الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل وَأما قَوْله لَا يُورد ممرض على مصح فالممرض الَّذِي إبِله مراض والمصح
الَّذِي إبِله صِحَاح وَقد ظن بعض النَّاس أَن هَذَا معَارض لقَوْله لَا عدوى وَلَا طيرة وَقَالَ لَعَلَّ أحد الْحَدِيثين نسخ الآخر وَأورد الْحَارِث بن أَبى ذئاب وَهُوَ ابْن عَم أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ جمعه بَين الرِّوَايَتَيْنِ وظنهما متعارضتين فروى ابْن هرير عَن أَبى سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن قَالَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يحدثنا عَن رَسُول الله لَا عدوى ثمَّ حَدثنَا أَن رَسُول الله قَالَ لَا يُورد ممرض على مصح قَالَ فَقَالَ الْحَارِث بن أَبى ذئاب وَهُوَ ابْن عَم أَبى هُرَيْرَة قد كنت أسمعك يَا أَبَا هُرَيْرَة تحدثنا حَدِيثا آخر قد سكت عَنهُ كنت تَقول قَالَ رَسُول الله لَا عدوى فَأبى أَبُو هُرَيْرَة أَن يحدث بذلك وَقَالَ لَا يُورد ممرض على مصح فَمَا رَآهُ الْحَارِث فِي ذَلِك حَتَّى غضب أَبُو هُرَيْرَة ورطن بالحبشية ثمَّ قَالَ لِلْحَارِثِ أتدرى مَا قلت قَالَ لَا قَالَ إِنِّي أَقُول أَبيت أَبيت فَلَا أدرى أنسى أَبُو هُرَيْرَة أَو نسخ أحد الْقَوْلَيْنِ الآخر
قلت قد اتّفق مَعَ أَبى هُرَيْرَة سعد بن أَبى وَقاص وَجَابِر بن عبد الله وَعبد الله بن عَبَّاس وَأنس بن مَالك وَعمر بن سلم على روايتهم عَن النَّبِي قَوْله لَا عدوى وَحَدِيث أَبى هُرَيْرَة مَحْفُوظ عَنهُ بِلَا شكّ من رِوَايَة أوثق أَصْحَابه وأحفظهم أَبى سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن سِيرِين وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة والْحَارث بن أَبى ذئاب وَلم يتفرد أَبُو هُرَيْرَة بروايته عَن النَّبِي بل رَوَاهُ مَعَه من الصَّحَابَة من ذَكرْنَاهُ وَقَوله لَا يُورد ممرض على مصح صَحِيح أَيْضا ثَابت عَنهُ فالحديثان صَحِيحَانِ وَلَا نسخ تعَارض بَينهمَا بِحَمْد الله بل كل مِنْهُمَا لَهُ وَجه وَقد طعن أَعدَاء السّنة فِي أهل الحَدِيث وَقَالُوا يروون الْأَحَادِيث الَّتِي ينْقض بَعْضهَا بَعْضًا ثمَّ يصححونها وَالْأَحَادِيث الَّتِي تخَالف الْعقل فَانْتدبَ أنصار السّنة للرَّدّ عَلَيْهِم وَنفي التَّعَارُض عَن الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَبَيَان موافقتها لِلْعَقْلِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة فِي كتاب مُخْتَلف الحَدِيث لَهُ قَالُوا حديثان متناقضان قَالُوا رويتم عَن رَسُول الله أَنه قَالَ لَا عدوى وَلَا طيرة وَأَنه قيل لَهُ أَن النقبة تقع بمشفر الْبَعِير فتجرب لذَلِك الْإِبِل فَقَالَ فَمَا أعدي الأول هَذَا أَو مَعْنَاهُ ثمَّ رويتم فِي خلاف ذَلِك لَا يُورد ذُو عاهة على مصح وفر من المجذوم فرارك من الْأسد وَأَتَاهُ رجل مجذوم ليبايعه بيعَة الْإِسْلَام فَأرْسل إِلَيْهِ الْبيعَة وَأمره بالانصراف وَلم يَأْذَن لَهُ وَقَالَ الشؤم فِي الْمَرْأَة وَالدَّار وَالدَّابَّة قَالُوا وَهَذَا كُله مُخْتَلف يشبه لَا يثبه بعضه بَعْضًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نقُول أَنه لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَاف وَلكُل وَاحِد معنى فِي وَقت وَمَوْضِع فَإِذا وضع مَوْضِعه زَالَ الِاخْتِلَاف والعدوى جِنْسَانِ أَحدهمَا عدوى الجذام فَإِن
الجذام تشتد رَائِحَته حَتَّى يسقم من أَطَالَ مُجَالَسَته وموا كلته وَكَذَا الْمَرْأَة تكون تَحت المجذوم فتضاجعه فِي شعار وَاحِد فيوصل إِلَيْهَا الْأَذَى وَرُبمَا جذمت وَكَذَلِكَ وَلَده ينزعون فِي الْكبر إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ من بِهِ سل ودق وتعب الْأَطِبَّاء تَأمر أَن لَا يُجَالس المجذوم وَلَا المسلول وَلَا يُرِيدُونَ بذلك معنى الْعَدْوى وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ معنى تغير الرَّائِحَة وَأَنَّهَا قد تسقم من أَطَالَ اشتمامها والأطباء أبعد النَّاس من الْإِيمَان بيمن وشؤم وَكَذَلِكَ النقبة تكون بالبعير وَهُوَ جرب رطب فَإِذا خالط الْإِبِل أَو حاكها واوي فِي مباركها أوصل إِلَيْهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يسيل مِنْهُ والنطف نَحوا مِمَّا بِهِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْنى الَّذِي قَالَ رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسلم لَا يُورد ذُو عاهة على مصح كره أَن يخالط الْمُصَاب الصَّحِيح فيناله من نطفه وحكمته نَحْو مِمَّا بِهِ قَالَ وَقد ذهب قوم إِلَى أَنه أَرَادَ بذلك أَن لَا يظنّ أَن الَّذِي نَالَ إبِله من ذَوَات العاهة فيأثم وَلَيْسَ لهَذَا عِنْدِي وَجه إِلَّا الَّذِي خبرتك بِهِ عيَانًا وَأما الْجِنْس الآخر من الْعَدْوى فَهُوَ الطَّاعُون ينزل بِبَلَد فَيخرج مِنْهُ خوف الْعَدْوى حَدثنِي سهل بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنِي الْأَصْمَعِي عَن بعض المصريين أَنه هرب من الطَّاعُون فَركب حمارا وَمضى بأَهْله نَحْو حلوان فَسمع حَادِيًا يَحْدُو خَلفه وَهُوَ يَقُول:
لن يسْبق الله على حمَار
…
وَلَا على ذِي هيعة مطار
أَو يَأْتِي الحتف على مِقْدَار
…
قد يصبح الله أَمَام الساري
وَقد قَالَ رَسُول الله إِذا كَانَ بِالْبَلَدِ الَّذِي أَنْتُم فِيهِ فَلَا تخْرجُوا مِنْهُ وَقَالَ إِن كَانَ بِبَلَد فَلَا تدخلوه يُرِيد بقوله لَا تخْرجُوا من الْبَلَد أذا كَانَ فِيهِ كأنكم تظنون أَن الْفِرَار من قدر الله ينجيكم من الله وَيُرِيد إِن كَانَ بِبَلَد فَلَا تدخلوه فَإِن مقامكم فِي الْموضع الَّذِي لَا طاعون فِيهِ أسكن لأنفسكم وَأطيب لمعيشتكم وَمن ذَلِك الْمَرْأَة تعرف بالشؤم وَالدَّار فينال الرجل مَكْرُوه أَو جَائِحَة فَيَقُول أعدتني بشؤمها فَهَذَا هُوَ الْعَدْوى الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُول الله لَا عدوى فَأَما الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ الشؤم فِي الْمَرْأَة وَالدَّار وَالدَّابَّة فَإِن هَذَا الحَدِيث يتَوَهَّم فِيهِ الْغَلَط على أَبى هُرَيْرَة وَأَنه سمع فِيهِ شَيْئا من رَسُول الله فَلم يعه حَدثنِي مُحَمَّد بن الْقطعِي حَدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن أَبى حسان الْأَعْرَج أَن رجلَيْنِ دخلا على عَائِشَة فَقَالَا إِن أَبَا هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ يحدث عَن رَسُول الله أَنه قَالَ إِنَّمَا الطَّيرَة فِي الْمَرْأَة وَالدَّار وَالدَّابَّة فطارت شفقا ثمَّ قَالَت كذب وَالَّذِي أنزل الْفرْقَان على أَبى الْقَاسِم من حدث بِهَذَا عَن رَسُول الله إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ إِن الطَّيرَة فِي الدَّابَّة وَالْمَرْأَة وَالدَّار ثمَّ قَرَأت مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبراها حَدثنِي أَبى قَالَ حَدثنِي أَحْمد بن الْخَلِيل حَدثنَا مُوسَى بن مَسْعُود النَّهْدِيّ عَن
عِكْرِمَة بن عمار عَن اسحق بن عبد الله بن أَبى طَلْحَة عَن أنس بن مَالك رضى الله عَنهُ قَالَ جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي فَقَالَ يَا رَسُول الله أَنا نزلنَا دَارا فَكثر فِيهَا عددنا وَكَثُرت فِيهَا أَمْوَالنَا ثمَّ تَحَوَّلْنَا عَنْهَا إِلَى أُخْرَى فَقلت فِيهَا أَمْوَالنَا وَقل فِيهَا عددنا فَقَالَ رَسُول الله ذروها وهى ذميمه 0 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَيْسَ ينْقض الحَدِيث الأول وَلَا الحَدِيث الأول ينْقض هَذَا وَإِنَّمَا أَمرهم بالتحول مِنْهَا لأَنهم كَانُوا مقيمين فِيهَا على استثقال لظلها واستيحاش لما نالهم فِيهَا فَأَمرهمْ بالتحول وَقد جعل الله فِي غرائز النَّاس وتركيبهم استثقال مَا نالهم السوء فِيهِ وَإِن كَانَ لَا سَبَب لَهُ فِي ذَلِك وَحب من جرى على يَده الْخَيْر لَهُم وَأَن لم يردهم بِهِ وبغض من جرى على يَده الشَّرّ لَهُم وَإِن لم يردهم بِهِ وَكَيف يتطير والطيرة من الجبت وَكَانَ كثير من الْجَاهِلِيَّة لَا يرونها شَيْئا ويمدحون من كذب بهَا ثمَّ أنْشد مَا ذكرنَا من الأبيات سالفا ثمَّ قَالَ حَدثنَا اسحق بن رَاهَوَيْه أخبرنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن إِسْمَاعِيل بن أَبى أُمِّيّه قَالَ قَالَ رَسُول الله ثَلَاث لَا يسلم مِنْهُنَّ أحد الطَّيرَة وَالظَّن والحسد قيل فَمَا الْمخْرج مِنْهُنَّ قَالَ إِذا تطيرت فَلَا ترجع وَإِذا ظَنَنْت فَلَا تحقق وَإِذا حسدت فَلَا تَبْغِ هَذِه الْأَلْفَاظ أَو نَحْوهَا حَدثنِي أَبُو حَاتِم قَالَ حَدثنَا الْأَصْمَعِي عَن سعيد بن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ يعجب مِمَّن يصدق بالطيرة ويعيبها أَشد الْعَيْب وَقَالَ فرقت لنا نَاقَة وَأَنا بِالطَّائِف فركبت فِي أَثَرهَا فلقيني هَانِيء ين عبيد من بنى وَائِل وَهُوَ مسرع وَهُوَ يَقُول 0 الشَّرْع يلقى مطالع إِلَّا كم 0 ثمَّ لَقِيَنِي آخر من الْحَيّ وَهُوَ يَقُول 0
وَلَئِن بغيت لَهُم بغاة
…
مَا الْبُغَاة بواجدينا
ثمَّ دفعنَا إِلَى غُلَام قد وَقع فِي صغره فِي نَار فَأَحْرَقتهُ فقبح وَجهه وَفَسَد فَقلت لَهُ هَل ذكرت من نَاقَة فَارق قَالَ هَهُنَا أهل بَيت من الْأَعْرَاب فَانْظُر فَنَظَرت فَإِذا هِيَ عِنْدهم وَقد نتجت فأخذناها وَوَلدهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْفَارِق الَّتِي ضلت ففارقت صواحبها وَقَالَ عِكْرِمَة كُنَّا جُلُوسًا عِنْد ابْن عَبَّاس فَمر طَائِر يَصِيح فَقَالَ رجل خير خير فَقَالَ ابْن عَبَّاس لَا خير وَلَا شَرّ وَكَانَ رَسُول الله يسْتَحبّ الِاسْم الْحسن والفأل الصَّالح حَدثنِي الرياشى حَدثنَا الْأَصْمَعِي قَالَ سَأَلت ابْن عون عَن الفأل فَقَالَ هُوَ أَن يكون مَرِيضا فَيسمع يَا سَالم أَو يكون بَاغِيا فَيسمع يَا وَاجِد وَهَذَا أَيْضا مِمَّا جعل فِي غرائز النَّاس وتركيبهم اسْتِحْبَابه والأنس بِهِ وكما جعل على الْأَلْسِنَة من التَّحِيَّة بِالسَّلَامِ وَالْمدّ فِي الأصب والتبشير بِالْخَيرِ وكما يُقَال أنعم وَأسلم وأنعم صباحا وكما تَقول الْفرس عش ألف نوروز وَالسَّامِع لهَذَا يعلم أَنه لَا يقدم وَلَا يُؤَخر وَلَا يزِيد وَلَا ينقص وَلَكِن جعل فِي الطباع محبَّة الْخَيْر والارتياح للبشرى والمنظر الأنيق وَالْوَجْه الْحسن وَالِاسْم الْخَفِيف وَقد يمر الرجل بالروضة المنورة فتسره وهى لَا تَنْفَعهُ وبالماء الصافي
فيعجب بِهِ وَهُوَ لَا يبشر بِهِ وَلَا يردهُ وَفِي بعض الحَدِيث أَن رَسُول الله كَانَ يعجب بالأترج وَيُعْجِبهُ الْحمام الْأَحْمَر وتعجبه الفاغية وَهُوَ نور الْحِنَّاء وَهَذَا مثل إعجابه بِالِاسْمِ الْحسن والفأل الْحسن وعَلى حسب هَذَا كَانَت كَرَاهِيَة الِاسْم الْقَبِيح كبني النَّار وَبني حراق وَأَشْبَاه هَذَا انتهي كَلَامه وَقد سلك أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي هَذَا الحَدِيث نَحوا من مَسْلَك أَبى مُحَمَّد بن قُتَيْبَة فَقَالَ أما قَوْله لَا عدوى فَهُوَ نهى أَن يَقُول أحد إِن شَيْئا يعدى شَيْئا وإخبار أَن شيئالا يعدى شَيْئا فَكَأَنَّهُ لَا يعدى شَيْء شَيْئا يَقُول لَا يُصِيب أحد من أحد شَيْئا من خلق أَو فعل أَو دَاء أَو مرض وَكَانَت الْعَرَب تَقول فِي جَاهِلِيَّتهَا فِي مثل هَذَا أَنه إِذا اتَّصل شَيْء من ذَلِك بِشَيْء أَعدَاء فَأخْبرهُم رَسُول الله أَن قَوْلهم واعتقادهم فِي ذَلِك لَيْسَ كَذَلِك وَنهى عَن ذَلِك القَوْل إعلاما مِنْهُ بأنما اعْتقد ذَلِك من اعْتقد مِنْهُم كَانَ بَاطِلا قَالَ وَأما الممرض فَالَّذِي إبِله مراض والمصح الَّذِي إبِله صِحَاح وروى ابْن وهب عَن ابْن لَهِيعَة عَن أَبى الزبير عَن جَابر قَالَ يكره إِن يدْخل الْمَرِيض على الصَّحِيح مِنْهَا وَلَيْسَ بِهِ إِلَّا قَول النَّاس وحماية للقلب مِمَّا يستبق إِلَيْهِ من الإفهام وَيَقَع فِيهِ من التطير والتشاؤم بذلك وَقد قَالَ أَبُو عبيد قولا قَرِيبا من ذَلِك فَقَالَ فِي قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث أَنه إِذا أَبى إِيرَاد الممرض على المصح فَقَالَ معنى الْأَذَى عِنْدِي الماثم يعْنى أَن المورد يَأْثَم بأذاه من أورد عَلَيْهِ وتعريضه للتشاؤم والتطير وَقد سلك بَعضهم مسلكا آخر فَقَالَ مَا يخبر بِهِ النَّبِي نَوْعَانِ:
أَحدهمَا يخبر بِهِ عَن الْوَحْي فَهَذَا خبر مُطَابق لمخبره من جَمِيع الْوُجُوه ذهنا وخارجا وَهُوَ الْخَبَر الْمَعْصُوم وَالثَّانِي مَا يخبر بِهِ عَن ظَنّه من أُمُور الدُّنْيَا الَّتِي هم اعْلَم بهَا مِنْهُ فَهَذَا لَيْسَ فِي رُتْبَة النَّوْع الأول وَلَا تثبت لَهُ أَحْكَامه وَقد أخبر عَن نَفسه الْكَرِيمَة بذلك تفريقا بَين النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ لما سمع أَصْوَاتهم فِي النّخل يؤبرونها وَهُوَ التلقيح قَالَ مَا هَذَا فأخبروه بِأَنَّهُم يلقحونها فَقَالَ مَا أرى لَو تَرَكْتُمُوهُ يضوء شَيْئا فَتَرَكُوهُ فجَاء شيصا فَقَالَ إِنَّمَا أَخْبَرتكُم عَن ظَنِّي وَأَنْتُم أعلم بِأَمْر دنياكم وَلَكِن مَا أَخْبَرتكُم عَن الله والْحَدِيث صَحِيح مَشْهُور وَهُوَ من أَدِلَّة بنوية وأعلامها فَأن من خَفِي عَلَيْهِ مثل هَذَا من أَمر الدِّينَا وَمَا أجْرى الله بِهِ عَادَته فِيهَا ثمَّ جَاءَ من الْعُلُوم الَّتِي لَا يُمكن الْبشر أَن يطلع عَلَيْهَا الْبَتَّةَ إِلَّا بِوَحْي من الله فَأخْبر عَمَّا كَانَ وَمَا يكون وَمَا هُوَ كَائِن من لدن خلق الْعَالم إِلَى أَن اسْتَقر أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة وَأهل النَّار فِي النَّار وَعَن غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَعَن كل سَبَب دَقِيق أَو جليل تنَال بِهِ سَعَادَة الدَّاريْنِ وكل سَبَب دَقِيق أَو جليل تنَال بِهِ شقاوة الدَّاريْنِ وَعَن مصَالح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وأسبابهما مَعَ كَون معرفتهم بالدنيا وأمورها وَأَسْبَاب حُصُولهَا ووجوه تَمامهَا أَكثر من مَعْرفَته كَمَا أَنهم أعرف بِالْحِسَابِ والهندسة والصناعات والفلاحة وَعمارَة الأَرْض وَالْكِتَابَة فَلَو كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مِمَّا ينَال بالتعلم والتفكر والتطير والطرق الَّتِي
يسلكها النَّاس لكانوا أولى بِهِ مِنْهُ وأسبق إِلَيْهِ لِأَن أَسبَاب مَا ينَال بالفكر وَالْكِتَابَة والحساب وَالنَّظَر والصناعات بِأَيْدِيهِم فَهَذَا من اقوى براهين نبوته وآيات صدقه وَإِن هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ لَا صنع للبشر فِيهِ الْبَتَّةَ وَلَا هُوَ مِمَّا ينَال بسعي وَكسب وفكر وَنظر إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى علمه شَدِيد القوى الَّذِي يعلم السِّرّ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض أنزلهُ عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبَة أحدا إِلَّا من ارتضى من رَسُول قَالُوا فَهَكَذَا إخْبَاره عَن عدم الْعَدْوى إِخْبَار عَن ظَنّه كإخباره عَن عدم تَأْثِير التلقيح لَا سِيمَا وَأحد الْبَابَيْنِ قريب من الآخر بل هُوَ فِي النَّوْع وَاحِد فَإِن اتِّصَال الذّكر بِالْأُنْثَى وتأثره بِهِ كاتصال المعدى بالمعدي وتأثره بِهِ وَلَا ريب أَن كلهما من أُمُور الدُّنْيَا لَا مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ حكم من الشَّرْع فَلَيْسَ الْإِخْبَار بِهِ كالإخبار عَن الله سُبْحَانَهُ وَصِفَاته وأسمائه وَأَحْكَامه قَالُوا فَلَمَّا تبين لَهُ من أَمر الدُّنْيَا الذى أجْرى الله سُبْحَانَهُ عَادَته بِهِ ارتباط هَذِه الأ سباب بَعْضهَا بِبَعْض التلقيح فى صَلَاح الثِّمَار وتأثير إِيرَاد الممرض على المصح أقرهم على تأبير النّخل ونهاهم أَن يُورد ممرض على مصح قَالُوا وَإِن سمى هَذَا نسخآ بِهَذَا الِاعْتِبَار فَلَا مشاحة فى التَّسْمِيَة إِذا ظهر الْمَعْنى وَلِهَذَا قَالَ أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن فَلَا أدرى أنسى أَبُو هُرَيْرَة أَو نسخ أحد الْقَوْلَيْنِ بِالْآخرِ يعْنى بحَديثه بِالْحَدِيثين فجوز أَبُو سَلمَة النّسخ فى ذَلِك مَعَ أَنه خبر وَهُوَ بِمَا ذكرنَا من الِاعْتِبَار وَهَذَا المسلك حسن لَوْلَا أَنه قد اجْتمع الفصلان فى حَدِيث وَاحِد كَمَا فى موطآ مَالك أَنه بلغه عَن بكير بن عبد الله ابْن الْأَشَج عَن ابْن عَطِيَّة أَن رَسُول قَالَ لَا عدوى ولاصفر ولايحلل الممرض على المصح وليحلل المصح حَيْثُ شَاءَ قَالُوا وَمَا ذَاك يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله إِنَّه أَذَى وَقد يُجَاب عَن هَذَا بحوابين: أَحدهمَا أَن الحَدِيث لَا يثبت لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا إرْسَاله وَالثَّانِي أَن ابْن عَطِيَّة هَذَا وَيُقَال أبوعطية مَجْهُول لَا يعرف إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث 00 الْجَواب الثَّانِي قَوْله فِيهِ لاعدوى نهى لَا نفى أى لَا يعدى الممرض المصح بحلوله عَلَيْهِ وَيدل على ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو عمر النمرى حَدثنَا خلف بن الْقَاسِم حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله حَدثنَا يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد حَدثنَا أَبُو هِشَام الرفاعى حَدثنَا الْبشر بن عمر الزهر انى قَالَ قَالَ مَالك أَنه بلغه عَن بكير بن عبد الله بن الْأَشَج عَن أَبى عَطِيَّة أَو أبن عَطِيَّة شكّ بشر عَن أَبى هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله لاطيرة ولاهامة وَلَا يعدى سقم صَحِيحا وليحل المصح حَيْثُ شَاءَ خفى هَذَا النهى كالإثبات للعدى والنهى عَن أَسبَابهَا وَلَعَلَّ بعض الروَاة رَوَاهُ بِالْمَعْنَى فَقَالَ لَا عدوى وَلَا طيرة وَلَا هَامة وَإِنَّمَا مخرج الحَدِيث النهى عَن الْعَدْوى لَا نَفيهَا وَهَذَا أَيْضا حسن لَوْلَا حَدِيث ابْن شهَاب عَن أَبى سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبى هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله فَمن أعدى الأول فَهَذَا الحَدِيث قد فهم مِنْهُ السَّامع النَّفْي وَأقرهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا أستشكل نَفْيه وَأورد مَا أوردهُ فَأَجله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يتَضَمَّن إبِْطَال الدَّعْوَى وَهُوَ قَوْله فَمن أعدى الأول وَهَذَا أصح من حَدِيث أبي عطيه الْمُتَقَدّم وَحِينَئِذٍ فَيرجع إِلَى مَسْلَك التلقيح الْمَذْكُور آنِفا أَو مَا قبله من المسالك وَعِنْدِي فِي الْحَدِيثين مَسْلَك آخر يتَضَمَّن إِثْبَات الْأَسْبَاب وَالْحكم وَنفى مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الشّرك واعتقاد الْبَاطِل وَوُقُوع النَّفْي وَالْإِثْبَات على وَجهه فَإِن الْعَوام كَانُوا يثبتون الْعَدْوى على مَذْهَبهم من الشّرك الْبَاطِل كَمَا يَقُوله المنجمون من تَأْثِير الْكَوَاكِب فِي هَذَا الْعَالم وسعودها ونحوسها كَمَا تقدم الْكَلَام عَلَيْهِم وَلَو قَالُوا أَنَّهَا اسباب أَو اجزاء اسباب إِذْ شَاءَ الله صرف مقتضياتها بمشيئته وإرادته وحكمته وَأَنَّهَا مسخرة بأَمْره لما خلقت لَهُ وَأَنَّهَا فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة سَائِر الْأَسْبَاب الَّتِي ربط بهَا مسبباتها وَجعل لَهَا أسبابا أخر تعارضها وتمانعها وتمنع اقتضاءها لما جعلت أسبابا لَهُ وَإِنَّهَا لَا تقضي مسبباتها إِلَّا بِإِذْنِهِ مَشِيئَته وإرادته لَيْسَ لَهَا من ذَاتهَا ضرّ وَلَا نفع وَلَا تَأْثِير الْبَتَّةَ إِن هِيَ إِلَّا خلق مسخر مصرف مربوب لَا تتحرك إِلَّا بِإِذن خَالِقهَا ومشيئته وغايتها أَنَّهَا جُزْء سَبَب لَيست سَببا تَاما فسببيتها من جنس سَبَبِيَّة وَطْء الْوَالِد فِي حُصُول الْوَلَد فَإِنَّهُ جُزْء وَاحِد من أَجزَاء كَثِيرَة من الْأَسْبَاب الَّتِي خلق الله بهَا الْجَنِين وكسببية شقّ الأَرْض وإلقاء الْبذر فَإِنَّهُ جُزْء يسير من جملَة الْأَسْبَاب الَّتِي يكون الله بهَا النَّبَات وَهَكَذَا جملَة أَسبَاب الْعَالم من الْغذَاء والرواء والعافية والسقم وَغير ذَلِك وَأَن الله سُبْحَانَهُ جعل من ذَلِك سَببا مَا يَشَاء وَيبْطل السَّبَبِيَّة عَمَّا يَشَاء ويخلق من الْأَسْبَاب الْمُعَارضَة لَهُ مَا يحول بَينه وَبَين مُقْتَضَاهُ فهم لَو أثبتوا الْعَدْوى على هَذَا الْوَجْه لما أنكر عَلَيْهِم كَمَا أَن ذَلِك ثَابت فِي الدَّاء والدواء وَقد تداوى النَّبِي وَأمر بالتداوي وَأخْبر أَنه مَا أنزل الله دَاء إِلَّا أنزل لَهُ دَوَاء إِلَّا الْهَرم فأعلمنا أَنه خَالق أَسبَاب الدَّاء وَأَسْبَاب الدَّوَاء الْمُعَارضَة المقاومة لَهَا وأمرنا بِدفع تِلْكَ الْأَسْبَاب الْمَكْرُوهَة بِهَذِهِ الْأَسْبَاب وعَلى هَذَا قيام مصَالح الدَّاريْنِ بل الْخلق وَالْأَمر مَبْنِيّ على هَذِه الْقَاعِدَة فَإِن تَعْطِيل الْأَسْبَاب وإخراجها عَن أَن تكون أسبابا تَعْطِيل للشَّرْع ومصالح الدُّنْيَا والإعتماد عَلَيْهَا والركون إِلَيْهَا واعتقاد أَن المسببات بهَا وَحدهَا وَأَنَّهَا أَسبَاب تَامَّة شرك بالخالق عز وجل وَجَهل بِهِ وَخُرُوج عَن حَقِيقَة التَّوْحِيد وَإِثْبَات مسببيتها على الْوَجْه الَّذِي خلقهَا الله عَلَيْهِ وَجعلهَا لَهُ إِثْبَات لِلْخلقِ وَالْأَمر للشَّرْع وَالْقدر للسبب والمشيئة للتوحيد وَالْحكمَة فالشارع يثبت هَذَا وَلَا يَنْفِيه وينفي مَا عَلَيْهِ الْمُشْركُونَ من اعْتِقَادهم فِي ذَلِك وَيُشبه هَذَا نَفْيه سبحانه وتعالى الشَّفَاعَة فِي قَوْله وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزى نفس عَن نفس شَيْئا وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة وَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا عدل وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى وَلَا تنفعها شَفَاعَة وَفِي قَوْله من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة وإثباتها فِي قَوْله وَلَا يشفعون إِلَى لمن ارتضى وَقَوله من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا باذنه وَقَوله لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ