المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل والأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط العلمية - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل مِفْتَاح دَار السَّعَادَة

- ‌فصل الشَّرَائِع كلهَا فِي أُصُولهَا وَإِن تباينت متفقة مركوز حسنها فِي

- ‌فصل وَقد أنكر تَعَالَى على من نسب إِلَى حكمته التَّسْوِيَة بَين الْمُخْتَلِفين

- ‌فصل وَتَحْقِيق هَذَا الْمقَام بالْكلَام فِي مقامين أَحدهمَا فِي الْأَعْمَال خُصُوصا

- ‌فصل وَأما المسئلة الثَّانِيَة وَهِي مَا تَسَاوَت مصْلحَته ومفسدته فقد اخْتلف

- ‌فصل وَهَهُنَا سر بديع من أسرار الْخلق وَالْأَمر بِهِ يتَبَيَّن لَك حَقِيقَة الْأَمر

- ‌فصل وَأما مَا خلقه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ أوجده لحكمة فِي إيجاده فَإِذا اقْتَضَت

- ‌فصل فَهَذِهِ أقوى أَدِلَّة النفاة باعترافهم بِضعْف مَا سواهَا فَلَا حَاجَة بِنَا

- ‌فصل وَإِذا قد انتهينا فِي هَذِه المسئلة إِلَى هَذَا الْموضع وَهُوَ بحرها

- ‌فصل وَقد سلم كثير من النفاة أَن كَون الْفِعْل حسنا أَو قبيحا بِمَعْنى

- ‌فصل إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَالْكَلَام على كَلِمَات النفاة من وُجُوه:

- ‌فصل والأسماء الْحسنى وَالصِّفَات الْعلَا مقتضية لآثارها من الْعُبُودِيَّة

- ‌فصل وَعكس هَذَا أَنه لم تشْتَرط الْمُكَافَأَة فِي علم وَجَهل وَلَا فِي كَمَال

- ‌فصل وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الْإِيجَاب فِي حق الله سَوَاء الْأَقْوَال فِيهِ كالأقوال

- ‌فصل وَقد ظهر بِهَذَا بطلَان قَول طائفتين مَعًا الَّذين وضعُوا لله شَرِيعَة

- ‌فصل وَأما مَا ذكره الفلاسفة من مَقْصُود الشَّرَائِع وان ذَلِك لاستكمال

- ‌فصل وَهَذِه الكمالات الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرهَا الفلاسفة للنَّفس لَا بُد مِنْهَا

- ‌فصل وَرَأَيْت لبَعض فضلائهم وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى رِسَالَة

- ‌فصل فلنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرسَالَة قَالَ زَعَمُوا أَن الْقَمَر والزهرة

- ‌فصل قَالَ صَاحب الرسَالَة ذكر جمل من احتجاجهم والاحتجاج عَلَيْهِم من إوكد

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بِالْآيَاتِ الدَّالَّة على أَن الله سُبْحَانَهُ وضع حركات

- ‌فصل وَأما ماذكره عَن إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن أَنه تمسك بِعلم النُّجُوم حِين

- ‌فصل وَأما الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق

- ‌فصل وَأما استدلاله بقوله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا} فَعجب من الْعجب فَإِن هَذَا من اقوى الْأَدِلَّة وأبينها على بطلَان قَول المنجمين والدهرية الَّذين يسندون جَمِيع مَا فِي الْعَالم من الْخَيْر وَالشَّر إِلَى النُّجُوم وحركاتها واتصالاتها ويزعمون أَن مَا تَأتي

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه كَانَ اعْتِمَاده فِي

- ‌فصل وَأما استدلاله بِأَن النَّبِي نهى عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن اسْتِقْبَال

- ‌فصل وَأما استدلاله بِحَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي إِذا ذكر الْقدر

- ‌فصل وَالَّذِي أوجب للمنجمين كَرَاهِيَة السّفر وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَب انهم قَالُوا

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ من الْأَثر عَن عَليّ أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ

- ‌فصل وَأما احتجاجه بِحَدِيث أبي الدَّرْدَاء لقد توفّي رَسُول الله وَتَركنَا

- ‌فصل وَأما مَا نسبه إِلَى الشافعى من حكمه بالنجوم على عمر ذَلِك الْمَوْلُود

- ‌فصل وَأما قَوْله إِن هَذَا علم مَا خلت عَنهُ مِلَّة من الْملَل وَلَا

- ‌فصل وَأما مَا ذكره فِي أَمر الطالع عَن الْفرس وَأَنَّهُمْ كَانُوا يعتنون بطالع

- ‌فصل الْآن الْتَقت حلقتا البطان وتداعى نزال الْفَرِيقَانِ نعم وَهَهُنَا أَضْعَاف

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد أَن عمر بن

- ‌فصل وَأما محبَّة النَّبِي التَّيَمُّن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره وشأنه كُله

- ‌فصل وَأما قَوْله الشؤم فِي ثَلَاث الحَدِيث فَهُوَ حَدِيث صَحِيح من رِوَايَة

- ‌فصل وَأما الْأَثر الَّذِي ذكره مَالك عَن يحيى بن سعيد جَاءَت امْرَأَة إِلَى

- ‌فصل وَأما قَول النَّبِي للَّذي سل سَيْفه يَوْم أحد شم سَيْفك فَإِنِّي

- ‌فصل وَأما مَا احْتج بِهِ وَنسبه إِلَى قَوْله وقدت الْحَرْب لما رأى

- ‌فصل وَأما استقباله الجبلين فِي طَرِيقه وهما مسلح ومخرىء وَترك

- ‌فصل وَأما كَرَاهِيَة السّلف أَن يتبع الْمَيِّت بِشَيْء من النَّار أَو أَن يدْخل

- ‌فصل وَأما تِلْكَ الوقائع الَّتِي ذكروها مِمَّا يدل على وُقُوع مَا تطير بِهِ

- ‌فصل وَمِمَّا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَتَطَيَّرُونَ بِهِ ويتشاءمون مِنْهُ العطاس كَمَا

- ‌فصل وَأما قَوْله لَا يُورد ممرض على مصح فالممرض الَّذِي إبِله مراض والمصح

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا مَا روى عَنهُ من نَهْيه عَن وَطْء الغيل وَهُوَ

- ‌فصل وَيُشبه هَذَا قَوْله للَّذي قَالَ لَهُ إِن لي أمة وَأَنا أكره

- ‌فصل وَأما قَضِيَّة المجذوم فَلَا ريب أَنه روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ

الفصل: ‌فصل والأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية

وَلَو عرف الْقَوْم صِفَات الْأَرْوَاح وأحكامها لعلموا أَن طَاعَة من لَا تجب عِبَادَته محَال وَأَن من أَتَى بِصُورَة الطَّاعَة خوفًا مُجَردا عَن الْحبّ فَلَيْسَ بمطيع وَلَا عَابِد وانما هُوَ كالمكره أَو كأجير السوء الَّذِي أَن أعْطى عمل وان لم يُعْط كفر وأبق وَسَيَرِدُ عَلَيْك بسط الْكَلَام فِي هَذَا قريب عَن أَن شَاءَ الله وَالْمَقْصُود أَن الطَّاعَة وَالْعِبَادَة الناشئة عَن محبَّة الْكَمَال وَالْجمال أعظم من الطَّاعَة الناشئة عَن رُؤْيَة الْأَنْعَام وَالْإِحْسَان وَفرق عَظِيم بَين مَا تعلق بالحي الَّذِي لَا يَمُوت وَبَين مَا تعلق بالمخلوق وان شَمل النَّوْعَيْنِ اسْم الْمحبَّة وَلَكِن كم بَين من يحبك لذاتك وأوصافك وجمالك وَبَين من يحبك لخيرك ودراهمك

‌فصل والأسماء الْحسنى وَالصِّفَات الْعلَا مقتضية لآثارها من الْعُبُودِيَّة

وَالْأَمر اقتضاءها لآثارها من الْخلق والتكوين فَلِكُل صفة عبودية خَاصَّة هِيَ من موجباتها ومقتضياتها أعنى من مُوجبَات الْعلم بهَا والتحقق بمعرفتها وَهَذَا مطرد فِي جَمِيع أَنْوَاع الْعُبُودِيَّة الَّتِي على الْقلب والجوارح فَعلم العَبْد بتفرد الرب تَعَالَى بالضر والنفع وَالعطَاء وَالْمَنْع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يُثمر لَهُ عبودية التَّوَكُّل عَلَيْهِ بَاطِنا ولوازم التَّوَكُّل وثمراته ظَاهرا وَعلمه بسمعه تَعَالَى وبصره وَعلمه وَأَنه لَا يخفى عَلَيْهِ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض وَأَنه يعلم السِّرّ وأخفى وَيعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفى الصُّدُور يُثمر لَهُ حفظ لِسَانه وجوارحه وخطرات قلبه عَن كل مَالا يرضى الله وَأَن يَجْعَل تعلق هَذِه الْأَعْضَاء بِمَا يُحِبهُ الله ويرضاه فيثمر لَهُ ذَلِك الْحيَاء بَاطِنا ويثمر لَهُ الْحيَاء اجْتِنَاب الْمُحرمَات والقبائح ومعرفته بغناه وجوده وَكَرمه وبره وإحسانه وَرَحمته توجب لَهُ سَعَة الرَّجَاء وتثمر لَهُ ذَلِك من أَنْوَاع الْعُبُودِيَّة الظَّاهِرَة والباطنة بِحَسب مَعْرفَته وَعلمه وَكَذَلِكَ مَعْرفَته بِجلَال الله وعظمته وعزه تثمر لَهُ الخضوع والاستكانة والمحبة وتثمر لَهُ تِلْكَ الْأَحْوَال الْبَاطِنَة أنواعا من الْعُبُودِيَّة الظَّاهِرَة هِيَ موجباتها وَكَذَلِكَ علمه بِكَمَالِهِ وجماله وَصِفَاته العلى يُوجب لَهُ محبَّة خَاصَّة بِمَنْزِلَة أَنْوَاع الْعُبُودِيَّة فَرَجَعت الْعُبُودِيَّة كلهَا إِلَى مُقْتَضى الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وارتبطت بهَا ارتباط الْخلق بهَا فخلقه سُبْحَانَهُ وَأمره هُوَ مُوجب أَسْمَائِهِ وَصِفَاته فِي الْعَالم وآثارها ومقتضاها لِأَنَّهُ لَا يتزين من عباده بطاعتهم وَلَا تشينه معصيتهم وَتَأمل قَوْله فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي يرويهِ عَن ربه تبارك وتعالى يَا عبَادي أَنكُمْ لن تبلغوا ضرى فتضروني وَلنْ تبلغوا نفعي فتنفعوني ذكر هَذَا عقب قَوْله يَا عبَادي إِنَّكُم تخطئون بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَأَنا أَغفر الذُّنُوب جَمِيعًا فاستغفروني أَغفر لكم فتضمن ذَلِك أَن مَا يَفْعَله تَعَالَى بهم فِي غفران زلاتهم وَإجَابَة دعواتهم وتفريج كرباتهم لَيْسَ لجلب مَنْفَعَة مِنْهُم

ص: 90

وَلَا لدفع مضرَّة يتوقعها مِنْهُم كَمَا هُوَ عَادَة الْمَخْلُوق الَّذِي ينفع غَيره ليكافئه بنفع مثله أَو ليدفع عَنهُ ضَرَرا فالرب تَعَالَى لم يحسن إِلَى عباده ليكافئوه وَلَا ليدفعوا عَنهُ ضَرَرا فَقَالَ لن تبلغوا نفعي فتنفعوني وَلنْ تبلغوا ضري فتضروني أَنِّي لست إِذا هديت مستهديكم وأطعمت مستطعمكم وكسوت مستكسيكم وأرويت مستسقيكم وكفيت مستكفيكم وغفرت لمستغفركم بِالَّذِي أطلب مِنْكُم أَن تنفعوني أَو تدفعوا عني ضَرَرا فأنكم لن تبلغوا ذَلِك وَأَنا الْغَنِيّ الحميد كَيفَ والخلق عاجزون عَمَّا يقدرُونَ عَلَيْهِ من الْأَفْعَال إِلَّا بأقداره وتيسيره وخلقه فَكيف بِمَا لَا يقدرُونَ عَلَيْهِ فَكيف يبغلون نفع الْغَنِيّ الصَّمد الَّذِي يمْتَنع فِي حَقه أَن يستجلب من غَيره نفعا أَو يستدفع مِنْهُ ضَرَرا بل ذَلِك مُسْتَحِيل فِي حَقه ثمَّ ذكر بعد هَذَا قَوْله يَا عبَادي لَو أَن أَو لكم وأخركم وانسكم وجنكم كَانُوا على أتقى قلب رجل وَاحِد مِنْكُم مَا زَاد ذَلِك فِي ملكي شَيْئا وَلَو أَن أولكم وأخركم وانسكم وجنكم كَانُوا على أفجر قلب رجل وَاحِد مِنْكُم مَا نقص ذَلِك من ملكي شَيْئا فَبين سُبْحَانَهُ أَن مَا أَمرهم بِهِ من الطَّاعَات وَمَا نَهَاهُم عَنهُ من السَّيِّئَات لَا يتَضَمَّن استجلاب نفعهم وَلَا استدفاع ضررهم كأمر السَّيِّد عَبده وَالْوَالِد وَلَده والأمام رَعيته بِمَا ينفع الْآمِر والمأمور ونهيهم عَمَّا يضر الناهي والمنهي فَبين تَعَالَى أَنه المنزه عَن لُحُوق نفعهم وضرهم بِهِ فِي إحسانه إِلَيْهِم بِمَا يَفْعَله بهم وَبِمَا يَأْمُرهُم بِهِ وَلِهَذَا لما ذكر الْأَصْلَيْنِ بعد هَذَا وَأَن تقواهم وفجورهم الَّذِي هُوَ طاعتهم ومعصيتهم لَا يزِيد فِي ملكه شَيْئا وَلَا ينقصهُ وَأَن نِسْبَة مَا يسألونه كلهم إِيَّاه فيعطيهم إِلَى مَا عِنْده كلا نِسْبَة فتضمن ذَلِك أَنه لم يَأْمُرهُم وَلم يحسن إِلَيْهِم بإجابة الدَّعْوَات وغفران الزلات وتفريج الكربات لاستجلاب مَنْفَعَة وَلَا لاستدفاع مضرَّة وَأَنَّهُمْ لَو أطاعوه كلهم لم يزِيدُوا فِي ملكه شَيْئا وَلَو عصوه كلهم لم ينقصوا من ملكه شَيْئا وَأَنه الْغَنِيّ الحميد وَمن كَانَ هَكَذَا فانه لَا يتزين بِطَاعَة عباده وَلَا تشينه معاصيهم وَلَكِن لَهُ من الحكم البوالغ فِي تَكْلِيف عباده وَأمرهمْ ونهيهم مَا يَقْتَضِيهِ ملكه التَّام وحمده وحكمته وَلَو لم يكن فِي ذَلِك إِلَّا أَنه يسْتَوْجب من عباده شكر نعمه الَّتِي لَا تحصى بِحَسب قواهم وطاقتهم لَا بِحَسب مَا يَنْبَغِي لَهُ فانه أعظم وَأجل من أَن يقدر خلقه عَلَيْهِ وَلكنه سُبْحَانَهُ يرضى من عباده بِمَا تسمح بِهِ طبائعهم وقواهم فَلَا شَيْء أحسن فِي الْعُقُول وَالْفطر من شكر الْمُنعم وَلَا أَنْفَع للْعَبد مِنْهُ فهذان مسلكان آخرَانِ فِي حسن التَّكْلِيف وَالْأَمر وَالنَّهْي

أَحدهمَا يتَعَلَّق بِذَاتِهِ وَصِفَاته وَأَنه أهل لذَلِك وان جماله تَعَالَى وكماله وأسماءه وَصِفَاته تَقْتَضِي من عباده غَايَة الْحبّ والذل وَالطَّاعَة لَهُ وَالثَّانِي مُتَعَلق بإحسانه وانعامه وَلَا سِيمَا مَعَ غناهُ عَن عباده وانه إِنَّمَا يحسن إِلَيْهِم رَحْمَة مِنْهُ وجودا وكرما لَا لمعاوضة وَلَا لاستجلاب مَنْفَعَة وَلَا لدفع مضرَّة وَأي المسلكين سلكه العَبْد أوقفهُ على محبته وبذل الْجهد

ص: 91

فِي مرضاته فَأَيْنَ هَذَانِ المسلكان من ذَيْنك المسلكين وانما أَتَى الْقَوْم من إنكارهم الْمحبَّة وَذَلِكَ الَّذِي حرمهم من الْعلم والأيمان مَا حرمهم وَأوجب لَهُم سلوك تِلْكَ الطّرق المسدودة وَالله الفتاح الْعَلِيم

الْوَجْه التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم فَلَا تكون نعمه تَعَالَى ثَوابًا بل ابْتِدَاء كَلَام يحْتَمل حَقًا وباطلا فان أردتم بِهِ أَنه لَا يثيبهم على أَعْمَالهم بِالْجنَّةِ وَنَعِيمهَا ويجزيهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ فَهُوَ بَاطِل وَالْقُرْآن أعظم شَاهد بِبُطْلَانِهِ قَالَ تَعَالَى فَالَّذِينَ هَاجرُوا وأخرجوا من دِيَارهمْ وأوذوا فِي سبيلي وقاتلوا وَقتلُوا لأكفرن عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلنهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ثَوابًا من عِنْد الله وَالله عِنْده حسن الثَّوَاب وَقَالَ تَعَالَى ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَتلك الْجنَّة الَّتِي أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وَقَالَ تَعَالَى أَن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة خَالِدين فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ وَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ جزاؤهم مغْفرَة من رَبهم وجنات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَنعم أجر العاملين وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم من الْجنَّة غرفا تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نعم أجر العاملين وَهَذَا فِي الْقُرْآن كثير يبين أَن الْجنَّة ثوابهم وجزاؤهم فَكيف يُقَال لَا تكون نعمه ثَوابًا على الْإِطْلَاق بل لَا تكون نعمه تَعَالَى فِي مُقَابلَة الْأَعْمَال والأعمال ثمنا لَهَا فانه لن يدْخل أحدا الْجنَّة عمله وَلَا يدخلهَا أحد إِلَّا بِمُجَرَّد فضل الله وَرَحمته وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا تقدم من النُّصُوص فَأَنَّهَا إِنَّمَا تدل على أَن الْأَعْمَال أَسبَاب لَا أعواض وأثمان وَالَّذِي نَفَاهُ النَّبِي فِي الدُّخُول بِالْعَمَلِ هُوَ نفي اسْتِحْقَاق الْعِوَض ببذل عوضه فالمثبت بَاء السَّبَبِيَّة والمنفي بَاء الْمُعَاوضَة والمقابلة وَهَذَا فصل الْخطاب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة والقدرية الجبرية تنفى بَاء السَّبَبِيَّة جملَة وتنكر أَن تكون الْأَعْمَال سَببا فِي النجَاة وَدخُول الْجنَّة وَتلك النُّصُوص وأضعافها تبطل قَوْلهم والقدرية النفاة تثبت بَاء الْمُعَاوضَة والمقابلة وتزعم أَن الْجنَّة عوض الْأَعْمَال وَأَنَّهَا ثمن لَهَا وَأَن دُخُولهَا إِنَّمَا هُوَ بمحض الْأَعْمَال والنصوص النافية لذَلِك تبطل قَوْلهم وَالْعقل وَالْفطر تبطل قَول الطَّائِفَتَيْنِ وَلَا يَصح فِي النُّصُوص والعقول إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ من التَّفْصِيل وَبِه يتَبَيَّن أَن الْحق مَعَ الْوسط بَين الْفرق فِي جَمِيع الْمسَائِل لَا يسْتَثْنى من ذَلِك شَيْء فَمَا اخْتلفت الْفرق إِلَّا كَانَ الْحق مَعَ الْوسط وكل من الطَّائِفَتَيْنِ مَعَه حق وباطل فَأصَاب الجبرية فِي نفي الْمُعَاوضَة وأخطؤا فِي نفي السَّبَبِيَّة وَأصَاب المقدرية فِي إِثْبَات السَّبَبِيَّة وأخطؤا فِي إِثْبَات الْمُعَاوضَة فَإِذا ضممت أحد نفي الجبرية إِلَى أحد إثباتي الْقَدَرِيَّة ونفيت باطلهما كنت أسعد بِالْحَقِّ مِنْهُمَا فان أردتم بِأَن نعمه لَا تكون ثَوابًا هَذَا الْقدر وَأَنَّهَا لَا تكون عوضا بل هُوَ الْمُنعم بِالْأَعْمَالِ وَالثَّوَاب وَله الْمِنَّة

ص: 92

فِي هَذَا وَهَذَا ونعمه بالثواب من غير اسْتِحْقَاق وَلَا ثمن يعاوض عَلَيْهِ بل فضل مِنْهُ وإحسان فَهَذَا هُوَ الْحق فَهُوَ المان بهدايته للأيمان وتيسيره للأعمال وإحسانه بالجزاء كل ذَلِك مُجَرّد منته وفضله قَالَ تَعَالَى يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للأيمان أَن كُنْتُم صَادِقين

الْوَجْه الْخَمْسُونَ قَوْلكُم وَإِذا تعَارض فِي الْعُقُول هَذَانِ الْأَمْرَانِ فَكيف يَهْتَدِي الْعقل إِلَى اخْتِيَار أَحدهمَا قُلْنَا قد تبين بِحَمْد الله أَنه لَا تعَارض فِي الْعُقُول بَين الْأَمريْنِ أصلا وانما يقدر التَّعَارُض بَين الْعقل والهوى وَأما أَن يتعارض فِي الْعُقُول إرشاد الْعباد إِلَى سعادتهم فِي المعاش والمعاد وتركهم هملا كالأنعام السَّائِمَة لَا يعْرفُونَ مَعْرُوفا وَلَا يُنكرُونَ مُنْكرا فَلم يتعارض هَذَانِ فِي عقل صَحِيح أبدا

الْوَجْه الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم فَكيف يعرفنا الْعقل وجوبا على نَفسه بالمعرفة وعَلى الْجَوَارِح بِالطَّاعَةِ وعَلى الرب بالثواب وَالْعِقَاب فَيُقَال وَأي استبعاد فِي ذَلِك وَمَا الَّذِي يحيله فقد عرفنَا الْعقل من الْوَاجِبَات عَلَيْهِ مَا يقبح من العَبْد تَركهَا كَمَا عرفنَا وَعرف أهل الْعُقُول وَذَوي الْفطر الَّتِي لم تتواطأ على الْأَقْوَال الْفَاسِدَة وجوب الْإِقْرَار بِاللَّه وربوبته وشكر نعْمَته ومحبته وعرفنا قبح الْإِشْرَاك بِهِ والأعراض عَنهُ ونسبته إِلَى مَا لَا يَلِيق بِهِ وعرفنا قبح الْفَوَاحِش وَالظُّلم والإساءة والفجور وَالْكذب والبهت والاثم وَالْبَغي والعدوان فَكيف نستبعد مِنْهُ أَن يعرفنا وجوبا على نَفسه بالمعرفة وعَلى الْجَوَارِح بالشكر الْمَقْدُور المستحسن فِي الْعُقُول الَّتِي جَاءَت الشَّرَائِع بتفصيل مَا أدْركهُ الْعقل مِنْهُ جملَة وبتقرير مَا أدْركهُ تَفْصِيلًا وَأما الْوُجُوب على الله بالثواب وَالْعِقَاب فَهَذَا مِمَّا تتباين فِيهِ الطائفتان أعظم تبَاين فأثبتت الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة عَلَيْهِ تَعَالَى وجوبا عقليا وضعوه شَرِيعَة لَهُ بعقولهم وحرموا عَلَيْهِ الْخُرُوج عَنهُ وشهوة فِي ذَلِك كُله بخلقه وبدعهم فِي ذَلِك سَائِر الطوائف وسفهوا رَأْيهمْ فِيهِ وبينوا مناقضتهم وألزموهم بِمَا لَا محيد لَهُم عَنهُ ونفت الجبرية أَن يجب عَلَيْهِ مَا أوجبه على نَفسه وَيحرم عَلَيْهِ مَا حرمه على نَفسه وجوزوا عَلَيْهِ مَا يتعالى ويتنزه عَنهُ ومالا يَلِيق بجلاله مِمَّا حرمه على نَفسه وجوزوا عَلَيْهِ ترك مَا أوجبه على نَفسه مِمَّا يتعالى ويتنزه عَن تَركه وَفعل ضِدّه فتباين الطائفتان أعظم تبَاين وَهدى الله الَّذين آمنُوا أهل السّنة الْوسط للطريقة المثلى الَّتِي جَاءَ بهَا رَسُوله وَنزل بهَا كِتَابه وَهِي أَن الْعُقُول البشرية بل وَسَائِر الْمَخْلُوقَات لَا توجب على رَبهَا شَيْئا وَلَا تحرمه وَأَنه يتعالى ويتنزه عَن ذَلِك وَأما مَا كتبه على نَفسه وَحرمه على نَفسه فانه لَا يخل بِهِ وَلَا يَقع مِنْهُ خِلَافه فَهُوَ أيجاب مِنْهُ على نَفسه بِنَفسِهِ وَتَحْرِيم مِنْهُ على نَفسه بِنَفسِهِ فَلَيْسَ فَوْقه تَعَالَى مُوجب وَلَا محرم

وَسَيَأْتِي أَن شَاءَ الله بسط ذَلِك وَتَقْرِيره

الْوَجْه الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم أَنه على أصُول الْمُعْتَزلَة يَسْتَحِيل الْأَمر وَالنَّهْي والتكليف وتقديركم ذَلِك فَكَلَام لَا مطْعن فِيهِ وَالْأَمر فِيهِ كَمَا ذكرْتُمْ وان حَقِيقَة قَول الْقَوْم أَنه لَا أَمر

ص: 93

وَلَا نهي وَلَا شرع أصلا إِذْ ذَلِك إِنَّمَا يَصح إِذا ثَبت قيام الْكَلَام بالمرسل الْآمِر الناهي وَقيام الِاقْتِضَاء والطلب وَالْحب لما أَمر بِهِ والبغض لما نهى عَنهُ فَأَما إِذا لم يثبت لَهُ كَلَام وَلَا إِرَادَة وَلَا اقْتِضَاء وَلَا طلب وَلَا حب وَلَا بغض قَائِم بِهِ فانه لَا يعقل أصلا كَونه آمُر وَلَا ناهيا وَلَا باعثا للرسل وَلَا محبا للطاعة باغضا للمعصية فأصول هَذِه الطَّائِفَة تعطل الصِّفَات عَن صِفَات كَمَاله فَأَنَّهَا تَسْتَلْزِم أبطال الرسَالَة والنبوة جملَة وَلَكِن رب لَازم لَا يلتزمه صَاحب الْمقَالة ويتناقض فِي القَوْل بملزومه دون القَوْل بِهِ وَلَا ريب أَن فَسَاد اللَّازِم مُسْتَلْزم لفساد الْمَلْزُوم وَلَكِن يُقَال لكم معاشر الجبرية لَا تَكُونُوا مِمَّن يرى القذاة فِي عين أَخِيه وَلَا يرى الْجذع الْمُعْتَرض فِي عينه فقد الزمتكم الْقَدَرِيَّة مَا لَا محيد لكم عَنهُ وَقَالُوا من نفى فعل العَبْد جملَة فقد عطل الشَّرَائِع وَالْأَمر وَالنَّهْي فان الْأَمر وَالنَّهْي لَا يتَعَلَّق إِلَّا بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ فَهُوَ الَّذِي يُؤمر بِهِ وَينْهى عَنهُ ويثاب عَلَيْهِ ويعاقب فَإِذا نفيتم فعل العَبْد فقد رفعتم مُتَعَلق الْأَمر وَالنَّهْي وَفِي ذَلِك أبطال الْأَمر وَالنَّهْي فَلَا فرق بَين رفع الْمَأْمُور بِهِ الْمنْهِي عَنهُ وَرفع الْمَأْمُور والمنهي نَفسه فان الْأَمر يسْتَلْزم آمُر أَو مَأْمُورا بِهِ وَلَا يَصح لَهُ حَقِيقَة إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاث وَمَعْلُوم أَن أَمر الْآمِر بِفعل نَفسه وَنَهْيه عَن نَفسه يبطل التَّكْلِيف جملَة فان التَّكْلِيف لَا يعقل مَعْنَاهُ إِلَّا إِذا كَانَ الْمُكَلف قد كلف بِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَقْدُور لَهُ التَّابِع لارادته ومشيئته وَأما إِذا رفعتم ذَلِك من الْبَين وقلتم بل هُوَ مُكَلّف بِفعل الله حَقِيقَة لَا يدْخل تَحت قدرَة العَبْد لَا هُوَ مُتَمَكن فِي الآتيان بِهِ وَلَا هُوَ وَاقع بإرادته ومشيئته فقد نفيتم التَّكْلِيف جملَة من حَيْثُ أثبتوه وَفِي ذَلِك أبطال للشرائع والرسالة جملَة قَالُوا فَلْيتَأَمَّل الْمنصف الفطن لَا البليد المتعصب صِحَة هَذَا الْإِلْزَام فَلَنْ تَجِد عَنهُ محيدا قَالُوا فَأنْتم معاشر الجبرية قدرية من حَيْثُ نفيكم الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ فان كَانَ خصومكم قدرية من حَيْثُ نفوا تعلق الْقُدْرَة الْقَدِيمَة فَأنْتم أولى أَن تَكُونُوا قدرية من حَيْثُ نفيتم فعل العَبْد لَهُ وتأثيره فِيهِ وتعلقه بمشيئته فَأنْتم أثبتم قدرا على الله وَقدرا على العَبْد أما الْقدر على الله فَحَيْثُ زعمتم أَنه تَعَالَى يَأْمر بِفعل نَفسه وَينْهى عَن فعل نَفسه وَمَعْلُوم أَن ذَلِك لَا يَصح أَن يكون مَأْمُورا بِهِ مَنْهِيّا عَنهُ فأثبتم أمرا وَلَا مَأْمُور بِهِ ونهيا وَلَا مَنْهِيّ عَنهُ وَهَذِه قدرية مَحْضَة فِي حق الرب وَأما فِي حق العَبْد فأنكم جعلتموه مَأْمُورا مَنْهِيّا من غير أَن يكون لَهُ فعل يَأْمر بِهِ وَينْهى عَنهُ فَأَي قدرية أبلغ من هَذِه فَمن الَّذِي تضمن قَوْله أبطال الشَّرَائِع وتعطيل الْأَوَامِر فليتنبه اللبيب لمواقعه هَذِه المساجلة وسهام هَذِه المناضلة ثمَّ ليختر مِنْهُمَا إِحْدَى خطتين وَلَا وَالله مَا فيهمَا حَظّ لمختار وَلَا ينجوا من هَذِه الورطات إِلَّا من أثبت كَلَام الله الْقَائِم بِهِ المتضمن لأَمره وَنَهْيه ووعده ووعيده وَأثبت لَهُ مَا أثبت لنَفسِهِ من صِفَات كَمَاله وَمن الْأُمُور الثبوتية الْقَائِمَة ثمَّ أثبت مَعَ ذَلِك فعل العَبْد واختياره ومشيئته

ص: 94

وارادته الَّتِي هِيَ منَاط الشَّرَائِع ومتعلق الْأَمر وَالنَّهْي فَلَا جبري وَلَا جهمي وَلَا قدري وَكَيف يخْتَار الْعَاقِل آراء ومذاهب هَذِه بعض لوازمها وَلَو صابرها إِلَى آخرهَا لاستبان لَهُ من فَسَادهَا وبطلانها مَا يتعجب مَعَه من قَائِلهَا ومنتحلها وَالله الْمُوفق للصَّوَاب

الْوَجْه الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم أَنه مَا من معنى يستنبط من قَول أَو فعل ليربط بِهِ معنى مُنَاسِب لَهُ إِلَّا وَمن حَيْثُ الْعقل يُعَارضهُ معنى آخر يُسَاوِيه فِي الدرجَة أَو يفضل عَلَيْهِ فِي الْمرتبَة فيتحير الْعقل فِي الِاخْتِيَار إِلَى أَن يرد شرع يخْتَار أَحدهمَا أَو يرجحه من تلقائه فَيجب على الْعَاقِل اعْتِبَاره واختياره لترجيح الشَّرْع لَهُ لَا لرجحانه فِي نَفسه فَيُقَال أَن أردتم بِهَذِهِ الْمُعَارضَة أَنَّهَا ثَابِتَة فِي جَمِيع الْأَفْعَال والأقوال الْمُشْتَملَة على الْأَوْصَاف الْمُنَاسبَة الَّتِي ربطت بهَا الْأَحْكَام كَمَا يدل عَلَيْهِ كلامكم فدعوى بَاطِلَة بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ كذب مَحْض وَكَذَلِكَ أَن أردتم أَنَّهَا ثَابِتَة فِي أَكْثَرهَا فَأَي مُعَارضَة فِي الْعقل للوصف الْقَبِيح فِي الْكَذِب والفجور وَالظُّلم واهلاك الْحَرْث والنسل والإساءة إِلَى الْمُحْسِنِينَ وَضرب الْوَالِدين واحتقارهما وَالْمُبَالغَة فِي اهانتهما بِلَا جرم وَأي مُعَارضَة فِي الْعقل للأوصاف القبيحة فِي الشّرك بِاللَّه ومشيئته وكفران نعمه وَأي مُعَارضَة فِي الْعقل للوصف الْقَبِيح فِي نِكَاح الْأُمَّهَات واستفراشهن كاستفراش الْإِمَاء والزوجات إِلَى أَضْعَاف أَضْعَاف مَا ذكرنَا مِمَّا تشهد الْعُقُول بقبحه من غير معَارض فِيهَا بل نَحن لَا ننكر أَن يكون دَاعِي الشَّهْوَة والهوى وداعي الْعقل يتعارضا فان أردتم هَذَا التَّعَارُض فَمُسلم وَلَكِن لَا يجدي عَلَيْكُم إِلَّا عكس مطلوبكم وَكَذَلِكَ أَي مُعَارضَة فِي الْعُقُول للأوصاف الْمُقْتَضِيَة حسن عبَادَة الله وشكره وتعظيمه وتمجيده وَالثنَاء عَلَيْهِ بآلائه وانعامه وصفات جَلَاله ونعوت كَمَاله وأفراده بالمحبة وَالْعِبَادَة والتعظيم وَأي مُعَارضَة فِي الْعُقُول للأوصاف الْمُقْتَضِيَة حسن الصدْق وَالْبر وَالْإِحْسَان وَالْعدْل والإيثار وكشف الكربات وَقَضَاء الْحَاجَات وإغاثة اللهفات وَالْأَخْذ على أَيدي الظَّالِمين وقمع المفسدين وَمنع الْبُغَاة والمعتدين وَحفظ عقول الْعَالمين وَأَمْوَالهمْ وَدِمَائِهِمْ وأعراضهم بِحَسب الْإِمْكَان وَالْأَمر بِمَا يصلحها ويكملها وَالنَّهْي عَمَّا يُفْسِدهَا وينقصها وَهَذِه حَال جملَة الشَّرَائِع وجمهورها إِذا تأملها الْعقل جزم أَنه يَسْتَحِيل على أحكم الْحَاكِمين أَن يشرع خلَافهَا لِعِبَادِهِ وَأما أَن أردتم أَن فِي بعض مَا يدق مِنْهَا مسَائِل تتعارض فِيهَا الْأَوْصَاف المستنبطة فِي الْعُقُول فيتحير الْعقل بَين الْمُنَاسب مِنْهَا وَغير الْمُنَاسب فَهَذَا وان كَانَ وَاقعا فَأَنَّهَا لَا تنفى حسنها الذاتي وقبح منهيها الذاتي وَكَون الْوَصْف خفى الْمُنَاسبَة والتأثير فِي بعض الْمَوَاضِع مِمَّا لَا يَدْفَعهُ وَهَذِه حَال كثير من الْأُمُور الْعَقْلِيَّة الْمَحْضَة بل الحسية وَهَذَا الطّلب مَعَ أَنه حسي تجريبي يدْرك مَنَافِع الأغذية والأدوية وقواها وحرارتها وبرودتها ورطوبتها ويبوستها فِيهِ بالحس وَمَعَ هَذَا فَأنْتم ترَوْنَ اخْتِلَاف أَهله فِي كثير من مسائلهم فِي الشَّيْء الْوَاحِد

ص: 95

هَل هُوَ نَافِع كَذَا ملائم لَهُ أَو منافر مؤذ وَهل هُوَ حَار أَو بَارِد وَهل هُوَ رطب أَو يَابِس وَهل فِيهِ قُوَّة تصلح لأمر من الْأُمُور أَولا قُوَّة فِيهِ وَمَعَ هَذَا فالاختلاف الْمَذْكُور لَا ينفى عِنْد الْعُقَلَاء مَا جعل فِي الأغذية والأدوية من القوى وَالْمَنَافِع والمضار والكيفيات لِأَن سَبَب الِاخْتِلَاف خَفَاء تِلْكَ الْأَوْصَاف على بعض الْعُقَلَاء ودفنها وَعجز الْحس وَالْعقل عَن تمييزها وَمَعْرِفَة مقاديرها وَالنّسب الْوَاقِعَة بَين كيفياتها وطبائعها وَلم يكن هَذَا الِاخْتِلَاف بِمُوجب عِنْد أحد من الْعُقَلَاء إِنْكَار جملَة الْعلم وَجُمْهُور قَوَاعِده ومسائله دَعْوَى أَنه مَا من وصف يستنبط من دَوَاء مُفْرد أَو مركب أَو من غذَاء إِلَّا وَفِي الْعقل مَا يُعَارضهُ فيتحير الْعقل وَلَو ادّعى هَذَا مُدع لضحك مِنْهُ الْعُقَلَاء مِمَّا علموه بِالضَّرُورَةِ والحس من ملاءمة الْأَوْصَاف ومنافرتها واقتضاء تِلْكَ الذوات للمنافع والمضار فِي الْغَالِب وَلَا يكون اخْتِلَاف بعض الْعُقَلَاء يُوجب إِنْكَار مَا علم بِالضَّرُورَةِ والحس فَهَكَذَا الشَّرَائِع

الْوَجْه الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ أَن قَوْلكُم إِذا قتل إِنْسَان انسانا عرض لِلْعَقْلِ هَاهُنَا آراء متعارضة مُخْتَلفَة إِلَى آخِره فَيُقَال أَن أردتم أَن الْعقل يُسَوِّي بَين مَا شَرعه الله من الْقصاص وَبَين تَركه لمصْلحَة الْجَانِي فبهت لِلْعَقْلِ وَكذب عَلَيْهِ فانه لَا يَسْتَوِي عِنْد عَاقل قطّ حسن الِاخْتِصَاص من الْجَانِي بِمثل مَا فعل وَحسن تَركه والأعراض عَنهُ وَلَا يعلم عقل صَحِيح يسوى بَين الْأَمريْنِ وَكَيف يَسْتَوِي أَمْرَانِ أَحدهمَا يسْتَلْزم فَسَاد النَّوْع وخراب الْعَالم وَترك الِانْتِصَار للمظلوم وتمكين الجناة من الْبَغي والعدوان

وَالثَّانِي يسْتَلْزم صَلَاح النَّوْع وَعمارَة الْعَالم والانتصار للمظلوم وردع الجناة والبغاة والمعتدين فَكَانَ فِي الْقصاص حَيَاة الْعَالم وَصَلَاح الْوُجُود وَقد نبه تَعَالَى على ذَلِك بقوله وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولى الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون وَفِي ضمن هَذَا الْخطاب مَا هُوَ كالجواب لسؤال مُقَدّر أَن إعدام هَذِه البنية الشَّرِيفَة وإيلام هَذِه النَّفس وإعدامها فِي مُقَابلَة إعدام الْمَقْتُول تَكْثِير لمفسدة الْقَتْل فلأية حِكْمَة صدر هَذَا مِمَّن وسعت رَحمته كل شَيْء وبهرت حكمته الْعُقُول فتضمن الْخطاب جَوَاب ذَلِك بقوله تَعَالَى وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة وَذَلِكَ لِأَن الْقَاتِل إِذا توهم أَنه يقتل قصاصا بِمن قَتله كف عَن الْقَتْل وارتدع وآثر حب حَيَاته وَنَفسه فَكَانَ فِيهِ حَيَاة لَهُ وَلمن أَرَادَ قَتله وَمن وَجه آخر وَهُوَ أَنهم كَانُوا إِذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا بِهِ كل من وجدوه من عشيرة الْقَاتِل وحيه وقبيلته وَكَانَ فِي ذَلِك من الْفساد والهلاك مَا يعم ضَرَره وتشتد مُؤْنَته فشرع الله تَعَالَى الْقصاص وَأَن لَا يقتل بالمقتول غير قَاتله فَفِي ذَلِك حَيَاة عشيرته وحيه وأقاربه وَلم تكن الْحَيَاة فِي الْقصاص من حَيْثُ أَنه قتل بل من حَيْثُ كَونه قصاصا يُؤْخَذ الْقَاتِل وَحده بالمقتول لَا غَيره فتضمن الْقصاص الْحَيَاة فِي الْوَجْهَيْنِ وَتَأمل مَا تَحت هَذِه الْأَلْفَاظ الشَّرِيفَة من الْجَلالَة والإيجاز والبلاغة والفصاحة وَالْمعْنَى

ص: 96

الْعَظِيم فصدر الْآيَة بقوله لكم الْمُؤَذّن بِأَن مَنْفَعَة الْقصاص مُخْتَصَّة بكم عَائِدَة إِلَيْكُم فشرعه إِنَّمَا كَانَ رَحْمَة بكم وإحسانا إِلَيْكُم فمنفعته ومصلحته لكم لَا لمن لَا يبلغ الْعباد ضره ونفعه ثمَّ عقبه بقوله فِي الْقصاص إِيذَانًا بِأَن الْحَيَاة الْحَاصِلَة إِنَّمَا هِيَ فِي الْعدْل وَهُوَ أَن يفعل بِهِ كَمَا فعل وَالْقصاص فِي اللُّغَة الْمُمَاثلَة وَحَقِيقَته رَاجِعَة إِلَى الِاتِّبَاع وَمِنْه قَوْله تَعَالَى وَقَالَت لأخته قصيه أَي اتبعي أَثَره وَمِنْه قَوْله فارتدا على آثارهما قصصا أَي يقصان الْأَثر ويتبعانه وَمِنْه قصّ الحَدِيث واقتصاصه لِأَنَّهُ يتبع بعضه بَعْضًا فِي الذّكر فَسمى جَزَاء الْجَانِي قصاصا لِأَنَّهُ يتبع أَثَره فيفعل بِهِ كَمَا فعل وَهَذَا أحد مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَن يفعل بالجاني كَمَا فعل فَيقْتل بِمثل مَا قتل بِهِ لتحقيق معنى الْقصاص وَقد ذكرنَا أَدِلَّة الْمَسْأَلَة من الطَّرفَيْنِ وترجيح القَوْل الرَّاجِح بِالنَّصِّ والأثر والمعقول فِي كتاب تَهْذِيب السّنَن ونكر سُبْحَانَهُ الْحَيَاة تَعْظِيمًا وتفخيما لشأنها وَلَيْسَ المُرَاد حَيَاة مَا بل الْمَعْنى أَن فِي الْقصاص حُصُول هَذِه الْحَقِيقَة المحبوبة للنفوس المؤثرة عِنْدهَا المستحسنة فِي كل عقل والتنكير كثيرا مَا يَجِيء للتعظيم والتفخيم كَقَوْلِه وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة وَقَوله ورضوان من الله أكبر وَقَوله أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى ثمَّ خص أولى الْأَلْبَاب وهم أولو الْعُقُول الَّتِي عقلت عَن الله أمره وَنَهْيه وحكمته إِذْ هم المنتفعون بِالْخِطَابِ ووازن بَين هَذِه الْكَلِمَات وَبَين قَوْلهم الْقَتْل أنفى للْقَتْل ليتبين مِقْدَار التَّفَاوُت وعظمة الْقُرْآن وجلالته

الْوَجْه الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم أَن الْقصاص اتلاف بأزاء اتلاف وعدوان فِي مُقَابلَة عدوان وَلَا يحيا الأول بقتل الثَّانِي فَفِيهِ تَكْثِير الْمفْسدَة بإعدام النفسين وَأما مصلحَة الردع والزجر واستبقاء النَّوْع فَأمر متوهم وَفِي الْقصاص اسْتِهْلَاك مُحَقّق فَيُقَال هَذَا الْكَلَام من أفسد الْكَلَام وأبينه بطلانا فانه يتَضَمَّن التَّسْوِيَة بَين الْقَبِيح وَالْحسن وَنفى حسن الْقصاص الَّذِي اتّفقت الْعُقُول والديانات على حسنه وَصَلَاح الْوُجُود بِهِ وَهل يَسْتَوِي فِي عقل أَو دين أَو فطْرَة الْقَتْل ظلما وعدوانا بِغَيْر حق وَالْقَتْل قصاصا وَجَزَاء بِحَق وَنَظِير هَذِه التَّسْوِيَة تَسْوِيَة الْمُشْركين بَين الرِّبَا وَالْبيع لِاسْتِوَائِهِمَا فِي صُورَة العقد وَمَعْلُوم أَن اسْتِوَاء الْفِعْلَيْنِ فِي الصُّورَة لَا يُوجب استواءهما فِي الْحَقِيقَة ومدعى ذَلِك فِي غَايَة المكابرة وَهل يدل اسْتِوَاء السُّجُود لله وَالسُّجُود للصنم فِي الصُّورَة الظَّاهِرَة وَهُوَ وضع الْجَبْهَة على الارض على أَنَّهُمَا سَوَاء فِي الْحَقِيقَة حق يتحير الْعقل بَينهمَا ويتعارضان فِيهِ ويكفى فِي فَسَاد هَذَا أطباق الْعُقَلَاء قاطبة على قبح الْقَتْل الَّذِي هُوَ ظلم وبغى وعدوان وَحسن الْقَتْل الَّذِي هُوَ جَزَاء وقصاص وردع وزجر وَالْفرق بَين هذَيْن مثل الْفرق بَين الزِّنَا وَالنِّكَاح بل أعظم وَأظْهر بل الْفرق بَينهمَا من جنس الْفرق بَين الْإِصْلَاح فِي الأَرْض والإفساد فِيهَا فَمَا تعَارض فِي عقل صَحِيح قطّ هَذَانِ الْأَمْرَانِ حَتَّى يتحير بَينهمَا أَيهمَا يؤثره ويختاره وقولكم أَنه

ص: 97

إِتْلَاف بأزاء إِتْلَاف وعدوان فِي مُقَابلَة عدوان فَكَذَلِك هُوَ لَكِن إِتْلَاف حسن هُوَ مصلحَة وَحِكْمَة وَصَلَاح للْعَالم فِي مُقَابلَة إِتْلَاف هُوَ فَسَاد وسفه وخراب للْعَالم فَأنى يستويان أم كَيفَ يعتدلان حَتَّى يتحير الْعقل بَين الْإِتْلَاف الْحسن وَتَركه وقولكم لَا يحيا الاول بقتل الثَّانِي قُلْنَا يحيا بِهِ عدد كثير من النَّاس إِذْ لَو ترك وَلم يُؤْخَذ على يَدَيْهِ لأهْلك النَّاس بَعضهم بَعْضًا فَإِن لم يكن فِي قتل الثَّانِي حَيَاة للْأولِ فَفِيهِ حَيَاة الْعَالم كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الالباب لَكِن هَذَا الْمَعْنى لَا يُدْرِكهُ حق الأدراك إِلَّا الوا الالباب فَأَيْنَ هَذِه الشَّرِيعَة وَهَذِه الْحِكْمَة وَهَذِه الْمصلحَة من هَذَا الهذيان الْفَاسِد وَأَن يُقَال قتل الْجَانِي إِتْلَاف بِإِزَاءِ اتلاف وعدوان فِي مُقَابلَة عدوان فَيكون قبيحا لَوْلَا الشَّرْع فوازن بَين هَذَا وَبَين مَا شَرعه الله وَجعل مصَالح عبَادَة منوطة بِهِ وقولكم فِيهِ تَكْثِير الْمفْسدَة بإعدام النفسين فَيُقَال لَو اعطيتم رتب الْمصَالح والمفاسد حَقّهَا لم ترضوا بِهَذَا الْكَلَام الْفَاسِد فَإِن الشَّرَائِع وَالْفطر والعقول متفقة على تَقْدِيم الْمصلحَة الراحجة وعَلى ذَلِك قَامَ الْعَالم وَمَا نَحن فِيهِ كَذَلِك فَإِنَّهُ احْتِمَال لمفسده إِتْلَاف الْجَانِي إِلَى هَذِه الْمفْسدَة الْعَامَّة فَمن تحير عقله بَين هذَيْن المفسدتين فلفساد فِيهِ والعقلاء قاطبة متفقون على أَنه يحسن إِتْلَاف جُزْء لِسَلَامَةِ كل كَقطع الاصبع أَو الْيَد المتأكلة لِسَلَامَةِ سَائِر الْبدن وَلذَلِك يحسن الايلام لدفع إيلام أعظم مِنْهُ كَقطع الْعُرُوق وبط الْخراج وَنَحْوه فَلَو طرد الْعُقَلَاء قياسكم هَذَا الْفساد وَقَالُوا هَذَا إيلام مُحَقّق لدفع إيلام متوهم لفسد الْجَسَد جملَة وَلَا فرق عِنْد الْعُقُول بَين هَذَا وَبَين قياسكم فِي الْفساد

الْوَجْه السَّادِس وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم أَن مصلحَة الردع والزجر وإحياء النَّوْع أَمر متوهم كَلَام بَين فَسَاده بل هُوَ أَمر مُتَحَقق وُقُوعه عَادَة وَيدل عَلَيْهِ مَا نشاهده من الْفساد الْعَام عِنْد ترك الجناة والمفسدين وإهمالهم وَعدم الاخذ على ايديهم والمتوهم من زعم أَن ذَلِك موهوم وَهُوَ بِمَثَابَة من دهمه الْعَدو فَقَالَ لَا نعرض أَنْفُسنَا لمَشَقَّة قِتَالهمْ فَإِنَّهُ مفْسدَة متحققة وَأما استيلاؤهم على بِلَادنَا وَسَبْيهمْ ذرارينا وَقتل مقاتلنا فموهوم

فيا لَيْت شعري من الواهم المخطيء فِي وهمه وَنَظِيره أَيْضا أَن الرجل إِذا تبيغ بِهِ الدَّم وتضرر إِلَى اخراجه لَا يتَعَرَّض لشق جلده وَقطع عروقه لِأَنَّهُ ألم مُحَقّق لَا موهوم وَلَو اطرد هَذَا الْقيَاس الْفَاسِد لخرب الْعَالم وتعطلت الشَّرَائِع والاعتماد فِي طلب مصَالح الدَّاريْنِ وَدفع مفاسدهما مَبْنِيّ على هَذَا الَّذِي سميتموه أَنْتُم موهوما فالعمال فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يتصرفون بِنَاء على الْغَالِب الْمُعْتَاد الَّذِي اطردت بِهِ الْعَادة وَإِن لم يجزموا بِهِ فَإِن الْغَالِب صدق الْعَادة واطرادها عِنْد قيام أَسبَابهَا فالتاجر يحمل مشقة السّفر فِي الْبر وَالْبَحْر بِنَاء على أَنه يسلم ويغنم فَلَو طرد هَذَا الْقيَاس الْفَاسِد وَقَالَ السّفر مشقة متحققة وَالْكَسْب مر موهوم لتعطلت أسفار النَّاس بِالْكُلِّيَّةِ وَكَذَلِكَ عُمَّال الْآخِرَة لَو قَالُوا تَعب الْعَمَل ومشقة

ص: 98

أَمر مُحَقّق وَحسن الخاتمة أَمر موهوم لعطلوا الْأَعْمَال جملَة وَكَذَلِكَ الاجراء والصناع والملوك والجند وكل طَالب امْر من الامور الدُّنْيَوِيَّة والأخروية لَوْلَا بِنَاؤُه على الْغَالِب وَمَا جرت بِهِ الْعَادة لما احْتمل الْمَشَقَّة المتيقنة لأمر منتظر وَمن هَاهُنَا قيل أَن إِنْكَار هَذِه المسئلة يسلتزم تَعْطِيل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة من وُجُوه مُتعَدِّدَة

الْوَجْه السَّابِع وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم ويعارضه معنى ثَالِث وراءهما فيفكر الْعقل فِي انواعه وشروط أُخْرَى وَرَاء مُجَرّد الانسانية من الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْعلم وَالْجهل والكمال وَالنَّقْص والقرابة والاجنبية فيتحير الْعقل كل التحير فَلَا بُد إِذا من شَارِع يفصل هَذِه الخطة ويعين قانونا يطرد عَلَيْهِ امْر الامة ويستقيم عَلَيْهِ مصالحهم

فَيُقَال لَا ريب أَن الشَّرَائِع تَأتي بِمَا لَا تستقل الْعُقُول بإدراكه فَإِذا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة اهْتَدَى الْعقل حِينَئِذٍ إِلَى وَجه حسن مأموره وقبح منهيه فسرته الشَّرِيعَة على وَجه الْحِكْمَة والمصلحة الباعثين اشرعه فَهَذَا مِمَّا لَا يُنكر وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا فِيهِ ان الشَّرَائِع تَأتي بمجازات الْعُقُول لَا بمحالات الْعُقُول وَنحن لم نَدع وَلَا عَاقل قطّ أَن الْعقل يسْتَقلّ بِجَمِيعِ تفاصيل مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة بِحَيْثُ لَو ترك وَحده لاهتدى إِلَى كل مَا جَاءَت بِهِ إِذا عرف هَذَا فغاية مَا ذكرْتُمْ أَن الشَّرِيعَة الْكَامِلَة اشْترطت فِي وجوب الْقصاص شُرُوطًا لَا يَهْتَدِي الْعقل إِلَيْهَا وَأي شَيْء يلْزم من هَذَا وماذا يقبح لكم ومنازعكم يسلمونه لكم وقولكم ان هَذَا معَارض للوصف الْمُقْتَضى لثُبُوت الْقصاص من قيام مصلحَة الْعَالم إِمَّا غَفلَة عَن الشُّرُوط الْمُعَارضَة وَإِمَّا إصْلَاح طَار سيم فِيهِ مَالا يَهْتَدِي الْعقل إِلَيْهِ من شُرُوط اقْتِضَاء الْوَصْف لموجبه مُعَارضَة فيالله الْعجب أَي مُعَارضَة هَا هُنَا إِذا كَانَ الْعقل والفطرة قد شَهدا بِحسن الْقَتْل قصاصا وانتظامه للْعَالم وتوقفا فِي اقْتِضَاء هَذَا الْوَصْف هَل يضم إِلَيْهِ شُرُوط آخر غَيره أم يَكْفِي بِمُجَرَّد وَفِي تعْيين تِلْكَ الشُّرُوط فَأدْرك الْعقل مَا اسْتَقل بإدراكه وَتوقف عَمَّا لَا يسْتَقلّ بإدراكه حَتَّى اهْتَدَى إِلَيْهِ بِنور الشَّرِيعَة يُوضح هَذَا

الْوَجْه الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ أَن مَا وَردت بِهِ الشَّرِيعَة فِي اصل الْقصاص وشروطه منقسم إِلَى قسمَيْنِ أَحدهمَا مَا حسنه مَعْلُوم بِصَرِيح الْعقل الَّذِي لَا يستريب فِيهِ عَاقل وَهُوَ اصل الْقصاص وانتظام مصَالح الْعَالم بِهِ وَالثَّانِي مَا حسنه مَعْلُوم بِنَظَر الْعقل وفكره وتأمله فَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ إِلَّا الْخَواص وَهُوَ مَا اشْترط اقْتِضَاء هَذَا الْوَصْف أَو جعل تَابعا لَهُ فَاشْترط لَهُ الْمُكَافَأَة فِي الدّين وَهَذَا فِي غَايَة المراعاة للحكمة والمصلحة فَإِن الدّين هُوَ الَّذِي فرق بَين النَّاس فِي الْعِصْمَة وَلَيْسَ فِي حِكْمَة الله وَحسن شَرعه أَن يَجْعَل دم وليه وَعَبده وَأحب خلقه إِلَيْهِ وَخير بريته وَمن خلقه لنَفسِهِ واختصه بكرامته واهله لجواره فِي جنته والنطر إِلَى وَجهه وَسَمَاع كَلَامه فِي دَار كرامته كَدم عدوه وامقت خلقه عَلَيْهِ وَشر بريته والعادل بِهِ عَن عِبَادَته إِلَى عبَادَة الشَّيْطَان الَّذِي خلقه للنار وللطرود عَن بَابه والإبعاد عَن رَحمته وَبِالْجُمْلَةِ فحاشا حكمته أَن يسوى بَين دِمَاء خير الْبَريَّة وَدِمَاء شَرّ

ص: 99