الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّادِقين وَأَنه لَا يقبح مِنْهُ واستلزامه التَّسْوِيَة بَين التَّثْلِيث والتوحيد فِي الْعقل وَأَنه قبل وُرُود النُّبُوَّة لَا يقبح التَّثْلِيث وَلَا عبَادَة الْأَصْنَام وَلَا مسَبَّة المعبود وَلَا شَيْء من أَنْوَاع الْكفْر وَلَا السَّعْي فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ وَلَا تقبيح شَيْء من القبائح أصلا وَقد الْتزم النفاة ذَلِك وَقَالُوا أَن هَذِه الْأَشْيَاء لم تقبح عقلا وَإِنَّمَا جِهَة قبحها السّمع فَقَط وانه لَا فرق قبل السّمع بَين ذكر الله وَالثنَاء عَلَيْهِ وحمده وَبَين ضد ذَلِك وَلَا بَين شكره بِمَا يقدر عَلَيْهِ العَبْد وَبَين ضِدّه وَلَا بَين الصدْق وَالْكذب والعفة والفجور وَالْإِحْسَان إِلَى الْعَالم والإساءة إِلَيْهِم بِوَجْه مَا وَإِنَّمَا التَّفْرِيق بِالشَّرْعِ بَين متماثلين من كل وَجه وَقد كَانَ تصور هَذَا الْمَذْهَب على حَقِيقَته كَافِيا فِي الْعلم بِبُطْلَانِهِ وَأَن لَا يتَكَلَّف رده وَلِهَذَا رغب عَنهُ فحول الْفُقَهَاء والنظار من الطوائف كلهم فأطبق أَصْحَاب أبي حنيفَة على خِلَافه وحكوه عَن أبي حنيفَة نصا وَاخْتَارَهُ من أَصْحَاب أَحْمد أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل وَأَبُو يعلى الصَّغِير وَلم يقل أحد من متقدميهم بِخِلَافِهِ وَلَا يُمكن أَن ينْقل عَنْهُم حرف وَاحِد مُوَافق للنفاة وَاخْتَارَهُ من أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن على بن إِسْمَاعِيل الْقفال الْكَبِير وَبَالغ فِي إثْبَاته وَبنى كِتَابه محَاسِن الشَّرِيعَة عَلَيْهِ وَأحسن فِيهِ مَا شَاءَ وَكَذَلِكَ الإِمَام سعيد بن على الزنجانى بَالغ فِي إِنْكَاره على أبي الْحسن الأشعرى القَوْل بِنَفْي التحسين والتقبيح وَأَنه لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِم الرَّاغِب وَكَذَلِكَ أَبُو عبد الله الحليمى وخلائق لَا يُحصونَ وكل من تكلم فِي علل الشَّرْع ومحاسنه وَمَا تضمنه من الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد فَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بتقرير الْحسن والقبح العقليين إِذْ لَو كَانَ حسنه وقبحه بِمُجَرَّد الْأَمر والنهى لم يتَعَرَّض فِي إِثْبَات ذَلِك لغير الْأَمر وَالنَّهْي فَقَط وعَلى تَصْحِيح ذَلِك فَالْكَلَام فِي الْقيَاس وَتَعْلِيق الْأَحْكَام بالأوصاف الْمُنَاسبَة الْمُقْتَضِيَة لَهَا دون الْأَوْصَاف الطردية الَّتِي لَا مُنَاسبَة فِيهَا فَيجْعَل الأول ضابطا للْحكم دون الثَّانِي لَا يُمكن إِلَّا على إِثْبَات هَذَا الأَصْل فَلَو تَسَاوَت الْأَوْصَاف فِي نَفسهَا لانسد بَاب الْقيَاس والمناسبات وَالتَّعْلِيل بالحكم والمصالح ومراعات الْأَوْصَاف المؤثرة دون الْأَوْصَاف الَّتِي لَا تَأْثِير لَهَا
فصل وَإِذا قد انتهينا فِي هَذِه المسئلة إِلَى هَذَا الْموضع وَهُوَ بحرها
ومعظمها فلنذكر سرها وغايتها وأصولها الَّتِي أَثْبَتَت عَلَيْهَا فبذلك تتمّ الْفَائِدَة فَإِن كثيرا من الْأُصُولِيِّينَ ذكروها مُجَرّدَة وَلم يتَعَرَّضُوا لسرها وَأَصلهَا الَّذِي أَثْبَتَت عَلَيْهِ وللمسئلة ثَلَاثَة أصُول هِيَ أساسها
الأَصْل الأول هَل أَفعَال الرب تَعَالَى وأوامره معللة بالحكم والغايات وَهَذِه من أجل مسَائِل التَّوْحِيد الْمُتَعَلّقَة بالخلق وَالْأَمر بِالشَّرْعِ وَالْقدر الأَصْل الثَّانِي أَن تِلْكَ الحكم الْمَقْصُودَة فعل يقوم بِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى قيام الصّفة بِهِ فَيرجع إِلَيْهِ حكمهَا ويشتق لَهُ اسْمهَا أم يرجع إِلَى الْمَخْلُوق فَقَط من غير أَن يعود إِلَى الرب مِنْهَا حكم أَو يشتق لَهُ مِنْهَا اسْم الأَصْل الثَّالِث هَل تعلق إِرَادَة الرب تَعَالَى بِجَمِيعِ الْأَفْعَال تعلق وَاحِد فَمَا وجد مِنْهَا مُرَاد لَهُ مَحْبُوب مرضى طَاعَة كَانَ أَو مَعْصِيّة وَمَا لم يُوجد مِنْهَا فَهُوَ مَكْرُوه لَهُ مبغوض غير مُرَاد طَاعَة كَانَ أَو مَعْصِيّة فَهُوَ يحب الْأَفْعَال الْحَسَنَة الَّتِي هِيَ منشأ الْمصَالح وَأَن لم يَشَأْ تكوينها وإيجادها لِأَن فِي مَشِيئَة لإيجادها فَوَات حِكْمَة أُخْرَى هِيَ أحب إِلَيْهِ مِنْهَا وَيبغض الْأَفْعَال القبيحة الَّتِي هِيَ منشأ الْمَفَاسِد ويمنعها ويمقت أَهلهَا وَأَن شَاءَ تكوينها وإيجادها لما تستلزمه من حكمه ومصلحة هِيَ أحب إِلَيْهِ مِنْهَا
وَلَا بُد من توَسط هَذِه الْأَفْعَال فِي وجودهَا فَهَذِهِ الْأُصُول الثَّلَاثَة عَلَيْهَا مدَار هَذِه المسئلة ومسائل الْقدر وَالشَّرْع وَقد اخْتلف النَّاس فِيهَا قَدِيما وحديثا إِلَى الْيَوْم فالجبرية تَنْفِي الْأُصُول الثَّلَاثَة وَعِنْدهم أَن الله لَا يفعل لحكمة وَلَا يَأْمر لَهَا وَلَا يدْخل فِي أمره وخلقه لَام التَّعْلِيل بِوَجْه وَإِنَّمَا هِيَ لَام الْعَاقِبَة كَمَا لَا يدْخل فِي أَفعاله بَاء السَّبَبِيَّة وَإِنَّمَا هِيَ بَاء المصاحبة وَمِنْهُم من يثبت الأَصْل الثَّالِث وينفي الاصلين الْأَوَّلين كَمَا هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ للأشعري وَقَول كثير من أَئِمَّة أَصْحَابه وَأحد الْقَوْلَيْنِ لأبي الْمَعَالِي وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الْمُعْتَزلَة إِثْبَات الأَصْل الأول وَهُوَ التَّعْلِيل بالحكم والمصالح وَنفي الثَّانِي بِنَاء على قواعدهم الْفَاسِدَة فِي نفي الصِّفَات
فَأَما الأَصْل الثَّالِث فهم فِيهِ ضد الجبرية من كل وَجه فهما طرفا نقيض فأنهم لَا يثبتون لأفعال الْعباد سوى الْمحبَّة لحسنها والبغض لقبحها وَأما الْمَشِيئَة لَهَا فعندهم أَن مَشِيئَة الله لَا تتَعَلَّق بهَا بِنَاء مِنْهُم على نفي خلق أَفعَال الْعباد فَلَيْسَتْ عِنْدهم إِرَادَة الله لَهَا إِلَّا بِمَعْنى محبته لحسنها فَقَط وَأما قبيحها فَلَيْسَ مُرَاد الله بِوَجْه وَأما الجبرية فعندهم انه لم يتَعَلَّق بهَا سوى الْمَشِيئَة والإرادة وَأما الْمحبَّة عِنْدهم فَهِيَ نفس الْإِرَادَة والمشيئة فَمَا شاءه فقد أحبه ورضيه وَأما أَصْحَاب القَوْل الْوسط وهم أهل التَّحْقِيق من الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء والمتكلمين فيثبتون الْأُصُول الثَّلَاثَة فيثبتون الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة بِالْفِعْلِ فِي أَفعاله تَعَالَى وأوامره ويجعلونها عَائِدَة إِلَيْهِ حكما ومشتقا لَهُ اسْمهَا فالمعاصي كلهَا مقوتة مَكْرُوهَة وَإِن وَقعت بمشيئته وخلقه والطاعات كلهَا محبوبة لَهُ مرضية وَإِن لم يشاها مِمَّن لم يطعه وَمن وجدت مِنْهُ فقد تعلق بهَا الْمَشِيئَة وَالْحب فَمَا لم يُوجد من أَنْوَاع الْمعاصِي فَلم تتَعَلَّق بِهِ مَشِيئَة وَلَا محبته وَمَا وجد مِنْهَا تعلّقت بِهِ مَشِيئَته دون محبته وَمَا لم يُوجد من الطَّاعَات الْمقدرَة تعلق بهَا محبته دون مَشِيئَته وَمَا وجد مِنْهَا تعلق بِهِ محبته ومشيئته وَمن لم يحكم هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة لم يسْتَقرّ لَهُ فِي مسَائِل الحكم وَالتَّعْلِيل والتحسين والتقبيح قدم بل لَا بُد من تناقضه ويتسلط عَلَيْهِ خصومه من جِهَة نَفْيه لوَاحِد مِنْهَا وَلِهَذَا لما رأى الْقَدَرِيَّة والجبرية أَنهم لَو سلمُوا للمعتزلة شَيْئا من هَذِه تسلطوا عَلَيْهِم بِهِ سدوا على أنفسهم الْبَاب