الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِنْد كل عَاقل أَن كمان الرَّاحَة بِحَسب التَّعَب وَكَمَال النَّعيم بِحَسب تحمل المشاق فِي طَرِيقه وَإِنَّمَا تخلص الرَّاحَة واللذة وَالنَّعِيم فِي دَار السَّلَام فَأَما فِي هَذِه الدَّار فكلا وَلما
وَبِهَذَا التَّفْصِيل يَزُول النزاع فِي المسئلة وتعود مسئلة وفَاق
فصل وَأما المسئلة الثَّانِيَة وَهِي مَا تَسَاوَت مصْلحَته ومفسدته فقد اخْتلف
فِي وجوده وَحكمه فَاثْبتْ وجوده قوم ونفاه آخَرُونَ
وَالْجَوَاب أَن هَذَا الْقسم لَا وجود لَهُ إِن حصره التَّقْسِيم بل التَّفْصِيل إِمَّا أَن يكون حُصُوله أولى بالفاعل وَهُوَ رَاجِح الْمصلحَة وَإِمَّا أَن يكون عَدمه أولى بِهِ وَهُوَ رَاجِح الْمفْسدَة وَأما فعل يكون حُصُوله أولى لمصلحته وَعَدَمه أولى بِهِ لمفسدته وَكِلَاهُمَا متساويان فَهَذَا مِمَّا لم يقم دَلِيل على ثُبُوته بل الدَّلِيل يَقْتَضِي نَفْيه فَإِن الْمصلحَة والمفسدة وَالْمَنْفَعَة والمضرة واللذة والألم إِذا تقابلا فَلَا بُد أَن يغلب أَحدهمَا الآخر فَيصير الحكم للْغَالِب وَأما أَن يتدافعا ويتصادما بِحَيْثُ لَا يغلب أَحدهمَا الآخر فَغير وَاقع فَإِنَّهُ إِمَّا أَن يُقَال يُوجد الأثران مَعًا وَهُوَ محَال لتصادمها فِي الْمحل الْوَاحِد وَإِمَّا أَن يُقَال يمْتَنع وجود كل من الأثرين وَهُوَ مُمْتَنع لِأَنَّهُ تَرْجِيح لأحد الجائزين من غير مُرَجّح وَهَذَا الْمحَال إِنَّمَا نَشأ من فرض تدافع المؤثرين وتصادمهما فَهُوَ محَال فَلَا بُد أَن يقهر أَحدهمَا صَاحبه فَيكون الحكم لَهُ فَإِن قيل مَا الْمَانِع من أَن يمْتَنع وجود الأثرين قَوْلكُم أَنه محَال لوُجُود مقتضيه إِن أردتم بِهِ الْمُقْتَضى السَّالِم عَن الْمعَارض فَغير مَوْجُود وَإِن أردتم الْمُقْتَضى الْمُقَارن لوُجُود الْمعَارض فَتخلف أَثَره عَنهُ غير مُمْتَنع والمعارض قَائِم هَهُنَا فِي كل مِنْهُمَا فَلَا يمْتَنع تخلف الأثرين فَالْجَوَاب أَن الْمعَارض إِذا كَانَ قد سلب تَأْثِير الْمُقْتَضى فِي مُوجبه مَعَ قوته وَشدَّة اقتضائه لأثره وَمَعَ هَذَا فقد قوى على سلبه قُوَّة التَّأْثِير والاقتضاء فلَان يقوى على سلبه قُوَّة مَنعه لتأثيره هُوَ فِي مُقْتَضَاهُ وموجبه بطرِيق الأولى وَوجه الْأَوْلَوِيَّة أَن اقتضاءه لأثره اشد من مَنعه تَأْثِير غير فَإِذا قوى على سلبه للأقوى فسلبه للأضعف أولى وَأَحْرَى فَإِن قيل هَذَا ينْتَقض بِكُل مَانع يمْنَع تَأْثِير الْعلَّة فِي معلولها وَهُوَ بَاطِل قطعا قيل لَا ينْتَقض بِمَا ذكرْتُمْ والنقض مندفع فَإِن الْعلَّة وَالْمَانِع هَهُنَا لم يتدافعا ويتصادما وَلَكِن الْمَانِع أَضْعَف الْعلَّة فَبَطل تأثيرها فَهُوَ عائق لَهَا عَن الِاقْتِضَاء وَأما فِي مسئلتنا فالعلتان متصادمتان متعارضتان كل مِنْهُمَا تَقْتَضِي أَثَرهَا فَلَو بَطل أثرهما لكَانَتْ كل وَاحِدَة مُؤثرَة غير مُؤثرَة غالبة مغلوبة مَانِعَة مَمْنُوعَة وَهَذَا يمْتَنع وَهُوَ دَلِيل يشبه دَلِيل التمانع وسر الْفرق أَن الْعلَّة الْوَاحِدَة إِذا قارنها مَانع منع تأثيرها لم تبْق مقتضية لَهُ بل الْمَانِع عاقها عَن اقتضائها وَهَذَا غير مُمْتَنع وَأما العلتان المتمانعتان اللَّتَان كل مِنْهُمَا مَانِعَة لِلْأُخْرَى من تأثيرها فَإِن تمانعهما وتقابلهما يَقْتَضِي إبِْطَال كل وَاحِدَة مِنْهُمَا لِلْأُخْرَى وتأثيرها
فِيهَا وَعدم تأثيرها مَعًا وَهُوَ جمع بَين النقيضين لِأَنَّهَا إِذا بطلت لم تكن مُؤثرَة وَإِذا لم تكن مُؤثرَة لم تبطل غَيرهَا فَتكون كل مِنْهُمَا مُؤثرَة غير مُؤثرَة بَاطِلَة غير بَاطِلَة وَهَذَا محَال فَثَبت أَنَّهُمَا لَا بُد أَن تُؤثر إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى بقوتها فَيكون الحكم لَهَا
فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَن توَسط أَرضًا مَغْصُوبَة ثمَّ بدا لَهُ فِي التَّوْبَة فَإِن أمرتموه باللبث فَهُوَ محَال وَإِن أمرتموه بقطعها وَالْخُرُوج من الْجَانِب الآخر فقد أمرتموه بالحركة وَالتَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر وَكَذَلِكَ إِن أمرتموه بِالرُّجُوعِ فَهُوَ حَرَكَة مِنْهُ وَتصرف فِي ارْض الْغَصْب فَهَذَا قد تَعَارَضَت فِيهِ الْمصلحَة والمفسدة فَمَا الحكم فِي هَذِه الصُّورَة وَكَذَلِكَ من توَسط بَين فِئَة مثبتة بالجراح منتظرين للْمَوْت وَلَيْسَ لَهُ انْتِقَال إِلَّا على أحدهم فَإِن أَقَامَ على من هُوَ فَوْقه قَتله وان انْتقل إِلَى غَيره قَتله فقد تَعَارَضَت هُنَا مصلحَة النقلَة ومفسدتها على السوَاء وَكَذَلِكَ من طلع عَلَيْهِ الْفجْر وَهُوَ مجامع فَإِن أَقَامَ أفسد صَوْمه وان نزع فالنزع من الْجِمَاع وَالْجِمَاع مركب من الحركتين فهاهنا أَيْضا قد تضادت العلتان وَكَذَلِكَ أَيْضا إِذا تترس الْكفَّار بأسرى من الْمُسلمين هم بِعَدَد الْمُقَاتلَة وَدَار الْأَمر بَين قتل الترس وَبَين الْكَفّ عَنهُ وَقتل الْكفَّار الْمُقَاتلَة الْمُسلمين فهاهنا أَيْضا قد تقابلت الْمصلحَة والمفسدة على السوَاء وَكَذَلِكَ أَيْضا إِذا ألْقى فِي مركبهم نَار وعاينوا الْهَلَاك بهَا فان أَقَامُوا احترقوا وان لجؤا إِلَى المَاء هَلَكُوا بِالْغَرَقِ وَكَذَلِكَ الرجل إِذا ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْت لَيْلَة عَرَفَة وَلم يبْق مِنْهُ إِلَّا مَا يسع قدر صَلَاة الْعشَاء فان اشْتغل بهَا فَاتَهُ الْوُقُوف وان اشْتغل بالذهاب إِلَى عَرَفَة فَاتَتْهُ الصَّلَاة فهاهنا تحد تَعَارَضَت المصلحتان والمفسدتان على السوَاء وَكَذَلِكَ الرجل إِذا اسْتَيْقَظَ قبل طُلُوع الشَّمْس وَهُوَ جنب وَلم يبْق من الْوَقْت إِلَّا مَا يسع قدرالغسل أَو الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ فان اغْتسل فَاتَتْهُ مصلحَة الصَّلَاة فِي الْوَقْت وَإِن صلى بِالتَّيَمُّمِ فَاتَتْهُ مصلحَة الطَّهَارَة فقد تقابلت الْمصلحَة والمفسدة وَكَذَلِكَ إِذا اغتلم الْبَحْر بِحَيْثُ يعلم ركبان السَّفِينَة أَنهم لَا يخلصون إِلَّا بتغريق شطر الركْبَان لتخف بهم السَّفِينَة فان ألقوا شطرهم كَانَ فِيهِ مفْسدَة وان تركوهم كَانَ فِيهِ مفْسدَة فقد تقابلت المفسدتان والمصلحتان على السوَاء وَكَذَلِكَ لَو أكره رجل على إِفْسَاد دِرْهَم من دِرْهَمَيْنِ متساويين أَو إِتْلَاف حَيَوَان من حيوانين متساويين أَو شرب قدح من قدحين متساويين أَو وجد كَافِرين قويين فِي حَال المبارزة لَا يُمكنهُ إِلَّا قتل أَحدهمَا أَو قصد الْمُسلمين عدوان متكافئان من كل وَجه فِي الْقرب والبعد وَالْعدَد والعداوة فانه فِي هَذِه الصُّور كلهَا تَسَاوَت الْمصَالح والمفاسد وَلَا يمكنكم تَرْجِيح أحد من المصلحتين وَلَا أحد من المفسدتين وَمَعْلُوم أَن هَذِه حوادث لَا تَخْلُو من حكم لله فِيهَا وَأما مَا ذكرْتُمْ من امْتنَاع تقَابل الْمصلحَة والمفسدة على السوَاء فَكيف عَلَيْكُم إِنْكَاره وَأَنْتُم تَقولُونَ بالموازنة وَإِن من النَّاس من تستوي حَسَنَاته وسيئاته فَيبقى فِي الْأَعْرَاف بَين الْجنَّة وَالنَّار لتقابل مُقْتَضى الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي حَقه فان حَسَنَاته
قصرت بِهِ عَن دُخُول النَّار وسيئاته قصرت بِهِ عَن دُخُول الْجنَّة وَهَذَا ثَابت عَن الصَّحَابَة حُذَيْفَة ابْن الْيَمَان وَابْن مَسْعُود وَغَيرهمَا
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن مُجمل ومفصل
وَأما الْمُجْمل فَلَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرْتُمْ دَلِيل على مَحل النزاع فان مورد النزاع أَن تتقابل الْمصلحَة والمفسدة وتتساويا فيتدافعا وَيبْطل أثرهما وَلَيْسَ فِي هَذِه الصُّور شَيْء كَذَلِك وَهَذَا يتَبَيَّن بِالْجَوَابِ التفصيلي عَنْهَا صُورَة فَأَما من توَسط أَرضًا مَغْصُوبَة فَإِنَّهُ مَأْمُور من حِين دخل فِيهَا بِالْخرُوجِ مِنْهَا فَحكم الشَّارِع فِي حَقه الْمُبَادرَة إِلَى الْخُرُوج وان استلزم ذَلِك حَرَكَة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة فَإِنَّهَا حَرَكَة تَتَضَمَّن ترك الْغَصْب فَهِيَ من بَاب مَالا خلاص عَن الْحَرَام إِلَّا بِهِ وان قيل إِنَّهَا وَاجِبَة فوجوب عَقْلِي لزومي لَا شَرْعِي مَقْصُود فمفسدة هَذِه الْحَرَكَة مغمورة فِي مصلحَة تَفْرِيغ الأَرْض وَالْخُرُوج عَن الْغَصْب وَإِذا قدر تَسَاوِي الْجَواب بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَالْوَاجِب الْقدر الْمُشْتَرك وَهُوَ الْخُرُوج من أَحدهَا وعَلى كل تَقْدِير فمفسدة هَذِه الْحَرَكَة مغمورة جدا فِي مصلحَة ترك الْغَصْب فَلَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ بسبيل وَأما مسئلة من توَسط بَين قَتْلَى لَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْمقَام أَو النقلَة إِلَّا بقتل أحدهم فَهَذَا لَيْسَ مُكَلّفا فِي هَذِه الْحَال بل هُوَ فِي حكم الملجأ والملجأ لَيْسَ مُكَلّفا اتِّفَاقًا فَإِنَّهُ لَا قصد لَهُ وَلَا فعل وَهَذَا ملْجأ من حَيْثُ أَنه لَا سَبِيل لَهُ إِلَى ترك النقلَة عَن وَاحِد إِلَّا إِلَى الآخر فَهُوَ ملْجأ إِلَى لبثه فَوق وَاحِد وَلَا بُد وَمثل هَذَا لَا يُوصف فعله بِإِبَاحَة وَلَا تَحْرِيم وَلَا حكم من أَحْكَام التَّكْلِيف لِأَن أَحْكَام التَّكْلِيف منوطة بِالِاخْتِيَارِ فَلَا تتَعَلَّق بِمن لَا اخْتِيَار لَهُ فَلَو كَانَ بَعضهم مُسلما وَبَعْضهمْ كَافِرًا مَعَ اشتراكهم فِي الْعِصْمَة فقد قيل يلْزمه الِانْتِقَال إِلَى الْكَافِر أَو الْمقَام عَلَيْهِ لِأَن قَتله أخف مفْسدَة من قتل الْمُسلم وَلِهَذَا يجوز قتل من لَا يقْتله فِي المعركة إِذا تترس بهم الْكفَّار فيرميهم ويقصد الْكفَّار
وَأما من طلع عَلَيْهِ الْفجْر وَهُوَ مجامع فَالْوَاجِب عَلَيْهِ النزع عينا وَيحرم عَلَيْهِ اسْتِدَامَة الْجِمَاع واللبث وَإِنَّمَا اخْتلف فِي وجوب الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة عَلَيْهِ على ثَلَاثَة أَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره
أَحدهَا عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي أبي يعلي وَالثَّانِي لَا شَيْء عَلَيْهِ وَهَذَا اخْتِيَار شَيخنَا وَهُوَ الصَّحِيح وَالثَّالِث عَلَيْهِ الْقَضَاء دون الْكَفَّارَة وعَلى الْأَقْوَال كلهَا فَالْحكم فِي حَقه وجوب النزع والمفسدة الَّتِي فِي حَرَكَة النزع مفْسدَة مغمورة فِي مصلحَة إقلاعه ونزعه فَلَيْسَتْ المسئلة من موارد النزاع وَأما إِذا تترس الْكفَّار بأسرى من الْمُسلمين بِعَدَد الْمُقَاتلَة فانه لَا يجوز رميهم إِلَّا أَن يخْشَى على جَيش الْمُسلمين وَتَكون مصلحَة حفظ الْجَيْش أعظم من مصلحَة حفظ الْأُسَارَى فَحِينَئِذٍ يكون رمي الْأُسَارَى وَيكون من بَاب دفع أعظم المفسدتين بِاحْتِمَال أدناهما فَلَو انعكس الامر وَكَانَت مصلحَة الاسرى أعظم من رميهم لم يجز رميهم
فَهَذَا الْبَاب مَبْنِيّ على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما وَتَحْصِيل أعظم لمصلحتين بتفويت أدناهما فان فرض الشَّك وتساوي الْأَمْرَانِ لم يجز رمي الأسرى لِأَنَّهُ
على يَقِين من قَتلهمْ وعَلى ظن وتخمين من قتل أَصْحَابه وهلاكهم وَلَو قدر أَنهم تيقنوا ذَلِك وَلم يكن فِي قَتلهمْ اسْتِبَاحَة ببضه الْإِسْلَام وَغَلَبَة الْعَدو على الديار لم يجز أَن يقي نُفُوسهم بنفوس الأسرى كَمَا لَا يجوز للمكره على قتل الْمَعْصُوم أَن يقْتله ويقي نَفسه بِنَفسِهِ بل الْوَاجِب عَلَيْهِ أَن يستسلم للْقَتْل وَلَا يَجْعَل النُّفُوس المعصومة وقاية لنَفسِهِ وَأما إِذا ألْقى فِي مركبهم نَار فانهم يَفْعَلُونَ مَا يرَوْنَ السَّلامَة فِيهِ وان شكوا هَل السَّلامَة فِي فِي مقامهم أَو فِي وقوعهم فِي المَاء أَو تيقنوا الْهَلَاك فِي الصُّورَتَيْنِ أَو غلب على ظنهم غَلَبَة مُتَسَاوِيَة لَا يتَرَجَّح أحد طرفيها فَفِي الصُّور الثَّلَاث قَولَانِ لأهل الْعلم وهما رِوَايَتَانِ منصوصتان عَن أحد إِحْدَاهمَا أَنهم يخيرون بَين الْأَمريْنِ لِأَنَّهُمَا موتتان قد عرضتا لَهُم فَلهم أَن يختاروا أيسرهما عَلَيْهِم إِذْ لَا بُد من أَحدهمَا وَكِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم سَوَاء فيخيرون بَينهمَا وَالْقَوْل الثَّانِي أَن يلْزمهُم الْمقَام وَلَا يعينون على أنفسهم لِئَلَّا يكون مَوْتهمْ بِسَبَب من جهتهم وليتمحص مَوْتهمْ شَهَادَة بأيدي عدوهم وَأما الَّذِي ضَاقَ عَلَيْهِ وَقت الْوُقُوف بِعَرَفَة وَالصَّلَاة فَإِن الْوَاجِب فِي حَقه تقوى الله بِحَسب الْإِمْكَان وَقد اخْتلف فِي تعْيين ذَلِك الْوَاجِب على ثَلَاثَة أَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره أَحدهَا أَن الْوَاجِب فِي حَقه معينا إِيقَاع الصَّلَاة فِي وَقتهَا فَإِنَّهَا قد تضيقت وَالْحج لم يتضيق وقته فَإِنَّهُ إِذا فعله فِي الْعَام الْقَابِل لم يكن قد أخرجه عَن وقته بِخِلَاف الصَّلَاة وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه يقدم الْحَج وَيقْضى الصَّلَاة بعد الْوَقْت لِأَن مشقة فَوَاته وتكلفه إنْشَاء سفر آخر أَو إِقَامَة فِي مَكَّة إِلَى قَابل ضَرَر عَظِيم تأباه الحنيفية السمحة فيشتغل بادراكه وَيقْضى الصَّلَاة وَالثَّالِث يقْضى الصَّلَاة وَهُوَ سَائِر إِلَى عَرَفَة فَيكون فِي طَرِيقه مُصَليا كَمَا يصلى الهارب من سيل أَو سبع أَو عَدو ايفاقا أَو الطَّالِب لعدو يخْشَى فَوَاته على أصح الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا أَقيس الْأَقْوَال وأقربها إِلَى قَوَاعِد الشَّرْع ومقاصده فَإِن الشَّرِيعَة مبناها على تَحْصِيل الْمصَالح بِحَسب الْإِمْكَان وَأَن لَا يفوت مِنْهَا شَيْء فَإِن أمكن تَحْصِيلهَا كلهَا حصلت وَإِن تزاحمت وَلم يُمكن تَحْصِيل بَعْضهَا إِلَّا بتفويت الْبَعْض قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبا للشارع وَقد قَالَ عبد الله بن أبي أنيس بَعَثَنِي رَسُول الله إِلَى خَالِد ابْن سُفْيَان العرنى وَكَانَ نَحْو عُرَنَة وعرفات فَقَالَ اذْهَبْ فاقتله فرأيته وَحَضَرت صَلَاة الْعَصْر فَقلت إِنِّي أَخَاف أَن يكون بيني وَبَينه مَا أَن أؤخر الصَّلَاة فَانْطَلَقت أَمْشِي وَأَنا أصلى أومي ايماء نَحوه فَلَمَّا دَنَوْت مِنْهُ قَالَ لي من أَنْت قلت رجل من الْعَرَب بَلغنِي أَنَّك تجمع لهَذَا الرجل فجئتك فِي ذَلِك قَالَ أَنِّي لفي ذَلِك قَالَ فمشيت مَعَه سَاعَة حَتَّى إِذا أمكنني علوته بسيفي حَتَّى يرد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَأما مَسْأَلَة المستيقظ قبل طُلُوع الشَّمْس جنبا وضيق الْوَقْت عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِع للْغسْل وَالصَّلَاة فَهَذَا الْوَاجِب فِي حَقه عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء أَن يغْتَسل وَأَن طلعت الشَّمْس وَلَا تجزيه الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ وَاجِد للْمَاء وَأَن كَانَ غير مفرط فِي نَومه فَلَا إِثْم عَلَيْهِ
كَمَا لَو نَام حَتَّى طلعت الشَّمْس وَالْوَاجِب فِي حَقه الْمُبَادرَة إِلَى الْغسْل وَالصَّلَاة وَهَذَا وَقتهَا فِي حق أَمْثَاله وعَلى هَذَا القَوْل الصَّحِيح فَلَا يتعارض هَاهُنَا مصلحَة ومفسدة متساويتان بل مصلحَة الصَّلَاة بِالطَّهَارَةِ أرجح من إيقاعها فِي الْوَقْت بِالتَّيَمُّمِ وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَان وَهُوَ رِوَايَة عَن مَالك أَنه يتَيَمَّم وَيصلى فِي الْوَقْت لِأَن الشَّارِع لَهُ الْتِفَات إِلَى إِيقَاع الصَّلَاة فِي الْوَقْت بِالتَّيَمُّمِ أعظم من التفاته إِلَى إيقاعها بِطَهَارَة المَاء خَارج الْوَقْت والعدم الْمُبِيح للتيمم هُوَ الْعَدَم بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَقت الصَّلَاة لَا مُطلقًا فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يجد المَاء وَلَو بعد حِين وَمَعَ هَذَا فَأوجب عَلَيْهِ الشَّارِع التَّيَمُّم لِأَنَّهُ عادم للْمَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَقت الصَّلَاة وَهَكَذَا هَذَا النَّائِم وَأَن كَانَ واجدا للْمَاء لكنه عادم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْت وَصَاحب هَذَا القَوْل يَقُول مصلحَة إِيقَاع الصَّلَاة فِي الْوَقْت بِالتَّيَمُّمِ أرجح فِي نظر الشَّارِع من إيقاعها خَارج الْوَقْت بِطَهَارَة المَاء فعلى كلا الْقَوْلَيْنِ لم تتساو الْمصلحَة والمفسدة فَثَبت أَنه لَا وجوب لهَذَا الْقسم فِي الشَّرْع
وَأما مَسْأَلَة اغتلام الْبَحْر فَلَا يجوز إِلْقَاء أحد مِنْهُم فِي الْبَحْر بِالْقُرْعَةِ وَلَا غَيرهَا لاستوائهم فِي الْعِصْمَة وَقتل من لَا ذَنْب وقاية لنَفس الْقَاتِل بِهِ وَلَيْسَ أولى بذلك مِنْهُ ظلم نعم لَو كَانَ فِي السَّفِينَة مَال أَو حَيَوَان وَجب إِلْقَاء المَال ثمَّ الْحَيَوَان لِأَن الْمفْسدَة فِي فَوَات الْأَمْوَال والحيوانات أولى من الْمفْسدَة فِي فَوَات أنفس النَّاس المعصومة وَأما سَائِر الصُّور الَّتِي تَسَاوَت مفاسدها كإتلاف الدرهمين والحيوانين وَقتل أحد العدوين فَهَذَا الحكم فِيهِ التَّخْيِير بَينهمَا لِأَنَّهُ لَا بُد من أتلاف أَحدهمَا وقاية لنَفسِهِ وَكِلَاهُمَا سَوَاء فَيُخَير بَينهمَا وَكَذَلِكَ الْعدوان المتكافئان يُخَيّر بَين قتالهما كالواجب الْمُخَير وَالْوَلِيّ وَأما من تَسَاوَت حَسَنَاته وسيئاته وتدافع أثرهما فَهُوَ حجَّة عَلَيْكُم فَإِن الحكم للحسنات وَهِي تغلب السَّيِّئَات فَإِنَّهُ لَا يدْخل النَّار وَلكنه يبقي على الْأَعْرَاف مُدَّة ثمَّ يصير إِلَى الْجنَّة فقد تبين غَلَبَة الْحَسَنَات لجَانب السَّيِّئَات ومنعها من ترَتّب أَثَرهَا عَلَيْهَا وان الْأَثر هُوَ أثر الْحَسَنَات فَقَط فَبَان أَنه لَا دَلِيل حكم لكم على وجود هَذَا الْقسم أصلا وان الدَّلِيل يدل على امْتِنَاعه فَأن قيل لكم فَمَا قَوْلكُم فِيمَا إِذا عَارض الْمفْسدَة مصلحَة أرجع مِنْهَا وترتب الحكم على الرَّاجِح هَل يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَعَ بَقَاء الْمَرْجُوح من الْمصلحَة والمفسدة لكنه لما كَانَ مغمورا لم يلْتَفت إِلَيْهِ أَو يَقُولُونَ أَن الْمَرْجُوح زَالَ أَثَره بالراجح فَلم يبْق لَهُ أثر
وَمِثَال ذَلِك أَن الله تَعَالَى حرم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير لما فِي تنَاولهَا من الْمفْسدَة الراجحة وَهُوَ خبث التغذية والغازي شَبيه بالمغتذى فَيصير المفتذي بِهَذِهِ الْخَبَائِث خَبِيث النَّفس فَمن محَاسِن الشَّرِيعَة تَحْرِيم هَذِه الْخَبَائِث فَإِن اضْطر إِلَيْهَا وَخَافَ على نَفسه الْهَلَاك أَن لم يَتَنَاوَلهَا أبيحت لَهُ فَهَل إباحتها وَالْحَالة هَذِه مَعَ بَقَاء وصف الْخبث فِيهَا لَكِن عَارضه مصلحَة أرجح مِنْهُ وَهِي حفظ النَّفس أَو إباحتها أزالت وصف الْخبث مِنْهَا فَمَا أُبِيح لَهُ إِلَّا طيب
وَإِن كَانَ خبيثا فِي حَال الِاخْتِيَار قيل هَذَا مَوضِع دَقِيق وتحقيقه بستدعي اطلاعا على أسرار الشَّرِيعَة والطبيعة فَلَا تستهونه وأعطه حَقه من النّظر والتأمل وَقد اخْتلف النَّاس فِيهِ على قَوْلَيْنِ فكثير مِنْهُم أَو أَكْثَرهم سلك مسالك التَّرْجِيح مَعَ بَقَاء وصف الْخبث فِيهِ وَقَالَ مصلحَة حفظ النَّفس أرجح من مفْسدَة خبث التغذية وَهَذِه قَول من لم يُحَقّق النّظر ويمعن التَّأَمُّل بل استرسل مَعَ ظَاهر الْأُمُور وَالصَّوَاب أَن وصف الْخبث مُنْتَفٍ حَال الِاضْطِرَار وكشف الغطاء عَن الْمَسْأَلَة أَن وصف الْخبث غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فِي الْمحل المتفذي بِهِ بل هُوَ متولد من الْقَابِل وَالْفَاعِل فَهُوَ حَاصِل من المتفذي والمفتذي بِهِ وَنَظِيره تَأْثِير السم فِي الْبدن هُوَ مَوْقُوف على الْفَاعِل وَالْمحل الْقَابِل إِذا علم ذَلِك فَتَنَاول هَذِه الْخَبَائِث فِي حَال الِاخْتِيَار يُوجب حُصُول الْأَثر الْمَطْلُوب عَدمه فَإِذا كَانَ المتناول لَهَا مُضْطَرّا فَإِن ضَرُورَته تمنع قبُول الْخبث الَّذِي فِي المفتذي بِهِ فَلم تحصل تِلْكَ الْمفْسدَة لِأَنَّهَا مَشْرُوطَة بِالِاخْتِيَارِ الَّذِي بِهِ يقبل الْمحل خبث التغذية فَإِذا زَالَ الِاخْتِيَار زَالَ شَرط الْقبُول فَلم تحصل الْمفْسدَة أصلا وَإِن اعتاص هَذَا على فهمك فَانْظُر فِي الأغذية والأشربة الضارة الَّتِي لَا يخْتَلف عَنْهَا الضَّرَر إِذا تنَاولهَا الْمُخْتَار الْوَاجِد لغَيْرهَا فَإِذا اشتدت ضَرُورَته إِلَيْهَا وَلم يجد مِنْهَا بدا فَإِنَّهَا تَنْفَعهُ وَلَا يتَوَلَّد لَهُ مِنْهَا ضَرَر أصلا لِأَن قبُول طَبِيعَته لَهَا وفاقته إِلَيْهَا وميله مَنعه من التضرر بهَا بِخِلَاف حَال الِاخْتِيَار وأمثلة ذَلِك مَعْلُومَة مَشْهُودَة بالحس فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْأَوْصَاف الحسية المؤثرة فِي محالها بالحس فَمَا الظَّن بالأوصاف المعنوية الَّتِي تأثيرها إِنَّمَا يعلم بِالْعقلِ أَو بِالشَّرْعِ فَلَا تظن أَن الضَّرُورَة أزالت وصف الْمحل وبدلته فَأَنا لم تقل هَذَا وَلَا يَقُوله عَاقل وَإِنَّمَا الضَّرُورَة منعت تَأْثِير الْوَصْف وأبطلته فَهِيَ من بَاب الْمَانِع الَّذِي يمْنَع تَأْثِير الْمُقْتَضى لَا أَنه يزِيل قوته أَلا ترى أَن السَّيْف الحاد إِذا صَادف حجرا فَإِنَّهُ يمْنَع قطعه وتأثيره لِأَنَّهُ يزِيل حِدته وتهيأه لقطع الْقَابِل وَنَظِير هَذَا الملابس الْمُحرمَة إِذا اضْطر إِلَيْهَا فَإِن ضَرُورَته تمنع ترَتّب الْمفْسدَة الَّتِي حرمت لأَجلهَا فَإِن قَالَ فَهَذَا ينْتَقض عَلَيْكُم بِتَحْرِيم نِكَاح الْأمة فَإِنَّهُ حرم للمفسدة الَّتِي تتضمنه من ارقاق وَلَده ثمَّ أُبِيح عِنْد الضَّرُورَة إِلَيْهِ وَهِي خوف الْعنَّة الَّذِي هُوَ اعظم فَسَادًا من ارقاق الْوَلَد وَمَعَ هَذَا فالمفسدة قَائِمَة بِعَينهَا وَلَكِن عارضها مصلحَة حفظ الْفرج عَن الْحَرَام وَهِي أرجح عِنْد الشَّارِع من رق الْوَلَد قيل هَذَا لَا ينْتَقض بِمَا قَرَّرْنَاهُ فَإِن الله سُبْحَانَهُ لم حرم نِكَاح الْأمة لما فِيهِ من مفْسدَة رق الْوَلَد واشتغال الْأمة بِخِدْمَة سَيِّدهَا فَلَا يحصل لزَوجهَا من السكن إِلَيْهَا والإيواء ودوام المعاشرة مَا تقر بِهِ عينه وتسكن بِهِ نَفسه أَبَاحَهُ عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ بِأَن لَا يقدر على نِكَاح حرَّة ويخشى على نَفسه مواقعة الْمَحْظُور وَكَانَت الْمصلحَة لَهُ فِي نِكَاحهَا فِي هَذِه الْحَال أرجح من تِلْكَ الْمَفَاسِد
وَلَيْسَ هَذَا حَال ضَرُورَة يُبَاح لَهَا الْمَحْظُور فَأن الله سُبْحَانَهُ لَا يضْطَر عَبده إِلَى الْجِمَاع بِحَيْثُ أَن لم يُجَامع مَاتَ بِخِلَاف الطَّعَام وَالشرَاب وَلِهَذَا لَا يُبَاح الزِّنَا بضرورة كَمَا يُبَاح الْخِنْزِير
وَالْميتَة وَالدَّم وَإِنَّمَا الشَّهْوَة وَقَضَاء الوطر يشق على الرجل تحمله وكف النَّفس عَنهُ لضَعْفه وَقلة صبره فرحمه أرْحم الرَّاحِمِينَ وأباح لَهُ أطيب النِّسَاء وأحسنهن أَرْبعا من الْحَرَائِر وَمَا شَاءَ من ملك يَمِينه من الْإِمَاء فَإِن عجز عَن ذَلِك أَبَاحَ لَهُ نِكَاح الْأمة رَحْمَة بِهِ وتخفيفا عَنهُ لضَعْفه وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فمما ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات وَالله أعلم بإيمانكم إِلَى قَوْله {وَالله يُرِيد أَن يَتُوب عَلَيْكُم وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات أَن تميلوا ميلًا عَظِيما يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا} فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه شرع لَهُم هَذِه الْأَحْكَام تَخْفِيفًا عَنْهُم لضعفهم وَقلة صبرهم رَحْمَة بهم وإحسانا إِلَيْهِم فَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَة تبيح الْمَحْظُور وَإِنَّمَا هِيَ مصلحَة أرجح من مصلحَة ومفسدة أقل من مفْسدَة فَاخْتَارَ لَهُم أعظم المصلحتين وَأَن فَاتَت أدناهما وَدفع عَنْهُم أعظم المفسدتين وَأَن فَاتَت أدناهما وَهَذَا شَأْن الْحَكِيم اللَّطِيف الْخَبِير الْبر المحسن وَإِذا تَأَمَّلت شرائع دينه الَّتِي وَضعهَا بَين عباده وَجدتهَا لَا تخرج عَن تَحْصِيل الْمصَالح الْخَالِصَة أَو الراجحة بِحَسب الْإِمْكَان وان تزاحمت قدم أهمها وأجلها وَأَن فَاتَت أدناهما وتعطيل الْمَفَاسِد الْخَالِصَة أَو الراجحة بِحَسب الْإِمْكَان وَأَن تزاحمت عطل أعظمها فَسَادًا بِاحْتِمَال أدناهما وعَلى هَذَا وضع أحكم الْحَاكِمين شرائع دينه دَالَّة عَلَيْهِ شاهدة لَهُ بِكَمَال علمه وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إِلَيْهِم وَهَذِه الْجُمْلَة لَا يستريب فِيهَا من لَهُ ذوق من الشَّرِيعَة وارتضاع من ثديها وورود من صفو حَوْضهَا وَكلما كَانَ تضلعه مِنْهَا أعظم كَانَ شُهُوده لمحاسنها ومصالحها أكمل وَلَا يُمكن أحد من الْفُقَهَاء أَن يتَكَلَّم فِي مآخذ الْأَحْكَام وعللها والأوصاف المؤثرة فِيهَا حَقًا وفرقا إِلَّا على هَذِه الطَّرِيقَة وَأما طَريقَة إِنْكَار الحكم التَّعْلِيل وَنفي الْأَوْصَاف الْمُقْتَضِيَة لحسن مَا أَمر بِهِ وقبح مَا نهى عَنهُ وتأثيرها واقتضائها للحب والبغض الَّذِي هُوَ مصدر الْأَمر وَالنَّهْي بطريقة جدلية كلامية لَا يتَصَوَّر بِنَاء الْأَحْكَام عَلَيْهَا وَلَا يُمكن فَقِيها أَن يستعملها فِي بَاب وَاحِد من أَبْوَاب الْفِقْه كَيفَ وَالْقُرْآن وَسنة رَسُول الله مملوآن من تَعْلِيل الْأَحْكَام بالحكم والمصالح وتعليل الْخلق بهما والتنبيه على وُجُوه الحكم الَّتِي لأَجلهَا شرع تِلْكَ الإحكام ولأجلها خلق تِلْكَ الْأَعْيَان وَلَو كَانَ هَذَا فِي الْقُرْآن وَالسّنة فِي نَحْو مائَة مَوضِع أَو مِائَتَيْنِ لسقناها وَلكنه يزِيد على ألف مَوضِع بطرق متنوعة فَتَارَة يذكر لَام التَّعْلِيل الصَّرِيحَة وَتارَة يذكر الْمَفْعُول لأَجله الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود بِالْفِعْلِ وَتارَة يذكر من أجل الصَّرِيحَة فِي التَّعْلِيل وَتارَة يذكر أَدَاة كي وَتارَة يذكر الْفَاء وَأَن وَتارَة يذكر أَدَاة لَعَلَّ المتضمنة للتَّعْلِيل الْمُجَرَّدَة عَن معنى الرَّجَاء الْمُضَاف إِلَى الْمَخْلُوق وَتارَة يُنَبه على السَّبَب يذكرهُ صَرِيحًا وَتارَة يذكر الْأَوْصَاف المشتقة الْمُنَاسبَة لتِلْك الْأَحْكَام ثمَّ يرتبها عَلَيْهَا تَرْتِيب المسببات على أَسبَابهَا وَتارَة يُنكر على من زعم أَنه خلق خلقه وَشرع دينه عَبَثا وسدى وَتارَة يُنكر على من ظن أَنه يسوى
بَين الْمُخْتَلِفين اللَّذين يقتضيان أثرين مُخْتَلفين وَتارَة يُخَيّر بِكَمَال حكمته وَعلمه الْمُقْتَضى أَنه لَا يفرق بَين متماثلين وَلَا يسوى بَين مُخْتَلفين وَأَنه ينزل الْأَشْيَاء منازلها ويرتبها مراتبها وَتارَة يستدعى من عباده التفكر والتأمل والتدبر والتعقل لحسن مَا بعث بِهِ رَسُوله وشرعه لِعِبَادِهِ كَمَا يستدعى مِنْهُم التفكر وَالنَّظَر فِي مخلوقاته وَحكمهَا وَمَا فِيهَا من الْمَنَافِع والمصالح وَتارَة يذكر مَنَافِع مخلوقاته منبها بهَا على ذَلِك وَأَنه الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَتارَة يخْتم آيَات خلقه وَأمره بأسماء وصفات تناسبها وتقتضيها وَالْقُرْآن مَمْلُوء من أَوله إِلَى آخِره بِذكر حكم الْخلق وَالْأَمر ومصالحهما ومنافعهما وَمَا تضمناه من الْآيَات الشاهدة الدَّالَّة عَلَيْهِ وَلَا يُمكن من لَهُ أدني اطلَاع على مَعَاني الْقُرْآن إِنْكَار ذَلِك وَهل جعل الله سُبْحَانَهُ فِي فطر الْعباد اسْتِوَاء الْعدْل وَالظُّلم والصدق وَالْكذب والفجور والعفة وَالْإِحْسَان والإساءة وَالصَّبْر وَالْعَفو وَالِاحْتِمَال والطيش والانتقام والحدة وَالْكَرم والسماحة والبذل وَالْبخل وَالشح والإمسام بل الْفطْرَة على الْفرْقَان بَين ذَلِك كالفطرة على قبُول الأغذية النافعة وَترك مَالا ينفع وَلَا يغذي وَلَا فرق فِي الْفطْرَة بَينهمَا أصلا وَإِذا تَأَمَّلت الشَّرِيعَة الَّتِي بعث الله بهَا رَسُوله حق التَّأَمُّل وَجدتهَا من أَولهَا إِلَى آخرهَا شاهدة بذلك ناطقة بِهِ وَوجدت الْحِكْمَة والمصلحة وَالْعدْل وَالرَّحْمَة باديا على صفحاتها مناديا عَلَيْهَا يَدْعُو الْعُقُول والألباب إِلَيْهَا وَأَنه لَا يجوز على أحكم الْحَاكِمين وَلَا يَلِيق بِهِ أَن يشرع لِعِبَادِهِ مَا يضادها وَذَلِكَ لِأَن الَّذِي شرعها علم مَا فِي خلَافهَا من الْمَفَاسِد والقبائح وَالظُّلم والسفه الَّذِي يتعالى عَن أَرَادَتْهُ وشرعه وَأَنه لَا يصلح الْعباد إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا سَعَادَة لَهُم بِدُونِهَا الْبَتَّةَ فَتَأمل محَاسِن الْوضُوء بَين يَدي الصَّلَاة وَمَا تضمنه من النَّظَافَة والنزاهة ومجانبة الأوساخ والمستقذرات وَتَأمل كَيفَ وضع على الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة الَّتِي هِيَ آلَة الْبَطْش وَالْمَشْي وَمجمع الْحَواس الَّتِي تعلق أَكثر الذُّنُوب والخطايا بهَا وَلِهَذَا خصها النَّبِي صلى الله علية وَسلم بِالذكر فِي قَوْله إِن الله كتب على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا أدْرك ذَلِك وَلَا محَالة فالعين تَزني وزناها النّظر وَالْأُذن تَزني وزناها الِاسْتِمَاع وَالْيَد تَزني وزناها الْبَطْش وَالرجل تَزني وزناها الْمَشْي وَالْقلب يتمني ويشتهي والفرج يصدق ذَلِك ويكذبه فَلَمَّا كَانَت هَذِه الْأَعْضَاء هِيَ أَكثر الْأَعْضَاء مُبَاشرَة للمعاصي كَانَ وسخ الذُّنُوب ألصق بهَا وأعلق من غَيرهَا فشرع أحكم الْحَاكِمين الْوضُوء عَلَيْهَا ليتضمن نظافتها وطهارتها من الأوساخ الحسية وأوساخ الذُّنُوب والمعاصي وَقد أَشَارَ النَّبِي إِلَى هَذَا الْمَعْنى بقوله إِذا تَوَضَّأ العَبْد الْمُسلم خرجت خطاياه مَعَ المَاء أَو مَعَ آخر قَطْرَة من المَاء حَتَّى يخرج من تَحت أَظْفَاره وَقَالَ أَبُو إِمَامَة يَا رَسُول الله كَيفَ الْوضُوء فَقَالَ أما فَإنَّك إِذا تَوَضَّأت فغسلت كفيك فأنقيتهما خرجت خطاياك من بَين أظفارك وَأَنا ملك فَإِذا مضمضت واستنشقت بمنخريك وغسلت وَجهك ويديك إِلَى الْمرْفقين ومسحت
برأسك وغسلت رجليك إِلَى الْكَعْبَيْنِ اغْتَسَلت من عَامَّة خطاياك فَإِن أَنْت وضعت وَجهك لله خرجت من خطاياك كَيَوْم وَلدتك أمك رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة فاقتضت حِكْمَة أحكم الْحَاكِمين وَرَحمته أَن شرع الْوضُوء على هَذِه الْأَعْضَاء الَّتِي هِيَ أَكثر الْأَعْضَاء مُبَاشرَة للمعاصي وَهِي الْأَعْضَاء الظَّاهِرَة البارزة للغبار والوسخ أَيْضا وَهِي أسهل الْأَعْضَاء غسلا فَلَا يشق تكْرَار غسلهَا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَكَانَت الْحِكْمَة الباهرة فِي شرع الْوضُوء عَلَيْهَا دون سَائِر الْأَعْضَاء وَهَذَا يدل على أَن الْمَضْمَضَة من آكِد أَعْضَاء الْوضُوء وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي يداوم عَلَيْهَا وَلم ينْقل عَنهُ بِإِسْنَاد قطّ أَنه أخل بهَا يَوْمًا وَاحِدًا وَهَذَا يدل على أَنَّهَا فرض لَا يَصح الْوضُوء بِدُونِهَا كَمَا هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب أَحْمد وَغَيره من السّلف فَمن سوى بَين هَذِه الْأَعْضَاء وَغَيرهَا وَجعل تَعْيِينهَا بِمُجَرَّد الْأَمر الْخَالِي عَن الْحِكْمَة والمصلحة فقد ذهب مذهبا فَاسِدا فَكيف إِذا زعم مَعَ ذَلِك أَنه لَا فرق فِي نفس الْأَمر بَين التَّعَبُّد بذلك وَبَين أَن يتعبد بِالنَّجَاسَةِ وأنواع الأقذار والأوساخ والأنتان والرائحة الكريهة وَيجْعَل ذَلِك مَكَان الطَّهَارَة وَالْوُضُوء وَأَن الْأَمريْنِ سَوَاء وَإِنَّمَا يحكم بِمُجَرَّد الْمَشِيئَة بِهَذَا الْأَمر دون ضِدّه وَلَا فرق بَينهمَا فِي نفس الْأَمر وَهَذَا قَول تصَوره كَاف فِي الْجَزْم بِبُطْلَانِهِ وَجَمِيع مسَائِل الشَّرِيعَة كَذَلِك آيَات بَيِّنَات ودلالات واضحات وشواهد ناطقات بِأَن الَّذِي شرعها لَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْعلم الْمُحِيط وَالرَّحْمَة والعناية بعباده وَإِرَادَة الصّلاح لَهُم وسوقهم بهَا إِلَى كمالهم وعواقبهم الحميدة وَقد نبه سُبْحَانَهُ عباده على هَذَا فَقَالَ يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلَى قَوْله {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون} فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه لم يَأْمُرهُم بذلك حرجا عَلَيْهِم وتضييقا ومشقة وَلَكِن إِرَادَة تطهيرهم وإتمام نعْمَته عَلَيْهِم ليشكروه على ذَلِك فَلهُ الْحَمد كَمَا هُوَ أَهله وكما يَنْبَغِي لكرم وَجهه وَعز جَلَاله فَإِن قيل فَمَا جوابكم عَن الْأَدِلَّة الَّتِي ذكرهَا نفاة التحسين والتقبيح على كثرتها
قيل قد كفونا بِحَمْد الله مُؤنَة إِبْطَالهَا بقدحهم فِيهَا وَقد أبطلها كلهَا وَاعْترض عَلَيْهَا فضلاء اتباعها وأصحابها أَبُو عبد الله ابْن الْخَطِيب وَأَبُو الْحُسَيْن الآمدى وَاعْتمد كل مِنْهُم على مَسْلَك من أفسد المسالك وَاعْتمد القَاضِي على مَسْلَك من جنسهما فِي الْمَفَاسِد فاعتمد هَؤُلَاءِ الْفُضَلَاء على ثَلَاث مسالك فَاسِدَة وتعرضوا لإبطال مَا سواهَا والقدح فِيهِ وَنحن نذْكر مسالكهم الَّتِي اعتمدوا عَلَيْهَا ونبين فَسَادهَا وبطلانها فَأَما ابْن الْخَطِيب فاعتمد على المسلك الْمَشْهُور وَهُوَ أَن فعل العَبْد غير اخْتِيَاري وَمَا لَيْسَ بِفعل اخْتِيَاري لَا يكون حسنا وَلَا قبيحا عقلا بالِاتِّفَاقِ لِأَن الْقَائِلين بالْحسنِ والقبح العقليين يعترفون بِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا كَانَ اختياريا وَقد ثَبت أَنه اضطراري فَلَا يُوصف بِحسن وَلَا قبح على المذهبين أما بَيَان كَونه غير اخْتِيَاري
فَلِأَنَّهُ أَن لم يتَمَكَّن العَبْد من فعله وَتَركه فَوَاضِح وَأَن كَانَ مُتَمَكنًا من فعله وَتَركه كَانَ جَائِزا فَأَما أَن يفْتَقر تَرْجِيح الفاعلية على التاركية إِلَى مُرَجّح أَولا فَأن لم يفْتَقر كَانَ اتفاقيا والاتفاق لَا يُوصف بالْحسنِ والقبح وان افْتقر إِلَى مُرَجّح فَهُوَ مَعَ مرجحه أما أَن يكون لَازِما وَأما جَائِزا فَإِن كَانَ لَازِما فَهُوَ اضطراري وَأَن كَانَ جَائِزا عَاد التَّقْسِيم فإمَّا أَن ينتهى إِلَى مَا يكون لَازِما فَيكون ضَرُورِيًّا أَولا فينتهى إِلَيْهِ فيتسلسل وَهُوَ محَال أَن يكون إتفاقيا فَلَا يُوصف بِحسن وَلَا قبح فَهَذَا الدَّلِيل هُوَ الَّذِي يصول بِهِ ويجول وَيثبت بِهِ الْجَبْر وَيرد بِهِ على الْقَدَرِيَّة وينفي بِهِ التحسين والتقبيح وَهُوَ فَاسد من وُجُوه مُتعَدِّدَة أَحدهَا أَنه يتَضَمَّن التَّسْوِيَة بَين الْحَرَكَة الضرورية والاختيارية وَعدم التَّفْرِيق بَينهمَا وَهُوَ بَاطِل بِالضَّرُورَةِ والحس وَالشَّرْع فالاستدلال على أَن فعل العَبْد غير اخْتِيَاري اسْتِدْلَال على مَا هُوَ مَعْلُوم الْبطلَان ضَرُورَة وحسا وَشرعا فَهُوَ بِمَنْزِلَة الِاسْتِدْلَال على الْجمع بَين النقيضين وعَلى وجود الْمحَال
الْوَجْه الثَّانِي لَو صَحَّ الدَّلِيل الْمَذْكُور لزم مِنْهُ أَن يكون الرب تَعَالَى غير مُخْتَار فِي فعله لِأَن التَّقْسِيم الْمَذْكُور والترديد جَار فِيهِ بِعَيْنِه بِأَن يُقَال فعله تَعَالَى إِمَّا أَن يكون لَازِما أَو جَائِزا فان كَانَ لَازِما كَانَ ضَرُورِيًّا وان كَانَ جَائِزا فان احْتَاجَ إِلَى مُرَجّح عَاد التَّقْسِيم وَإِلَّا فَهُوَ اتفاقي وَيَكْفِي فِي بطلَان الدَّلِيل الْمَذْكُور إِن يسْتَلْزم كَون الرب غير مُخْتَار الْوَجْه الثَّالِث أَن الدَّلِيل الْمَذْكُور لَو صَحَّ لزم بطلَان الْحسن والقبح الشرعيين لِأَن فعل العَبْد ضَرُورِيّ أَو اتفاقي وَمَا كَانَ كَذَلِك فَإِن الشَّرْع لَا يُحسنهُ وَلَا يقبحه لِأَنَّهُ لَا يرد بالتكليف بِهِ فضلا عَن أَن يَجعله مُتَعَلق الْحسن والقبح
الْوَجْه الرَّابِع قَوْله إِمَّا أَن يكون الْفِعْل لَازِما أَو جَائِزا قُلْنَا هُوَ لَازم عِنْد مرجحه التَّام وَكَانَ مَاذَا قَوْلك يكون ضَرُورِيًّا أتعني بِهِ أَنه لَا بُد مِنْهُ أَو تَعْنِي بِهِ أَنه لَا يكون اختياريا فَإِن عنيت الأول منعنَا انْتِفَاء اللَّازِم فانه لَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون غير مُخْتَار وَيكون حَاصِل الدَّلِيل إِن كَانَ لَا بُد مِنْهُ فَلَا بُد مِنْهُ وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون غير اخْتِيَاري وَإِن عنيت الثَّانِي وَهُوَ أَنه لَا يكون اختياريا منعنَا الْمُلَازمَة إِذْ لَا يلْزم من كَونه لَا بُد مِنْهُ أَن يكون غير اخْتِيَاري وَأَنت لم تذكر على ذَلِك دَلِيلا بل هِيَ دَعْوَى مَعْلُومَة الْبطلَان بِالضَّرُورَةِ الْوَجْه الْخَامِس أَن يُقَال هُوَ جَائِز قَوْلك أما أَن يتَوَقَّف ترجح الفاعلية على التاركية على مُرَجّح أَولا قُلْنَا يتَوَقَّف على مُرَجّح قَوْلك عِنْد الْمُرَجح إِمَّا أَن يجب أَو يبْقى جَائِزا قُلْنَا هُوَ وَاجِب بالمرجح جَائِز بِالنّظرِ إِلَى ذَاته والمرجح هُوَ الإختيار وَمَا وَجب بالإختيار لَا يُنَافِي أَن يكون اختياريا فلزوم الْفِعْل بالإختيار لَا يُنَافِي كَونه اختياريا الْوَجْه السَّادِس أَن هَذَا الدَّلِيل الَّذِي ذكرته بِعَيْنِه حجَّة على أَنه اخْتِيَاري لِأَنَّهُ وَجب بِالِاخْتِيَارِ وَمَا وَجب بِالِاخْتِيَارِ لَا يكون إِلَّا اختياريا وَإِلَّا كَانَ اختياريا غير اخْتِيَاري وَهُوَ جمع بَين النقيضين وَالدَّلِيل الْمَذْكُور حجَّة على
فَسَاد قَوْلك وَأَن الْفِعْل الْوَاجِب بالإختيار اخْتِيَاري الْوَجْه السَّابِع أَن صُدُور الْفِعْل عَن الْمُخْتَار بِشَرْط تعلق اخْتِيَاره بِهِ لَا يُنَافِي كَونه مَقْدُورًا لَهُ وَإِلَّا كَانَت إِرَادَته وَقدرته غير مَشْرُوطَة فِي الْفِعْل وَهُوَ محَال وَإِذا لم يناف ذَلِك كَونه مَقْدُورًا فَهُوَ اخْتِيَاري قطعا
الْوَجْه الثَّامِن قَوْلك إِن لم يتَوَقَّف على مُرَجّح فَهُوَ اتفاقي إِن عنيت بالمرجح مَا يخرج الْفِعْل عَن أَن يكون اختياريا ويجعله اضطراريا فَلَا يلْزم من نفي هَذَا الْمُرَجح كَونه اتفاقيا إِذْ هَذَا مُرَجّح خَاص وَلَا يلْزم من نفي الْمُرَجح الْمعِين نفي مُطلق الْمُرَجح فَمَا الْمَانِع من أَن يتَوَقَّف على مُرَجّح وَلَا يَجعله اضطراريا غير اخْتِيَاري وان عنيت بالمرجح مَا هُوَ أَعم من ذَلِك لم يلْزم من توقفه على الْمُرَجح الْأَعَمّ أَن يكون غير اخْتِيَاري لِأَن الْمُرَجح هُوَ الِاخْتِيَار وَمَا ترجح بِالِاخْتِيَارِ لم يمْتَنع كَونه اختياريا الْوَجْه التَّاسِع قَوْلك وَإِن لم يتَوَقَّف على مُرَجّح فَهُوَ اتفاقي مَا تَعْنِي بالاتفاقي أتعني بِهِ مَا لَا فَاعل لَهُ أَو مَا فَاعله مُرَجّح بِاخْتِيَارِهِ أَو معنى ثَالِثا فَإِن عنيت الأول لم يلْزم من عدم الْمُرَجح الْمُوجب كَونه اضطراريا أَن يكون الْفِعْل صادرا من غير فَاعل وَإِن عنيت الثَّانِي لم يلْزم مِنْهُ كَونه اضطراريا وَإِن عنيت معنى ثَالِثا فابده الْوَجْه الْعَاشِر أَن غَايَة هَذَا الدَّلِيل أَن يكون الْفِعْل لَازِما عِنْد وجود سَببه وَأَنت لم تقم دَلِيلا على أَن مَا كَانَ كَذَلِك يمْتَنع تحسينه وتقبيحه سوى الدعْوَة الْمُجَرَّدَة فَأَيْنَ الدَّلِيل على أَن مَا كَانَ لَازِما بِهَذَا الِاعْتِبَار يمْتَنع تحسينه وتقبيحه ودليلك إِنَّمَا يدل على أَن مَا كَانَ غير اخْتِيَاري من الْأَفْعَال امْتنع تحسينه وتقبيحه فَمحل النزاع لم يتَنَاوَلهُ الدَّلِيل الْمَذْكُور وَمَا تنَاوله وَصحت مقدماته فَهُوَ غير متنازع فِيهِ فدليلك لم يفد شَيْئا الْوَجْه الْحَادِي عشر ان قَوْلك يلْزم أَن لَا يُوصف بِحسن وَلَا قبح على المذهبين بَاطِل فال منازعيك إِنَّمَا يمْنَعُونَ من وصف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح إِذا لم يكن مُتَعَلق الْقُدْرَة وَالِاخْتِيَار أما مَا وَجب بِالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَار فَإِنَّهُم لَا يساعدونك على امْتنَاع وَصفه بالْحسنِ والقبح أبدا الْوَجْه الثَّانِي عشر أَن هَذَا الدَّلِيل لوصح لزم بطلَان الشَّرَائِع والتكاليف جملَة لِأَن التَّكْلِيف إِنَّمَا يكون بالأفعال الاختيارية إِذْ يَسْتَحِيل أَن يُكَلف المرتعش بحركة يَده وَأَن يُكَلف المحموم بتسخين جلده والمقرور بقره وَإِذا كَانَت الْأَفْعَال اضطرارية غير اختيارية لم يتَصَوَّر تعلق التَّكْلِيف وَالْأَمر والنهى بهَا فَلَو صَحَّ الدَّلِيل الْمَذْكُور لبطلت الشَّرَائِع جملَة فَهَذَا هُوَ الدَّلِيل الَّذِي اعْتَمدهُ ابْن الْخَطِيب وابطل أَدِلَّة غَيره وَأما الدَّلِيل الَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ الْآمِدِيّ فَهُوَ أَن حسن الْفِعْل لَو كَانَ أمرا زَائِدا على ذَاته لزم قيام الْمَعْنى وَهُوَ محَال لِأَن الْعرض لَا يقوم بِالْعرضِ وَهَذَا فِي الْبطلَان من جنس مَا قبله فَإِنَّهُ منقوض مَالا يحصي من الْمعَانِي الَّتِي تُوصَف بالمعاني كَمَا يُقَال علم ضَرُورِيّ وَعلم كسبي وَإِرَادَة جازمة وحركة سريعة وحركة بطيئة وحركة مستديرة وحركة مُسْتَقِيمَة ومزاج معتدل ومزاج منحرف وَسَوَاد براق وَحُمرَة قانية وخضرة ناصعة ولون مشرق وَصَوت شج وحس رخيم ورفيع
ودقيق وغليظ وأضعاف أَضْعَاف ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى مِمَّا تُوصَف الْمعَانِي والأعراض فِيهِ بمعان وأعراض وجودية وَمن أدعى أَنَّهَا عدمية فَهُوَ مكابر وَهل شكّ أحد فِي وصف الْمعَانِي بالشدة والضعف فَيُقَال هم شَدِيد وَحب شَدِيد وحزن شَدِيد وألم شَدِيد ومقابلها فوصف الْمعَانِي بصفاتها أَمر مَعْلُوم عِنْد كل الْعُقَلَاء الْوَجْه الثَّانِي أَن قَوْله يلْزم مِنْهُ قيام الْمَعْنى بِالْمَعْنَى غير صَحِيح بل الْمَعْنى يُوصف بِالْمَعْنَى وَيقوم بِهِ تبعا لقِيَامه بالجوهر الَّذِي هُوَ الْمحل فَيكون المعنيان جَمِيعًا قَائِمين بِالْمحل وَأَحَدهمَا تَابع للْآخر وَكِلَاهُمَا تبع للمحل فَمَا قَامَ الْعرض بِالْعرضِ وَإِنَّمَا قَامَ العرضان جَمِيعًا بالجوهر فالحركة والسرعة قائمتان بالمتحرك وَالصَّوْت وشجاه وغلظه ودقته وَحسنه وقبحه قَائِمَة بالحامل لَهُ والمحال إِنَّمَا هُوَ قيام الْمَعْنى بِالْمَعْنَى من غير أَن يكون لَهما حَامِل فَأَما إِذا كَانَ لَهما حَامِل وَأَحَدهمَا صفة للْآخر وَكِلَاهُمَا قَامَ بِالْمحل الْحَامِل فَلَيْسَ بمحال وَهَذَا فِي غَايَة الوضوح
الْوَجْه الثَّالِث أَن حسن الْفِعْل وقبحه شرعا أَمر زَائِد عَلَيْهِ لِأَن الْمَفْهُوم مِنْهُ زَائِد على الْمَفْهُوم من نفس الْفِعْل وهما وجوديان لاعدميان لِأَن نقيضهما يحمل على الْعَدَم فَهُوَ عدمي فهما إِذا وجوديان لِأَن كَون أحد النقيضين عدميا يسْتَلْزم كَون نقيضه وجوديا فَلَو صَحَّ دليلكم الْمَذْكُور لزم أَن لَا يُوصف بالْحسنِ والقبح شرعا وَلَا خلاص عَن هَذَا إِلَّا بِالْتِزَام كَون الْحسن والقبح الشرعيين عدميين وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ لِأَن الثَّوَاب وَالْعِقَاب والمدح والذم مُرَتّب عَلَيْهِمَا ترَتّب الآثر على مؤثره الْمُقْتَضى على مقتضيه وَمَا كَانَ كَذَلِك لم يكن عدما مَحْضا إِذْ الْعَدَم الْمَحْض لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ثَوَاب وَلَا عِقَاب وَلَا مدح وَلَا ذمّ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا معنى لكَون الْفِعْل حسنا وقبيحا شرعا إِلَّا أَنه يشْتَمل على صفة لأَجلهَا كَانَ حسنا محبوبا للرب مرضيا لَهُ مُتَعَلقا للمدح وَالثَّوَاب وَكَون الْقَبِيح مُشْتَمِلًا على صفة لأَجلهَا كَانَ قبيحا مبغوضا للرب مُتَعَلقَة للذم وَالْعِقَاب وَهَذِه أُمُور وجودية ثَابِتَة لَهُ فِي نَفسه ومحبة الرب لَهُ وَأمره بِهِ كَسَاه أمرا وجوديا زَاده حسنا إِلَى حسنه وَبَعضه لَهُ وَنَهْيه عَنهُ كَسَاه أمرا وجوديا زَاده قبحا إِلَى قبحه فَجعل ذَلِك كُله عدما مَحْضا ونفيا صرفا لَا يرجع إِلَى أَمر ثبوتي فِي غَايَة الْبطلَان والإحالة وَظهر والإحالة وَظهر أَن هَذَا الدَّلِيل فِي غَايَة الْبطلَان وَلم نتعرض للوجوه الَّتِي قَدَحُوا بهَا فِيهِ فَإِنَّهَا مَعَ طولهَا غير شافية وَلَا مقنعة فَمن اكْتفى بهَا فَهِيَ مَوْجُودَة فِي كتبهمْ وَأما المسلك الَّذِي اعْتَمدهُ كثير مِنْهُم كَالْقَاضِي وَأبي الْمَعَالِي وَأبي عَمْرو بن الْحَاجِب من الْمُتَأَخِّرين فَهُوَ أَن الْحسن والقبح لَو كَانَا ذاتيين لما اخْتلفَا باخْتلَاف الْأَحْوَال والمتعلقات والأزمان وَلَا ستحال وُرُود النّسخ على الْفِعْل لِأَن مَا ثَبت للذات فَهُوَ بَاقٍ ببقائها لَا يَزُول وَهِي بَاقِيَة وَمَعْلُوم أَن الْكَذِب يكون حسنا إِذا تضمن عصمَة دم نَبِي أَو مُسلم وَلَو كَانَ قبحه ذاتيا لَهُ لَكَانَ قبيحا ايْنَ وجد وَكَذَلِكَ مَا نسخ من الشَّرِيعَة لَو كَانَ حسنه لذاته لم يسْتَحل قبيحا وَلَو كَانَ قبحه لذاته لم يسْتَحل حسنا بالنسخ قَالُوا وَأَيْضًا لَو كَانَ ذاتيا لاجتمع النقيضان فِي صدق من
قَالَ لأكذبن غَدا إِذا فَإِنَّهُ لَا يخلوا إِمَّا أَن يكذب فِي الْغَد أَو يصدق فَإِن كذب لزم قبحه لكَونه كذبا وَحسنه لاستلزامه مُصدق الْخَبَر الأول والمستلزم لِلْحسنِ حسن فيجتمع فِي الْخَبَر الثَّانِي الْحسن والقبح وهما نقيضان وَإِن صدق لزم حسن الْخَبَر الثَّانِي من حَيْثُ أَنه صدق فِي نَفسه وقبحه من حَيْثُ أَنه مُسْتَلْزم لكذب الْخَبَر الأول فَلَزِمَ النقيضان قَالُوا وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْقَتْل وَالْجَلد وَقطع الاطراف قبيحا لذاته أَو لصفة لَازِمَة للذات لم يكن حسنا فِي الْحُدُود وَالْقصاص لِأَن مُقْتَضى الذَّات لَا يتَخَلَّف عَنْهَا فَإِذا تخلف فِيمَا ذكرنَا من الصُّور وَغَيرهَا دلّ على أَنه لَيْسَ ذاتيا فَهَذَا تَقْرِير هَذَا المسلك وَهُوَ من أفسد المسالك لوجوه أَحدهَا أَن كَون الْفِعْل حسنا أَو قبيحا لذاته أَو لصفة لم يعن بِهِ أَن ذَلِك يقوم بِحَقِيقَة لَا يَنْفَكّ عَنْهَا بِحَال مثل كَونه عرضا وَكَونه مفتقرا إِلَى مَحل يقوم بِهِ وَكَون الْحَرَكَة حَرَكَة والسواد لونا وَمن هَا هُنَا غلط علينا المنازعون لنا فِي المسئلة وألزمونا مَالا يلْزمنَا وَإِنَّمَا نعنى بِكَوْنِهِ حسنا أَو قبيحا لذاته أَو لصفته أَنه فِي نَفسه منشأ للْمصْلحَة والمفسدة وترتيبهما عَلَيْهِ كترتيب المسببات على أَسبَابهَا الْمُقْتَضِيَة لَهَا وَهَذَا كترتيب الرّيّ على الشّرْب والشبع على الْأكل وترتب مَنَافِع الأغذية والأدوية ومضارها عَلَيْهَا فَحسن الْفِعْل أَو قبحه هُوَ من جنس كَون الدَّوَاء الْفُلَانِيّ حسنا نَافِعًا أَو قبيحا ضارا وَكَذَلِكَ الْغذَاء واللباس والمسكن وَالْجِمَاع والاستفراغ وَالنَّوْم والرياضة وَغَيرهَا فَإِن ترَتّب آثارها عَلَيْهَا ترَتّب المعلومات والمسببات على عللها وأسبابها وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمَان وَالْأَحْوَال والأماكن وَالْمحل الْقَابِل وَوُجُود الْمعَارض فَتخلف الشِّبَع والري عَن الْخبز وَاللَّحم وَالْمَاء فِي حق الْمَرِيض وَمن بِهِ عِلّة تَمنعهُ من قبُول الْغذَاء لاتخرجه عَن كَونه مقتضيا لذَلِك حَتَّى يُقَال لَو كَانَ كَذَلِك لذاته لم يتَخَلَّف لِأَن مَا بِالذَّاتِ لَا يتَخَلَّف وَكَذَلِكَ تخلف الِانْتِفَاع بالدواء فِي شدَّة الْحر وَالْبرد وَفِي وَقت تزايد الْعلَّة لَا يُخرجهُ عَن كَونه نَافِعًا فِي ذَاته وَكَذَلِكَ تخلف الِانْتِفَاع باللباس فِي زمن الْحر مثلا لَا يدل على أَنه لَيْسَ فِي ذَاته نَافِعًا وَلَا حسنا فَهَذِهِ قوى الأغذية والأدوية واللباس وَمَنَافع الْجِمَاع وَالنَّوْم تتخلف عَنْهَا آثارها زَمَانا ومكانا وَحَالا وبحسب الْقبُول والاستعداد فَتكون نافعة حَسَنَة فِي زمَان دون زمَان وَمَكَان دون وَحَال دون حَال وَفِي حق طَائِفَة أَو شخص دون غَيرهم وَلم يُخرجهَا ذَلِك عَن كَونهَا مقتضية لآثارها بقواها وصفاتها فَهَكَذَا أوَامِر الرب تبارك وتعالى وشرائعه سَوَاء يكون الْأَمر منشأ الْمصلحَة وتابعا للْمَأْمُور فِي وَقت دون وَقت فيأمره بِهِ تبارك وتعالى فِي الْوَقْت الَّذِي علم أَنه مصلحَة فِيهِ ثمَّ ينْهَى عَنهُ فِي الْوَقْت الَّذِي يكون فعله فِيهِ مفْسدَة على نَحْو مَا يَأْمر الطَّبِيب بالدواء وَالْحمية فِي وَقت هُوَ مصلحَة للْمَرِيض وينهاه عَنهُ فِي الْوَقْت الَّذِي يكون تنَاوله مفْسدَة لَهُ بل أحكم الْحَاكِمين الَّذِي بهرت حكمته الْعُقُول أولى بمراعاة مصَالح عباده ومفاسدهم فِي الْأَوْقَات وَالْأَحْوَال والأماكن والأشخاص وَهل وضعت الشَّرَائِع إِلَّا على هَذَا فَكَانَ نِكَاح الْأُخْت حسنا فِي وقته حَتَّى لم يكن بُد مِنْهُ فِي التناسل
وَحفظ النَّوْع الإنساني ثمَّ صَار قبيحا لما اسْتغنى عَنهُ فحرمه على عباده فأباحه فِي وَقت كَانَ فِيهِ حسنا وَحرمه فِي وَقت صَار فِيهِ قبيحا وَكَذَلِكَ كل مَا نسخه من الشَّرْع بل الشَّرِيعَة الْوَاحِدَة كلهَا لَا تخرج عَن هَذَا وَإِن خَفِي وَجه الْمصلحَة والمفسدة فِيهِ على أَكثر النَّاس وَكَذَلِكَ إِبَاحَة الْغَنَائِم كَانَ قبيحا فِي حق من قبلنَا لِئَلَّا تحملهم إباحتها على الْقِتَال لأَجلهَا وَالْعَمَل لغير الله فتفوت عَلَيْهِم مصلحَة الْإِخْلَاص الَّتِي هِيَ أعظم الْمصَالح فحمى أحكم الْحَاكِمين جَانب هَذِه الْمصلحَة الْعَظِيمَة بتحريمها عَلَيْهِم ليتمحض قِتَالهمْ لله لَا للدنيا فَكَانَت الْمصلحَة فِي حَقهم تَحْرِيمهَا عَلَيْهِم ثمَّ لما أوجد هَذِه الْأمة الَّتِي هِيَ أكمل الْأُمَم عقولا وأرسخهم إِيمَانًا وأعظمهم توحيدا وإخلاصا وأرغبهم فِي الْآخِرَة وأزهدهم فِي الدُّنْيَا أَبَاحَ لَهُم الْغَنَائِم وَكَانَت إباحتها حَسَنَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم وَإِن كَانَت قبحة بِالنِّسْبَةِ إِلَى من قبلهم فَكَانَت كإباحة الطَّبِيب اللَّحْم للصحيح الَّذِي لَا يخْشَى عَلَيْهِ من مضرته وحميته مِنْهُ للْمَرِيض المحموم وَهَذَا الحكم فِيمَا شرع فِي الشَّرِيعَة الْوَاحِدَة فِي وَقت ثمَّ نسخ فِي وَقت آخر كالتخيير فِي الصَّوْم فِي أول الْإِسْلَام بَين الْإِطْعَام وَبَينه لما كَانَ غير مألوف لَهُم وَلَا مُعْتَاد والطباع تأباه إِذْ هُوَ هجر مألوفها ومحبوبها وَلم تذق بعد حلاوته وعواقبه المحمودة وَمَا فِي طيه من الْمصَالح وَالْمَنَافِع فخيرت بَينه وَبَين الْإِطْعَام وندبت إِلَيْهِ فَلَمَّا عرفت علته يَعْنِي حكمته وَالْفِقْه وَعرفت مَا تضمنه من الْمصَالح والفوائد حتم عَلَيْهَا عينا وَلم يقبل مِنْهَا سَوَاء فَكَانَ التَّخْيِير فِي وقته مصلحَة وَتَعْيِين الصَّوْم فِي وقته مصلحَة فاقتضت الْحِكْمَة الْبَالِغَة شرع كل حكم فِي وقته لِأَن الْمصلحَة فِيهِ فِي ذَلِك الْوَقْت وَكَانَ فرض الصَّلَاة أَولا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ لما كَانُوا حَدِيثي عهد بِالْإِسْلَامِ وَلم يَكُونُوا معتادين لَهَا وَلَا ألفتها طباعهم وعقولهم فرضت عَلَيْهِم بِوَصْف التَّخْفِيف فَلَمَّا ذالت بهَا جوارحهم وطوعت بهَا أنفسهم وأطمأنت اليها قُلُوبهم وباشرت نعيمها لذتها وطيبها وذاقت حلاوة عبودية الله فِيهَا وَلَذَّة مناجاته زيدت ضعفها وأقرت فِي السّفر على الْفَرْض الأول لحَاجَة الْمُسَافِر إِلَى التَّخْفِيف ولمشقة السّفر عَلَيْهِ فَتَأمل كَيفَ جَاءَ كل حكم فِي وقته مطابقا للْمصْلحَة وَالْحكمَة شَاهدا لله بِأَنَّهُ أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ الَّذِي بهرت حكمته الْعُقُول والألباب وبدا على صفحاتها بِأَن مَا خالفها هُوَ الْبَاطِل وَأَنَّهَا هِيَ عين الْمصلحَة وَالصَّوَاب وَمن هَذَا أمره سُبْحَانَهُ لَهُم بالأعراض عَن الْكَافرين وَترك آذاهم وَالصَّبْر عَلَيْهِم وَالْعَفو عَنْهُم لما كَانَ ذَلِك عين الْمصلحَة لقلَّة عدد الْمُسلمين وَضعف شوكتهم وَغَلَبَة عدوهم فَكَانَ هَذَا فِي حَقهم إِذْ ذَاك عين الْمصلحَة فَلَمَّا تحيزوا إِلَى دَار وَكثر عَددهمْ وقويت شوكتهم وتجرأت أنفسهم لمناجزة عدوهم أذن لَهُم فِي ذَلِك أذنا من غير إِيجَاب عَلَيْهِم ليذيقهم حلاوة النَّصْر وَالظفر وَعز الْغَلَبَة وَكَانَ الْجِهَاد أشق شَيْء على النُّفُوس فَجعله أَولا إِلَى اختيارهم إِذْنا لاحتما فَلَمَّا ذاقوا عز النَّصْر
وَالظفر وَعرفُوا عواقبه الحميدة أوجبه عَلَيْهِم حتما فانقادوا لَهُ طَوْعًا ورغبة ومحبة فَلَو أَتَاهُم الْأَمر بِهِ مفاجأة على ضعف وَقلة لنفروا عَنهُ أَشد النفار وَتَأمل الْحِكْمَة الباهرة فِي شرع الصَّلَاة أَولا إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِذْ كَانَت قبْلَة الْأَنْبِيَاء فَبعث بِمَا بعث بِهِ الرُّسُل وَبِمَا يعرفهُ أهل الْكتاب وَكَانَ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس مقررا لنبوته وَأَنه بعث بِمَا بعث بِهِ الْأَنْبِيَاء قبله وَإِن دَعوته هِيَ دَعْوَة الرُّسُل بِعَينهَا وَلَيْسَ بدعا من الرُّسُل وَلَا مُخَالفا لَهُم بل مُصدقا لَهُم مُؤمنا بهم فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ أَعْلَام نبوته فِي الْقُلُوب وَقَامَت شَوَاهِد صدقه من كل جِهَة وَشهِدت الْقُلُوب لَهُ بِأَنَّهُ رَسُول الله حَقًا وَإِن أَنْكَرُوا رسَالَته عنادا وحسدا وبغيا وَعلم سُبْحَانَهُ أَن الْمصلحَة لَهُ ولأمته أَن يستقبلوا الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام افضل بقاع الارض وأحبها إِلَى الله وَأعظم الْبيُوت وَأَشْرَفهَا وأقدمها قرر قبله أمورا كالمقدمات بَين يَدَيْهِ لعظم شَأْنه فَذكر النّسخ أَولا وَأَنه إِذا نسخ آيَة أَو حكما أَتَى بِخَير مِنْهُ أَو مثله وَأَنه على كل شَيْء قدير وَأَن لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض ثمَّ حذرهم التعنت على رَسُوله والإعراض كَمَا فعل أهل الْكتاب قبلهم ثمَّ حذرهم من أهل الْكتاب وعداوتهم وَأَنَّهُمْ يودون لَو ردوهم كفَّارًا فَلَا يسمعوا مِنْهُم وَلَا يقبلُوا قَوْلهم ثمَّ ذكر تَعْظِيم دين الْإِسْلَام وتفضيله على الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَأَن أَهله هم السُّعَدَاء الفائزون لَا أهل الْأَمَانِي الْبَاطِلَة ثمَّ ذكر اخْتِلَاف الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَشَهَادَة بَعضهم على بعض بِأَنَّهُم لَيْسُوا على شَيْء فحقيق بِأَهْل الْإِسْلَام إِن لَا يقتدوا بهم وَأَن يخالفوهم فِي هديهم الْبَاطِل ثمَّ ذكر جرم من منع عباده من ذكر اسْمه فِي بيوته ومساجده وَأَن يعبد فِيهَا وظلمه وَأَنه بذلك ساع فِي خرابها لِأَن عمارتها إِنَّمَا هِيَ بِذكر اسْمه وعبادته فِيهَا ثمَّ بَين أَن لَهُ الْمشرق وَالْمغْرب وَأَنه سُبْحَانَهُ لعظمته وإحاطته حَيْثُ اسْتقْبل الْمصلى فثم وَجهه تَعَالَى فَلَا يظنّ الظَّان أَنه إِذا اسْتقْبل الْبَيْت الْحَرَام خرج عَن كَونه مُسْتَقْبلا ربه وقبلته فَإِن الله وَاسع عليم ثمَّ ذكر عبودية أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض لَهُ وَأَنَّهُمْ كل لَهُ قانتون ثمَّ نبه على عدم الْمصلحَة فِي مُوَافقَة أهل الْكتاب وَأَن ذَلِك لَا يعود باستصلاحهم وَلَا يُرْجَى مَعَه إِيمَانهم وَأَنَّهُمْ لن يرْضوا عَنهُ حَتَّى يتبع ملتهم وَضمن هَذَا تَنْبِيه لطيف على أَن موافقتهم فِي الْقبْلَة لَا مصلحَة فِيهَا فَسَوَاء وافقتهم فِيهَا أَو خالفتهم فَإِنَّهُم لن يرْضوا عَنْك حَتَّى تتبع ملتهم ثمَّ أخبر أَن هداه هُوَ الْهدى الْحق وحذره من اتِّبَاع أهوائهم ثمَّ انْتقل إِلَى تَعْظِيم إِبْرَاهِيم صَاحب الْبَيْت وبانيه وَالثنَاء عَلَيْهِ وَذكر إِمَامَته للنَّاس وَإنَّهُ أَحَق من اتبع ثمَّ ذكر جلالة الْبَيْت وفضله وشرفه وَأَنه أَمن للنَّاس ومثابة لَهُم يثوبون إِلَيْهِ وَلَا يقضون مِنْهُ وطرا وَفِي هَذَا تَنْبِيه على أَنه أَحَق بالاستقبال من غَيره ثمَّ أَمرهم أَن يتخذوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى ثمَّ ذكر بِنَاء إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل الْبَيْت وتطهيره بعهده وإذنه ورفعهما قَوَاعِده وسؤالهما ربهما الْقبُول مِنْهُمَا وَأَن تجعلهما مُسلمين لَهُ ويريهما مناسكهما وَيبْعَث فِي ذريتهما رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم
وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة ثمَّ أخبر عَن جهل من رغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم وسفه ونقصان عقله ثمَّ أكد عَلَيْهِم أَن يَكُونُوا على مِلَّة إِبْرَاهِيم وَأَنَّهُمْ إِن خَرجُوا عَنْهَا إِلَى يَهُودِيَّة أَو نَصْرَانِيَّة أَو غَيرهَا كَانُوا ضلالا غير مهتدين وَهَذِه كلهَا مُقَدمَات بَين يَدي الْأَمر باستقبال الْكَعْبَة لمن تأملها وتدبرها وَعلم ارتباطها بشأن الْقبْلَة فَإِنَّهُ يعلم بذلك عَظمَة الْقُرْآن وجلالته وتنبيهه على كَمَال دينه وَحسنه وجلالته وَأَنه هُوَ عين الْمصلحَة لِعِبَادِهِ لَا مصلحَة لَهُم سواهُ وشوق بذلك النُّفُوس إِلَى الشَّهَادَة لَهُ بالْحسنِ والكمال وَالْحكمَة التَّامَّة فَلَمَّا قرر ذَلِك كُله أعلمهم بِمَا سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس إِذا تركُوا قبلتهم لِئَلَّا يفجأهم من غير علم بِهِ فيعظم موقعه عِنْدهم فَلَمَّا وَقع لم يهلهم وَلم يصعب عَلَيْهِم بل أخبر أَن لَهُ الْمشرق وَالْمغْرب يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ثمَّ أخبر انه كَمَا جعلهم أمة وسطا خيارا اخْتَار لَهُم أَوسط جِهَات الِاسْتِقْبَال وَخَيرهَا كَمَا اخْتَار لَهُم خير الْأَنْبِيَاء وَشرع لَهُم خير الْأَدْيَان وَأنزل عَلَيْهِم خير الْكتب وجعلهم شُهَدَاء على النَّاس كلهم لكَمَال فَضلهمْ وعلمهم وعدالتهم وَظَهَرت حكمته فِي أَن اخْتَار لَهُم أفضل قبْلَة وَأَشْرَفهَا لتتكامل جِهَات الْفضل فِي حَقهم بالقبلة وَالرَّسُول وَالْكتاب والشريعة ثمَّ نبه سُبْحَانَهُ على حكمته الْبَالِغَة فِي أَن جعل الْقبْلَة أَولا هِيَ بَيت الْمُقَدّس ليعلم سُبْحَانَهُ وَاقعا فِي الْخَارِج مَا كَانَ مَعْلُوما لَهُ قبل وُقُوعه من يتبع الرَّسُول فِي جَمِيع أَحْوَاله وينقاد لَهُ ولأوامر الرب تَعَالَى ويدين بهَا كَيفَ كَانَت وَحَيْثُ كَانَت فَهَذَا هُوَ الْمُؤمن حَقًا الَّذِي أعْطى الْعُبُودِيَّة حَقّهَا وَمن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ مِمَّن لم يرسخ فِي الْإِيمَان قلبه وَلم يسْتَقرّ عَلَيْهِ قدمه فعارض وَأعْرض وَرجع على حَافره وَشك فِي النُّبُوَّة وخالط قلبه شُبْهَة الْكفَّار الَّذين قَالُوا أَن كَانَت الْقبْلَة الأولى حَقًا فقد خَرجْتُمْ عَن الْحق وَأَن كَانَت بَاطِلا فقد كُنْتُم على بَاطِل وضاق عقله المنكوس عَن الْقسم الثَّالِث الْحق وَهُوَ أَنَّهَا كَانَت حَقًا ومصلحة فِي الْوَقْت الأول ثمَّ صَارَت مفْسدَة بَاطِلَة الِاسْتِقْبَال فِي الْوَقْت الثَّانِي وَلِهَذَا أخبر سُبْحَانَهُ عَن عظم شَأْن هَذَا التَّحْوِيل والنسخ فِي الْقبْلَة فَقَالَ وَأَن كَانَت لكبيرة إِلَّا على الَّذين هدى الله ثمَّ أخبر أَنه سُبْحَانَهُ لم يكن يضيع مَا تقدم لَهُم من الصَّلَوَات إِلَى الْقبْلَة الأولى وَأَن رأفته وَرَحمته بهم تأبي إِضَاعَة ذَلِك عَلَيْهِم وَقد كَانَ طَاعَة لَهُم فَلَمَّا قرر سُبْحَانَهُ ذَلِك كُله وَبَين حسن هَذِه الْجِهَة بعظمة الْبَيْت وعلو شَأْنه وجلالته قَالَ قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء فلنولينك قبْلَة ترضاها فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره وأكد ذَلِك عَلَيْهِم مرّة بعد مرّة اعتناء بِهَذَا الشَّأْن وتفخيما لَهُ وَأَنه شَأْن يَنْبَغِي الاعتناء بِهِ والاحتفال بأَمْره فندبر هَذَا الاعتناء وَهَذَا التَّقْرِير وَبَيَان الْمصَالح الناشئة من هَذَا الْفَرْع من فروع الشَّرِيعَة وَبَيَان الْمَفَاسِد الناشئة من خِلَافه وان كل جِهَة فِي وَقتهَا كَانَ استقبالها هُوَ الْمصلحَة وَأَن للرب تَعَالَى الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي شرع الْقبْلَة الأولى وتحويل عباده عَنْهَا إِلَى الْمَسْجِد