الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأشرك وَلَا فرق عِنْده بَين هَذَا وَهَذَا فليعجب الْعَاقِل من هَذَا التقابل والتباعد الَّذِي يزْعم كل فريق أَن قَوْلهم هُوَ مَحْض الْعقل وَمَا خَالفه بَاطِل بِصَرِيح الْعقل وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّة قَالَت أَنه ألْقى إِلَى عباده زِمَام الِاخْتِيَار وفوض إِلَيْهِم الْمَشِيئَة والإرادة وَأَنه لم يخص أحدا مِنْهُم دون أحد بِتَوْفِيق وَلَا لطف وَلَا هِدَايَة بل سَاوَى بَينهم فِي مقدوره وَلَو قدر أَن يهدى أحدا وَلم يهده كَانَ بخلا وَأَنه لَا يهدى أحدا وَلَا يضله إِلَّا بِمَعْنى الْبَيَان والإرشاد وَأما خلق الْهدى والضلال فَهُوَ إِلَيْهِم لَيْسَ إِلَيْهِ وَقَالَت الجبرية أَنه سُبْحَانَهُ أجبر عباده على أفعالهم بل قَالُوا أَن أفعالهم هِيَ نفس أَفعاله وَلَا فعل لَهُم فِي الْحَقِيقَة وَلَا قدرَة وَلَا اخْتِيَار وَلَا مَشِيئَة وَإِنَّمَا يعذبهم على مَا فعله هُوَ لَا على مَا فَعَلُوهُ وَنسبَة أفعالهم إِلَيْهِ كحركات الْأَشْجَار والمياه والجمادات فالقدرية سلبوه قدرته على أَفعَال الْعباد ومشيئته لَهَا والجبرية جعلُوا أَفعَال الْعباد نفس أَفعاله وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فاعلين لَهَا فِي الْحَقِيقَة وَلَا قَادِرين عَلَيْهَا فالقدرية سلبته كَمَال ملكه والجبرية سلبته كَمَال حكمته والطائفتان سلبته كَمَال حَمده وَأهل السّنة الْوسط أثبتوا كَمَال الْملك وَالْحَمْد وَالْحكمَة فوصفوه بِالْقُدْرَةِ التَّامَّة على كل شَيْء من الْأَعْيَان وأفعال الْعباد وَغَيرهم وأثبتوا لَهُ الْحِكْمَة التَّامَّة فِي جَمِيع خلقه وَأمره واثبتوا لَهُ الْحَمد كُله فِي جَمِيع مَا خلقه وَأمر بِهِ ونزهوه عَن دُخُوله تَحت شَرِيعَة يَضَعهَا الْعباد بآرائهم كَمَا نزهوه عَمَّا نزه نَفسه عَنهُ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ فاستولوا على محَاسِن الْمذَاهب وتجنبوا أَرْدَاهَا ففازوا بالقدح الْمُعَلَّى وَغَيرهم طَاف على أَبْوَاب الْمذَاهب ففاز باخس المطالب وَالْهدى هدى يخْتَص بِهِ من يَشَاء من عباده
فصل إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَالْكَلَام على كَلِمَات النفاة من وُجُوه:
أَحدهَا قَوْلكُم لَو قدر الْإِنْسَان نَفسه وَقد خلق تَامّ الْخلقَة تَامّ الْعقل دفْعَة من غير تأدب بتأديب الْأَبَوَيْنِ وَلَا تعلم من معلم ثمَّ عرض عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحدهمَا أَن الْوَاحِد أَكثر من الِاثْنَيْنِ وَالْآخر أَن الْكَذِب قَبِيح لم يتَوَقَّف فِي الأول ويتوقف فِي الثَّانِي فَهَذَا تَقْدِير مُسْتَحِيل ركبتم عَلَيْهِ أمرا غير مَعْلُوم الصِّحَّة فَإِن تَقْدِير الْإِنْسَان كَذَلِك محَال
الْوَجْه الثَّانِي سلمنَا إِمْكَان التَّقْدِير لَكِن لم قُلْتُمْ بِأَنَّهُ لَا يتَوَقَّف فِي كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ ويتوقف فِي كَون الْكَذِب قبيحا بعد تصور حَقِيقَته فَلَا نسلم أَنه إِذا تصور مَاهِيَّة الْكَذِب توقف فِي الْجَزْم بقبحه وَهل هَذَا إِلَّا دَعْوَة مُجَرّدَة الْوَجْه الثَّالِث سلمنَا أَنه قد يتَوَقَّف فِي الحكم بقبحه وَلَكِن لَا يلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون قبيحا لذاته وقبحه مَعْلُوم لِلْعَقْلِ وَتوقف الذِّهْن فِي الحكم الْعقلِيّ لَا يُخرجهُ عَن كَونه عقليا وَلَا يجب التَّسَاوِي فِي العقليات إِذْ بَعْضهَا أَجلي من بعض فَإِن قُلْتُمْ فَهَذَا التَّوَقُّف يَنْفِي أَن يكون الحكم بقبحه ضَرُورِيًّا وَهُوَ يبطل قَوْلكُم
قُلْنَا هَذَا إِنَّمَا لزم من التَّقْدِير المستحيل فِي الْوَاقِع
والمحال قد يلْزمه محَال آخر سلمنَا أَنه يَنْفِي كَون الحكم بقبحه ضَرُورِيًّا ابْتِدَاء فَلم قُلْتُمْ أَنه لَا يكون ضَرُورِيًّا بعد التَّأَمُّل وَالنَّظَر
والضروري أَعم من كَونه ضَرُورِيًّا ابْتِدَاء بِلَا وَاسِطَة أَو ضَرُورِيًّا بوسط وَنفي الْأَخَص لَا يسْتَلْزم نفي الْأَعَمّ وَمن ادّعى سلب الوسائط عَن الضروريات فقد كَابر أَو اصْطلحَ مَعَ نَفسه على تَسْمِيَة الضروريات بِمَا لَا يتَوَقَّف على وسط
الْوَجْه الرَّابِع أَن نصور مَاهِيَّة الْكَذِب يَقْتَضِي جزم الْعقل بقبحه وَنسبَة الْكَذِب إِلَى الْعقل كنسبة المتنافرات الحسية إِلَى الْحس فَكَمَا أَن أَدْرَاك الْحَواس المتنافرات يَقْتَضِي نفرتها عَنْهَا فَكَذَلِك أَدْرَاك الْعقل لحقيقة الْكَذِب وَلَا فرق بَينهمَا إِلَّا فرق مَا بَين أَدْرَاك الْحس وأدراك الْعقل فَإِن جَازَ الْقدح فِي مدركات الْعُقُول وَحكمهَا فِيهَا بالْحسنِ والقبح جَازَ الْقدح فِي مدركات الْحَواس الْوَجْه الْخَامِس إِنَّكُم فتحتم بَاب السفسطة فَإِن الْقدح فِي مَعْلُومَات الْعُقُول وموجباتها كالقدح فِي مدركات الْحَواس وموجباتها فَمن لَجأ إِلَى المكابرة فِي المعقولات فقد فتح بَاب المكابرة فِي المحسوسات وَلِهَذَا كَانَت السفسطة تعرض أَحْيَانًا فِي هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَت مذهبا لأمة من النَّاس يعيشون عَلَيْهِ كَمَا يَظُنّهُ بعض أهل المقالات وَلَا يُمكن أَن تعيش أمة وَلَا أحد على ذَلِك وَلَا تتمّ لَهُ مصلحَة وَإِنَّمَا هِيَ حَال عارضة لكثير من النَّاس وَهِي تكْثر وتقل وَمَا من صَاحب مَذْهَب بَاطِل إِلَّا وَهُوَ مرتكب للسفسطة شَاءَ أم أبي وَسَنذكر أَن شَاءَ الله فصلا فِيمَا بعد نبين فِيهِ أَن جَمِيع أَرْبَاب الْمذَاهب الْبَاطِلَة سوفسطائية صَرِيحًا ولزوما قَرِيبا وبعيدا
الْوَجْه السَّادِس قَوْلكُم من حكم بِأَن هذَيْن الْأَمريْنِ سيان بِالنِّسْبَةِ إِلَى عقله خرج عَن قضايا الْعُقُول جَوَابه أَنكُمْ أَن أردتم بالتسوية كَونهمَا معقولان فِي الْجُمْلَة فَمن أَيْن يخرج عَن قضايا الْعُقُول من حكم بذلك وَهل الْخَارِج فِي الْحَقِيقَة عَنْهَا إِلَّا من منع هَذَا الحكم فَإِن أردتم بالتسوية الاسْتوَاء فِي الْإِدْرَاك وَأَن كليهمَا على رُتْبَة وَاحِدَة من الضَّرُورَة فَلَا يلْزم من عدم هَذَا الاسْتوَاء أَن لَا يكون الْعلم بقبح الْكَذِب عقليا
الْوَجْه السَّابِع قَوْلكُم لَو تقرر عِنْد الْمُثبت أَن الله تَعَالَى لَا يتَضَرَّر بكذب وَلَا ينْتَفع بِصدق كَانَ الآمران فِي حكم التَّكْلِيف على وتيرة وَاحِدَة كَلَام لَا يرتضيه عَاقل فَإِنَّهُ من المتقرر أَن الله تَعَالَى لَا يتَضَرَّر بكذب وَلَا ينْتَفع بِصدق وَإِنَّمَا يعود نفع الصدْق وضرر الْكَذِب على الْمُكَلف وَلَكِن لَيْت شعري من أَيْن يلْزم أَن يكون هَذَانِ الضدان بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّكْلِيف على وتيرة وَاحِدَة وَهل هَذَا الا مُجَرّد تحكم وَدَعوى بَاطِلَة الْوَجْه الثَّامِن أَنه لَا يلْزم من كَون الْحَكِيم لَا يتَضَرَّر بالقبح وَلَا ينْتَفع بالْحسنِ أَن لَا يحب هَذَا وَلَا يبغض هَذَا بل تكون نسبتهما إِلَيْهِ نِسْبَة وَاحِدَة بل الْأَمر بِالْعَكْسِ وَهُوَ أَن حكمته تَقْتَضِي بغضه للقبيح وَأَن لم يتَضَرَّر بِهِ ومحبته لِلْحسنِ وَأَن لم ينْتَفع بِهِ وَحِينَئِذٍ يَنْقَلِب هَذَا الْكَلَام عَلَيْكُم ونكون أسعد بِهِ مِنْكُم فَنَقُول لَو تقرر عِنْد النَّافِي أَن الله تَعَالَى حَكِيم عليم يضع الْأَشْيَاء موَاضعهَا وينزلها منازلها الْعلم أَن الْأَمريْنِ أَعنِي الصدْق وَالْكذب بِالنِّسْبَةِ
إِلَى شَرعه وتكليفه متباينان غَايَة التباين متضادان وانه يَسْتَحِيل فِي حكمته التَّسْوِيَة بَينهمَا وَأَن يَكُونَا على وتيرة وَاحِدَة وَمَعْلُوم إِن هَذَا هُوَ الْمَعْقُول وَمَا ذكرتموه خَارج عَن الْمَعْقُول
الْوَجْه التَّاسِع قَوْلكُم أَن الصدْق وَالْكذب على حَقِيقَة ذاتية وَأَن الْحسن والقبح غير داخلين فِي صفاتهما الذاتية وَلَا يلْزمهُمَا فِي الْوَهم بالبديهة وَلَا فِي الْوُجُود ضَرُورَة جَوَابه أَنكُمْ أَن أردتم أَن الْحسن والقبح لَا يدْخل فِي مُسَمّى الصدْق وَالْكذب فَمُسلم وَلَكِن لَا يفيدكم شَيْئا فَإِن غَايَته إِنَّمَا يدل على تغاير المفهومين فَكَانَ مَاذَا وَإِن أردتم أَن ذَات الصدْق وَالْكذب لَا تَقْتَضِي الْحسن والقبح وَلَا تستلزمهما فَهَل هَذَا إِلَّا مُجَرّد الْمَذْهَب وَنَفس الدَّعْوَى وَهِي مصادرة على الْمَطْلُوب وخصومكم يَقُولُونَ أَن معنى كَونهمَا ذاتيين للصدق وَالْكذب أَن ذَات الصدْق وَالْكذب تَقْتَضِي الْحسن والقبح وَلَيْسَ مُرَادهم أَن الْحسن والقبح صفة دَاخِلَة فِي مُسَمّى الصدْق وَالْكذب وَأَنْتُم لم تُبْطِلُوا عَلَيْهِم هَذَا
الْوَجْه الْعَاشِر قَوْلكُم وَلَا يلْزمهُمَا فِي الْوَهم بالبديهة وَلَا فِي الْوُجُود دَعْوَى مُجَرّدَة كَيفَ وَقد علم بُطْلَانهَا بالبرهان والضرورة الْوَجْه الْحَادِي عشر قَوْلكُم أَن من الْأَخْبَار الَّتِي هِيَ صَادِقَة مَا يلام عَلَيْهِ مثل الدّلَالَة على من هرب من ظَالِم وَمن الْأَخْبَار الَّتِي هِيَ كَاذِبَة مَا يُثَاب عَلَيْهَا مثل إِنْكَار الدّلَالَة عَلَيْهِ فَلم يدْخل كَون الْكَذِب قبيحا فِي حد الْكَذِب وَلَا لزمَه فِي الْوَهم وَلَا فِي الْوُجُود فَلَا يجوز أَن يعد من الصِّفَات الذاتية الَّتِي تلْزم النَّفس وجودا وعدما
جَوَابه من وُجُوه أَحدهَا أَنا لَا نسلم أَن الصدْق يقبح فِي حَال وَلَا أَن الْكَذِب يحسن فِي حَال أبدا وَلَا تنْقَلب ذَاته وَإِنَّمَا يحسن اللوم على الْخَبَر الصَّادِق من حَيْثُ لم يعرض الْمخبر وَلم يور بِمَا يَقْتَضِي سَلامَة النَّبِي أَو الْوَلِيّ الْوَجْه الثَّانِي أَنه أخبر بِمَا لَا يجوز لَهُ الْأَخْبَار بِهِ لاستلزامه مفْسدَة راجحة وَلَا يَقْتَضِي هَذَا كَون الصدْق قبيحا بل الْأَخْبَار بِالصّدقِ هُوَ الْقَبِيح وَفرق بَين النِّسْبَة الْمُطَابقَة الَّتِي هِيَ صدق وَبَين الْأَعْلَام بهَا فالقبح إِنَّمَا نَشأ من الْأَعْلَام لَا من النِّسْبَة الصادقة والأعلام غير ذاتي للْخَبَر وَلَا دَاخل فِي حَده إِذا الْخَبَر غير الْأَخْبَار وَلَا يلْزم من كَون الْأَخْبَار قبيحا أَن يكون الْخَبَر قبيحا وَهَذِه الدقيقة غفل عَنْهَا الطائفتان كِلَاهُمَا
الْوَجْه الثَّالِث أَن قبح الصدْق وَحسن الْكَذِب الْمَذْكُورين فِي بعض الْمَوَاضِع لمعارضة مصلحَة أَو مفْسدَة راجحة لَا يَقْتَضِي عدم اتصاف ذَات كل مِنْهُمَا بِحكمِهِ عقلا فَإِن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة والأوصاف الذاتية الْمُقْتَضِيَة لأحكامها قد تتخلف عَنْهَا لفَوَات شَرط أَو قيام مَانع وَلَا يُوجب ذَلِك سلب اقتضائها لأحكامها عِنْد عدم الْمَانِع وَقيام الشَّرْط وَقد تقدم تَقْرِير ذَلِك الْوَجْه الثَّانِي عشر قَوْلكُم أَنه لم يبْق للمثبتين إِلَّا الاسترواح إِلَى عادات النَّاس من تَسْمِيَة مَا يضرهم قبيحا وَمَا يَنْفَعهُمْ حسنا كَلَام بَاطِل فَإِن استرواحهم إِلَى مَا ركبة الله تَعَالَى فِي عُقُولهمْ وفطرهم وَبعث رسله بتقريره وتكميله من اسْتِحْسَان الْحسن واستقباح الْقَبِيح الْوَجْه الثَّالِث عشر قَوْلكُم أَنَّهَا تخْتَلف بعادة قوم دون قوم وزمان دون زمَان وَمَكَان دون
مَكَان وَإِضَافَة دون إِضَافَة فقد تقدم أَن هَذَا الِاخْتِلَاف لَا يخرج هَذِه القبائح والمستحسنات عَن كَون الْحسن والقبح ناشئا من ذواتهما وَأَن الزَّمَان الْمعِين وَالْمَكَان الْمَخْصُوص والشخص والقابل وَالْإِضَافَة شُرُوط لهَذَا الِاقْتِضَاء على حد اقْتِضَاء الأغذية والأدوية والمساكن والملابس آثارها فَإِن اختلافها بالأزمنة والأمكنة والأشخاص والإضافات لَا يُخرجهَا عَن الِاقْتِضَاء الذاتي وَنحن لَا نعنى بِكَوْن الْحسن والقبح ذاتيين إِلَّا هَذَا والمشاحنة فِي الاصطلاحات لَا تنقع طَالب الْحق وَلَا تجدي عَلَيْهِ إِلَّا المناكدة والتعنت فكم يُعِيدُوا ويبدوا فِي الذاتي وَغير الذاتي سموا هَذَا الْمَعْنى بِمَا شِئْتُم ثمَّ أَن أمكنكم إِبْطَاله فأبطلوه
الْوَجْه الرَّابِع عشر قَوْلكُم نَحن لَا ننكر اشتهار القضايا الْحَسَنَة والقبيحة من الْخلق وَكَونهَا محمودة مشكورة مثنى على فاعلها أَو مذموماولكن سَبَب ذكرهَا أما التدين بالشرائع وَأما الاعراض وَنحن إِنَّمَا ننكرها فِي حق الله عز وجل لانْتِفَاء الاعراض عَنهُ فَهَذَا معترك القَوْل بَين الْفرق فِي هَذِه المسئلة وَغَيرهَا فَنَقُول لكم مَا تعنون معاشرة النفاة بالاعراض الَّتِي نفيتموها عَن الله عز وجل ونفيتم لاجلها حسن أوَامِر الذاتية وقبح نواهيه الذاتية وزعمتم لاجلها أَنه لَا فرق عِنْده بَين مذمومها ومحمودها وَأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سواهُ فأخبرونا عَن مرادكم بِهَذِهِ اللفطة البديعة المحتملة أتعنون بهَا الحكم والمصالح والعواقب الحميدة والغايات المحبوبة الَّتِي يفعل وَيَأْمُر لأَجلهَا أم تعنون بهَا امرا وَرَاء ذَلِك يجب تَنْزِيه الرب عَنهُ كَمَا يشْعر بِهِ لفظ الاعراض من الارادات فان اردتم الْمَعْنى الأول فنفيكم إِيَّاه عَن أحكم الْحَاكِمين مَذْهَب لكم خالفتم بِهِ صَرِيح الْمَنْقُول وصريح الْمَعْقُول وأتيتم مَا لَا تقر بِهِ الْعُقُول من فعل فَاعل حَكِيم مُخْتَار وَلَا لمصْلحَة وَلَا لغاية محمودة وَلَا عَاقِبَة مَطْلُوبَة بل الْفِعْل وَعَدَمه بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سيان وقلتم مَا تنكره الْفطر والعقول وَيَردهُ التَّنْزِيل وَالِاعْتِبَار وَقد قَررنَا من ذكر الحكم الباهرة فِي الْخلق وَالْأَمر مَا تقربه بِهِ عين كل طَالب للحق وَهَاهُنَا من ادلة اثبات الحكم الْمَقْصُودَة بالخلق والامر أَضْعَاف أَضْعَاف مَا ذكرنَا بل لانسبه لما ذَكرْنَاهُ إِلَى مَا تَرَكْنَاهُ وَكَيف يُمكن انكار ذَلِك وَالْحكمَة فِي خلق الْعَالم وأجزائه ظَاهِرَة لمن تأملها بادية لمن أبصرهَا وَقد رقمت سطورها على صفحات الْمَخْلُوقَات يَقْرَأها كل عَاقل وَغير كَاتب نصبت شاهدة لله بالوحدانية والربوبية وَالْعلم وَالْحكمَة واللطف والخبرة
تَأمل سطور الكائنات فَإِنَّهَا
…
من الْمَلأ الْأَعْلَى إِلَيْك رسائل
وَقد خطّ فِيهَا لَو تَأَمَّلت خطها
…
أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل
وَأما النُّصُوص على ذَلِك فَمن طلبَهَا بهرته كثرتها وتطابقها ولعلها أَن تزيد على المئين وَمَا يحيله النفاة لحكمة الله تَعَالَى أَن اثباتها يسْتَلْزم افتقارا مِنْهَا واستكمالا بِغَيْرِهِ فهوس ووساواس
فان هَذَا بِعَيْنِه وَارِد عَلَيْهِم فِي أصل الْفِعْل أَيْضا فَهَذَا إِنَّمَا هُوَ إِكْمَال للصنع لَا استكمال بالصنع وَأَيْضًا فَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ فعاله عَن كَمَاله فَأَنَّهُ كمل فَفعل لَا أَن كَمَاله عَن فعاله فَلَا يُقَال فعل فكمل كَمَا يُقَال للمخلوق وَأَيْضًا فَأن مصدر الْحِكْمَة ومتعلقها وأسبابها عَنهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْخَالِق وَهُوَ الْحَكِيم وَهُوَ الْغَنِيّ من كل وَجه أكمل الْغنى وأتمه وَكَمَال الْغنى وَالْحَمْد فِي كَمَال الْقُدْرَة وَالْحكمَة وَمن الْمحَال أَن يكون سبحانه وتعالى فَقِيرا إِلَى غَيره فَأَما إِذا كَانَ كل شَيْء فَهُوَ فَقير إِلَيْهِ من كل وَجه وَهُوَ الْغنى الْمُطلق عَن كل شَيْء فَأَي مَحْذُور فِي إِثْبَات حكمته مَعَ احْتِيَاج مَجْمُوع الْعَالم وكل مَا يقدر مَعَه إِلَيْهِ دون غَيره وَهل الْغنى إِلَّا ذَلِك وَللَّه سُبْحَانَهُ فِي كل صنع من صنائعه وَأمر من شرائعه حِكْمَة باهرة وَآيَة ظَاهِرَة تدل على وحدانيته وحكمته وَكَلمه وغناه وقيوميته وَملكه لَا تنكرهَا إِلَّا الْعُقُول السخيفة وَلَا تنبو عَنْهَا إِلَّا الْفطر المنكوسة:
وَللَّه فِي كل تسكينة
…
وتحريكة أبدا شَاهد
وَفِي كل شَيْء لَهُ آيَة
…
تدل على أَنه وَاحِد
وَبِالْجُمْلَةِ فَنحْن لَا ننكر حِكْمَة الله وَلَا نساعدكم على جَحدهَا لتسميتكم إِيَّاهَا أعراضا وإخراجكم لَهَا فِي هَذَا القالب فَالْحق لَا يُنكر حكمه لسوء التَّعْبِير عَنهُ وَهَذَا اللَّفْظ بدعى لم يرد بِهِ كتاب وَلَا سنة وَلَا أطلقهُ أحد من أَئِمَّة الْإِسْلَام وأتباعهم على الله وَقد قَالَ الْأَمَام أَحْمد لَا نزيل عَن الله صفة من صِفَاته لأجل شناعة المشنعين فَهَل ننكر صِفَات كَمَاله سُبْحَانَهُ لأجل تَسْمِيَة المعطلة والجهمية لَهَا أعراضا ولأرباب المقالات أغراض فِي سوء التَّعْبِير عَن مقالات خصومهم وتخيرهم لَهَا أقبح الْأَلْفَاظ وَحسن التَّعْبِير عَن مقالات أَصْحَابهم وتخيرهم لَهَا أحسن الْأَلْفَاظ وأتباعهم محبوسون فِي قبُول تِلْكَ الْعبارَات لَيْسَ مَعَهم فِي الْحَقِيقَة سواهَا بل لَيْسَ مَعَ المتبوعين غَيرهَا وَصَاحب البصيرة لَا تهوله تِلْكَ الْعبارَات الهائلة بل يجرد الْمَعْنى عَنْهَا وَلَا يكسوه عبارَة مِنْهَا ثمَّ يحملهُ على مَحل الدَّلِيل السَّالِم عَن الْمعَارض فَحِينَئِذٍ يتَبَيَّن لَهُ الْحق من الْبَاطِل والحالي من العاطل
الْوَجْه الْخَامِس عشر قَوْلكُم مُسْتَند الِاسْتِحْسَان والاستقباح التدين بالشرائع فَيُقَال لَا ريب أَن التدين بالشرائع يَقْتَضِي الِاسْتِحْسَان والاستقباح وَلَكِن الشَّرَائِع إِنَّمَا جَاءَت بتكميل الْفطر وتقريرها لَا بتحويلها وتغييرها فَمَا كَانَ فِي الْفطْرَة مستحسنا جَاءَت الشَّرِيعَة باستحسانه فكسته حسنا إِلَى حسنه فَصَارَ حسنا من الْجِهَتَيْنِ وَمَا كَانَ فِي الْفطْرَة مستقبحاجاءت الشَّرِيعَة باستقباحه فكسته قبحا إِلَى قبحه فَصَارَ قبيحا من الْجِهَتَيْنِ وَأَيْضًا فَهَذِهِ القضايا مستحسنة ومستقبحة عِنْد من لم تبلغه الدعْوَة وَلم يقر بنبوة وَأَيْضًا فمجيء الرَّسُول بِالْأَمر بحسنها وَالنَّهْي عَن قبيحها دَلِيل على نبوته وَعلم على رسَالَته كَمَا قَالَ بعض الصَّحَابَة وَقد سُئِلَ عَمَّا أوجب إِسْلَامه فَقَالَ مَا أَمر بِشَيْء فَقَالَ الْعقل ليته نهى عَنهُ وَلَا نهى
عَن شَيْء فَقَالَ الْعقل ليته أَمر بِهِ فَلَو كَانَ الْحسن والقبح لم يكن مركوزا فِي الْفطر والعقول لم يكن مَا أَمر بِهِ الرَّسُول وَنهى عَنهُ علما من أَعْلَام صدقه وَمَعْلُوم أَن شَرعه وَدينه عِنْد الْخَاصَّة من اكبر أَعْلَام صدقه وشواهد نبوته كَمَا تقدم
الْوَجْه السَّادِس عشر قَوْلكُم فِي مثارات الْغَلَط الَّتِي يغلط الْوَهم فِيهَا أَنَّهَا ثَلَاث مثارات الأولى أَن الْإِنْسَان يُطلق اسْم الْقَبِيح على مَا يُخَالف غَرَضه وان كَانَ يُوَافق غَرَض غَيره من حَيْثُ أَنه لَا يلْتَفت إِلَى الْغَيْر فان كل طبع مشغوف بِنَفسِهِ فَيقْضى بالقبح مُطلقًا فقد أصَاب فِي الحكم بالقبح وَأَخْطَأ فِي إِضَافَة الْقبْح إِلَى ذَات الشَّيْء وغفل عَن كَونه قبيحا لمُخَالفَة غَرَضه وَأَخْطَأ فِي حكمه بالقبح مُطلقًا ومنشأه عدم الِالْتِفَات إِلَى غَيره فحاصله أَمْرَانِ أَحدهمَا أَنه إِنَّمَا قضى بالْحسنِ والقبح لموافقة غَرَضه ومخالفته
الثَّانِي أَن هَذِه الْمُوَافقَة والمخالفة لَيست عَامَّة فِي حق كل شخص وزمان وَمَكَان بل وَلَا فِي جَمِيع أَحْوَال الشَّخْص هَذَا حَاصِل مَا طولتم بِهِ فَيُقَال لَا ريب أَن الْحسن يُوَافق الْغَرَض والقبح يُخَالِفهُ وَلَكِن مُوَافقَة هَذَا وَمُخَالفَة هَذَا لما قَامَ بِكُل وَاحِد من الصِّفَات الَّتِي أوجبت الْمُخَالفَة والموافقة إِذْ لَو كَانَا سَوَاء فِي نفس الْأَمر وذاتهما لَا تقتضى حسنا وَلَا قبحا لم يخْتَص أَحدهمَا بالموافقة وَالْآخر بالمخالفة وَلم يكن أَحدهمَا بِمَا اخْتصَّ بِهِ أولى من الْعَكْس فَمَا لجأتم إِلَيْهِ من مُوَافقَة الْغَرَض ومخالفته من أكبر الْأَدِلَّة على أَن ذَات الْفِعْل متصفة بِمَا لأَجله وَافق الْغَرَض وَخَالفهُ وَهَذَا كموافقة الْغَرَض ومخالفته فِي الطعوم والأغذية والروائح فان مَا لاءم مِنْهَا الْإِنْسَان وَوَافَقَهُ مُخَالف بِالذَّاتِ وَالْوَصْف لما نافره مِنْهَا وَخَالفهُ وَلم تكن تِلْكَ الملاءمة والمنافرة لمُجَرّد الْعَادة بل لما قَامَ بالملائم والمنافر من الصِّفَات فَفِي الْخبز والما وَاللَّحم والفاكهة من الصِّفَات الَّتِي اقْتَضَت ملاءمتها الْإِنْسَان مَا لَيْسَ فِي التُّرَاب وَالْحجر والقصب والعصف وَغَيرهَا وَمن سَاوَى بَين الْأَمريْنِ فقد كَابر حسه وعقله فَهَكَذَا مَا لاءم الْعُقُول وَالْفطر من الْأَعْمَال وَالْأَحْوَال وَمَا خالفها هُوَ لما قَامَ بِكُل مِنْهَا من الصِّفَات الَّتِي اخْتصّت بِهِ فَأوجب الملاءمة والمنافرة فملاءمة الْعدْل وَالْإِحْسَان وَالْبر للعقول وَالْفطر وَالْحَيَوَان لما اخْتصّت بِهِ ذَوَات هَذِه الْأَفْعَال من أُمُور لَيست فِي الظُّلم والإساءة وَلَيْسَت هَذِه الملاءمة والمنافرة لمُجَرّد الْعَادة والتدين بالشرائع بل هِيَ أُمُور ذاتية لهَذِهِ الْأَفْعَال وَهَذَا مِمَّا لَا يُنكره الْعقل بعد تصَوره
الْوَجْه السَّابِع عشر أَنا لَا ننكر أَن للْعَادَة وَاخْتِلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان وَالْإِضَافَة وَالْحَال تَأْثِيرا فِي الملاءمة والمنافرة وَلَا ننكر أَن الْإِنْسَان يلائمه مَا اعتاده من الأغذية والمساكن والملابس وينافره مَا لم يعتده مِنْهَا وان كَانَ أشرف مِنْهَا وَأفضل وَمن هَذَا إلْف الأوطان وَحب المساكن والحنين إِلَيْهَا وَلَكِن هَل يلْزم من هَذَا أَن تكون الملاءمة والمنافرة كلهَا ترجع إِلَى الالف وَالْعَادَة الْمُجَرَّدَة وَمَعْلُوم أَن هَذَا مِمَّا لَا سَبِيل إِلَيْهِ إِذْ الحكم على فَرد
جزئي من أَفْرَاد النَّوْع لَا يَقْتَضِي الحكم على جَمِيع النَّوْع واستلزام الْفَرد الْمعِين من النَّوْع اللَّازِم الْمعِين لَا يَقْتَضِي استلزام النَّوْع لَهُ وَثُبُوت خَاصَّة معينه للفرد الجزئي لَا يَقْتَضِي ثُبُوتهَا للنوع الْكُلِّي:
الْوَجْه الثَّامِن عشر أَن غَايَة مَا ذكرْتُمْ من خطأ الْوَهم فِي اعْتِقَاده إِضَافَة الْقبْح إِلَى ذَات الْفِعْل وَحكمه بالاستقباح مُطلقًا مِمَّا قد يعرض فِي بعض الْأَفْعَال فَهَل يلْزم من ذَلِك أَنه حَيْثُ قضى بِهَاتَيْنِ القضيتين يكون غالطا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل فعل وَنحن إِنَّمَا علمنَا غلطه فِيمَا غلط فِيهِ لقِيَام الدَّلِيل الْعقلِيّ على غلطه فَأَما إِذا كَانَ الدَّلِيل الْعقلِيّ مطابقا لحكمه فَمن أَيْن لكم الحكم بغلطه
فان قُلْتُمْ إِذا ثَبت أَنه يغلط فِي حكم مَا لم يكن حكمه مَقْبُولًا إِذْ لَا ثِقَة بِحكمِهِ قُلْنَا إِذا جوزتم أَن يكون فِي الْفطْرَة حاكمان حَاكم الْوَهم وحاكم الْعقل ونسبتم حكم الْعقل إِلَى حكم الْوَهم وقلتم فِي بعض القضايا الَّتِي يجْزم الْعقل بهَا هِيَ من حكم الْوَهم لم يبْق لكم وثوق بالقضايا الَّتِي يجْزم بهَا الْعقل وَيحكم بهَا لاحْتِمَال أَن يكون مستندها حكم الْوَهم لَا حكم الْعقل فَلَا بُد لكم من التَّفْرِيق بَينهمَا وَلَا بُد أَن تكون قضاياه ضَرُورِيَّة ابْتِدَاء وانتهاء وَإِذا جوزتم أَن يكون بعض القضايا الضرورية وهمية لم يبْق لكم طَرِيق إِلَى التَّفْرِيق
الْوَجْه التَّاسِع عشر أَن هَذَا الَّذِي فرضتموه فِيمَن يتقبح شَيْئا لمُخَالفَة غَرَضه ويستحسنه لموافقة غَرَضه أَو بِالْعَكْسِ إِنَّمَا مورده الْحَسَنَات غَالِبا كالمآكل والملابس والمساكن والمناكح فَأَنَّهَا بِحَسب الدَّوَاعِي والميول والعوائد والمناسبات فَهِيَ إِنَّمَا تكون فِي الحركات وَأما الكليات الْعَقْلِيَّة فَلَا تكَاد تعَارض تِلْكَ فَلَا يكون الْعدْل والصدق وَالْإِحْسَان حسنا عِنْد بعض الْعُقُول قبيحا عِنْد بَعْضهَا كَمَا يكون اللَّوْن اسود مشتهى حسنا مُوَافقا لبَعض النَّاس مبغوضا مستقبحا لبَعْضهِم وَمن اعْتبر هَذَا بِهَذَا فقد خرج وَاعْتبر الشَّيْء بِمَا لَا يَصح اعْتِبَاره بِهِ وَيُؤَيّد هَذَا
الْوَجْه الْعشْرُونَ أَن الْعقل إِذا حكم بقبح الْكَذِب وَالظُّلم وَالْفَوَاحِش فانه لَا يخْتَلف حكمه بذلك فِي حق نَفسه وَلَا غَيره بل يعلم أَن كل عقل يستقبحها وَأَن كَانَ يرتكبها لِحَاجَتِهِ أَو جَهله فَلَمَّا أصَاب فِي استقباحها أصَاب فِي نِسْبَة الْقبْح إِلَى ذَاتهَا وَأصَاب فِي حكمه بقبحها مُطلقًا وَمن غلطه فِي بعض هَذِه الْأَحْكَام فَهُوَ الغالط عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَاف مَا إِذا حكم باستحسان مطعم أَو ملبس أَو مسكن أَو لون فانه يعلم أَن غَيره يحكم باستحسان غَيره وَأَن هَذَا مِمَّا يخْتَلف باخْتلَاف العوائد والأمم والأشخاص فَلَا يحكم بِهِ حكما كليا أَلا حَيْثُ يعلم أَنه لَا يخْتَلف كَمَا يحكم حكما كليا بِأَن كل ظمآن يستحسن شرب المَاء مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع وكل مقرور يستحسن لِبَاس مَا فِيهِ دفؤه مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع وَكَذَلِكَ كل جَائِع يستحسن مَا يدْفع بِهِ سُورَة الْجُوع فَهَذَا حكم كلي فِي هَذِه الْأُمُور المستحسنة لَا غلط فِيهِ مَعَ كَون المحسوسات عرضة لاخْتِلَاف النَّاس فِي استحسانها واستقباحها بِحَسب الْأَغْرَاض
والعوائد والالف فَمَا الظَّن بالأمور الْكُلية الْعَقْلِيَّة الَّتِي لَا تخْتَلف إِنَّمَا هِيَ نفى واثبات
الْوَجْه الْحَادِي وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم من منارات الْغَلَط إِنَّمَا هُوَ مُخَالف للغرض فِي جَمِيع الْأَحْوَال أَلا فِي حَالَة نادرة بل لَا يلْتَفت الْوَهم إِلَى تِلْكَ الْحَالة النادرة بل لَا يخْطر بالبال فَيقْضى بالقبح مُطلقًا لاستيلاء قبحه على قلبه وَذَهَاب الْحَالة النادرة عَن ذكره فَحكمه على الْكَذِب بِأَنَّهُ قَبِيح مُطلقًا وعقليه 1 عَن الْكَذِب يُسْتَفَاد بِهِ عصمَة دم نَبِي أَو ولي وَإِذا قضى بالقبح مُطلقًا وَاسْتمرّ عَلَيْهِ مرّة وتكرر ذَلِك على سَمعه وَلسَانه انغرس فِي قلبه استقباح مُسْتَند إِلَى أخر فمضمونه بعد الإطالة أَنه لَو كَانَ الْكَذِب قبيحا لذاته لما تخلف عَلَيْهِ الْقبْح وَلكنه يتَخَلَّف إِذا تضمن عصمَة دم نَبِي فَفِي هَذِه الْحَالة وَنَحْوهَا لَا يكون قبيحا وَهِي حَالَة نادرة لَا تكَاد تخطر بالبال فَيقْضى الْعقل بقبح الْكَذِب مُطلقًا ويغفل عَن هَذِه الْحَالة وَهِي تنَافِي حكمه بقبحه مُطلقًا ثمَّ تتْرك وينشأ على ذَلِك الِاعْتِقَاد فيظن أَن قبحه لذاته مُطلقًا وَلَيْسَ كَذَلِك وَهَذَا بعد تَسْلِيمه لَا يمْنَع كَونه قبيحا لذاته وان تخلف الْقبْح عَنهُ لمعارض رَاجِح كَمَا أَن الاغذاء بالميتة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَيُوجب نباتا خبيثا وان يخلف عَنهُ ذَلِك عِنْد المخمصة كَيفَ وَقد بَينا أَن الْقبْح لَا يتَخَلَّف عَن الْكَذِب أصلا وَأما إِذا تضمن عصمَة ولي فالحسن إِنَّمَا هُوَ التَّعْرِيض
والصدق لَا يقبح أبدا وانما الْقَبِيح الْأَعْلَام بِهِ وَفرق بَين الْخَبَر وَالْأَخْبَار فالقبح إِنَّمَا وَقع فِي الْأَخْبَار لَا فِي الْخَبَر وَلَو سلمنَا ذَلِك كُله لتخلف الحكم الْعقلِيّ لقِيَام مَانع أَو لفَوَات شَرط غير مستنكر فَهَذِهِ الشُّبْهَة من أَضْعَف الشّبَه وحسبك ضعفا بِحكم إِنَّمَا يسْتَند إِلَيْهَا والى أَمْثَالهَا الْوَجْه الثَّانِي وَالْعشْرُونَ أَن الْوَهم قد سبق إِلَى الْعَكْس كمن يرى شَيْئا مَقْرُونا بِشَيْء فيظن الشَّيْء لَا محَالة مَقْرُونا بِهِ مُطلقًا وَلَا يدرى أَن الْأَخَص أبدا مقرون بالأعم من غير عكس وتمثيلكم ذَلِك بنفرة السَّلِيم من الْحَبل المرقش ونفور الطَّبْع عَن الْعَسَل إِذا شبه بالعذرة إِلَى آخر مَا ذكرْتُمْ من الْأَمْثَال كنفرة الطَّبْع عَن الْحَسْنَاء ذَات الِاسْم الْقَبِيح ونفرة الرجل عَن الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْمَيِّت ونفرة كثير من النَّاس عَن الْأَقْوَال الصَّحِيحَة الَّتِي تُضَاف إِلَى من يسيؤن الظَّن بهم فَنحْن لَا ننكر أَن للوهم تَأْثِير فِي النُّفُوس وَفِي الْحبّ والبغض بل هُوَ غَالب على أَكثر النُّفُوس فِي كثير من الْأَحْوَال وَلَكِن إِذا سلط عَلَيْهِ الْعقل الصَّرِيح تبين غلطه وَأَن مَا حكم بِهِ إِنَّمَا هُوَ موهوم لَا مَعْقُول كَمَا إِذا سلط الْعقل الصَّرِيح وَالْحسن على الْحَبل المرقش تبين أَن نفرة الطَّبْع عَنهُ مستندها الْوَهم الْبَاطِل وَكَذَلِكَ إِذا سلط الذَّوْق وَالْعقل على الْعَسَل تبين أَن نفرة الطَّبْع عَنهُ مستندها
الْوَهم الْكَاذِب وَإِذا تَأمل الطّرف محَاسِن الجميلة البديعة الْجمال تبين أَن نفرته عَنْهَا لقبح اسْمهَا وهم فَاسد وَإِذا سلط الْعقل الصَّرِيح على الْمَيِّت تبين أَن نفرة الرجل عَنهُ لتوهم حركته وثورانه خيال بَاطِل وَوهم فَاسد وَهَكَذَا نَظَائِر ذَلِك أفتري يلْزم من هَذَا أَنا إِذا سلطنا الْعقل الصَّرِيح على الْكَذِب وَالظُّلم وَالْفَوَاحِش والإساءة إِلَى النَّاس وكفران النعم وَضرب الْوَالِدين وَالْمُبَالغَة فِي أهانتهما وسبهما وأمثال ذَلِك تبين أَن حكمه بقبحها وهم مِنْهُ ليَكُون نَظِير مَا ذكرْتُمْ من الْأَمْثِلَة وَهل فِي الِاعْتِبَار أفسد من اعتباركم هَذَا فان الحكم فِيمَا ذكرْتُمْ قد تبين بِالْعقلِ الصَّرِيح والحس أَنه حكم وهمي وَنحن لَا ننازع فِيهِ وَلَا عَاقل لأَنا أَن سلطنا عَلَيْهِ الْعقل والحس ظهر أَن مُسْتَنده الْوَهم وَأما فِي القضايا الَّتِي ركب فِي الْعُقُول وَالْفطر حسنها وقبحا فَأَنا إِذا سلطنا الْعقل الصَّرِيح عَلَيْهَا لم يحكم لَهَا بِخِلَاف مَا هِيَ عَلَيْهِ أبدا أَلا أَن يلجؤا إِلَى دبوس السَّارِق وَهُوَ الصدْق المتضمن هَلَاك والى الْكَذِب المتضمن عصمته وَلَيْسَ مَعكُمْ مَا تصولون بِهِ سواهُ وَقد بَينا حَقِيقَة الْأَمر فِيهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَة وَحَتَّى لَو كَانَ الْأَمر فيهمَا كَمَا ذكرْتُمْ قطعا لم يجز أَن يبطل بهما ماركبه الله فِي الْعُقُول وَالْفطر وألزمها إِيَّاه التزاما لَا انفكاك لَهَا عَنهُ من اسْتِحْسَان الْحسن واستقباح الْقَبِيح وَالْحكم بقبحه والتفرقة الْعَقْلِيَّة التابعة لذواتهما وأوصافهما بَينهمَا وَقد أنكر الله سُبْحَانَهُ على الْعُقُول الَّتِي جوزت أَن يَجْعَل الله فَاعل الْقَبِيح وفاعل الْحسن سَوَاء ونزه نَفسه عَن هَذَا الظَّن وَعَن نِسْبَة هَذَا الحكم الْبَاطِل إِلَيْهِ وَلَوْلَا أَن ذَلِك قَبِيح عقلا لما أنكرهُ على الْعُقُول الَّتِي جوزته فان الْإِنْكَار إِنَّمَا كَانَ يتَوَجَّه عَلَيْهِم بِمُجَرَّد الشَّرْع وَالْخَبَر لَا بإفساد مَا ظنوه عقلا
وَلَا يُقَال فَلَو كَانَ هَذَا الحكم بَاطِلا قطعا لما جوزه أُولَئِكَ الْعُقَلَاء لِأَن هَذَا احتجاج بعقول أهل الشّرك الْفَاسِدَة الَّتِي عابها الله وَشهد عَلَيْهِم بِأَنَّهُم لَا يعْقلُونَ وشهدوا على أنفسهم بِأَنَّهُم أَو لَو كَانُوا يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ مَا كَانُوا فِي أَصْحَاب السعير وَهل يُقَال أَن اسْتِحْسَان عبَادَة الْأَصْنَام بعقولهم واستحسان التَّثْلِيث وَالسُّجُود للقمر وَعبادَة النَّار وتعظيم الصَّلِيب يدل على حسنها لاستحسان بعض الْعُقَلَاء لَهَا فان قيل فَهَذَا حجَّة عَلَيْكُم فان عقول هَؤُلَاءِ قد قَضَت بحسنها وَهِي أقبح القبائح قيل مَا مثلنَا ومثلكم فِي ذَلِك أَلا كَمثل من قَالَ إِذا كَانَ الْأَحْوَال يرى الْقَمَر اثْنَيْنِ لم يبْق لنا وثوق بِكَوْن صَحِيح الْفَم إِذا ذاق الشَّيْء المر يذوقه عذبا وحلوا وَإِذا كَانَ صَاحب الْفَهم السقيم يعيب القَوْل الصَّحِيح وَيشْهد بِبُطْلَانِهِ لم يبْق لنا وثوق بِشَهَادَة صَاحب الْفَهم الْمُسْتَقيم بِصِحَّتِهِ إِلَى أَمْثَال ذَلِك فَإِذا كَانَت فطْرَة أمة من الْأُمَم وشرذمة من النَّاس وعقولهم قد فَسدتْ فَهَل يلْزم من هَذَا إبِْطَال شَهَادَة الْعُقُول السليمة وَالْفطر المستقيمة وَلَو صَحَّ لكم هَذَا الِاعْتِرَاض لبطل استدلالكم على كل مُنَازع لكم فِي
كل مَسْأَلَة فانه عَاقل وَقد شهد عقله بهَا بِخِلَاف قَوْلكُم وَكفى بِهَذَا فَسَادًا وبطلانا وَكفى برد الْعُقُول وَسَائِر الْعُقَلَاء لَهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
الْوَجْه الثَّالِث وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم أَن الْملك الْعَظِيم إِذا رأى مِسْكينا مشرفا على الْهَلَاك اسْتحْسنَ إنقاذه وَالسَّبَب فِي ذَلِك دفع الأذي الَّذِي يلْحق الْإِنْسَان من رقة الجنسية وَهُوَ طبع يَسْتَحِيل الانفكاك عَنهُ إِلَى آخِره كَلَام فِي غَايَة الْفساد فان مضمونه أَن هَذَا الْإِحْسَان الْعَظِيم والتنزل من مثل هَذَا الْملك الْقَادِر إِلَى الْإِحْسَان إِلَى مجهود مضرور قد مَسّه الضّر وتقطعت بِهِ الْأَسْبَاب وانقطعت بِهِ الْحِيَل لَيْسَ فعلا حسنا فِي نَفسه وَلَا فرق عِنْد الْعقل بَين ذَلِك وان يلقى عَلَيْهِ حجرا يغرقه وانما مَال إِلَيْهِ طبعه لرقه الجنسية ولتصويره نَفسه فِي تِلْكَ الْحَال واحتياجه إِلَى من ينقذه وَألا فَلَو جردنا النّظر إِلَى ذَات الْفِعْل وضربنا صفحا عَن لوازمه وَمَا يقْتَرن بِهِ وَيبْعَث عَلَيْهِ لم يقْض الْعقل بحسنه وَلم يفرق بَينه وَبَين إِلْقَاء حجر عَلَيْهِ حَتَّى يغرقه هَذَا قَول يكفى فِي فَسَاده مُجَرّد تصَوره وَلَيْسَ فِي الْمُقدمَات البديهية مَا هُوَ أجلى وأوضح من كَون مثل هَذَا الْفِعْل حسنا لذاته حَتَّى يحْتَج بهَا عَلَيْهِ فان الِاحْتِجَاج إِنَّمَا يكون بالأوضح على الأخفى فَإِذا كَانَ الْمَطْلُوب الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ أوضح من الدَّلِيل كَانَ الِاسْتِدْلَال عناء وكلفة وَلَكِن تصور الدَّعْوَى ومقابلتها تصويرا مُجَردا يعرضان على الْعُقُول الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا تَقْلِيد الآراء وَلم يتواطأ عَلَيْهَا ويتلقاها صاغر عَن كَابر وَولد عَن وَالِد حَتَّى نشأت مَعهَا بنشئها فَهِيَ تسْعَى بنصرتها بِمَا دب ودرج من الْأَدِلَّة لاعتقادها أَولا أَنَّهَا حق فِي نَفسهَا لإحسانها الظَّن بأربابها فَلَو تجردت من حب من وَلدته وبغض من خالفته وجردت النّظر وصابرت الْعلم وتابعت الْمسير فِي المسئلة إِلَى آخرهَا لَأَوْشَكَ أَن تعلم الْحق من الْبَاطِل وَلَكِن حبك الشَّيْء يعمى ويصم وَالنَّظَر بِعَين البغض يرى المحاسن مساوى هَذَا فِي إِدْرَاك الْبَصَر مَعَ ظُهُوره ووضوحه فَكيف فِي إِدْرَاك البصيرة لَا سِيمَا إِذا صَادِق مُشكلا فَهَذِهِ بلية أَكثر الْعَالم
فان تنج مِنْهَا تنج من ذِي عَظِيمَة
…
وَألا فَإِنِّي لَا أخالك ناجيا
الْوَجْه الرَّابِع وَالْعشْرُونَ أَن اقتران هَذِه الْأُمُور الَّتِي ذكرتموها من رقة الجنسية وتصور نَفسه بِصُورَة من يُرِيد إِنْفَاذه وَنَحْوهَا هِيَ أُمُور تقترن بِهَذَا الْإِحْسَان فَيقوم الْبَاعِث على فعله وَلَا يُوجب تجرده عَن وصف يَقْتَضِي حسنه وان يكون ذَاته مقتضية لحسنة وان اقْترن بفاعل هَذَا الْأُمُور وَمَا مثلكُمْ فِي ذَلِك أَلا كَمثل من قَالَ أَن تنَاول الْأَطْعِمَة والأغذية والأدوية لَيْسَ حسنا لذاته فانه يقْتَرن بمتناولها من لَذَّة الْمرة لفم الْمعدة مَا يُوجب نزوعها إِلَى طلب الْغذَاء لقِيَام البنيه وَكَذَلِكَ الْأَدْوِيَة وَغَيرهَا وَمَعْلُوم أَن هَذِه البواعث والدواعي وَأَسْبَاب الميول لَا يُنَافِي الِاقْتِضَاء الذاتي وَقيام الصِّفَات الَّتِي تَقْتَضِي الِانْتِفَاع بهَا فَكَذَلِك تِلْكَ
البواعث والدواعي وَأَسْبَاب الميول الَّتِي تحصل لفاعل الْإِحْسَان ومنقذ الغريق والحريق وَمَا يُنجى الْهَالِك لَا ينافى مَا عَلَيْهِ هَذِه الْأَفْعَال فِي ذواتها من الصِّفَات الَّتِي تَقْتَضِي حسنها وقبح أضدادها
الْوَجْه الْخَامِس وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم أَنه يقدر نَفسه فِي تِلْكَ الْحَال وَتَقْدِيره غَيره معرضًا عَن الانقاذ فيستقبحه مِنْهُ لمُخَالفَته غَرَضه فَيدْفَع عَن نَفسه ذَلِك الْقبْح المتوهم فَيُقَال هَذَا الْقبْح المتوهم إِنَّمَا نَشأ عَن الْقبْح الْمُحَقق فِي ترك الْإِحْسَان إِلَيْهِ مَعَ قدرته عَلَيْهِ وَعدم تضرره بِهِ فالقبح مُحَقّق فِي ترك إنقاذه ومتوهم فِي تَصْوِيره نَفسه بِتِلْكَ الْحَال وَعدم إنقاذه غَيره لَهُ فلولا تِلْكَ الْحَقِيقَة لم يحكم الْعقل بِهَذَا الْقبْح الموهوم وَكَون الانقاذ مُوَافقا للغرض وَتَركه مُخَالفا لَهُ لَا يَنْبَغِي أَن يكون فِي ذَاته حسنا وقبيحا ملائما وَافق الْغَرَض أَو خَالفه لما اتصفت بِهِ ذَاته من الصِّفَات الْمُقْتَضِيَة لهَذِهِ الْمُوَافقَة والمخالفة الْوَجْه السَّادِس وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم فَلَو فرض هَذَا فِي بَهِيمَة أَو شخص لارقة فِيهِ فَيبقى أَمر آخر وَهُوَ طلب الثَّنَاء على إحسانه فَيُقَال طلب الثَّنَاء يَقْتَضِي أَن هَذَا الْفِعْل مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ الثَّنَاء وَمَا ذَاك أَلا لِأَنَّهُ فِي نَفسه على صفة تَقْتَضِي الثَّنَاء على فَاعله وَلَو كَانَ هَذَا الْفِعْل مُسَاوِيا لضده فِي نفس الْأَمر لم يتَعَلَّق الثَّنَاء بِهِ والذم بضده وَفعله لتوقع الثَّنَاء لَا ينفى أَن يكون على صفة لأَجلهَا اسْتحق فَاعله الثَّنَاء بل هُوَ باقتضاء ذَلِك أولى من نَفْيه
الْوَجْه السَّابِع وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم فان فرض فِي مَوضِع يَسْتَحِيل أَن يعلم فَيبقى ميل وترجيح يضاهي نفرة طبع السَّلِيم عَن الْحَبل وَذَلِكَ أَنه رأى هَذِه الصُّورَة مقرونة بالثناء فيظن أَن الثَّنَاء مقرون بهَا بِكُل حَال كَمَا أَنه لما رأى الْأَذَى مَقْرُونا بِصُورَة الْحَبل وطبعه ينفر عَن الْأَذَى فينفر عَن المقرون بِهِ فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مَكْرُوه فَيُقَال يَا عجبا كَيفَ يرد أعظم الْإِحْسَان الَّذِي فطر الله عقول عباده وفطرهم على إحسانه حَتَّى لَو تصور نطق الْحَيَوَان البهيم لشهد باستحسانه إِلَى مُجَرّد وهم وخيال فَاسد يشبه نفرة طبع الرجل السَّلِيم عَن حَبل مرقش فَتَأمل كَيفَ يحمل نفرة الآراء المتقلدة وَبَعض مخالفتها على أَمْثَال هَذِه الشنع وَهل سوى الله سُبْحَانَهُ فِي الْعُقُول وَالْفطر بَين إنقاذ الغريق والحريق وتخليص الْأَسير من عدوه واحياء النُّفُوس وَبَين نفرة طبع السَّلِيم عَن حَبل مرقش لتوهمه أَنه حَيَّة وَقد كَانَ مُجَرّد تصور هَذِه الشُّبْهَة كَافِيا فِي الْعلم ببطلانها وَلَكنَّا زِدْنَا الْأَمر إيضاحا وبيانا
الْوَجْه الثَّامِن وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم الْإِنْسَان إِذا جَالس من عشقه فِي مَكَان فَإِذا انْتهى إِلَيْهِ أحس فِي نَفسه تَفْرِقَة بَين ذَلِك الْمَكَان وَغَيره واستشهادكم على ذَلِك بقول الشَّاعِر أَمر على الديار ديار ليلى
…
وَقَوله
وحبب أوطان الرِّجَال إِلَيْهِم
…
فَيُقَال لَا ريب أَن الْأَمر هَكَذَا وَلَكِن هَل يلْزم من هَذَا اسْتِوَاء الصدْق وَالْكذب فِي نفس الْأَمر واستواء الْعدْل وَالظُّلم وَالْبر والفجور وَالْإِحْسَان والإساءة بل هَذَا الْمِثَال نَفسه حجَّة عَلَيْكُم فانه لم يمل طبعه
إِلَى ذَلِك الْمَكَان مَعَ مساواته لجَمِيع الْأَمْكِنَة عِنْده وَكَذَلِكَ حنينه إِلَى وَطنه ومحته لَهُ وَكَذَلِكَ حنينه إِلَى الفه من النَّاس وَغَيرهم فان هَذَا لَا يَقع مِنْهُ مَعَ تَسَاوِي تِلْكَ الْأَمَاكِن والأشخاص عِنْده بل لظَنّه اختصاصهما بِأُمُور لَا تُوجد فِي سواهُمَا فترتب ذَلِك الْحبّ والميل على هَذَا الظَّن ثمَّ لَهُ حالان أَحدهمَا أَن يكون كَمَا ظَنّه بل ذَلِك الْمَكَان أَو الشَّخْص مساولغيره وَرُبمَا يكون غَيره أكمل مِنْهُ فِي الْأَوْصَاف الَّتِي تَقْتَضِي حبه والميل إِلَيْهِ فَهَذَا إِذا سلط الْعقل الْحس على سَبَب ميله وحبه علم أَنه مُجَرّد الف أَو عَادَة أَو تذكر أَو تخيل وَهَذَا الْوَهم مُسْتَند إِلَى مَا تقرر فِي الْعقل من أَن اخْتِصَاص الْحبّ والميل بالشَّيْء دون غَيره لما اخْتصَّ بِهِ من الصِّفَات الَّتِي اقْتَضَت ذَلِك وَكَذَلِكَ تعلق النفرة والبغض بِهِ ثمَّ تغلب الْوَهم حَتَّى يتخيل أَن تِلْكَ الصِّفَات باينة عَن الْمحل وَلَيْسَت فِيهِ بل يكون الْمحل مَقْرُونا بِتِلْكَ الصِّفَات فيحب وَيبغض لأجل تِلْكَ الْمُفَارقَة فمقارن المحبوب مَحْبُوب ومقارن الْمَكْرُوه مَكْرُوه كَقَوْلِه
وَمَا حب الديار شغفن قلبِي
…
وَلَكِن حب من سكن الديارا
وَقَول الآخر
إِذا ذكرُوا أوطانهم ذكرتهمو عهودا
…
جرت فِيهَا فحبوا لدالكا
الْوَجْه التَّاسِع وَالْعشْرُونَ قَوْلكُم أَن الصَّبْر على السَّيْف فِي ترك كلمة الْكفْر لَا يستحسنه الْعُقَلَاء لَوْلَا الشَّرْع بل رُبمَا استقبحوه إِنَّمَا يستحسن الثَّوَاب أَو الثَّنَاء بالشجاعة وَكَذَلِكَ بِالصبرِ على حفظ السِّرّ وَالْوَفَاء بالعهد لما فِي ذَلِك من الْمصَالح فان فرض حَيْثُ لَا تنافيه فقد وجد مَقْرُونا بالثناء فَيبقى ميل الْوَهم المقرون فَيُقَال لكم اسْتِحْسَان الشَّرْع لَهُ مُطَابق لاستحسان الْعقل لَا مُخَالف وَكَذَلِكَ انْتِظَار الثَّوَاب بِهِ وَهُوَ حسنه فِي نَفسه وَكَذَلِكَ الْمصَالح المترتبة على حفظ السِّرّ وَالْوَفَاء بالعهد هِيَ لما قَامَ بذوات هَذِه الْأَفْعَال من الصِّفَات الَّتِي أوجبت الْمصَالح إِذْ لَو ساوت غَيرهَا لم تكن باقتضاء الْمصلحَة أولى مِنْهَا وقولكم أَنه إِذا وَجب فرض حَيْثُ لاثناء ينفى ميل الْوَهم للمقارنة فقد تقدم أَن هَذَا الْميل تبع للْحَقِيقَة وَأَنه يَسْتَحِيل وجوده فِي فعل لَا تَقْتَضِي ذَاته الْمصلحَة وَالِاسْتِحْسَان وان حُصُول الْوَهم الْمُقَارن تبع للْحَقِيقَة الثَّابِتَة لِاسْتِحَالَة حُصُول هَذَا الْوَهم فِي فعل لَا تكون ذَاته منشأ لِلْأَمْرِ الموهوم فيتوهم الذِّهْن حَيْثُ تَنْتفِي الْحَقِيقَة
الْوَجْه الثَّلَاثُونَ قَوْلكُم أَن من عرضت لَهُ حَاجَة وَأمكن قضاءها بِالصّدقِ وَالْكذب وَأَنه إِنَّمَا يُؤثر الصدْق لِأَنَّهُ وجده مَقْرُونا بالثناء فَهُوَ يؤثره لما يقْتَرن بِهِ من الثَّنَاء فَجَوَابه أَيْضا مَا تقدم وَأَن اقترانه بالثناء لما اخْتصَّ بِهِ من الصِّفَات الَّتِي اقْتَضَت الثَّنَاء على فَاعله كَيفَ وَالْكذب مُتَضَمّن لفساد تظلم الْعَالم وَلَا يُمكن قيام الْعَالم عَلَيْهِ لَا فِي معاشهم وَلَا فِي معادهم بل هُوَ مُتَضَمّن لفساد المعاش والمعاد ومفاسد الْكَذِب اللَّازِمَة لَهُ مَعْلُومَة عِنْد خَاصَّة النَّاس وعامتهم كَيفَ وَهُوَ منشأ كل وَفَسَاد
الْأَعْضَاء لِسَان كذوب وَكم قد أزيلت بِالْكَذِبِ من دوَل وممالك وَخَربَتْ بِهِ من بِلَاد واستلبت بِهِ من نعم وتعطلت بِهِ من معايش وفسدت بِهِ مصَالح وغرست بِهِ عداوات وَقطعت بِهِ مودات وافتقر بِهِ غنى وذل بِهِ عَزِيز وهتكت بِهِ مصونة ورميت بِهِ مُحصنَة وخلت بِهِ دور وقصور وعمرت بِهِ قُبُور وأزيل بِهِ أنس واستجلبت بِهِ وَحْشَة وأفسد بِهِ بَين الابْن وَأَبِيهِ وغاض بَين الْأَخ وأخيه وأحال الصّديق عدوا مُبينًا ورد الْغنى الْعَزِيز مِسْكينا وَكم فرق بَين الحبيب وحبيبه فأفسد عَلَيْهِ عيشته ونغص عَلَيْهِ حَيَاته وَكم جلا عَن الأوطان وَكم سود من وُجُوه وطمس من نور وأعمى من بَصِيرَة وأفسد من عقل وَغير من فطْرَة وجلب من معرة وَقطعت بِهِ السبل وعفت بِهِ معالم الْهِدَايَة ودرست بِهِ من آثَار النُّبُوَّة وخفيت بِهِ من مصَالح الْعباد فِي المعاش والمعاد وَهَذَا وأضعافه ذرة من مفاسده وَجَنَاح بعوضة من مضاره ومصالحه أَلا فَمَا يجلبه من غضب الرَّحْمَن وحرمان الْجنان وحلول دَار الهوان أعظم من ذَلِك وَهل ملئت الْجَحِيم أَلا بِأَهْل الْكَذِب الْكَاذِبين على الله وعَلى رَسُوله وعَلى دينه وعَلى أوليائه المكذبين بِالْحَقِّ حمية وعصبية جَاهِلِيَّة وَهل عمرت الْجنان أَلا بِأَهْل الصدْق الصَّادِقين المصدقين بِالْحَقِّ قَالَ تَعَالَى فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله وَكذب بِالصّدقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون لَهُم مَا يشاؤن عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وَإِذا كَانَت هَذِه حَال الْكَذِب والصدق فَمن أبطل الْبَاطِل دَعْوَى تساويهما وان الْعقل إِنَّمَا يُؤثر الصدْق لتوهم اقترانه بالثناء وانما يتَجَنَّب الْكَذِب لتوهم اقترانه بالقبح كتوهم اقتران اللسع فِي الْحَبل المرقش ورد استقباح هَذِه الْمَفَاسِد والمقابح الَّتِي لَا أقبح مِنْهَا إِلَى مُجَرّد وهم بَاطِل شبه نفرة الطَّبْع عَن الْحَبل المرقش وَنَفس الْعلم بِهَذِهِ الْمقَالة كَاف فِي الْجَزْم ببطلانها وَلَو ذَهَبْنَا نعدد قبائح الْكَذِب الناشئة من ذَاته وَصِفَاته لزادت عَن الْألف وَمَا من عَاقل أَلا وَعند الْعلم بِبَعْض ذَلِك علما ضَرُورِيًّا مركوزا فِي فطرته فَمَا سوى الله بَينه وَبَين الصدْق أبدا وَدَعوى استوائهما كدعوى اسْتِوَاء النُّور والظلمة وَالْكفْر والأيمان وخراب الْعَالم واهلاك الْحَرْث والنسل وعمارته بل كدعوى اسْتِوَاء الْجُوع والشبع والري والظمأ والفرح وَالْغَم وَأَنه لَا فرق عِنْد الْعقل بَين علمه بِهَذَا وَهَذَا
الْوَجْه الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ قَوْلكُم الصدْق وَالْكذب متنافيان وَمن الْمحَال تَسَاوِي المتنافيين فِي جَمِيع الصِّفَات إِلَى آخِره إِقْرَار مِنْكُم بِالْحَقِّ وَنقض لما أصلتموه فانهما إِذا كَانَا متنافيين ذاتا وصفاتا لم يرجع الْفرق بَينهمَا اسْتِحْسَانًا واستقباحا إِلَى مُجَرّد الْعَادة والمنشأ والوباء أَو مُجَرّد التدين بالشرائع بل يكون مرجع الْفرق إِلَى ذاتهما وَأَن ذَات هَذَا مقتضية لحسنه وَذَات هَذَا مقتضية لقبحه وَهَذَا هُوَ عين الصَّوَاب لَوْلَا أَنكُمْ لَا تثبتون علته وتصرحون بِأَن الْفرق بَينهمَا سَببه الْعَادة والتربية والمنشأ والتدين بشرائع الْأَنْبِيَاء حَتَّى لَو فرض انْتِفَاء ذَلِك لم يُؤثر الرجل الصدْق على الْكَذِب وَهل فِي التَّنَاقُض أقبح من هَذَا
الْوَجْه الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ قَوْلكُم أَن غَايَة هَذَا أَن يدل على قبح الْكَذِب وَحسن الصدْق شَاهدا وَلَا يلْزم مِنْهُ حسنه وقبحه وغائبا أَلا بطرِيق قِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد وَهُوَ بَاطِل لوضوح الْفرق واستنادكم فِي الْفرق إِلَى مَا ذكرْتُمْ من تخلية الله بَين عباده يموج بَعضهم فِي بعض ظلما وإفسادا وقبح ذَلِك مشَاهد فيالله الْعجب كَيفَ يجوز الْعقل الْتِزَام مَذْهَب مُلْتَزم مَعَه جَوَاز الْكَذِب على رب الْعَالمين وأصدق الصَّادِقين وَأَنه لَا فرق أصلا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بَين الصدْق وَالْكذب بل جَوَاز الْكَذِب عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا كجواز الصدْق وَحسنه لحسنه وَهل هَذَا أَلا من أعظم الْإِفْك وَالْبَاطِل ونسبته إِلَى الله تَعَالَى جَوَازًا كنسبة مَا لَا يَلِيق بجلاله إِلَيْهِ من الْوَلَد وَالزَّوْجَة وَالشَّرِيك بل لنسبة أَنْوَاع الظُّلم وَالشَّر إِلَيْهِ جَوَازًا تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا فَمن اصدق من الله حَدِيثا وَمن أصدق من الله قيلا وَهل هَذَا الْإِفْك المفترى أَلا رَافع للوثوق بأخباره ووعده ووعيده وتجويزه عَلَيْهِ وعَلى كَلَامه مَا هُوَ أقبح القبائح الَّتِي تنزه عَنْهَا بعض عبيده وَلَا يَلِيق بِهِ فضلا عَنهُ سُبْحَانَهُ فَلَو التزمتم كل إِلْزَام بِلُزُوم مُسَمّى الْحسن والقبح العقليين لَكَانَ أسهل من الْتِزَام هَذَا الإد الَّتِي تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هَذَا وَلَا نِسْبَة فِي الْقبْح بَين الْوَلَد وَالشَّرِيك وَالزَّوْجَة وَبَين الْكَذِب وَلِهَذَا فطر الله عقول عباده على الازدراء والذم والمقت للكاذب دون من لَهُ زَوْجَة وَولد وَشريك فتنزه أصدق الصَّادِقين عَن هَذَا الْقَبِيح كتنزهه عَن الْوَلَد وَالزَّوْجَة وَالشَّرِيك بل لَا يعرف أحد من طوائف هَذَا الْعَالم جوز الْكَذِب على الله لما فطر الله عقول الْبشر وَغَيرهم على قبحه ومقت فَاعله وخسته ودناءته
وَنسبَة طوائف الْمُشْركين الشَّرِيك وَالْولد إِلَيْهِ لما لم يكن قبحه عِنْدهم كقبح الْكَذِب وَكفى بِمذهب بطلانا وَفَسَادًا هَذَا القَوْل الْعَظِيم والإفك الْمُبين لَازِمَة وَمَعَ هَذَا فأهله لَا يتحاشون من الْتِزَامه فَلَو الْتزم الْقَائِل أَن يذهب الذَّم كَانَ خيرا لَهُ من هَذَا وَنحن نَسْتَغْفِر الله من التَّقْصِير فِي رد أهل الْمَذْهَب الْقَبِيح وَلَكِن ظُهُور قبحه للعقول وَالْفطر أقوى شَاهد على رده وإبطاله وَلَقَد كَانَ كافينا من رده نفس تَصْوِيره وَعرضه على عقول النَّاس وفطرهم فَلْيتَأَمَّل اللبيب الْفَاضِل مَاذَا يعود إِلَيْهِ نصر المقالات والتعصب لَهَا والتزام لوازمها وإحسان الظَّن بأربابها بِحَيْثُ يرى مساويهم محَاسِن وإساءة الظَّن بخصومهم بِحَيْثُ يرى محاسنهم مساوي كم أفسد هَذَا السلوك من فطْرَة وصاحبها من الَّذين يحسبون أَنهم على شَيْء إِلَّا انهم هم الْكَاذِبُونَ وَلَا يتعجب من هَذَا فان مرْآة الْقلب لَا يزَال يتنفس فِيهَا حَتَّى يستحكم صداؤها فَلَيْسَ ببدع لَهَا أَن ترى الْأَشْيَاء على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ فمبدأ الْهدى والفلاح صقال تِلْكَ الْمرْآة وَمنع الْهوى من التنفس فِيهَا وَفتح عين البصيرة فِي أَقْوَال من يسيء الظَّن بهم كَمَا يقبحها فِي أَقْوَال من يحسن الظَّن بِهِ وقيامك
لله وشهادتك بِالْقِسْطِ وَأَن لَا يحملك بغض منازعيك وخصومك على جحد دينهم وتقبيح محاسنهم وَترك الْعدْل فيهم فان الله لَا يعْتد بتعب من هَذَا ثناه وَلَا يجدي علمه نفعا أحْوج مَا يكون إِلَيْهِ وَالله يحب المقسطين وَلَا يحب الظَّالِمين
الْوَجْه الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ قَوْلكُم أَن مُسْتَند الحكم يقبح الْكَذِب غَائِبا على الشَّاهِد وَهُوَ فَاسد فَيُقَال الرب تَعَالَى لَا يدْخل مَعَ خلقه فِي قِيَاس تَمْثِيل وَلَا قِيَاس شُهُود يَسْتَوِي أَفْرَاده فهذان الفرعان من الْقيَاس يَسْتَحِيل ثبوتهما فِي حَقه وَأما قِيَاس الأولى فَهُوَ غير مُسْتَحِيل فِي حَقه بل هُوَ وَاجِب لَهُ وَهُوَ مُسْتَعْمل فِي حَقه عقلا ونقلا أما الْعقل فكاستدلالنا على أَن معطى الْكَمَال أَحَق بالكمال فَمن جعل غَيره سميعا بَصيرًا عَالما متكلما حَيا حكيما قَادِرًا مرِيدا رحِيما محسنا فَهُوَ أولى بذلك وأحق مِنْهُ وَيثبت لَهُ من هَذِه الصِّفَات أكملها وأتمها وَهَذَا مُقْتَضى قَوْلهم كَمَال الْمَعْلُول مُسْتَفَاد من كَمَال علته وَلَكِن نَحن ننزه الله عز وجل عَن إِطْلَاق هَذِه الْعبارَة فِي حَقه بل نقُول كل كَمَال ثَبت للمخلوق غير مُسْتَلْزم للنقص فخالقه ومعطيه إِيَّاه أَحَق بالاتصاف بِهِ وكل نقص فِي الْمَخْلُوق فالخالق أَحَق بالتنزه عَنهُ كالكذب وَالظُّلم والسفه وَالْعَيْب بل يجب تَنْزِيه الرب تَعَالَى عَن كل النقائص والعيوب مُطلقًا وان لم يتنزه عَنْهَا بعض المخلوقين وَكَذَلِكَ إِذا استدللنا على حكمته تَعَالَى بِهَذِهِ الطرائق نَحْو أَن يُقَال إِذا كَانَ الْفَاعِل الْحَكِيم الَّذِي لَا يفعل فعلا إِلَّا لحكمة وَغَايَة مَطْلُوبَة لَهُ من فعله أكمل مِمَّن يفعل لَا لغاية وَلَا لحكمة وَلَا لأجل عَاقِبَة محمودة وَهِي مَطْلُوبَة من فعله فِي الشَّاهِد فَفِي حَقه تَعَالَى أولى وَأَحْرَى فَإِذا كَانَ الْفِعْل للحكمة كَمَا لَا فِينَا فالرب تَعَالَى أولى بِهِ وأحق وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ التَّنَزُّه عَن الظُّلم وَالْكذب كَمَا لَا فِي حَقنا فالرب تَعَالَى أولى وأحق بالتنزه عَنهُ وَبِهَذَا وَنَحْوه ضرب الله الْأَمْثَال فِي الْقُرْآن وَذكر الْعُقُول ونبهها وأرشدها إِلَى ذَلِك كَقَوْلِه {ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هَل يستويان مثلا} فَهَذَا مثل ضربه يتَضَمَّن قِيَاس الأول يَعْنِي إِذا كَانَ الْمَمْلُوك فِيكُم لَهُ ملاك مشتركون فِيهِ وهم متنازعون ومملوك آخر لَهُ مَالك وَاحِد فَهَل يكون هَذَا وَهَذَا سَوَاء فَإِذا كَانَ هَذَا لَيْسَ عنْدكُمْ كمن لَهُ رب وَاحِد وَمَالك وَاحِد فَكيف ترْضونَ أَن تجْعَلُوا لأنفسكم آلِهَة مُتعَدِّدَة تجعلونها شُرَكَاء لله تحبونها كَمَا يحبونه وتخافونها كَمَا يخافونه وترجونها كَمَا يرجونه وَكَقَوْلِه تَعَالَى وَإِذا بشر أحدهم بِمَا ضرب للرحمن مثلا ظلّ وهجه مسودا وَهُوَ كظيم يَعْنِي أَن أحدكُم لَا يرضى أَن يكون لَهُ بنت فَكيف تَجْعَلُونَ لله مَالا ترضونه لأنفسكم وَكَقَوْلِه {ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء وَمن رزقناه منا رزقا حسنا فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا هَل يستوون الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ وَضرب الله مثلا رجلَيْنِ أَحدهمَا أبكم لَا يقدر على شَيْء وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير هَل}
{يَسْتَوِي هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم} يَعْنِي إِذا كَانَ لَا يَسْتَوِي عنْدكُمْ عبد مَمْلُوك لَا يقدر على شَيْء وغني موسع عَلَيْهِ ينْفق مِمَّا رزقه الله فَكيف تَجْعَلُونَ الصَّنَم الَّذِي هُوَ أَسْوَأ حَالا من هَذَا العَبْد شَرِيكا لله وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ لَا يَسْتَوِي عنْدكُمْ رجلَانِ أَحدهمَا أبكم لَا يعقل وَلَا ينْطق وَهُوَ مَعَ ذَلِك عَاجز لَا يقدر على شَيْء وَآخر على طَرِيق مُسْتَقِيم فِي أَقْوَاله وأفعاله وَهُوَ آمُر بِالْعَدْلِ عَامل بِهِ لِأَنَّهُ على صِرَاط مُسْتَقِيم فَكيف تسوون بَين الله وَبَين الصَّنَم فِي الْعِبَادَة ونظائر ذَلِك كَثِيرَة فِي الْقُرْآن وَفِي الحَدِيث كَقَوْلِه فِي حَدِيث الْحَارِث الْأَشْعَرِيّ وان الله أَمركُم أَن تَعْبُدُوهُ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وان مثل من أشرك كَمثل رجل اشْترى عبدا من خَالص مَاله وَقَالَ لَهُ اعْمَلْ وأد إِلَى فَكَانَ يعْمل وَيُؤَدِّي إِلَى غَيره فَأَيكُمْ يحب أَن يكون عَبده كَذَلِك فَالله سُبْحَانَهُ لَا تضرب الْأَمْثَال الَّتِي يشْتَرك هُوَ وخلقه فِيهَا لَا شمولا وَلَا تمثيلا وانما يسْتَعْمل فِي حَقه قِيَاس الأولى كَمَا تقدم
الْوَجْه الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ أَن النفاة إِنَّمَا ردوا على خصومهم من الْجَهْمِية الْمُعْتَزلَة فِي إِنْكَار الصِّفَات بِقِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد فَقَالُوا الْعَالم شَاهدا من لَهُ الْعلم والمتكلم من قَامَ بِهِ الْكَلَام والحي والمريد والقادر من قَامَ بِهِ الْحَيَاة والإرادة وَالْقُدْرَة وَلَا يعقل إِلَّا هَذَا قَالُوا وَلِأَن شَرط إِطْلَاق الِاسْم شَاهدا وجود هَذِه الصِّفَات وَلَا يسْتَحق الِاسْم فِي الشَّاهِد إِلَّا من قَامَت بِهِ فَكَذَلِك فِي الْغَائِب قَالُوا وَلِأَن شَرط الْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة فِي الشَّاهِد الْحَيَاة فَكَذَلِك فِي الْغَائِب قَالُوا وَلِأَن علم كَون الْعَالم عَالما شَاهدا وجود الْعلم وقيامه بِهِ فَكَذَلِك فِي الْغَائِب فَقَالُوا بِقِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد فِي الْعلَّة وَالشّرط وَالِاسْم وَالْحَد فَقَالُوا حد الْعَالم شَاهدا من قَامَ بِهِ الْعلم فَكَذَلِك غَائِبا وَشرط صِحَة إِطْلَاق الِاسْم عَلَيْهِ شَاهدا قيام الْعلم بِهِ فَكَذَلِك غَائِبا وَعَلِيهِ كَونه عَالما شَاهدا قيام الْعلم بِهِ فَكَذَلِك غَائِبا فَكيف تنكرون هُنَا قِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد وتحتجون بِهِ فِي مَوَاضِع أُخْرَى فَأَي تنَاقض أَكثر من هَذَا فان كَانَ قِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد بَاطِلا بَطل احتجاجكم علينا بِهِ فِي هَذِه الْمَوَاضِع وان كَانَ صَحِيحا بَطل ردكم فِي هَذَا الْموضع فَأَما أَن يكون صَحِيحا إِذا استدللتم بِهِ بَاطِلا إِذا اسْتدلَّ بِهِ خصومكم فَهَذَا أقبح التطفيف وقبحه ثَابت بِالْعقلِ وَالشَّرْع
الْوَجْه السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ قَوْلكُم أَن الله خلى بَين الْعباد وظلم بَعضهم بَعْضًا وَأَن ذَلِك لَيْسَ بقبيح مِنْهُ فانه قَبِيح منا فَذَلِك فَاسد على أصل التَّكْلِيف فان التَّكْلِيف إِنَّمَا يتم بِإِعْطَاء الْقُدْرَة وَالِاخْتِيَار وَالله تَعَالَى قد أقدر عباده على الطَّاعَات والمعاصي وَالصَّلَاح وَالْفساد وَهَذَا الأقدار هُوَ منَاط الشَّرْع وَالْأَمر وَالنَّهْي فلولاه لم يكن شرع وَلَا رِسَالَة وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب وَكَانَ النَّاس بِمَنْزِلَة الجمادات وَالْأَشْجَار والنبات فَلَو حَال سُبْحَانَهُ بَين الْعباد وَبَين الْقُدْرَة على الْمعاصِي لارتفع الشَّرْع والرسالة والتكليف وانتفت فَوَائِد الْبعْثَة وَلزِمَ من ذَلِك لَوَازِم لَا يُحِبهَا الله وتعطلت
بِهِ غايات محمودة محبوبة لله وَهِي ملزومة لأقدار الْعباد وتمكينهم من الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَوُجُود الْمَلْزُوم بِدُونِ اللَّازِم محَال وَقد نبهنا على شَيْء يسير من الحكم الْمَطْلُوبَة والغايات المحمودة فِيمَا سلف من هَذَا الْفَصْل وَفِي أول الْكتاب فَلَو أَن الرب تَعَالَى خلق خلقه ممنوعين من الْمعاصِي غير قَادِرين عَلَيْهَا بِوَجْه لم يكن لإرسال الرُّسُل وانزال الْكتب وَالْأَمر والنهى وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب سَبَب يَقْتَضِيهِ وَلَا حِكْمَة تستدعيه وَفِي ذَلِك تعطل الْأَمر جملَة بل تَعْطِيل الْملك وَالْحَمْد والرب تَعَالَى لَهُ الْخلق وَالْأَمر وَله الْملك وَالْحَمْد والغايات الْمَطْلُوبَة والعواقب المحمودة الَّتِي لأَجلهَا أنزل كتبه وَأرْسل رسله وَشرع شرائعه وَخلق الْجنَّة وَالنَّار وَوضع الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بأقدار الْعباد على الْخَيْر وَالشَّر وتمكينهم من ذَلِك فَأَعْطَاهُمْ الْأَسْبَاب والآلات الَّتِي يتمكنون بهَا من فعل هَذَا وَهَذَا فَلهَذَا حسن مِنْهُ تبارك وتعالى التَّخْلِيَة بَين عباده وَبَين مَا هم فاعلوه وقبح من أَحَدنَا أَن يخلى بَين عبيده وَبَين الْإِفْسَاد وَهُوَ قَادر على مَنعهم هَذَا مَعَ أَنه سُبْحَانَهُ لم يخل بَينهم بل مَنعهم مِنْهُ وَحرمه عَلَيْهِم وَنصب لَهُم الْعُقُوبَات الدُّنْيَوِيَّة والأخروية على القبائح وَأحل بهم من بأسه وعذابه وانتقامه مَالا يَفْعَله السَّيِّد من المخلوقين بعبيده ليمنعهم ويزجرهم فقولكم أَنه خلى بَين عباد وَبَين إِفْسَاد بَعضهم بَعْضًا وظلم بَعضهم بَعْضًا كذب عَلَيْهِ فانه لم يخل بَينهم شرعا وَلَا قدرا بل حَال بَينهم وَبَين ذَلِك شرعا أتم حيلولة ومنعهم قدرا بِحَسب مَا تَقْتَضِيه حكمته الباهرة وَعلمه الْمُحِيط وخلى بَينهم وَبَين ذَلِك بِحَسب مَا تَقْتَضِيه حكمته وشرعه وَدينه فَمَنعه سُبْحَانَهُ لَهُم حيلولته بَينهم وَبَين الشَّرّ أعظم من تخليته وَالْقدر الَّذِي خلاه بَينهم فِي ذَلِك هُوَ ملزوم أمره وشرعه وَدينه فَالَّذِي فعله فِي الطَّرفَيْنِ غَايَة الْحِكْمَة والمصلحة وَلَا نِهَايَة فَوْقه لاقتراح عقل وَلَو خلى بَينهم كَمَا زعمتم لكانوا بِمَنْزِلَة الْأَنْعَام السَّائِمَة بل لَو تَركهم ودواعي طباعهم لأهْلك بَعضهم بَعْضًا وَخرب الْعَالم وَمن عَلَيْهِ بل ألجمهم لجام الْعَجز وَالْمَنْع من كل مَا يُرِيدُونَ فَلَو أَنه خلى بَينهم وَبَين مَا يُرِيدُونَ لفسدت الخليقة كَمَا الجمهم بلجام الشَّرْع وَالْأَمر وَلَو مَنعهم جملَة وَلم يُمكنهُم وَلم يقدرهم لتعطل الْأَمر وَالشَّرْع جملَة وانتقت حِكْمَة الْبعْثَة والإرسال وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب فَأَي حِكْمَة فَوق هَذِه الْحِكْمَة وَأي أَمر أحسن مِمَّا فعله بهم وَلَو أعْطى النَّاس هَذَا الْمقَام بعض حَقه لعلموا أَنه مُقْتَضى الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْقُدْرَة التَّامَّة وَالْعلم الْمُحِيط وَأَنه غَايَة الْحِكْمَة وَمن فتح لَهُ بفهم فِي الْقُرْآن رَآهُ من أَوله إِلَى آخِره يُنَبه الْعُقُول على هَذَا ويرشدها إِلَيْهِ ويدلها عَلَيْهِ وَأَنه يتعالى ويتنزه أَن يكون هَذَا مِنْهُ عَبَثا أَو سدى أَو بَاطِلا أَو بِغَيْر الْحق أَو لَا لِمَعْنى وَلَا لداع وباعث وان مصدر ذَاك جَمِيعه عَن عزته وحكمته وَلِهَذَا كثيرا مَا يقرن تَعَالَى بَين هذَيْن الاسمين الْعَزِيز الْحَكِيم فِي آيَات التشريع والتكوين وَالْجَزَاء ليدل عباده على أَن مصدر ذَلِك كُله عَن حِكْمَة بَالِغَة وَعزة قاهرة ففهم الموفقون عَن الله عز وجل مُرَاده وحكمته وانتهوا إِلَى مَا وقفُوا عَلَيْهِ
ووصلت إِلَيْهِ إفهامهم وعلومهم وردوا علم مَا غَابَ عَنْهُم إِلَى أحكم الْحَاكِمين وَمن هُوَ بِكُل شَيْء عليم وتحققوا بِمَا عملوه من حكمته الَّتِي بهرت عُقُولهمْ أَن الله فِي كل مَا خلق وَأمر وأثاب وعاقب من الحكم البوالغ مَا تقصر عُقُولهمْ عَن إِدْرَاكه وَأَنه تَعَالَى هُوَ الْغَنِيّ الحميد الْعَلِيم الْحَكِيم فمصدر خلقه وَأمره وثوابه وعقابه غناهُ وحمده وَعلمه وحكمته لَيْسَ مصدره مَشِيئَة مُجَرّدَة وقدرة خَالِيَة من الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة والمصلحة والغايات المحمودة الْمَطْلُوبَة لَهُ خلقا وأمرا وَأَنه سُبْحَانَهُ لَا يسْأَل عَمَّا يفعل لكَمَال حكمته وَوُقُوع أَفعاله كلهَا على أحسن الْوُجُوه وأتمها على الصَّوَاب والسداد ومطابقة الحكم والعباد يسْأَلُون إِذْ لَيست أفعالهم كَذَلِك وَلِهَذَا قَالَ خطيب الْأَنْبِيَاء شُعَيْب عليه السلام أَنى توكلت على الله رَبِّي وربكم مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها أَن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم فَأخْبر عَن عُمُوم قدرته تَعَالَى وَأَن الْخلق كلهم تَحت تسخيره وَقدرته وانه آخذ بنواصيهم فَلَا محيص لَهُم عَن نُفُوذ مَشِيئَته وَقدرته فيهم ثمَّ عقب ذَلِك بالأخبار عَن تصرفه فيهم وَأَنه بِالْعَدْلِ لَا بالظلم وبالإحسان لَا بالإساءة وبالصلاح لَا بِالْفَسَادِ فَهُوَ يَأْمُرهُم وينهاهم إحسانا إِلَيْهِم وحماية وصيانة لَهُم وَلَا حَاجَة إِلَيْهِم وَلَا بخلا عَلَيْهِم بل جودا وكرما ولطفا وَبرا ويثيبهم إحسانا وتفضلا وَرَحْمَة لَا لمعاوضة وَاسْتِحْقَاق مِنْهُم وَدين وَاجِب لَهُم يستحقونه عَلَيْهِ ويعاقبهم عدلا وَحِكْمَة لَا تشفيا وَلَا مَخَافَة وَلَا ظلما كَمَا يُعَاقب الْمُلُوك وَغَيرهم بل هُوَ على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَهُوَ صِرَاط الْعدْل وَالْإِحْسَان فِي أمره وَنَهْيه وثوابه وعقابه فَتَأمل أَلْفَاظ هَذِه الْآيَة وَمَا جمعته من عُمُوم الْقُدْرَة وَكَمَال الْملك وَمن تَمام الْحِكْمَة وَالْعدْل وَالْإِحْسَان وَمَا تضمنته من الرَّد على الطَّائِفَتَيْنِ فَأَنَّهَا من كنوز الْقُرْآن وَلَقَد كفت وشفت لمن فتح عَلَيْهِ بفهمها فكونه تَعَالَى على صِرَاط مُسْتَقِيم ينفى ظلمه للعباد وتكليفه إيَّاهُم مَا لَا يُطِيقُونَ وينفى الْعَيْب من أَفعاله وشرعه وَيثبت لَهَا غَايَة الْحِكْمَة والسداد ردا على منكري ذَلِك وَكَون كل دَابَّة تَحت قَبضته وَقدرته وَهُوَ آخذ بناصيتها يَنْبَغِي أَن لَا يَقع فِي ملكه من أحد الْمَخْلُوقَات شَيْء بِغَيْر مَشِيئَته وَقدرته وَأَن من ناصيته بيد الله وَفِي قَبضته لَا يُمكنهُ أَن يَتَحَرَّك إِلَّا بتحريكه وَلَا يفعل إِلَّا بأقداره وَلَا يَشَاء إِلَّا بمشيئته تَعَالَى ردا على منكري ذَلِك من الْقَدَرِيَّة فالطائفتان مَا وفوا الْآيَة مَعْنَاهَا وَلَا قدروها حق قدرهَا فَهُوَ سُبْحَانَهُ على صِرَاط مُسْتَقِيم فِي عطائه وَمنعه وهدايته واضلاله وَفِي نَفعه وضره وعافيته وبلائه واغناه وإفقاره وإعزازه وإذلاله وانعامه وانتقامه وثوابه وعقابه وإحيائه وإماتته وَأمره وَنَهْيه وتحليله وتحريمه وَفِي كل مَا يخلق وكل مَا يَأْمر بِهِ وَهَذِه الْمعرفَة بِاللَّه لَا تكون إِلَّا للأنبياء ولورثتهم وَنَظِير هَذِه الْآيَة قَوْله تَعَالَى وَضرب الله مثلا رجلَيْنِ أَحدهمَا أبكم لَا يقدر على شَيْء وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يوجهه لايأت بِخَير هَل يَسْتَوِي هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم فالمثل الأول للضم وعابديه والمثل الثَّانِي ضربه الله تَعَالَى لنَفسِهِ وَأَنه يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم فَكيف يسوى بَينه وَبَين الصَّنَم الَّذِي لَهُ مثل السوء فَمَا فعله الرب تبَارك
وَتَعَالَى مَعَ عباده هُوَ غَايَة الْحِكْمَة وَالْإِحْسَان وَالْعدْل فِي اقدارهم واعطائهم ومنعهم وَأمرهمْ ونهيهم فدعوى الْمُدعى أَن هَذَا نَظِير تخلية السَّيِّد بَين عبيده وامائه يفجر بَعضهم بِبَعْض ويسيء بَعضهم بَعْضًا اكذب دَعْوَى وأبطلها وَالْفرق بَينهمَا أظهر وَأعظم من أَن يحْتَاج إِلَى ذكره والتنبيه عَلَيْهِ وَالْحَمْد لله الْغَنِيّ الحميد فغناه التَّام فَارق وحمده وَملكه وعزته وحكمته وَعلمه وإحسانه وعدله وَدينه وشرعه وَحكمه وَكَرمه ومحبته للمغفرة وَالْعَفو عَن الجناة والصفح عَن المسيئين وتوبة التائبين وصبر الصابرين وشكر الشَّاكِرِينَ الَّذين يؤثرونه على غَيره ويتطلبون مراضيه ويعبدونه وَحده ويسيرون فِي عبيده بسيرة الْعدْل وَالْإِحْسَان والنصائح ويجاهدون أعداءه فيبذلون دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ فِي محبته ومرضاته فيتميز الْخَبيث من الطّيب ووليه من عدوه وَيخرج طَيّبَات هَؤُلَاءِ وخبائث أُولَئِكَ إِلَى الْخَارِج فيترتب عَلَيْهَا آثارها المحبوبة للرب تَعَالَى من الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالْحَمْد لأوليائه والذم لأعدائه وَقد نبه تَعَالَى على هَذِه الْحِكْمَة فِي كِتَابه فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه تَعَالَى {مَا كَانَ الله ليذر الْمُؤمنِينَ على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ حَتَّى يُمَيّز الْخَبيث من الطّيب وَمَا كَانَ الله ليطلعكم على الْغَيْب وَلَكِن الله يجتبي من رسله من يَشَاء} هَذِه الْآيَة من كنوز الْقُرْآن نبه فِيهَا على حكمته تَعَالَى الْمُقْتَضِيَة تَمْيِيز الْخَبيث من الطّيب وَأَن ذَلِك التَّمْيِيز لَا يَقع إِلَّا برسله فاجتبى مِنْهُم من شَاءَ وأرسله إِلَى عباده فيتميز برسالتهم الْخَبيث من الطّيب والولى من الْعَدو وَمن يصلح لمجاورته وقربه وكرامته مِمَّن لَا يصلح إِلَّا للوقود وَفِي هَذَا تَنْبِيه على الْحِكْمَة فِي إرْسَال الرُّسُل وَأَنه لَا بُد مِنْهُ وان الله تَعَالَى لَا يَلِيق بِهِ الْإِخْلَال بِهِ وان من جحد رِسَالَة رسله فَمَا قدره حق قدره وَلَا عرفه حق مَعْرفَته وَنسبه إِلَى مَا لَا يَلِيق بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا قدرُوا الله حق قدره إِذْ قَالُوا مَا أنزل الله على بشر من شَيْء} فَتَأمل هَذَا الْموضع حق التَّأَمُّل واعطه حَظه من الْفِكر فَلَو لم يكن فِي هَذَا الْكتاب سواهُ لَكَانَ من أجل مَا يُسْتَفَاد وَالله الْهَادِي إِلَى سَبِيل الرشاد
الْوَجْه السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ قَوْلكُم أَن الإغراق والإهلاك بخس مِنْهُ تَعَالَى وَهُوَ أقبح شَيْء منا فَكيف يدعونَ حسن إنقاذ الغرقى عقلا إِلَى آخِره كَلَام فَاسد جدا فان الإغراق والإهلاك من الرب تَعَالَى لَا يخرج قطّ عَن الْمصلحَة وَالْعدْل وَالْحكمَة فانه إِذا أغرق أعداءه وأهلكهم وانتقم مِنْهُم كَانَ هَذَا غَايَة الْحِكْمَة وَالْعدْل والمصلحة وان أغرق أولياءه وَأهل طَاعَته فَهُوَ سَبَب من الْأَسْبَاب الَّتِي نصبها لموتهم وتخليصهم من الدُّنْيَا والوصول إِلَى دَار كرامته وَمحل قربه وَلَا بُد من موت على كل حَال فَاخْتَارَ لَهُم أكمل الموتتين وأنفعهما لَهُم فِي معادهم ليوصلهم إِلَى دَرَجَات عالية لَا تنَال إِلَّا بِتِلْكَ الْأَسْبَاب الَّتِي نصبها الله موصلها كإيصال سَائِر الْأَسْبَاب إِلَى مسبباتها وَلِهَذَا سلط على أنبيائه وأوليائه مَا سلط عَلَيْهِم من الْقَتْل وأذى النَّاس وظلمهم لَهُم وعدوانهم عَلَيْهِم وَمَا ذَاك لهوانهم عَلَيْهِ وَلَا لكرامة أعدائهم عَلَيْهِ بل ذَاك عين كرامتهم وهوان أعدائهم عَلَيْهِ وسقوطهم من عينه لينالوا بذلك مَا خلقُوا لَهُ من مساكنتهم فِي دَار
الهوان وينال أولياؤه وَحزبه مَا هيئ لَهُم من الدَّرَجَات الْعلي وَالنَّعِيم الْمُقِيم فَكل تسليط أعدائه وأعدائهم عَلَيْهِم عين كرامتهم وَعين إهانة أعدائهم فَهَذَا من بعض حكمه تَعَالَى فِي ذَلِك ووراء ذَلِك من الحكم مَا لَا تبلغه الْعُقُول والأفه والإفهام وَكَانَ إغراقه واهلاكه وابتلاؤه مَحْض الْحِكْمَة وَالْعدْل فِي حق أعدائه ومحض الْإِحْسَان وَالْفضل وَالرَّحْمَة فِي حق أوليائه فَلهَذَا حسن مِنْهُ
وَلَعَلَّ الإغراق وتسليط الْقَتْل عَلَيْهِم أسهل الموتتين عَلَيْهِم مَعَ مَا فِي ضمنه من الثَّوَاب الْعَظِيم فَيكون وَقد بلغ حسن اخْتِيَاره لَهُم إِلَى أَن خفف عَلَيْهِم الموتة وأعاضهم عَلَيْهَا أفضل الثَّوَاب فانه لَا يجد الشَّهِيد من ألم الْقَتْل إِلَّا كمس القرصة
وَمن لم يمت بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ
…
تنوعت الْأَسْبَاب وَالْمَوْت وَاحِد
فَلَيْسَ إماتة أوليائه شُهَدَاء بيد أعدائه إهانة لَهُم وَلَا غَضبا عَلَيْهِم بل كَرَامَة وَرَحْمَة وإحسانا ولطفا وَكَذَلِكَ الْغَرق والحرق والردم والتردى والبطن وَغير ذَلِك والمخلوق لَيْسَ بِهَذِهِ المثابة فَلهَذَا قبح مِنْهُ الإغراق والإهلاك وَحسن من اللَّطِيف الْخَبِير
الْوَجْه الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ قَوْلكُم إِذا كَانَ لله فِي إغراقه واهلاكه سُبْحَانَهُ حِكْمَة وسر لَا نطلع عَلَيْهِ نَحن فقد رَأَوْا مثله فِي ترك إنقاذنا الغرقى كَلَام تغى ركته وفساده عَن تكلّف رده وَهل يجوز أَن يُقَال إِذا كَانَ لله الْحِكْمَة الْبَالِغَة والأسرار الْعَظِيمَة فِي إهلاك من يهلكه وابتلاء من يَبْتَلِيه وَلِهَذَا حسن مِنْهُ ذَلِك فَيلْزم من هَذَا أَن يُقَال يجوز أَن يكون فِي تركنَا انجاء الغرقى وَنصر الْمَظْلُوم سد الْخلَّة وَستر الْعَوْرَة حكما وأسرارا لَا يعلمهَا الْعُقَلَاء والمناكدة فِي البحوث إِذا وصلت إِلَى هَذَا الْحَد سمجت وثقلت على النُّفُوس ومحتها الْقُلُوب والأسماع الْوَجْه التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ قَوْلكُم العقلان من حَيْثُ الصِّفَات النفسية وَاحِدَة فَكيف يقبح أَحدهمَا من فَاعل وَيحسن الآخر وبمنزلة أَن يُقَال السُّجُود لله وَالسُّجُود للصنم وَاحِد من حَيْثُ الصِّفَات النفسية فَكيف يقبح أَحدهمَا وَيحسن الآخر وَهل فِي الْبَاطِل أبطل من هَذَا الْوَهم فَمَا جعل الله ذَلِك وَاحِدًا أصلا وَلَيْسَ إماتة الله لعَبْدِهِ مثل قتل الْمَخْلُوق لَهُ وَلَا أجاعته واعراؤه وابتلاؤه مُسَاوِيا فِي الصِّفَات النفسية لفعل الْمَخْلُوق بالمخلوق ذَلِك وَدَعوى التَّسَاوِي كذب وباطل فَلَا أعظم من التَّفَاوُت بَينهمَا وَهل يُسَاوِي هَذَا الْفِعْل والفطرة فعل الله وَفعل الْمَخْلُوق فيا لله الْعجب أَن بتناولهما اسْم الْفِعْل الْمُشْتَرك صَارا سَوَاء فِي الصِّفَات النفسية أَتَرَى حصل لَهما هَذَا التَّسَاوِي من جِهَة الْفِعْلَيْنِ وَالَّذِي أوجب هَذَا الخيال الْفَاسِد اتِّحَاد الْمحل وَتعلق الْفِعْلَيْنِ بِهِ وَهل يدل هَذَا على اسْتِوَاء الْفِعْلَيْنِ فِي الصِّفَات النفسية وَلَقَد وهت أَرْكَان مَسْأَلَة بنيت على هَذَا الشفا فانه شفا جرف هار وَالله الْمُسْتَعَان
الْوَجْه الْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم مواجب الْعُقُول فِي أصل التَّكْلِيف مُعَارضَة الْأُصُول فَيُقَال معَاذ الله من تعارضهما بل هِيَ متفقة الْأُصُول مُسْتَقر حسنها فِي الْعُقُول وَالْفطر مركوز ذَلِك فِيهَا فَمَا شرع الله شَيْئا فَقَالَ الْعقل
السَّلِيم ليته شرع خِلَافه بل هِيَ متعارضة بَين الْعقل والهوى وَالْعقل يقْضى بحسنها وَيَدْعُو إِلَيْهَا وَيَأْمُر بمتابعتها جملَة فِي بَعْضهَا وَجُمْلَة وتفصيلا فِي بعض والهوى والشهوة قد يدعوان غَالِبا إِلَى خلَافهَا فالتعارض وَاقع بَين مواجب الْعُقُول ومواجب الْهوى وَمَا جعل الله فِي الْعقل وَلَا فِي الْفطْرَة استقباحا لما أَمر بِهِ وَلَا اسْتِحْسَانًا لما نهى عَنهُ وَأَن مَال الْهوى إِلَى خلاف أمره وَنَهْيه فالعقل حِينَئِذٍ يكون مَأْمُورا مَعَ الْهوى مقهورا فِي قَبضته وَتَحْت سُلْطَانه
الْوَجْه الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم نطالبكم بِإِظْهَار وَجه الْحسن فِي أصل التَّكْلِيف وايجابه عقلا وَشرعا فَيُقَال يالله الْعجب أيحتاج أَمر الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ بِمَا فِيهِ غَايَة صَلَاحهمْ وسعادتهم فِي معاشهم ومعادهم وَنَهْيه لَهُم عَمَّا فِيهِ هلاكهم وشقاؤهم فِي معاشهم ومعادهم إِلَى الْمُطَالبَة بحسنه ثمَّ لَا يقْتَصر على الْمُطَالبَة بحسنه عقلا حَتَّى يُطَالب بحسنه عقلا وَشرعا فَأَي حسن لم يَأْمر الله بِهِ ويستحبه لِعِبَادِهِ ويندبهم إِلَيْهِ وَأي حسن فَوق حسن مَا أَمر بِهِ وشرعه وَأي قَبِيح لم ينْه عَنهُ وَلم يزْجر عباده من ارتكابه وَأي قبح فَوق قبح مَا نهى عَنهُ وَهل فِي الْعقل دَلِيل أوضح من علمه بِحسن مَا أَمر الله بِهِ من الْأَيْمَان وَالْإِحْسَان وتفاصيلها من الْعدْل وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وأنواع الْبر وَالتَّقوى وكل مَعْرُوف تشهد الْفطر والعقول بِهِ من عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ على أكمل الْوُجُوه وأتمها وَالْإِحْسَان إِلَى خلقه بِحَسب الْإِمْكَان فَلَيْسَ فِي الْعقل مُقَدمَات هِيَ أوضح من هَذَا الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ فَيجْعَل دَلِيلا لَهُ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْعقل دَلِيل أوضح من قبح مَا نهى الله عَنهُ من الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن والاثم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق والشرك بِاللَّه بِأَن يَجْعَل لَهُ عديل من خلقه فيعبد كَمَا يعبد وَيُحب كَمَا يحب ويعظم كَمَا يعظم وَمن الْكَذِب على الله وعَلى أنبيائه وعباده الْمُؤمنِينَ الَّذِي فِيهِ خراب الْعَالم وَفَسَاد الْوُجُود فَأَي عقل لم يدْرك حسن ذَلِك وقبح هَذَا فأحرى أَن لَا يدْرك الدَّلِيل على ذَلِك
وَلَيْسَ يَصح فِي الأذهان شَيْء
…
إِذا احْتَاجَ النَّهَار إِلَى دَلِيل
فَمَا أبقى الله عز وجل حسنا إِلَّا أَمر بِهِ وشرعه وَلَا قبيحا إِلَّا نهى عَنهُ وحذر مِنْهُ ثمَّ أَنه سُبْحَانَهُ أودع فِي الْفطر والعقول الْإِقْرَار بذلك فَأَقَامَ عَلَيْهَا الْحجَّة من الْوَجْهَيْنِ وَلَكِن اقْتَضَت رَحمته وحكمته أَن لَا يعذبها إِلَّا بعد إِقَامَتهَا عَلَيْهَا برسله وان كَانَت قَائِمَة عَلَيْهَا بِمَا أودع فِيهَا واستشهدها عَلَيْهِ من الْإِقْرَار بِهِ وبوحدانيته واستحقاقه الشُّكْر من عباده بِحَسب طاقتهم على نعمه وَبِمَا نصب عَلَيْهَا من الْأَدِلَّة المتنوعة المستلزمة إِقْرَارهَا بِحسن الْحسن وقبح الْقَبِيح
الْوَجْه الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ أَنا نذْكر لكم وَجها من الْوُجُوه الدَّالَّة على وَجه الْحسن فِي أصل التَّكْلِيف والإيجاب فَنَقُول لَا ريب أَن إِلْزَام النَّاس شَرِيعَة يأتمرون بأوامرها الَّتِي فِيهَا صَلَاحهمْ وينتهون عَن مناهيها الَّتِي فِيهَا فسادهم أحسن عِنْد كل عَاقل من تَركهم هملا كالأنعام لَا يعْرفُونَ مَعْرُوفا
وَلَا يُنكرُونَ مُنْكرا وينزو بَعضهم على بعض نزو الْكلاب والحمر ويعدو بَعضهم على بعض عَدو السبَاع وَالْكلاب والذئاب وَيَأْكُل قويهم ضعيفهم لَا يعْرفُونَ الله وَلَا يعبدونه وَلَا يذكرُونَهُ وَلَا يشكرونه وَلَا يمجدونه وَلَا يدينون بدين بل هم من جنس الْأَنْعَام السَّائِمَة وَمن كَابر عقله فِي هَذَا سقط الْكَلَام مَعَه ونادى على نَفسه بغاية الوقاحة ومفارقة الإنسانية وَمَا نَظِير مطالبتكم هَذِه إِلَّا مُطَالبَة من يَقُول نَحن نطالبكم بِإِظْهَار وَجه الْمَنْفَعَة فِي خلق المَاء والهواء والرياح وَالتُّرَاب وَخلق الأقوات والفواكه والأنعام بل فِي خلق الأسماع والأبصار والألسن والقوى والأعضاء الَّتِي فِي العَبْد فان هَذِه أَسبَاب ووسائل ووسائط
وَأما أمره وشرعه وَدينه فكماله غَايَة وسعادة فِي المعاش والمعاد وَلَا ريب عَنهُ الْعُقَلَاء أَن وَجه الْحسن فِيهِ أعظم من وَجه الْحسن فِي الْأُمُور الحسية وان كَانَ الْحسن هُوَ الْغَالِب على النَّاس وانما غَايَة أَكْثَرهم إِدْرَاك الْحسن وَالْمَنْفَعَة فِي الحسيات وتقديمها وإيثارها على مدارك الْعُقُول والبصائر قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون} وَلَو ذَهَبْنَا نذْكر وُجُوه المحاسن المودعة فِي الشَّرِيعَة لزادت على الألوف وَلَعَلَّ الله أَن يساعده بمصنف فِي ذَلِك مَعَ أَن هَذِه الْمَسْأَلَة بَابه وقاعدته الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاؤُه
الْوَجْه الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم أَنه سُبْحَانَهُ لَا يتَضَرَّر بِمَعْصِيَة العَبْد وَلَا ينْتَفع بِطَاعَتِهِ وَلَا تتَوَقَّف قدرته فِي الْإِحْسَان على فعل يصدر من العَبْد بل كَمَا أنعم عَلَيْهِ ابْتِدَاء فَهُوَ قَادر على أَن ينعم عَلَيْهِ بِلَا توَسط
فَيُقَال هَذَا حق وَلَكِن لَا يلْزم فِيهِ أَن لَا تكون الشَّرِيعَة وَالْأَمر والنهى مَعْلُومَة الْحسن عقلا وَلَا شرعا وَلَا يلْزم مِنْهُ أَيْضا عدم حسن التَّكْلِيف عقلا وَلَا شرعا فذكركم كم هَذَا عديم الْفَائِدَة فانه لم يقل منازعوكم وَلَا غَيرهم أَن الله سُبْحَانَهُ يتَضَرَّر بمعاصي الْعباد وَينْتَفع بطاعاتهم وَلَا أَنه غير قَادر على إِيصَال الْإِحْسَان إِلَيْهِم بِلَا واسطه وَلَكِن ترك التَّكْلِيف وَترك الْعباد هملا كالأنعام لَا يؤمرون وَلَا ينهون منَاف لحكمته وحمده وَكَمَال ملكه والهيته فَيجب تنزيهه عَنهُ وَمن نسبه إِلَيْهِ فَمَا قدره حق قدره وحكمته الْبَالِغَة اقْتَضَت الْأَنْعَام عَلَيْهِم ابْتِدَاء وبواسطة الْأَيْمَان والواسطة فِي إنعامه عَلَيْهِم أَيْضا فَهُوَ الْمُنعم بالوسيلة والغاية وَله الْحَمد وَالنعْمَة فِي هَذَا وَهَذَا يُوضحهُ
الْوَجْه الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ وَهُوَ أَن إنعامه عَلَيْهِ ابْتِدَاء بالإيجاد واعطاء الْحَيَاة وَالْعقل والسمع وَالْبَصَر وَالنعَم الَّتِي سخرها لَهُ إِنَّمَا فعلهَا بِهِ لأجل عِبَادَته إِيَّاه وشكره لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَقَالَ تَعَالَى {قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم} وَأَصَح الْأَقْوَال فِي الْآيَة أَن مَعْنَاهَا مَا يصنع بكم رَبِّي لَوْلَا عبادتكم إِيَّاه فَهُوَ سُبْحَانَهُ لم يخلقكم إِلَّا لعبادته فَكيف يُقَال بعد هَذَا أَن تَكْلِيفه إيَّاهُم عِبَادَته غير حسن فِي الْعقل لِأَنَّهُ قَادر على الْأَنْعَام عَلَيْهِم بالجزاء من غير توَسط الْعِبَادَة الْوَجْه الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ أَن قدرته سُبْحَانَهُ على الشَّيْء لَا تَنْفِي حكمته الْبَالِغَة من وجوده
فَإِنَّهُ تَعَالَى يقدر على مقدورات تمنع بِحِكْمَتِهِ كقدرته على قِيَامه السَّاعَة الْآن وَقدرته على إرْسَال الرُّسُل بعد النَّبِي وَقدرته على إبقائهم بَين ظُهُور الْأمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقدرته على أماتة إِبْلِيس وَجُنُوده واراحة الْعَالم مِنْهُم وَقد ذكر سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآن قدرته على مَا لَا يَفْعَله لحكمته فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه تَعَالَى {قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} وَقَوله تَعَالَى {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء بِقدر فأسكناه فِي الأَرْض وَإِنَّا على ذهَاب بِهِ لقادرون} وَقَوله أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه بلَى قَادِرين على أَن نسوي بنانه أَي نَجْعَلهَا كخف الْبَعِير صفحة وَاحِدَة وَقَوله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني} وَقَوله {لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} وَقَوله {وَلَو شَاءَ رَبك لجعل النَّاس أمة وَاحِدَة} فَهَذِهِ وَغَيرهَا مقدورات لَهُ سُبْحَانَهُ وانما امْتنعت لكَمَال حكمته فَهِيَ الَّتِي اقْتَضَت عدم وُقُوعهَا فَلَا يلْزم من كَون الشَّيْء مَقْدُورًا أَن يكون حسنا مُوَافقا للحكمة وعَلى هَذَا فقدرته تبارك وتعالى على مَا ذكرْتُمْ لَا تقتصي حسنه وموافقته لحكمته وَنحن إِنَّمَا نتكلم مَعَهم فِي الثَّانِي لَا فِي الأول فَالْكَلَام فِي الحكمه يَقْتَضِي الْحِكْمَة
والعناية غير الْكَلَام فِي الْمَقْدُور فَتعلق الْحِكْمَة شَيْء ومتعلق الْقُدْرَة شَيْء وَلَكِن انتم إِنَّمَا لويتم من إِنْكَار الْحِكْمَة فَلَا يمكنكم التَّفْرِيق بَين المتعلقين بل قد اعْترف سلفكم وأئمتكم بِأَن الْحِكْمَة لَا تخرج عَن صِحَة تعلقه بالمقدور ومطابقته لَهَا أَو تعلق الْعلم بالمعلوم ومطابقته لَهُ وَلما بنيتم على هَذَا الأَصْل لم يمكنكم الْفرق بَين مُوجب الْحِكْمَة وَمُوجب الْقُدْرَة فتوعرت عَلَيْكُم الطَّرِيق وألجأتم أَنفسكُم إِلَى اصعب مضيق
الْوَجْه الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم أَنه تَعَالَى لَو ألْقى إِلَى العَبْد زِمَام الِاخْتِيَار وَتَركه يفعل مَا يَشَاء جَريا على رسوم طبعه المائل إِلَى لذيذ الشَّهَوَات ثمَّ أجزل لَهُ فِي الْعَطاء من غير حِسَاب كَانَ أروح للْعَبد وَلم يكن قبيحا عِنْد الْعقل فَيُقَال لكم مَا تعنون بإلقاء زِمَام الِاخْتِيَار إِلَيْهِ أتعنون بِهِ أَنه لَا يكلفه وَلَا يَأْمُرهُ وَلَا ينهاه بل يَجعله كالبهيمة السَّائِمَة الْمُهْملَة أم تعنون بِهِ أَنه يلقى إِلَيْهِ زِمَام الِاخْتِيَار مَعَ تَكْلِيفه وَأمره وَنَهْيه فان عنيتم الأول فَهُوَ من أقبح شَيْء فِي الْعقل وأعظمه نقصا فِي الْآدَمِيّ وَلَو ترك ورسوم طبعه لكَانَتْ الْبَهَائِم أكمل مِنْهُ وَلم يكن مكرما مفضلا على كثير مِمَّن خلق الله تَفْضِيلًا بل كَانَ كثير من الْمَخْلُوقَات أَو أَكْثَرهَا مفضلا عَلَيْهِ فانه يكون مصدودا عَن كَمَاله الَّذِي هُوَ مستعد لَهُ قَابل لَهُ وَذَلِكَ أَسْوَأ حَالا وَأعظم نقصا مِمَّا منع كمالا لَيْسَ قَابلا لَهُ
وَتَأمل حَال الْآدَمِيّ المخلى ورسوم طبعه الْمَتْرُوك ودواعي هَوَاهُ كَيفَ تجه فِي شرار الخليقة وأفسدها للْعَالم وَلَوْلَا من يَأْخُذ على يَدَيْهِ لأهْلك الْحَرْث والنسل وَكَانَ شرا من الْخَنَازِير والذئاب والحيات فَكيف يَسْتَوِي فِي الْعقل أمره وَنَهْيه بِمَا فِيهِ صَلَاحه وَصَلَاح غَيره بِهِ وَتَركه وَمَا فِيهِ أعظم فَسَاده وَفَسَاد النَّوْع وَغَيره بِهِ وَكَيف لَا يكون هَذَا القَوْل قبيحا وَأي قبح أعظم
من هَذَا وَلِهَذَا أنكر الله سُبْحَانَهُ على من جوز عقله مثل هَذَا ونزه نَفسه عَنهُ فَقَالَ تَعَالَى {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} قَالَ الشَّافِعِي معطلا لَا يُؤمر وَلَا ينْهَى وَقيل لَا ثِيَاب وَلَا يُعَاقب وَقَالَ تَعَالَى {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون} ثمَّ نزه نَفسه عَن هَذَا الظَّن الْكَاذِب وَأَنه لَا يَلِيق بِهِ وَلَا يجوز فِي الْعُقُول نِسْبَة مثله إِلَيْهِ لمنافاته لحكمته وربوبيته والهيته وحمده فَقَالَ {فتعالى الله الْملك الْحق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْكَرِيم} وَقَالَ تَعَالَى وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ وَفسّر الْحق بالثواب وَالْعِقَاب وَفسّر بِالْأَمر وَالنَّهْي وَهَذَا تَفْسِير لَهُ بِبَعْض مَعْنَاهُ وَالصَّوَاب أَن الْحق هُوَ ألهيته وحكمته المتضمنة لِلْخلقِ وَالْأَمر وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب فمصدر ذَلِك كُله الْحق وبالحق وجد وبالحق قَامَ وغايته الْحق وَبِه قِيَامه فمحال أَن يكون على غير هَذَا الْوَجْه فانه يكون بَاطِلا وعبثا فتعالى الله عَنهُ لمنافاته ألهيته وحكمته وَكَمَال ملكه وحمده وَقَالَ تَعَالَى أَن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لآياب لأولى الْأَلْبَاب الَّذِي يذكرُونَ الله قيَاما وقعودا وعَلى جنُوبهم ويتفكرون فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض رَبنَا مَا خلقت هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فقنا عَذَاب النَّار وَتَأمل كَيفَ أخبر سُبْحَانَهُ عَنهُ بِنَفْي الباطلية عَن خلقه دون إِثْبَات الْحِكْمَة لِأَن بَيَان نفي الْبَاطِل على سَبِيل الْعُمُوم والاستغراق أوغل فِي الْمَعْنى الْمَقْصُود وأبلغ من إِثْبَات الحكم لِأَن بَيَان جَمِيعهَا لَا يَفِي بِهِ إفهام الخليقة وَبَيَان الْبَعْض يُؤذن بتناهي الْحِكْمَة وَنفى الْبطلَان والخلو عَن الْحِكْمَة والفائدة تفِيد أَن كل جُزْء من أَجزَاء الْعَالم عُلْوِيَّهُ وسفليه مُتَضَمّن لحكم جمة وآيات باهرة ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ عَنْهُم بتنزيهه عَن الْخلق بَاطِلا خلوا عَن الْحِكْمَة وَلَا معنى لهَذَا التَّنْزِيه عِنْد النفاة فان الْبَاطِل عِنْدهم هُوَ الْمحَال لذاته فعلى قَوْلهم نزهوه عَن الْمحَال لذاته الَّذِي لَيْسَ بِشَيْء كالجمع بَين النقيضين وَكَون الْجِسْم الْوَاحِد لَا يكون فِي مكانين وَمَعْلُوم قطعا أَن هَذَا لَيْسَ مُرَاد الرب تَعَالَى مِمَّا نزه نَفسه عَنهُ وَأَنه لَا يمدح أحد بتنزيهه عَن هَذَا وَلَا يكون المنزه بِهِ مثنيا وَلَا حامدا وَلم يخْطر هَذَا بقلب بشر حَتَّى يُنكره الله على من زَعمه وَنسبه إِلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ فنفى اللّعب عَن خلقه وَأثبت أَنه إِنَّمَا خلقهما بِالْحَقِّ فَجمع تَعَالَى بَين نفي اللّعب الصَّادِر عَن غير حِكْمَة وَغَايَة محمودة واثبات الْحق المتضمن للْحكم والغايات المحمودة والعواقب المحبوبة وَالْقُرْآن مَمْلُوء من هَذَا بِنَفْي الْعَبَث وَالْبَاطِل واللعب تَارَة وتنزيه الرب نَفسه عَنهُ تَارَة واثبات الحكم الباهرة فِي خلقه تَارَة كَيفَ يجوز أَن يُقَال أَنه لَو عطل خلقه وتركهم سدى لم يكن ذَلِك قبيحا فِي الْعقل فان عنيتم أَنه يلقى إِلَيْهِ زِمَام الِاخْتِيَار مَعَ أمره وَنَهْيه فَهَذَا حق فانه جعله مُخْتَارًا مَأْمُورا مَنْهِيّا وان كَانَ اخْتِيَاره مخلوقا لَهُ تَعَالَى إِذْ هُوَ من جملَة الْحَوَادِث الصادرة عَن خلقه وَلَكِن
هَذَا الِاخْتِيَار لَا ينافى التَّكْلِيف وَلَا يكون إِلَّا بِهِ بِوَجْه بل لَا يَصح التَّكْلِيف إِلَّا بِهِ
الْوَجْه السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم فقد تعَارض الْأَمْرَانِ أَحدهمَا أَن يكلفهم فيأمر وَينْهى حَتَّى يطاع ويعصى ثمَّ يثيبهم ويعاقبهم الثَّانِي أَن لَا يكلفهم إِذْ لَا يتزين مِنْهُم بِطَاعَة وَلَا تشينه معصيتهم وَإِذا تعَارض فِي الْمَعْقُول هَذَانِ الْأَمْرَانِ فَكيف يهدي الْعقل إِلَى اخْتِيَار أَحدهمَا عقلا فَكيف يعرفنا الْوُجُوب على نَفسه بالمعرفة وعَلى الْجَوَارِح بِالطَّاعَةِ وعَلى الرب تَعَالَى بالثواب
فَيُقَال لكم لم يتعارض بِحَمْد الله الْأَمْرَانِ لِأَن أَحدهمَا قد علم قبحه فِي الْمَعْقُول وَالْآخر قد علم حسنه فِي الْمَعْقُول فَكيف يتعارض فِي الْعقل جَوَاز الْأَمريْنِ وَأَن يكون نسبتهما إِلَى الرب تَعَالَى نِسْبَة وَاحِدَة وانما يتعارض الجائزات على كل سَوَاء بِحَيْثُ لَا يتَرَجَّح بَعْضهَا عَن بعض فَأَما الْحسن والقبح فَلم يتعارض فِي الْعقل قطّ استواؤهما وَقد قَررنَا مِمَّا لَا مدفع لَهُ قبح التّرْك سدى بِمَنْزِلَة الْأَنْعَام السَّائِمَة وَحسن الْأَمر والنهى وأستصلاحهم فِي معاشهم ومعادهم فَكيف يُقَال أَن هذَيْن الْأَمريْنِ سَوَاء فِي الْعقل بِحَيْثُ يتعارضان فِيهِ وَيقْضى باستوائهما بِالنِّسْبَةِ إِلَى أحكم الْحَاكِمين فان قيل إِنَّمَا تَعَارضا فِي المقدورية إِذْ نِسْبَة الْقُدْرَة إِلَيْهِمَا وَاحِدَة قُلْنَا قد تقدم أَنه لَا يلْزم من كَون الشَّيْء مَقْدُورًا أَن لَا يكون مُمْتَنعا لمنافاته الْحِكْمَة وَقد بَينا ذَلِك قَرِيبا فَيكون تَركهم هملا وسدى مَقْدُورًا للرب تَعَالَى لَا يَقْتَضِي معارضته لمقدوره الآخر فِي تكليفهم وَأمرهمْ ونهيهم
الْوَجْه الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم إِذْ لَا يتزين مِنْهُم بِطَاعَة وَلَا تشيئه معصيتهم {قُلْنَا} وَمن الَّذِي نَازع فِي هَذَا وَلَكِن حسن التَّكْلِيف لَا ينفى ذَلِك عَن الرب تَعَالَى وَأَنه إِنَّمَا يكلفهم تَكْلِيف من لَا يبلغُوا ضره فيضروه وَلَا يبلغُوا نَفعه فينفعوه وَأَنَّهُمْ لَو كَانُوا كلهم على أتقى قلب رجل وَاحِد مِنْهُم مَا زَاد ذَلِك فِي ملكه شَيْئا وَلَو كَانُوا على أفجر قلب رجل وَاحِد مِنْهُم مَا نقص ذَلِك فِي ملكه شَيْئا وَهَهُنَا اخْتلفت الطّرق بِالنَّاسِ فِي عِلّة التَّكْلِيف وحكمته مَعَ كَونه سُبْحَانَهُ لَا ينْتَفع بطاعتهم وَلَا تضره معصيتهم فسلكت الجبرية مسلكها الْمَعْرُوف وَأَن ذَلِك صادر عَن مَحْض الْمَشِيئَة وَصرف الْإِرَادَة وَأَنه لَا عِلّة لَهُ وَلَا باعث عَلَيْهِ سوى مَحْض الْإِرَادَة وسلكت الْقَدَرِيَّة مسلكها الْمَعْرُوف وَهل ذَلِك إِلَّا اسْتِئْجَار مِنْهُ لعبيده لينالوا أجرهم بِالْعَمَلِ فَيكون ألذ من اقتضائهم الثَّوَاب بِلَا عمل لما فِيهِ من تكدير الْمِنَّة والمسلكان كَمَا ترى وحسبك مَا يدل عَلَيْهِ الْعقل الصَّرِيح وَالنَّقْل الصَّحِيح من بطلانهما وفسادهما وَلَيْسَ عِنْد النَّاس غير هذَيْن المسلكين إِلَّا مَسْلَك من هُوَ خَارج عَن الديانَات وَاتِّبَاع الرُّسُل مِمَّن يرى أَن الشَّرَائِع وضعت نواميس يقوم عَلَيْهَا مصلحَة النَّاس ومعيشتهم فان فائدتها تَكْمِيل قُوَّة النَّفس وَالْحكمَة وَهَذَا مَسْلَك خَارج عَن مناهج الْأَنْبِيَاء وأممهم وَأما أَتبَاع الرُّسُل الَّذين هم أهل البصائر فحكمة الله عز وجل فِي تكليفهم مَا كلفهم بِهِ أعظم وَأجل عِنْدهم مِمَّا يخْطر بالبال أَو يجْرِي بِهِ
الْمقَال وَيشْهدُونَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِك بالحكم الباهرة والأسرار الْعَظِيمَة أَكثر مِمَّا يشهدونه فِي مخلوقاته وَمَا تضمنته وَمن الْأَسْرَار وَالْحكم ويعلمون مَعَ ذَلِك أَنه لَا نِسْبَة لما أطلعهم سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ من ذَلِك إِلَى مَا طوى علمه عَنْهُم واستأثر بِهِ دونهم وَأَن حكمته فِي أمره وَنَهْيه وتكليفهم أجل وَأعظم مِمَّا تُطِيقهُ عقول الْبشر فهم يعبدونه سُبْحَانَهُ بأَمْره وَنَهْيه لِأَنَّهُ تَعَالَى أهل أَن يعبد وَأهل أَن يكون الْحبّ كُله لَهُ وَالْعِبَادَة كلهَا لَهُ حَتَّى لَو لم يخلق جنَّة وَلَا نَارا وَلَا وضع ثَوابًا وَلَا عقَابا لَكَانَ أَهلا أَن يعبد أقْصَى مَا تناله قدرَة خلقه من الْعِبَادَة وَفِي بعض الْآثَار الإلهية لَو لم أخلق جنَّة وَلَا نَارا ألم أكن أَهلا أَن أعبد حَتَّى أَنه لَو قدر أَنه لم يُرْسل رسله وَلم ينزل كتبه لَكَانَ فِي الْفطْرَة وَالْعقل مَا يَقْتَضِي شكره وأفراده بِالْعبَادَة كَمَا أَن فيهمَا مَا يَقْتَضِي الْمَنَافِع وَاجْتنَاب المضار وَلَا فرق بَينهمَا فِي الْفطْرَة وَالْعقل فان الله فطر خليقته على محبته والأقبالعليه وابتغاء الْوَسِيلَة إِلَيْهِ وَأَنه لَا شَيْء على الْإِطْلَاق أحب إِلَيْهِمَا مِنْهُ وان فَسدتْ فطر أَكثر الْخلق بِمَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِمَّا اقتطعها واجتالها عَمَّا خلق فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} فَبين سُبْحَانَهُ أَن إِقَامَة الْوَجْه وَهُوَ إخلاص الْقَصْد وبذل الوسع لدينِهِ المتضمن محبته وعبادته حَنِيفا مُقبلا عَلَيْهِ معرضًا عَمَّا سواهُ هُوَ فطرته الَّتِي فطر عَلَيْهَا عباده فَلَو خلوا ودواعي فطرهم لما رَغِبُوا عَن ذَلِك وَلَا اخْتَارُوا سواهُ وَلَكِن غيرت الْفطر وأفسدت كَمَا قَالَ النَّبِي مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُم تجدعونها ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة اقرأوا أَن شِئْتُم {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ منيبين إِلَيْهِ واتقوه} ومنيبين نصب على الْحَال من الْمَفْعُول أَي فطرهم منيبين إِلَيْهِ والإنابة إِلَيْهِ تَتَضَمَّن الإقبال عَلَيْهِ بمحبته وَحده والأعراض عَمَّا سواهُ وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عِيَاض بن حَمَّاد عَن النَّبِي قَالَ أَن الله أَمرنِي أَن أعلمكُم مَا جهلتم مِمَّا عَلمنِي فِي مقَامي هَذَا أَنه قَالَ كل مَال نحلته عبدا فَهُوَ لَهُ حَلَال واني خلقت عبَادي حنفَاء فأتتهم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه إِنَّمَا فطر عباده على الحنيفة المتضمنة لكَمَال حبه والخضوع لَهُ والذل لَهُ وَكَمَال طَاعَته وَحده دون غَيره وَهَذَا من الْحق الَّذِي خلقت لَهُ وَبِه قَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَعَلِيهِ قَامَ الْعَالم ولأجله خلقت الْجنَّة وَالنَّار ولأجله أرسل رسله وَأنزل كتبه ولأجله هلك الْقُرُون الَّتِي خرجت عَنهُ وآثرت غَيره فكونه سُبْحَانَهُ أَهلا أَن يعبد وَيُحب ويحمد ويثني عَلَيْهِ أَمر ثَابت لَهُ لذاته فَلَا يكون إِلَّا كَذَلِك كَمَا أَن الْغنى الْقَادِر الْحَيّ القيوم السَّمِيع الْبَصِير فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْإِلَه الْحق الْمُبين والإله هُوَ الَّذِي يسْتَحق أَن يوله محبَّة
وتعظيما وخشية وخضوعا وتذللا وَعبادَة فَهُوَ الْإِلَه الْحق وَلَو لم يخلق خلقه وَهُوَ الْإِلَه الْحق وَلَو لم يعبدوه فَهُوَ المعبود حَقًا إِلَّا لَهُ حَقًا الْمَحْمُود حَقًا وَلَو قدر أَن خلقه لم يعبدوه وَلم يحمدوه وَلم يألهوه فَهُوَ الله الَّذِي لَا اله إِلَّا هُوَ قبل أَن يخلقهم وَبعد أَن خلقهمْ وَبعد أَن يغنيهم لم يستحدث بخلقه لَهُم وَلَا بأَمْره إيَّاهُم اسْتِحْقَاق الإلهية وَالْحَمْد بل الإلهية وحمده ومجده وغناه أَوْصَاف ذاتية لَهُ يَسْتَحِيل مفارقتها لَهُ لِحَيَاتِهِ ووجوده وَقدرته وَعلمه وَسَائِر صِفَات كَمَاله فأولياؤه وخاصته وَحزبه لما شهِدت عُقُولهمْ وفطرهم أَنه أهل أَن يعبد وان لم يُرْسل إِلَيْهِم رَسُولا وَلم ينزل عَلَيْهِ كتابا وَلَو لم يخلق جنَّة وَلَا نَارا علمُوا أَنه لَا شَيْء فِي الْعُقُول وَالْفطر أحسن من عِبَادَته وَلَا أقبح من الْأَعْرَاض عَنهُ وَجَاءَت الرُّسُل وأنزلت الْكتب لتقرير مَا استودع سُبْحَانَهُ فِي الْفطر والعقول من ذَلِك وتكميله وتفضيله وزيادته حسنا إِلَى حسنه فاتفقت شَرِيعَته وفطرته وتطابقا وتوافقا وَظهر أَنَّهُمَا من مشكاة وَاحِدَة فعبدوه وأحبوه ومجدوه وحمدوه بداعي الْفطْرَة وداعي الشَّرْع وداعي الْعقل فاجتمعت لَهُم الدَّوَاعِي ونادتهم من كل جِهَة ودعتهم إِلَى وليهم والههم وفاطرهم فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ بقلوب سليمَة لم يُعَارض خَبره عِنْدهَا شُبْهَة توجب ريبا وشكا ولأمره شَهْوَة توجب رغبتها عَنهُ وإيثارها سواهُ فَأَجَابُوا دواعي الْمحبَّة وَالطَّاعَة إِذْ نادت بهم حَيّ على الْفَلاح وبذلوا أنفسهم فِي مرضاة مَوْلَاهُم الْحق بذل أخي السماح وحمدوا عِنْد الْوُصُول إِلَيْهِ مسراهم وانما يحمد الْقَوْم السرى عِنْد الصَّباح فدينهم دين الْحبّ وَهُوَ الدّين الَّذِي لَا إِكْرَاه فِيهِ وسيرهم سير المحبين وَهُوَ الَّذِي لَا وَقْفَة تعتريه
أَنى أدين بدين الْحبّ وَيحكم
…
فَذَاك ديني وَلَا إِكْرَاه فِي الدّين
وَمن يكن دينه كرها فَلَيْسَ لَهُ
…
إِلَّا العناء وَألا السّير فِي الطين
وَمَا اسْتَوَى سير عبد فِي محبته
…
وسير خَال من الأشواق فِي دين
فَقل لغير أخي الأشواق وَيحك قد
…
غبنت حظك لَا تغتر بالدون
نَجَائِب الْحبّ تعلوا بالمحب إِلَى
…
أَعلَى الْمَرَاتِب من فَوق السلاطين
وَأطيب الْعَيْش فِي الدَّاريْنِ قد رغبت
…
عَنهُ التُّجَّار فباعت بيع مغبون
فان ترد علمه فاقرأه وَيحك فِي
…
آيَات طه وَفِي آيَات ياسين
وَلَا ريب أَن كَمَال الْعُبُودِيَّة تَابع لكَمَال الْمحبَّة وَكَمَال الْمحبَّة تَابع لكَمَال المحبوب فِي نَفسه وَالله سُبْحَانَهُ لَهُ الْكَمَال الْمُطلق التَّام فِي كل وَجه الَّذِي لَا يَعْتَرِيه توهم نقص أصلا وَمن هَذَا شَأْنه فان الْقُلُوب لَا يكون شَيْء أحب إِلَيْهَا مِنْهُ مَا دَامَت فطرها وعقولها سليمَة وَإِذا كَانَت أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهَا فَلَا محَالة أَن محبته توجب عبوديته وطاعته وتتبع مرضاته واستفراغ الْجهد فِي التَّعَبُّد لَهُ والإنابة إِلَيْهِ وَهَذَا الْبَاعِث اكمل بواعث الْعُبُودِيَّة وأقواها حَتَّى لَو فرض تجرده عَن الْأَمر
وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب استفرغ الوسع واستخلص الْقلب للمعبود الْحق وَمن هَذَا قَول بعض السّلف أَنه ليستخرج حبه من قلبِي مَا لَا يَسْتَخْرِجهُ قَوْله وَمِنْه قَول عمر فِي صُهَيْب لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ وَقد كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِب على كل عَاقل كَمَا قَالَ بَعضهم
هَب الْبَعْث لم تأتنا رسله
…
وجاحمة النَّار لم تضرم
أَلَيْسَ من الْوَاجِب الْمُسْتَحق
…
طَاعَة رب الورى الأكرم
وَقد قَامَ رَسُول الله حَتَّى تفطرت قدماه فَقيل لَهُ تفعل هَذَا وَقد غفر لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر قَالَ أَفلا أكون عبدا شكُورًا وَاقْتصر من جوابهم على مَا تُدْرِكهُ عُقُولهمْ وتناله إفهامهم وَألا فَمن الْمَعْلُوم أَن باعثه على ذَلِك الشُّكْر أَمر يجل عَن الْوَصْف وَلَا تناله الْعِبَادَة وَلَا الأذهان فَأَيْنَ هَذَا الشُّهُود من شُهُود طَائِفَة الْقَدَرِيَّة والجبرية فليعرض الْعَاقِل اللبيب ذَيْنك المشهدين على هَذَا المشهد ولينظر مَا بَين الْأَمريْنِ من التَّفَاوُت فَالله سُبْحَانَهُ يعبد ويحمد وَيُحب لِأَنَّهُ أهل لذَلِك ومستحقه بل مَا يسْتَحقّهُ سُبْحَانَهُ من عباده أَمر لَا تناله قدرتهم وَلَا إرادتهم وَلَا تتصوره عُقُولهمْ وَلَا يُمكن أحد من خلقه قطّ أَن يعبده حق عِبَادَته وَلَا يُوفيه حَقه من الْمحبَّة وَالْحَمْد وَلِهَذَا قَالَ أفضل خلقه وأكملهم وأعرفهم بِهِ وأحبهم إِلَيْهِ وأطوعهم لَهُ لَا أحصى ثَنَاء عَلَيْك وَأخْبر أَن عمله لَا يسْتَقلّ بالنجاة فَقَالَ لن يُنجى أحدا مِنْكُم عمله قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل عَلَيْهِ صلوَات الله وَسَلَامه عدد مَا خلق فِي السَّمَاء وَعدد مَا خلق فِي الأَرْض وَعدد مَا بَينهمَا وَعدد مَا هُوَ خَالق وَفِي الحَدِيث الْمَرْفُوع الْمَشْهُور أَن من الْمَلَائِكَة من هُوَ ساجد لله لَا يرفع رَأسه مُنْذُ خلق وَمِنْهُم رَاكِع لَا يرفع رَأسه من الرُّكُوع مُنْذُ خلق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَوْم الْقِيَامَة سُبْحَانَكَ مَا عبدناك حق عبادتك وَلما كَانَت عِبَادَته تَعَالَى تَابِعَة لمحبته واجلاله وَكَانَت الْمحبَّة نَوْعَيْنِ محبَّة تنشأ عَن الْأَنْعَام وَالْإِحْسَان فتوجب شكرا وعبودية بِحَسب كَمَا لَهَا ونقصانها ومحبة تنشأ عَن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وَطَاعَة أكمل من الأولى كَانَ الْبَاعِث على الطَّاعَة والعبودية لَا يخرج عَن هذَيْن النَّوْعَيْنِ واما أَن تقع الطَّاعَة صادرة عَن خوف مَحْض غير مقرون بمحبته فَهَذَا قد ظَنّه كثير من الْمُتَكَلِّمين وَهِي عِنْدهم غَايَة المعارف بِنَاء على أصلهم الْبَاطِل أَن الله لَا تتَعَلَّق الْمحبَّة بِذَاتِهِ وانما تتَعَلَّق بمخلوقاته مِمَّا فِي الْجنَّة من النَّعيم فهم لَا يحبونه لذاته وَلَا لإحسانه وَيُنْكِرُونَ محبته لذَلِك وانما المحبوب عِنْدهم فِي الْحَقِيقَة غَيره وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل
وستذكر فِي الْقسم الثَّانِي أَن شَاءَ الله فِي هَذَا الْكتاب بطلَان هَذَا الْمَذْهَب من أَكثر من مائَة وَجه