يعرفهُ على صفة يُرِيد مِنْهُ طَاعَة فَيسْتَحق عَلَيْهَا ثَوابًا أَو يكره مِنْهُ مَعْصِيّة يسْتَحق عَلَيْهَا عقَابا وَإِذ لَا أَمر وَلَا نهى يعقل فَلَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة إِذا هما فرع الْأَمر والنهى فَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب إِذْ هما فرع الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَغَايَة مَا يَقُولُونَ أَنه يخلق فِي الْهَوَاء أَو فِي بَحر أفعل أَو لَا تفعل بِشَرْط أَن لَا يدل الْأَمر والنهى الْمَخْلُوق على صفة فِي ذَاته غير كَونه عَالما قَادِرًا وَمَعْلُوم أَن هَذَا لَا يدل أَلا على كَون الْفَاعِل قَادِرًا عَالما حَيا مرِيدا لفعله وَأما دلَالَته على حَقِيقَة الْأَمر والنهى المستلزمة للطاعة وَالْمَعْصِيَة المستلزمين للثَّواب وَالْعِقَاب فَلَا فتعرف من ذَلِك أَن من نفي قيام الْكَلَام وَالْأَمر والنهى بِذَات الله لم يُمكنهُ إِثْبَات التَّكْلِيف على العَبْد أبدا وَلَا إِثْبَات حكم للْفِعْل بِحسن وَلَا قبح وَفِي ذَلِك إبِْطَال الشَّرَائِع جملَة مَعَ استنادها إِلَى قَول من قَامَت الْبَرَاهِين على صدقه ودلت المعجزة على نبوته فضلا عَن الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة المتعارضة المستندة إِلَى عادات النَّاس الْمُخْتَلفَة بِالْإِضَافَة وَالنّسب والأزمنة والأمكنة والأقوال وَقد عرف بِهَذَا أَن من نفي قَول الله وَكَلَامه فقد نفي التَّكْلِيف جملَة وَصَارَ من أَخبث الْقَدَرِيَّة وشرهم مقَالَة حَيْثُ أثبت تكليفا وإيجابا وتحريما بِلَا أَمر وَلَا نهي وَلَا اقْتِضَاء وَلَا طلب وَهَذِه مقدرته فِي حق الرب تَعَالَى وَأثبت فعلا وَطَاعَة ومعصية بِلَا فَاعل وَلَا مُحدث وَهَذِه مقدرته فِي حق العَبْد فليتنبه لهَذِهِ الثَّلَاثَة
قَالُوا وَأَيْضًا فَمَا من معنى يستنبط من قَول أَو فعل ليربط بِهِ حكم مُنَاسِب لَهُ إِلَّا وَمن جنسه فِي الْعقل أَمر آخر يُعَارضهُ يُسَاوِيه فِي الدرجَة أَو يفضل عَلَيْهِ فِي الْمرتبَة فيتحير الْعقل فِي الِاخْتِيَار إِلَى أَن يرد شرع يخْتَار أَحدهمَا ويرجحه من تلقائة فَيجب على الْعَاقِل اعْتِبَاره واختياره لترجيح الشَّرْع لَهُ لَا لرجحانه فِي نَفسه ونضرب لذَلِك مِثَالا فَنَقُول إِذا قتل إِنْسَان مثله عرض لِلْعَقْلِ الصَّرِيح هَاهُنَا آراء متعارضة
مُخْتَلفَة مِنْهَا أَنه يجب أَن يقتل قصاصا ردعا للجناة وزجرا للطغاة وحفظا للحياة وشفاء للغيظ وتبريدا لحر الْمُصِيبَة اللاحقة لأولياء الْقَتِيل ويعارضه معنى آخر أَنه إِتْلَاف بازاء إِتْلَاف وعدوان فِي مُقَابلَة عدوان وَلَا يحيا الأول بقتل الثَّانِي فَفِيهِ تَكْثِير الْمفْسدَة بإعدام النفسين وَأما مصلحَة الردع والزجر واستبقاء النَّوْع فَأمر متوهم وَفِي الْقصاص اسْتِهْلَاك مُحَقّق فقد تعَارض الْأَمر ان وَرُبمَا يُعَارضهُ أَيْضا معنى ثَالِث وَرَاء هما فيفكر الْعقل أيراعى شَرَائِط آخر وَرَاء مُجَرّد الإنسانية من الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْعلم وَالْجهل والكمال وَالنَّقْص والقرابة والأجنبية أَولا فيتحير الْعقل كل التحير فَلَا بُد إِذا من شَارِع يفصل هَذِه الخطة ويقرر قانونا يطرد عَلَيْهِ أَمر الْأمة وتستقيم عَلَيْهِ مصالحهم
وَظهر بِهَذَا أَن الْمعَانِي المستنبطة إِذا كَانَت رَاجِعَة إِلَى مُجَرّد استنباط الْعقل فَيلْزم من ذَلِك أَن تكون الْحَرَكَة الْوَاحِدَة مُشْتَمِلَة على صِفَات متناقضة واحوال متنافرة وَلَيْسَ معنى قَوْلنَا أَن الْعقل استنبط مِنْهَا أَنَّهَا كَانَت مَوْجُودَة فِي الشَّيْء فاستخرجها الْعقل بل الْعقل تردد بَين إضافات الْأَحْوَال بَعْضهَا إِلَى بعض وَنسب الْأَشْخَاص والحركات نوعا إِلَى نوع وشخصا إِلَى شخص فيطرأ عَلَيْهِ من تِلْكَ الْمعَانِي مَا حكيناه وأحصيناه وَرُبمَا يبلغ مبلغا يشذ عَن الإحصاء فَعرف بذلك أَن الْمعَانِي لم ترجع إِلَى الذَّات بل مُجَرّد الخواطر الطارئة على الأَصْل وَهِي متعارضة
قَالُوا وَأَيْضًا لوثبت الْحسن والقبح العقليان لتَعلق بهما الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم شَاهدا وغائبا على العَبْد والرب وَاللَّازِم محَال فالملزوم كَذَلِك
أما الْمُلَازمَة فقد كفانا أهل الْإِثْبَات تقريرها بالتزامهم أَنه يجب على العَبْد عقلا بعض الْأَفْعَال الْحَسَنَة وَيحرم عَلَيْهِ الْقَبِيح وَيسْتَحق الثَّوَاب وَالْعِقَاب على ذَلِك وَأَنه يجب على الرب تَعَالَى فعل الْحسن ورعاية الصّلاح والأصلح وَيحرم عَلَيْهِ فعل الْقَبِيح وَالشَّر ومالا فَائِدَة فِيهِ كالعبث وَوَضَعُوا بعقولهم شَرِيعَة أوجبوا بهَا على الرب تَعَالَى وحرموا عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدهم ثَمَرَة المسئلة وفائدتها وَأما انْتِفَاء اللَّازِم فَإِن الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم بِدُونِ الشَّرْع مُمْتَنع إِذْ لَو ثَبت بِدُونِهِ لقامت الْحجَّة بِدُونِ الرُّسُل وَالله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أثبت الْحجَّة بالرسل خَاصَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل وَأَيْضًا فَلَو ثَبت بِدُونِ الشَّرْع لَا يسْتَحق الثَّوَاب وَالْعِقَاب عَلَيْهِ وَقد نفى الله سُبْحَانَهُ الْعقَاب قبل الْبعْثَة فَقَالَ وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا وَقَالَ تَعَالَى وهم يصطرخون فِيهَا رَبنَا أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل أولم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر وَجَاءَكُم النذير فَإِنَّمَا احْتج عَلَيْهِم بالنذير وَقَالَ تَعَالَى وَنَادَوْا يَا مَالك ليَقْضِ علينا رَبك قَالَ إِنَّكُم مَاكِثُونَ لقد جئناكم بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَكُم للحق كَارِهُون وَالْحق هَاهُنَا هُوَ مَا بعث بِهِ المُرْسَلُونَ بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين وَقَالَ تَعَالَى كلما ألْقى فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال كَبِير وَقَالَ تَعَالَى وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين فَلَا يسألهم تبارك وتعالى عَن مُوجبَات عُقُولهمْ بل عَمَّا أجابوا بِهِ رسله فَعَلَيهِ يَقع الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَقَالَ تَعَالَى ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَلا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين وَأَن اعبدوني هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم فاحتج عَلَيْهِم تبارك وتعالى بِمَا عَهده إِلَيْهِم على أَلْسِنَة رسله خَاصَّة فَإِن عَهده هُوَ أمره وَنَهْيه الَّذِي بلغته رسله وَقَالَ تَعَالَى وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين فَهَذَا فِي حكم الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم على الْعباد قبل الْبعْثَة وَأما انْتِفَاء الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم على من لَهُ الْخلق وَالْأَمر وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل فَمن وُجُوه مُتعَدِّدَة
أَحدهَا أَن الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم فِي حَقه سُبْحَانَهُ غير
مَعْقُول على الْإِطْلَاق وَكَيف يعلم أَنه سُبْحَانَهُ يجب عَلَيْهِ أَن يمدح ويذم ويثيب ويعاقب على الْفِعْل بِمُجَرَّد الْعقل وَهل ذَلِك إِلَّا مغيب عَنَّا فيمَ نَعْرِف أَنه رضى عَن فَاعل وَسخط على فَاعل وَأَنه يثيب هَذَا ويعاقب هَذَا وَلم يخبر عَنهُ بذلك مخبر صَادِق وَلَا دلّ على مواقع رِضَاهُ وَسخطه عقل وَلَا أخبر عَن محكومه ومعلومه مخبر فَلم يبْق إِلَّا قِيَاس أَفعاله على أَفعَال عباده وَهُوَ من أفسد الْقيَاس وأعظمه بطلانا فَأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنه لَيْسَ كمثله شَيْء فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته فَكَذَلِك لَيْسَ كمثله شَيْء فِي أَفعاله وَكَيف يُقَاس على خلقه فِي أَفعاله فَيحسن مِنْهُ مَا يحسن مِنْهُم ويقبح مِنْهُ مَا يقبح مِنْهُم وَنحن نرى كثيرا من الْأَفْعَال تقبح منا وَهِي حَسَنَة مِنْهُ تَعَالَى كإيلام الْأَطْفَال وَالْحَيَوَان وإهلاك من لَو أهلكناه نَحن لقبح منا من الْأَمْوَال والأنفس وَهُوَ مِنْهُ تَعَالَى مستحسن غير مستقبح وَقد سُئِلَ بعض الْعلمَاء عَن ذَلِك فَأَنْشد السَّائِل
ويقبح من سواك الْفِعْل عِنْدِي
…
فتفعله فَيحسن مِنْك ذاكا
وَنحن نرى ترك إنقاذ الفرقي والهلكي قبيحا منا وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذا أغرقهم وأهلكهم لم يكن قبيحا مِنْهُ ونرى ترك أَحَدنَا عبيده وإماءه يقتل بَعضهم بَعْضًا ويسيء بَعضهم بَعْضًا وَيفْسد بَعضهم بَعْضًا وَهُوَ مُتَمَكن من مَنعهم قبيحا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قد ترك عباده كَذَلِك وَهُوَ قَادر على مَنعهم وَهُوَ مِنْهُ حسن غير قَبِيح وَإِذا كَانَ هَذَا شَأْنه سُبْحَانَهُ وشأننا فَكيف يصبح قِيَاس أَفعاله على أفعالنا فَلَا يدْرك إِذا للْوُجُوب وَالتَّحْرِيم عَلَيْهِ وَجه كَيفَ والإيجاب وَالتَّحْرِيم يَقْتَضِي مُوجبا ومحرما آمرا ناهيا وَبَينه فرق وَبَين الَّذِي يجب عَلَيْهِ وَيحرم وَهَذَا محَال فِي حق الْوَاحِد القهار فالإيجاب وَالتَّحْرِيم طلب للْفِعْل وَالتّرْك على سَبِيل الاستعلاء فَكيف يتَصَوَّر غَائِبا
قَالُوا وَأَيْضًا فَلهَذَا الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم اللَّذين زعمتم على الله لَوَازِم فَاسِدَة يدل فَسَادهَا على فَسَاد الْمَلْزُوم اللَّازِم الأول إِذا أوجبتم على الله تَعَالَى رِعَايَة الصّلاح والأصلح فِي أَفعاله فَيجب أَن توجبوا على العَبْد رِعَايَة الصّلاح والأصلح أَيْضا فِي أَفعاله حَتَّى يَصح اعْتِبَار الْغَائِب بِالشَّاهِدِ وَإِذا لم يجب علينا رعايتهما بالِاتِّفَاقِ بِحَسب الْمَقْدُور بَطل ذَلِك فِي الْغَائِب وَلَا يَصح تفريقكم بَين الْغَائِب وَالشَّاهِد بالتعب وَالنّصب الَّذِي يلْحق الشَّاهِد دون الْغَائِب لآن ذَلِك لَو كَانَ فارقا فِي مَحل الْإِلْزَام لَكَانَ فارقا فِي أصل الصّلاح فَأن ثَبت الْفرق فِي صفته ومقداره ثَبت فِي أَصله وَأَن بَطل الْفرق ثَبت الْإِلْزَام الْمَذْكُور اللَّازِم الثَّانِي إِن القربات من النَّوَافِل صَلَاح فَلَو كَانَ الصّلاح وَاجِبا وَجب وجوب الْفَرَائِض اللَّازِم الثَّالِث أَن خُلُود أهل النَّار فِي النَّار يجب أَن يكون صلاحا لَهُم دون أَن يردوا فيعتبوا رَبهم ويتوبوا إِلَيْهِ وَلَا ينفعكم اعتذاركم عَن هَذَا الْإِلْزَام بِأَنَّهُم لوردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ فَإِن هَذَا حق وَلَكِن لَو أماتهم وأعدمهم فَقطع عتابهم كَانَ أصلح لَهُم وَلَو غفر لَهُم ورحمهم وأخرجهم من النَّار كَانَ أصلح لَهُم من إماتتهم
واعدا مُهِمّ وَلم يتَضَرَّر سُبْحَانَهُ بذلك
اللَّازِم الرَّابِع أَن مَا فعله الرب تَعَالَى من الصّلاح وألاصلح وَتَركه من الْفساد والعبث لَو كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ لما اسْتوْجبَ بِفِعْلِهِ لَهُ حمدا وثناء فَإِنَّهُ فِي فعله ذَلِك قد قضي مَا وَجب عَلَيْهِ وَمَا استوجبه العَبْد بِطَاعَتِهِ من ثَوَابه فَإِنَّهُ عنْدكُمْ حَقه الْوَاجِب لَهُ على ربه وَمن قضى دينه لم يسْتَوْجب بِقَضَائِهِ شَيْئا آخر
اللَّازِم الْخَامِس أَن خلق إِبْلِيس وَجُنُوده أصلح لِلْخلقِ وأنفع لَهُم من أَن لم يخلق مَعَ أَن إقطاعه من الْعباد من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتسْعُونَ اللَّازِم السَّادِس انه مَعَ كَون خلقه أصلح لَهُم وأنفع أَن يكون أنظاره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أصلح لَهُم وأنفع من إهلاكه وإماتته
اللَّازِم السَّابِع أَن يكون تَمْكِينه من إغوائهم وجريانه مِنْهُم مجْرى الدَّم فِي أبشارهم أَنْفَع لَهُم وَأصْلح لَهُم من أَن يُحَال بَينهم وَبَينه
اللَّازِم الثَّامِن أَن يكون إماتة الرُّسُل أصلح للعباد من بقائهم بَين أظهرهم مَعَ هدايتهم لَهُم وَأصْلح من أَن يُحَال بَينهم وَبَينه اللَّازِم الثَّامِن أَن يكون إمانة الرُّسُل أصلح للعباد من بقائهم بَين أظهرهم مَعَ هدايتهم لَهُم وَأصْلح من أَن يُحَال بَينهم وَبَينهَا اللَّازِم التَّاسِع مَا ألزمهُ أَبُو الْحسن الأشعرى للجبائي وَقد سَأَلَهُ عَن ثَلَاثَة أخوة أمات الله أحدهم صَغِيرا وَأَحْيَا الآخرين فَاخْتَارَ أَحدهمَا الْإِيمَان وَالْآخر الْكفْر فَرفع دَرَجَة الْمُؤمن الْبَالِغ على أَخِيه الصَّغِير فِي الْجنَّة لعمله فَقَالَ أَخُوهُ يَا رب لم لَا تبلغني منزلَة أخي فَقَالَ إِنَّه عَاشَ وَعمل أعمالا اسْتحق بهَا هَذِه الْمنزلَة
فَقَالَ يَا رب فَهَلا أحييتني حَتَّى أعمل مثل عمله فَقَالَ كَانَ الْأَصْلَح لَك أَن توفيتك صَغِيرا لِأَنِّي علمت أَنَّك إِن بلغت اخْتَرْت الْكفْر فَكَانَ الْأَصْلَح فِي حَقك أَن أمتك صَغِيرا فَنَادَى أخوهما الثَّالِث من أطباق النَّار يَا رب فَهَلا عملت معي هَذَا الْأَصْلَح واختر متني صَغِيرا كَمَا عملته مَعَ أخي واخترمتني صَغِيرا فأسكت الجبائي وَلم يجبهُ بِشَيْء فَإِذا علم الله سُبْحَانَهُ أَنه لَو اخترم العَبْد قبل الْبلُوغ وَكَمَال الْعقل لَكَانَ ناجيا وَلَو أمهله وَسَهل لَهُ النّظر لعاند وَكفر وَجحد فَكيف يُقَال إِن الْأَصْلَح فِي حَقه إبقاؤه حَتَّى يبلغ وَالْمَقْصُود عنْدكُمْ بالتكليف الاستصلاح والتعويض بأسني الدَّرَجَات الَّتِي لَا تنَال إِلَّا بِالْأَعْمَالِ أَو لَيْسَ الْوَاحِد منا إِذا علم من حَال وَلَده أَنه إِذا أعطي مَالا يتجر بِهِ فَهَلَك وخسر بِسَبَب ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يعرضه لذَلِك ويقبح مِنْهُ تعريضه لَهُ وَهُوَ من رب الْعَالمين حسن غير قَبِيح وَكَذَلِكَ من علم من حَال وَلَده انه لَو أعطَاهُ سَيْفا أَو سِلَاحا يُقَاتل بِهِ الْعَدو فَقتل بِهِ نَفسه وَأعْطى السِّلَاح لعَدوه فَإِنَّهُ يقبح مِنْهُ إِعْطَاؤُهُ ذَلِك السِّلَاح والرب تَعَالَى قد علم من أَكثر عباده ذَلِك وَلم يقبح مِنْهُ سُبْحَانَهُ تمكينهم وإعطاؤهم الْآلَات بل هُوَ حسن مِنْهُ كَيفَ وَقد ساعدوا على نُفُوسهم أَن الله سُبْحَانَهُ لَو علم أَنه لَو أرسل رَسُولا إِلَى خلقه وكلفه الْأَدَاء عَنهُ مَعَ علمه بِأَنَّهُ لَا يُؤدى فَإِن علمه سُبْحَانَهُ بذلك يصرفهُ عَن إِرَادَة الْخَيْر وَالصَّلَاح وَهَذَا بِمَثَابَة من أدلى حبلا إِلَى غريق ليخلص نَفسه من الْغَرق مَعَ علمه بِأَنَّهُ يخنق نَفسه بِهِ وَقد ساعدوا أَيْضا على نُفُوسهم بِأَن الله سُبْحَانَهُ إِذا علم أَن فِي تَكْلِيفه عبدا من عباده فَسَاد الْجَمَاعَة فَإِنَّهُ يقبح تَكْلِيفه لِأَنَّهُ استفساد لمن يعلم
أَنه يكفر عِنْد تَكْلِيفه الْإِلْزَام الْحَادِي عشر أَنهم قَالُوا وَصَدقُوا بِأَن الرب تَعَالَى قَادر على التفضل بِمثل الثَّوَاب ابْتِدَاء بِلَا وَاسِطَة عمل فَأَي غَرَض لَهُ فِي تَعْرِيض الْعباد للبلوى والمشاق ثمَّ قَالُوا وكذبوا الْغَرَض فِي التَّكْلِيف أَن اسْتِيفَاء الْمُسْتَحق حَقه أهنا لَهُ وألذ من قبُول التفضل وَاحْتِمَال الْمِنَّة وَهَذَا كَلَام أَجْهَل الْخلق بالرب تَعَالَى وبحقه وبعظمته ومساو بَينه وَبَين أحاد النَّاس وَهُوَ من أقبح النِّسْبَة وأخبثه تَعَالَى الله عَن ضلالهم علوا كَبِيرا فَكيف يستنكف العَبْد الْمَخْلُوق المربوب من قبُول فضل الله تَعَالَى ومنته وَهل الْمِنَّة فِي الْحَقِيقَة إِلَّا الله المان بفضله قَالَ تَعَالَى يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم إِن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين وَقَالَ تَعَالَى {لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين} وَلما قَالَ النَّبِي للْأَنْصَار ألم أَجِدكُم ضلالا فَهدَاكُم الله بِي وَعَالَة فَأَغْنَاكُمْ الله بِي فَأَجَابُوهُ بقَوْلهمْ الله وَرَسُوله أَمن وَيَا للعقول الَّتِي قد خسف بهَا أَي حق للْعَبد على الرب حَتَّى يمْتَنع من قبُول منته عَلَيْهِ فَبِأَي حق اسْتحق الْأَنْعَام عَلَيْهِ بالإيجاد وَكَمَال الْخلقَة وَحسن الصُّورَة وقوام البنية وإعطائه القوى وَالْمَنَافِع والآلات والأعضاء وتسخير مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض لَهُ وَمن أقل مَاله عَلَيْهِ من النعم التنفس فِي الْهَوَاء الَّذِي لَا يكَاد يخْطر بِبَالِهِ أَنه من النعم وَهُوَ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف نفس فَإِذا كَانَت أقل نعمه عَلَيْهِم وَلَا أقل مِنْهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف نعْمَة كل يَوْم وَلَيْلَة فَمَا الظَّن بِمَا هُوَ أجل مِنْهَا من النعم فيا للعقول السخيفة المخسوف بهَا أَي علم لكم وَأي سعي يُقَابل الْقَلِيل من نعمه الدُّنْيَوِيَّة حَتَّى لَا يبْقى لله عَلَيْكُم مِنْهُ إِذا أثابكم لأنكم استوفيتم ديونكم قبله وَلَا نعْمَة لَهُ عَلَيْكُم فِيهَا فَأَي أمة من الْأُمَم بلغ جهلها بِاللَّه هَذَا الْمبلغ واستنكفت عَن قبُول منته وَزَعَمت أَن لَهَا الْحق على رَبهَا وَأَن تفضله عَلَيْهَا ومنته مكدر لَا لتذاذها بعطائه وَلَو أَن العَبْد اسْتعْمل هَذَا الْأَدَب مَعَ ملك من مُلُوك الدُّنْيَا لمقته وأبعده وَسقط من عينه مَعَ أَنه لَا نعْمَة لَهُ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا الْمُنعم فِي الْحَقِيقَة هُوَ الله ولى النعم وموليها وَلَقَد كشف الْقَوْم عَن أقبح عَورَة من عورات الْجَهْل بِهَذَا الرَّأْي السخيف وَالْمذهب الْقَبِيح وَالْحَمْد لله الَّذِي عَافَانَا مِمَّا ابتلى بِهِ أَرْبَاب هَذَا الْمَذْهَب المستنكفين من قبُول منَّة الله الزاعمين أَن مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِم حَقهم عَلَيْهِ وحقهم قبله وَأَنه لَا يسْتَحق الْحَمد وَالثنَاء على أَدَاء مَا عَلَيْهِ من الدّين وَالْخُرُوج مِمَّا عَلَيْهِ من الْحق لِأَن أَدَاء الْوَاجِب يَقْتَضِي غَيره تَعَالَى الله عَن إفكهم وكذبهم علوا كَبِيرا
الْإِلْزَام الثَّانِي عشر أَنه يلْزمهُم أَن يوجبوا على الله عز وجل أَن يُمِيت كل من علم من الْأَطْفَال أَنه لَو بلغ لكفر وعاند فَإِن اخترامه هُوَ الْأَصْلَح لَهُ بِلَا ريب أَو أَن يجحدوا علمه سُبْحَانَهُ بِمَا سَيكون قبل كَونه كَمَا الْتَزمهُ سلفهم الْخَبيث الَّذين
اتّفق سلف الْأمة الطّيب على تكفيرهم وَلَا خلاص لَهُم عَن أحد هذَيْن الإلزامين إِلَّا بِالْتِزَام مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن أَفعَال الله تَعَالَى لَا نقاس بِأَفْعَال عباده وَلَا تدخل تَحت شرائع عُقُولهمْ القاصرة بل أَفعاله لَا تشبه أَفعَال خلقه وَلَا صِفَاته صفاتهم وَلَا ذَاته ذواتهم {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير}
الْإِلْزَام الثَّالِث عشر أَنه سُبْحَانَهُ لَا يؤلم أحدا من خلقه أبدا لعدم الْمَنْفَعَة فِي ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى العَبْد وَلَا ينفعكم اعتذاركم بِأَن الإيلام سَبَب مضاعفة الثَّوَاب ونيل الدَّرَجَات العلى وَأَن هَذَا ينْتَقض بِالْحَيَوَانِ البهيم وينتقض بالأطفال الَّذين لَا يسْتَحقُّونَ ثَوابًا وَلَا عقَابا وَلَا ينفعكم اعتذاركم بِأَن الطِّفْل ينْتَفع بِهِ فِي الْآخِرَة فِي زِيَادَة ثَوَابه لَا نتقاضه عَلَيْكُم بالطفل الَّذِي علم الله أَنه يبلغ ويختار الْكفْر والجحود فَأَي مصلحَة لَهُ فِي إيلامه وَأي معنى ذكر تموه على أصولكم الْفَاسِدَة فَهُوَ منتقض عَلَيْكُم بِمَا لَا جَوَاب لكم عَنهُ
الْإِلْزَام الرَّابِع عشر ان من علم الله سُبْحَانَهُ إِذا بلغ الْأَطْفَال يختاروا الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح فَأن الْأَصْلَح فِي حَقه أَن يحييه حَتَّى يبلغ ويؤمن فينال بذلك الدرجَة الْعَالِيَة وَأَن لَا يحترمه صَغِيرا وَهَذَا مِمَّا لَا جَوَاب لكم عَنهُ الْإِلْزَام الْخَامِس عشر وَهُوَ من أعظم الإلزامات وأصحها الزاما وَقد الْتَزمهُ الْقَدَرِيَّة وَهُوَ أَنه لَيْسَ فِي مَقْدُور الله تَعَالَى لطف لَو فعله الله تَعَالَى بالكفار لآمنوا وَقد الْتزم الْمُعْتَزلَة الْقَدَرِيَّة هَذَا اللَّازِم وَبَنوهُ على أصلهم الْفَاسِد أَنه يجب على الله تَعَالَى أَن يفعل فِي حق كل عبد مَا هُوَ الْأَصْلَح لَهُ فَلَو كَانَ فِي مقدوره فعل يُؤمن العَبْد عِنْده لَو جب عَلَيْهِ أَن يَفْعَله بِهِ وَالْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره يرد هَذَا القَوْل ويكذبه ويخبر تَعَالَى أَنه لَو شَاءَ لهدى النَّاس جَمِيعًا وَلَو شَاءَ لَا من من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا وَلَو شَاءَ لآتي كل نفس هداها
الْإِلْزَام السَّادِس عشر وَهُوَ مِمَّا الْتَزمهُ الْقَوْم أَيْضا أَن لطفه وَنعمته وتوفيقه بِالْمُؤمنِ كلطفه بالكافر وَأَن نعْمَته عَلَيْهِمَا سَوَاء لم يخص الْمُؤمن بِفضل عَن الْكَافِر وَكفى بِالْوَحْي وصريح الْمَعْقُول وفطرة الله وَالِاعْتِبَار الصَّحِيح وَإِجْمَاع الْأمة ردا لهَذَا القَوْل وتكذيبا لَهُ الْإِلْزَام السَّابِع عشر أَن مَا من أصلح إِلَّا وفوقه مَا هُوَ أصلح مِنْهُ والاقتصار على رُتْبَة وَاحِدَة كالاقتصار على الصّلاح فَلَا معنى لقولكم يجب مُرَاعَاة الْأَصْلَح إِذْ لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يُمكن فِي الْفِعْل رعايته
الْإِلْزَام الثَّامِن عشر أَن الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم يَقْتَضِي سُؤال الْمُوجب الْمحرم لمن أوجب عَلَيْهِ وَحرم هَل فعل مُقْتَضى ذَلِك أم لَا وَهَذَا محَال فِي حق من لَا يسئل عَمَّا يفعل وَإِنَّمَا يعقل فِي حق المخلوقين وَأَنَّهُمْ يسْأَلُون وَبِالْجُمْلَةِ فتحتم بِهَذِهِ المسئلة طَرِيقا للإستغناء عَن الصَّوَاب وسلطتم بهَا الفلاسفة والصابئة والبراهمة وكل مُنكر للنبوات فَهَذِهِ المسئلة بَيْننَا وَبينهمْ فانكم إِذا زعمتم أَن الْعقل حَاكما يحسن ويقبح وَيُوجب وَيحرم ويتقاضى الثَّوَاب وَالْعِقَاب لم تكن الْحَاجة إِلَى الْبعْثَة ضَرُورِيَّة لِإِمْكَان الإستغناء عَنْهَا بِهَذَا الْحَاكِم وَلِهَذَا قَالَت الفلاسفة وزادت عَلَيْكُم حجَّة وتقريرا قد اشْتَمَل الْوُجُود على خير مُطلق وَشر مُطلق وَخير وَشر ممتزجين وَالْخَيْر الْمُطلق مَطْلُوب فِي الْعقل لذاته وَالشَّر الْمُطلق
مرفوض فِي الْعقل لذاته والممتزج مَطْلُوب من وَجه ومرفوض من وَجه وَهُوَ بِحَسب الْغَالِب من جِهَته وَلَا يشك الْعَاقِل أَن الْعلم بِجِنْسِهِ ونوعه خير ومحمود ومطلوب وَالْجهل بِجِنْسِهِ ونوعه شَرّ فِي الْعقل فَهُوَ مستقبح عِنْد الْجُمْهُور وَالْفطر السليمة دَاعِيَة إِلَى تَحْصِيل المستحسن ورفض المستقبح سَوَاء حمله عَلَيْهِ شَارِع أَو لم يحملهُ ثمَّ الْأَخْلَاق الحميدة والخصال الرشيدة من الْعِفَّة والجود والسخاء والنجدة مستحسنات فعلية وأضدادها مستقبحات فعلية وَكَمَال حَال الْإِنْسَان أَن تستكمل النَّفس قوى الْعلم الْحق وَالْعَمَل الْخَيْر والشرائع إِنَّمَا ترد بتمهيد مَا تقرر فِي الْعقل لَا بتغييره لَكِن الْعُقُول الحرونة لما كَانَت قَاصِرَة عَن اكْتِسَاب المعقولات بأسرها عاجزة عَن الاهتداء إِلَى الْمصلحَة الْكُلية الشاملة لنَوْع الْإِنْسَان وَجب من حَيْثُ الْحِكْمَة أَن يكون بَين النَّاس شرع يفرضه شَارِع يحملهم على الْإِيمَان بِالْغَيْبِ جملَة ويهديهم إِلَى مصَالح معاشهم ومعادهم تَفْصِيلًا فَيكون قد جمع لَهُم بَين حظي الْعلم وَالْعدْل على مُقْتَضى الْعقل وَحَملهمْ على التَّوَجُّه إِلَى الْخَيْر الْمَحْض والإعراض عَن الشَّرّ الْمَحْض اسْتِبْقَاء لنوعهم واستدامة لنظام الْعَالم ثمَّ ذَاك الشَّارِع يجب أَن يكون مُمَيّزا من بَينهم بآيَات تدل على أَنَّهَا من عِنْد ربه سُبْحَانَهُ راجحا عَلَيْهِم بعقله الرزين ورأية المتين وَحَدِيثه النَّافِذ وخلقه الْحسن وسمته وهديه يلين لَهُم فِي القَوْل ويشاورهم فِي الْأَمر ويكلمهم على قدر عُقُولهمْ ويكلفهم بِحَسب وسعهم وطاقتهم قَالُوا وَقد أَخْطَأت الْمُعْتَزلَة حِين ردوا الْحسن والقبيح إِلَى الصِّفَات الذاتية للأفعال وَكَانَ من حَقهم تَقْرِير ذَلِك فِي الْعلم وَالْجهل إِذْ الْأَفْعَال تخْتَلف بالأشخاص والأزمان وَسَائِر الإضافات وَلَيْسَ هِيَ على صِفَات نفسية لَازِمَة لَهَا بِحَيْثُ لَا تفارقها الْبَتَّةَ ثمَّ زَادَت الصائبة فِي ذَلِك على الفلاسفة وَقَالُوا لما كَانَت الموجودات فِي الْعَالم السفلي مركبة على تَأْثِير الْكَوَاكِب والروحانيات الَّتِي هِيَ مدبرات الْكَوَاكِب وَكَانَ فِي اتصالاتها نظر سعيد ونحس وَاجِب أَن يكون فِي آثارها حسن وقبح فِي الْأَخْلَاق والخلق وَالْأَفْعَال والعقول الإنسانية مُتَسَاوِيَة فِي النَّوْع فَوَجَبَ أَن يُدْرِكهَا كل عقل سليم وطبع قويم لَا تتَوَقَّف معرفَة المعقولات على من هُوَ مثل ذَلِك الْعَاقِل فِي النَّوْع فَنحْن لَا نحتاج إِلَى من يعرفنا حسن الْأَشْيَاء وقبحها وَخَيرهَا وشرها ونفعها وضرها وكما أَنا نستخرج بالعقول من طبائع الْأَشْيَاء ومنافعها ومضارها كَذَلِك نستنبط من أَفعَال نوع الْإِنْسَان حسنها وقبيحها فنلابس مَا هُوَ أحسن مِنْهَا بِحَسب الِاسْتِطَاعَة ونجتنب مَا هُوَ قَبِيح مِنْهَا بِحَسب الطَّاقَة فَأَي حَاجَة بِنَا إِلَى شَارِع يتحكم على عقولنا وزادت التناسخية على الصائبية بِأَن قَالُوا نوع الْإِنْسَان لما كَانَ مَوْصُوفا بِنَوْع اخْتِيَار فِي أَفعاله مَخْصُوصًا بنطق وعقل فِي علومه وأحواله ارْتَفع عَن الدرجَة الحيوانية ارْتِفَاع استخسار لَهَا فَإِن كَانَت أَعماله على مناهج الدرجَة الإنسانية ارْتَفَعت إِلَى الْمَلَائِكَة وَإِن كَانَت مناهج الدرجَة الحيوانية انخفضت إِلَيْهَا أَو إِلَى أَسْفَل وَهُوَ أبدا فِي أحد
أَمريْن إِمَّا فعل يَقْتَضِي جَزَاء أَو مجازاة على فعل فَمَا باله يحْتَاج فِي أَفعاله وأحواله إِلَى شخص مثله يحسن أَو يقبح فَلَا الْعقل يحسن ويقبح وَلَا الشَّرْع وَلَكِن حسن أَفعاله جَزَاء على حسن أَفعَال غَيره وقبح أَفعاله كَذَلِك وَرُبمَا يظْهر حسنها وقبحها صورا حيوانية روحانية وَإِنَّمَا يصير الْحسن والقبح فِي الْحَيَوَانَات أفعالا إنسانية وَلَيْسَ بعد هَذَا الْعَالم عَالم آخر يحكم فِيهِ وَيُحَاسب ويثاب ويعاقب وزادت البراهمة على التناسخية بِأَن قَالُوا نَحن لَا نحتاج إِلَى شَرِيعَة وشارع أصلا فَأن مَا يَأْمر بِهِ النَّبِي لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون معقولا أَو غير مَعْقُول فَإِن كَانَ معقولا فقد اسْتغنى بِالْعقلِ عَن النَّبِي وَأَن لم يكن معقولا لم يكن مَقْبُولًا فَهَذِهِ الطوائف كلهَا لما جعلت فِي الْعقل حَاكما بالْحسنِ والقبح أَدَّاهَا إِلَى هَذِه الآراء الْبَاطِلَة والنحل الْكَافِرَة وَأَنْتُم يَا معاشر المثبتة يصعب عَلَيْكُم الرَّد عَلَيْهِم وَقد وافقتموهم على هَذَا الأَصْل وَأما نَحن فأخذنا عَلَيْهِم رَأس الطَّرِيق وسددنا عَلَيْهِم الْأَبْوَاب فَمن طرق لَهُم الطَّرِيق وَفتح لَهُم الْأَبْوَاب ثمَّ رام مناجزة الْقَوْم فقد رام مرتقى صعبا فَهَذِهِ مجامع جيوش النفاة قد وافتك بعددها وعديدها وَأَقْبَلت إِلَيْك بحدها وحديدها فَإِن كنت من أَبنَاء الطعْن وَالضَّرْب فقد التقى الزحفان وتقابل الصفان وَإِن كنت من أَصْحَاب التلول فَالْزَمْ مقامك وَلَا تدن من الْوَطِيس فَإِنَّهُ قد حمى وَإِن كنت من اهل الأسراب الَّذين يسْأَلُون عَن الأنباء وَلَا يثبتون عِنْد اللِّقَاء
فدع الحروب لأقوام لَهَا خلقُوا
…
وَمَالهَا من سوى أجسامهم جنن
وَلَا تلمهم على مَا فِيك من جبن
…
فبئست الحلتان اللؤم والجبن
قَالَ المتوسطون من أهل الْإِثْبَات مَا مِنْكُم أَيهَا الْفَرِيقَانِ إِلَّا من مَعَه حق وباطل وَنحن نساعد كل فريق على حَقه ونصير إِلَيْهِ ونبطل مَا مَعَه من الْبَاطِل وترده عَلَيْهِ فَنَجْعَل حق الطَّائِفَتَيْنِ مذهبا ثَالِثا يخرج من بَين فرث وَدم لَبَنًا خَالِصا سائغا للشاربين من غير أَن ننتسب لي ذِي مقَالَة وَطَائِفَة مُعينَة انتسابا يحملنا على قبُول جَمِيع أحوالها والانتصار لَهَا بِكُل غث وسمين ورد جَمِيع أَقْوَال خصومها ومكابريها على مَا مَعهَا من الْحق حَتَّى لَو كَانَت تِلْكَ الْأَقْوَال منسوبة إِلَى رئيسها وطائفتها لبالغت فِي نصرتها وتقريرها وَهَذِه آفَة مَا نجا مِنْهَا إِلَّا من أنعم الله عَلَيْهِ وَأَهله لمتابعة الْحق أَيْن كَانَ وَمَعَ من كَانَ وَأما من يرى أَن الْحق وقف مؤبد على طائفته وَأهل مذْهبه وَحجر مَحْجُور على من سواهُم مِمَّن لَعَلَّه أقرب إِلَى الْحق وَالصَّوَاب مِنْهُ فقد حرم خيرا كثيرا وَفَاته هدى عَظِيم وَهنا نَحن نجلس مجْلِس الْحُكُومَة بَين هَاتين المقالتين فَمن أدلى بحجته فِي مَوضِع كَانَ الْمَحْكُوم لَهُ فِي ذَلِك الْموضع وَأَن كَانَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ حَيْثُ يدلى خَصمه بحجته وَالله تَعَالَى أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق وَالْعدْل بَين الطوائف الْمُخْتَلفَة قَالَ تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن}
أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ الله تجتبيء إِلَيْهِ من يَشَاء ويهدى إِلَيْهِ من ينيب وَمَا تفَرقُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك إِلَى أجل مُسَمّى لقضى بَينهم وَأَن الَّذين أورثوا الْكتاب من بعدهمْ لفي شكّ مِنْهُ مريب فَلذَلِك فَادع واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم
فَأخْبر تَعَالَى أَنه شرع لنا دينه الَّذِي وصّى بِهِ نوحًا والنبيين من بعده وَهُوَ دين وَاحِد ونهانا عَن التَّفْرِيق فِيهِ ثمَّ أخبرنَا أَنه مَا تفرق من قبلنَا فِي الدّين إِلَّا بعد الْعلم الْمُوجب للإثبات وَعدم التَّفَرُّق وَأَن الْحَامِل على ذَلِك التَّفَرُّق الْبَغي من بَعضهم على بعض وَإِرَادَة كل طَائِفَة أَن يكون الْعُلُوّ والظهور لَهَا ولقولها دون غَيرهَا وَإِذا تَأَمَّلت تفرق أهل الْبدع والضلال رَأَيْته صادرا عَن هَذَا بِعَيْنِه ثمَّ أَمر سُبْحَانَهُ نبيه أَن يَدْعُو إِلَى دينه الَّذِي شَرعه لأنبيائه وَأَن يَسْتَقِيم كَمَا أمره ربه وحذره من اتِّبَاع أهواء المتفرقين وَأمره أَن يُؤمن بِكُل مَا أنزلهُ الله من الْكتب وَهَذِه حَال المحق أَن يُؤمن بِكُل مَا جمعه من الْحق على لِسَان أَي طَائِفَة كَانَت ثمَّ أمره أَن يُخْبِرهُمْ بِأَنَّهُ أَمر بِالْعَدْلِ بَينهم وَهَذَا يعم الْعدْل فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال والآراء والمحاكمات كلهَا فنصبه ربه ومرسله للعدل بَين الْأُمَم فَهَكَذَا وَارثه ينْتَصب للعدل بَين المقالات والآراء والمذاهب ونسبته مِنْهَا إِلَى الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا من الْحق فَهُوَ أولى بِهِ وبتقريره وبالحكم لمن خَاصم بِهِ ثمَّ أمره أَن يُخْبِرهُمْ بِأَن الرب المعبود وَاحِد فَمَا الْحَامِل للتفرق وَالِاخْتِلَاف وَهُوَ رَبنَا وربكم وَالدّين وَاحِد وَلكُل عَامل عمله لَا يعدوه إِلَى غَيره
ثمَّ قَالَ لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم وَالْحجّة هَهُنَا هِيَ الْخُصُومَة أَي للخصومة وَلَا وَجه لخصومة بَيْننَا وَبَيْنكُم بَعْدَمَا ظهر الْحق وأسفر صبحه وَبَانَتْ أَعْلَامه وانكشفت الْغُمَّة عَنهُ وَلَيْسَ المُرَاد نفي الِاحْتِجَاج من الطَّرفَيْنِ كَمَا يَظُنّهُ بعض من لَا يدرى مَا يَقُول وَأَن الدّين لَا احتجاج فِيهِ كَيفَ وَالْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره حجج وبراهين على أهل الْبَاطِل قَطْعِيَّة يقينية وأجوبة لمعارضتهم وإفسادا لأقوالهم بأنواع الْحجَج والبراهين وإخبارا عَن أنبيائه وَرُسُله بِإِقَامَة الْحجَج والبراهين وَأمر لرَسُوله بمجادلة الْمُخَالفين بِالَّتِي هِيَ أحسن وَهل تكون المجادلة إِلَّا بالاحتجاج وإفساد حجج الْخصم وَكَذَلِكَ أَمر الْمُسلمين بمجادلة أهل الْكتاب بِالَّتِي هِيَ أحسن وَقد نَاظر النَّبِي جَمِيع طوائف الْكفْر أتم مناظرة وَأقَام عَلَيْهِم مَا أفحمهم بِهِ من الْحجَج حَتَّى عدل بَعضهم إِلَى محاربته بعد أَن عجز عَن رد قَوْله وَكسر حجَّته وَاخْتَارَ بَعضهم مسالمته ومتاركته وَبَعْضهمْ بذل الْجِزْيَة عَن يَد وَهُوَ صاغر كل ذَلِك بعد إِقَامَة الْحجَج عَلَيْهِم وَأَخذهَا بكظمهم وأسرها لنفوسهم وَمَا اسْتَجَابَ لَهُ من اسْتَجَابَ إِلَّا بعد أَن وضحت لَهُ الْحجَّة وَلم يجد إِلَى ردهَا سَبِيلا وَمَا خَالفه أعداؤه إِلَّا عنادا مِنْهُم وميلا إِلَى المكابرة بعد اعترافهم بِصِحَّة حججه وَأَنَّهَا لَا تدفع فَمَا قَامَ الدّين إِلَّا على سَاق الْحجَّة فَقَوله لَا
حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم أَي لَا خُصُومَة فَإِن الرب وَاحِد فَلَا وَجه للخصومة فِيهِ وَدينه وَاحِد وَقد قَامَت الْحجَّة وَتحقّق الْبُرْهَان فَلم يبْق للاحتجاج والمخاصمة فَائِدَة فَإِن فَائِدَة الِاحْتِجَاج ظُهُور الْحق ليتبع فَإِذا ظهر وعانده الْمُخَالف وَتَركه جحُودًا وعنادا لم يبْق للاحتجاج فَائِدَة فَلَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم أَيهَا الْكفَّار فقد وضح الْحق واستبان وَلم يبْق إِلَّا الْإِقْرَار بِهِ أَو العناد وَالله يجمع بَيْننَا يَوْم الْقِيَامَة فَيَقْضِي للمحق على الْمُبْطل وَإِلَيْهِ الْمصير قَالُوا وهما نَحن نتحرى الْقسْط بَين الْفَرِيقَيْنِ عَمَّا يَقُوله المقسطون عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم مِمَّا ولوا وَيَكْفِي فِي هَذَا قَوْله تَعَالَى يأيها الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يجرمنكم شنآن قوم على أَن لَا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى وَاتَّقوا الله أَن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ قَالُوا قد أصَاب أهل الْإِثْبَات من الْمُعْتَزلَة فِي قَوْلهم أَن الْحسن والقبح صِفَات ثبوتية للأفعال مَعْلُومَة بِالْعقلِ وَالشَّرْع وَأَن الشَّرْع جَاءَ بتقرير مَا هُوَ مُسْتَقر فِي الْفطر والعقول من تَحْسِين الْحسن وَالْأَمر بِهِ وتقبيح الْقَبِيح والنهى عَنهُ وَأَنه لم يَجِيء بِمَا يُخَالف الْعقل والفطرة وَأَن جَاءَ بِمَا يعجز الْعُقُول عَن أَحْوَاله والاستقلال بِهِ فالشرائع جَاءَت بمجازات الْعُقُول لَا محالاتها وَفرق بَين مَالا تدْرك الْعُقُول حسنه وَبَين مَا تشهد بقبحه فَالْأول مِمَّا يَأْتِي بِهِ الرُّسُل دون الثَّانِي وأخطؤا فِي تَرْتِيب الْعقَاب على هَذَا الْقَبِيح عقلا كَمَا تقدم وَأَصَابُوا فِي إِثْبَات الْحِكْمَة لله تَعَالَى وَأَنه سُبْحَانَهُ لَا يفعل فعلا خَالِيا عَن الْحِكْمَة بل كل أَفعاله مَقْصُودَة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة لَهُ وأخطؤا فِي موضِعين أَحدهمَا أَنهم أعادوا تِلْكَ الْحِكْمَة إِلَى الْمَخْلُوق وَلم يعيدوها إِلَى الْخَالِق سُبْحَانَهُ على فَاسد أصولهم فِي نفي قيام الصِّفَات بِهِ فنفوا الْحِكْمَة من حَيْثُ أثبتوها وجحدوها من حَيْثُ أقرُّوا بهَا الْموضع الثَّانِي انهم وضعُوا لتِلْك الْحِكْمَة شَرِيعَة بعقولهم وأوجبوا على الرب تَعَالَى بهَا وحرموه وشبهوه بخلقه فِي أَفعاله بِحَيْثُ مَا حسن مِنْهُم حسن مِنْهُ وَمَا قبح مِنْهُم قبح مِنْهُ فلزمتهم بذلك اللوازم الشنيعة وضاق عَلَيْهِم المجال وعجزوا عَن التَّخَلُّص عَن تِلْكَ الالتزامات وَلَو أَنهم أثبتوا لَهُ حِكْمَة تلِيق بِهِ لَا يشبه خلقه فِيهَا بل نسبتها إِلَيْهِ كنسة صِفَاته إِلَى ذَاته فَكَمَا أَنه لَا يشبه خلقه فِي صِفَاته فَكَذَلِك فِي أَفعاله وَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال بقبح الْقبْح وَحسن الْحسن مِنْهُم على ثُبُوت ذَلِك فِي حَقه تَعَالَى وَمن هَاهُنَا استطال عَلَيْهِم النفاة وصاحوا عَلَيْهِم من كل قطر وَأَقَامُوا عَلَيْهِم ثائرة الشناعة وَأَصَابُوا أَيْضا فِي قَوْلهم بِأَن الرب تَعَالَى لَا يمْتَنع فِي نَفسه الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم وأخطأوا فِي جعل ذَلِك تَابعا لمقْتَضى عُقُولهمْ وآرئهم بل يجب عَلَيْهِ مَا أوجبه على نَفسه وَيحرم عَلَيْهِ مَا
حرمه هُوَ على نَفسه فَهُوَ الَّذِي كتب على نَفسه الرَّحْمَة وأحق على نَفسه ثَوَاب المطيعين وَحرم على نَفسه الظُّلم كَمَا جعله محرما بَين عباده وَأَصَابُوا فِي قَوْلهم أَنه سُبْحَانَهُ لَا يحب الشَّرّ
وَالْكفْر وأنواع الْفساد بل يكرهها وَأَنه يحب الْإِيمَان وَالْخَيْر وَالْبر وَالطَّاعَة وَلَكِن أخطأوا فِي تَفْسِير هَذِه الْمحبَّة وَالْكَرَاهَة بِمُجَرَّد معَان مفهومة من أَلْفَاظ خلقهَا فِي الْهَوَاء أَو فِي الشَّجَرَة وَلم يجعلوها مَعَاني مَا يهدى بِهِ تَعَالَى على فَاسد أصولهم فِي التعطيل وَنفي الصِّفَات فنفوا الْمحبَّة وَالْكَرَاهَة من حَيْثُ أثبتوها وأعادوها إِلَى مُجَرّد الشَّرْع وَلم يثبتوا لَهُ حَقِيقَة قَائِمَة بِذَاتِهِ فَإِن شرع الله هُوَ أمره وَنَهْيه وَلم يقم بِهِ عِنْدهم أَمر وَلَا نهى فحقيقة قَوْلهم أَنه لَا شرع وَلَا محبَّة وَلَا كَرَاهَة فَإِن زخرفوا القَوْل وتحيلوا لإِثْبَات مَا سدوا على نُفُوسهم طَرِيق إثْبَاته وَأَصَابُوا أَيْضا فِي قَوْلهم أَن مصلحَة الْمَأْمُور تنشأ من الْفِعْل تَارَة وَمن الْأَمر تَارَة أُخْرَى فَرب فعل لم يكن منشأ لمصْلحَة الْمُكَلف فَلَمَّا أَمر بِهِ صَار منشأ لمصْلحَة بِالْأَمر وَلَو توسطوا هَذَا التَّوَسُّط وسلكوا هَذَا المسلك وَقَالُوا إِن الْمصلحَة تنشأ من الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ تَارَة وَمن الْأَمر تَارَة ومنهما تَارَة وَمن الْعَزْم الْمُجَرّد تَارَة لانتصفوا من خصومهم فمثال الأول الصدْق والعفة وَالْإِحْسَان وَالْعدْل فَإِن مصالحها ناشئة مِنْهَا وَمِثَال الثَّانِي التجرد فِي الْإِحْرَام والتطهر بِالتُّرَابِ وَالسَّعْي بَين الصفى والمروة وَرمي الْجمار وَنَحْو ذَلِك فَإِن هَذِه الْأَفْعَال لَو تجردت عَن الْأَمر لم تكن منشأ لمصْلحَة فَلَمَّا أَمر بهَا نشأت مصلحتها من نفس الْأَمر وَمِثَال الثُّلُث الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالْحج وَإِقَامَة الْحُدُود وَأكْثر الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَإِن مصلحتها ناشئة من الْفِعْل وَالْأَمر مَعًا فالفعل يتَضَمَّن مصلحَة وَالْأَمر بهَا يتَضَمَّن مصلحَة أُخْرَى فالمصلحة فِيهَا من وَجْهَيْن وَمِثَال الرَّابِع أَمر الله تَعَالَى خَلِيله إِبْرَاهِيم بِذبح وَلَده فَإِن الْمصلحَة إِنَّمَا نشأت من عزمه على الْمَأْمُور بِهِ لَا من نفس الْفِعْل وَكَذَلِكَ أمره نبيه لَيْلَة الْإِسْرَاء بِخَمْسِينَ صَلَاة فَلَمَّا حصرتم الْمصلحَة فِي الْفِعْل وَحده تسلط عَلَيْكُم خصومكم بأنواع المناقضات والإلزامات قَالُوا وَقد أصَاب النفاة حَيْثُ قَالُوا إِن الْحجَّة إِنَّمَا تقوم على الْعباد بالرسالة وَإِن الله لَا يعذبهم قبل الْبعْثَة وَلَكنهُمْ نقضوا الأَصْل وَلم يطردوه حَيْثُ جوزوا تَعْذِيب من لم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة أصلا من الْأَطْفَال والمجانين وَمن لم تبلغه الدعْوَة وأخطؤا فِي تسويتهم بَين الْأَفْعَال الَّتِي خَالف الله بَينهَا فَجعل بَعْضهَا حسنا وَبَعضهَا قبيحا وَركب فِي الْعُقُول وَالْفطر التَّفْرِقَة بَينهمَا كَمَا ركب فِي الْحَواس التَّفْرِقَة بَين الحلو والحامض والمر والعذب والسخن والبارد والضار والنافع فَزعم النفاة أَنه لَا فرق فِي نفس الْأَمر أصلا بَين فعل وَفعل فِي الْحسن والقبح وَإِنَّمَا يعود الْفرق إِلَى عَادَة مُجَرّدَة أَو وهم أَو خيال أَو مُجَرّد الْأَمر والنهى وسلبوا الْأَفْعَال حَتَّى خواصها الَّتِي جعلهَا الله عَلَيْهَا من الْحسن والقبح فخالفوا الْفطر والعقول وسلطوا عَلَيْهِم خصومهم بأنواع الإلزامات والمناقضات الشنيعة جدا وَلم يَجدوا إِلَى ردهَا سَبِيلا إِلَّا بالعناء وجحدوا الضَّرُورَة وَأَصَابُوا فِي نفيهم الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم على الله الَّذِي أثبتته الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة
وَوَضَعُوا على الله شَرِيعَة بعقولهم قادتهم إِلَى مَالا قبل لَهُم بِهِ من اللوازم الْبَاطِلَة وأخطأوا فِي نفيهم عَنهُ إِيجَاب مَا أوجبه على نَفسه وَتَحْرِيم مَا حرمه على نَفسه بِمُقْتَضى حكمته وعدله وعزته وَعلمه وأخطاوا أَيْضا فِي نفسهم حكمته تَعَالَى فِي خلقه وَأمره وَأَنه لَا يفعل شَيْئا لشَيْء وَلَا يَأْمر بِشَيْء لشَيْء وَفِي إنكارهم الْأَسْبَاب والقوى الَّتِي أودعها الله فِي الْأَعْيَان والأعمال وجعلهم كل لَام دخلت فِي الْقُرْآن لتعليل أَفعاله وأوامره لَام عَاقِبَة وكل بَاء دخلت لربط السَّبَب بِسَبَبِهِ بَاء مصاحبة فنفوا الحكم والغايات الْمَطْلُوبَة فِي أوامره وأفعاله وردوها إِلَى الْعلم وَالْقُدْرَة فَجعلُوا مُطَابقَة الْمَعْلُوم للْعلم وَوُقُوع الْمَقْدُور على وفْق الْقُدْرَة هُوَ الْحِكْمَة وَمَعْلُوم أَن وُقُوع الْمَقْدُور بِالْقُدْرَةِ ومطابقة الْمَعْلُوم للْعلم عين الْحِكْمَة والغايات الْمَطْلُوبَة من الْفِعْل وَتعلق الْقُدْرَة بمقدورها وَالْعلم بمعلومة اعم من كَون الْمَعْلُوم والمقدور مُشْتَمِلًا على حِكْمَة ومصلحة أَو مُجَردا عَن ذَلِك والأعم لَا يشْعر بالأخص وَلَا يستلزمه وَهل هَذَا فِي الْحَقِيقَة الأنفي للحكمة وَإِثْبَات لأمر آخر وأخطاوا فِي تسويتهم بَين الْمحبَّة والمشيئة وَأَن كل مَا شاءه الله من الْأَفْعَال والأعيان فقد أحبه ورضيتة وَمَا لم يشأه نقد كرهه وأبغضه فمحبته مَشِيئَته وإرادته الْعَامَّة وكراهته وبغضه عدم مَشِيئَته وإرادته فلزمهم من ذَلِك أَن يكون إِبْلِيس محبوبا لَهُ وَفرْعَوْن وهامان وَجَمِيع الشَّيَاطِين وَالْكفَّار بل أَن يكون الْكفْر والفسوق وَالظُّلم والعدوان الْوَاقِعَة فِي الْعَالم محبوبة لَهُ مرضية وَأَن يكون الْإِيمَان وَالْهدى ووفاء الْعَهْد وَالْبر الَّتِي لم تُوجد من النَّاس مَكْرُوهَة مسخوطة لَهُ مَكْرُوهَة ممقوتة عِنْده فسووا بَين الْأَفْعَال الَّتِي فاوت الله بَينهَا وسووا بَين الْمَشِيئَة الْمُتَعَلّقَة بتكوينها وإيجادها والمحبة الْمُتَعَلّقَة بالرضى بهَا وأخيارها وَهَذَا مِمَّا استطال بِهِ عَلَيْهِم خصومهم كَمَا استطالوا هم عَلَيْهِم حَيْثُ أخرجوها عَن مَشِيئَة الله وإرادته الْعَامَّة وَنَفَوْا تعلق قدرته وخلقه بهَا فاستطال كل من الْفَرِيقَيْنِ على الآخر بِسَبَب مَا مَعَهم من الْبَاطِل وَهدى الله أهل السّنة الَّذين هم وسط فِي المقالات والنحل لما اخْتلف الْفَرِيقَانِ فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ وَالله يهدى من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم
فالقدرية حجروا على الله وألزموه شَرِيعَة حرمُوا عَلَيْهِ الْخُرُوج عَنْهَا وخصومهم من الجبرية جوزوا عَلَيْهِ كل فعل مُمكن يتنزه عَنهُ سُبْحَانَهُ إِذْ لَا يَلِيق بغناه وحمده وكماله مَا نزه نَفسه عَنهُ وَحمد نَفسه بِأَنَّهُ لَا يَفْعَله فالطائفتان متقابلتان غَايَة التقابل والقدرية أثبتوا لَهُ حِكْمَة وَغَايَة مَطْلُوبَة من افعاله على حسب مَا أثبتوه لخلقه والجبرية نفوا والقدرية أثبتوا لَهُ حكمته اللائقة بِهِ الَّتِي لَا يشابهه فِيهَا أحد والقدرية قَالَت أَنه لَا يُرِيد من عباده طاعتهم وَإِيمَانهمْ وَأَنه لَا يسْأَل ذَلِك مِنْهُم والجبرية قَالَت أَنه يحب الْكفْر والفسوق والعصيان ويرضاه من فَاعله والقدرية قَالَت أَنه يجب عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ أَن يفعل بِكُل شخص مَا هُوَ الْأَصْلَح لَهُ والجبرية قَالَت أَنه يجوز أَن يعذب أولياءه وَأهل طَاعَته وَمن لم يطعه قطّ وينعم أعداءه وَمن كفر بِهِ