الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصوماليين والسداما وباعد بينهم وبين تلك المراكز الصغيرة من مراكز الثقافة. على أنه يجب علينا أن ننظر بعين الاعتبار لذلك الفرض الذى يقول إن وجود أمارات ثقافة أرفع من الثقافة الصومالية الحالية ماثلة فى بعض الأقطار الداخلية ينسبها الأهالى إلى الأجوران أو المادنلة يجيز لنا أن نرجع تلك الثقافة إلى قوم من الصوماليين كانوا على صله وثيقة بعرب الساحل الجنوبى، وذلك أقرب من أن نردها إلى قوم من الأهالى تأثروا بثقافة دول سداما الشمالية.
وظلت بلاد الصومال فى الداخل على هذه الحال حتى نهاية القرن التاسع عشر، حين احتلت فرنسا (سنة 1884) وبريطانيا (سنة 1884) وإيطاليا (سنة 1889) مستعمراتها الحالية.
و- الإسلام:
الصوماليون جميعا مسلمون يتبعون المذهب الشافعى. ولم يعمد إمام مسقط ولا سلاطين زنجبار أثناء حكمهم القصير للساحل الصومالى إلى نشر آرائهم الإباضية بأية حال بين الشعوب الصومالية. ومن ثم لم يبق منذ رحيل والى السلطان عن بلاد الصومال أى أثر من آثار المذهب الإباضى. ويمكن أن نجد بين العرب الذين هاجروا حديثا إلى بلاد الصومال عساكر أو عمالا فى مستعمرات الأوربيين، عددًا من الزيدية وإن كان هؤلاء بصفة عامة لا يجهرون بمذهبهم.
وإن اختلاف تكوين سكان الساحل عن سكان الداخل واختلاف ما أصاب التاريخ هؤلاء وهؤلاء من تغيير قد جعل أثر الإسلام فى كل فريق مختلفا عن الآخر. ذلك أن مدن الساحل التى ظلت عدة قرون متصلة بمراكز الثقافة الإسلامية وانتظمت فى جماعات من أرباب الحرف يرتبط أهلها بالروابط التى تصل أهل الحضر بعضهم ببعض ولا يرتبطون بالوشائج التى تصل بين أهل القبيلة جميعًا، قد يسر بطبيعة الحال الأسباب التى تجعلهم أكثر اصطباغًا بالإسلام من قبائل الداخل التى درجت على الاستقلال من سكان الساحل والشعور بالعداوة لهم وسوء الظن فيهم؛ وقد توطدت بين هذه
القبائل فى منازلها الواسعة دعائم الوحدة التى تقوم على الأصل المشترك. ولم تجد الدعوة الإسلامية بدًا من أن تصارع هناك ما نشأت عليه القبائل من وثنية وعرف سائد. ومن ثم كانت الدعامة التى يرتكز عليها نشر الإسلام هى إقامة الطرق الدينية. ولذلك يجب علينا أن نلم بهذه العناصر الثلاثة التى تكونت منها الثقافة الصومالية الدينية ألا وهى: بقايا الوثنية القديمة فى الداخل؛ والثقافة الإسلامية على الساحل؛ والطرق الدينية.
ويمكن أن نذكر من بقايا الوثنية شعيرة "السار" ولعلها رقص دينى قديم. فالأهالى يحتشدون فى حلقة ويبدأ المنشدون فى الإنشاد على إيقاع خاص. ويسقط واحد منهم أو أكثر على الأرض مغشيا عليه، ويمضى الآخرون فى إحياء "السار" بالإنشاد والتصفيق بالأيدى أو الضرب بالأقدام أو بقرع الطبول والقدور. ثم ينهض المغشى عليه رويدًا، رويدًا ويمسك فى يديه خنجرًا، ويرقص فى الحلقة وقد أشهر الخنجر حتى يغشى عليه مرة أخرى، ولكنه لا يلبث أن ينهض وقد أفاق من كل ما نزل به. ويقام السار أيضا بالميسم النارى بدل الخنجر. وعند الساب يخرج الراقص ويجرى فى الأجمة المجاورة. ثم يعود كاشفًا فى صيحات عالية عن خنجره وقد تلطخ بالدم الذى يقال إنه دم الجنى الذى قتله.
ومن الشعائر الوثنية الأخرى العيد الصومالى الذى يقام فى أول العام؛ وللصوماليين سنة شمسية من 365 يومًا وكل سبع سنوات دورة، وكل سنة تسمى باسم يوم من أيام الأسبوع. وتسمى كل دورة باسم أهم حادث وقع فيها. ومن ثم يستشهد الهوية بـ "إسنينتا أوراح مدو" أى سنة الاثنين للشمس السوداء (ولا شك أنها سميت بذلك لما وقع فيها من كسوف الشمس). ويستشهد الساب بـ "سيدى فرنجى" أى سنة السبت للأوربى، وفى ذلك إشارة إلى رحلات الكابتن بوتيكو فى أرضهم. ويحتفل بمطلع العام الجديد بعيد يسمى الـ "دبشد" وهو عيد شائع مشهور جدًا، تشعل فيه كل أسرة شعلة بالقرب من كوخها، ثم
يجتاز رأس الأسرة النار بالقفز من جانب إلى جانب، أو يدير حربته كالزوبعة وسط النار.
وينبغى أن نذكر الاعتقاد الشائع فى استمرار حياة الأم بعد الوفاة؛ ووجوب تزويد الميت بالطعام والكساء بالتضحية بالأنعام قرب قبره وتوزيع اللحم وقماش القطن على المساكين، إذ يقال إنهم هم الوسيلة إلى إيصال الطعام إلى الميت؛ ومن ثم نشأت عادة أن يخصص فى الوصايا جزء كبير من الميراث لإقامة هذه الشعائر (ما يدفن مع المرء عند الوفاة) وما نجده من عناية حانية يبذلها الأبناء والأقارب "لكنس القبر" أى التقدم بهذه الأضاحى من حين إلى حين. ونجد أيضا آثار الأفكار الوثنية ماثلة فى القوى السحرية التى لشيخ القبيلة بحكم الوراثة، وعين هذا الشيخ بالنسبة إليه كالشمس بالنسبة لإله السماء القديم عند الكوشيين الوثنيين. و"العين الحارة" لهذا الشيخ هى التى تزيد فى نماء الأنعام أو تنقصه، وتصيب بالعقم، وتجلب العافية أو المرض. وقد استبدل الفقهاء المسلمون بالسحرة الوثنيين القدماء، ولو أن الفقهاء قد احتفظوا بالاسم القديم "وداد" وأصبح من الممكن أيضا أن تلتمس عندهم القوى السحرية. ونوال البركة يتوسل إليه بالتفل كما كانت الحال أيام الوثنية. ورأس الذبيحة من الحيوان وبطنها ومخالبها تعد فى نظر الإسلام عند الصوماليين نجسة طبقًا للعقائد الكوشية الوثنية.
ويطلق الآن الاسمان الصوماليان لإله السماء (إبّا، واق) على اللَّه، بل إن اسم الجنى الوثنى (غرل؛ بلغة كالا: قولو؛ وبالأمهرية: قوله) يستعمل فى اللهجات الحديثة للدلالة على القسمة أو النصيب.
وقد كانت مقاومة العرف الصومالى للإسلام أشد من ذلك وأدهى، ذلك أن هذا العرف يقوم على مرحلة من مراحل التطور الاجتماعى شبيهة كل الشبه بالحياة العربية أيام الجاهلية، ولذلك فإنه يختلف اختلافا بينا عن الشريعة الإسلامية. ونستطيع هنا أن نستشهد ببعض الأحكام الأساسية المتعلقة بزواج الأخ بزوجة أخيه إذا توفى ولم يعقب،
والثمن الذى تؤديه الأرملة لأقارب زوجها المتوفى حين ترغب فى الزواج من رجل غير إخوته (ومما تجدر ملاحظته أن العرف الصومالى يقضى بألا يكون أولاد الزوج الثانى، وهو أخو الزوج المتوفى، أبناء للزوج الأول واستمرارًا لذريته كما هى الحال عند الساميين، بل إن الأمر على العكس من ذلك فذرية الزوج الأول يعدون أولادًا للزوج الثانى)؛ وجواز الزواج بالاغتصاب؛ والدية التى تعد فى نظر الصوماليين تعويضًا يؤديه القاتل، وقد نشأ هذا التعويض من أن الجريمة تكسب أهل القتيل حقًا على القاتل بحكم الجرم الذى اقترفه؛ وحرمان المرأة من حقوق الميراث؛ والجماعات المنبوذة التى لا يباح للمرء الزواج من بناتها أو الاتصال بها بأية حال، ذلك أنها فى حالة نجاسة دائمة (لاحظ البراعة فى صبغ هذه العادة القديمة بالصبغة الإسلامية)؛ وزواج الأباعد، وهى عادة لا يزال لها وجود عند القبائل الشمالية؛ والآثار المشهورة لزيجات تعقد بين قبيلتين أكثر من عقدها بين الأفراد. إما على الساحل، فى مراكز الثقافة الإسلامية، وخاصة بعد ما طرأ من زيادة رواج التجارة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، فإننا نجد أن آثار الفقهاء المسلمين قد أثمرت زادًا محليًا قليلا فى التأليف باللغة العربية وخاصة فى الموضوعات الصوفية. وأهم الكتب المطبوعة هى:"المجموعة المباركة" للشيخ عبد اللَّه بن يوسف، وهو مواطن من جماعة شيخال طبع كتابه فى القاهرة؛ و"مجموعة القصائد" للشيخ قاسم بن محيى الدين، من أهل براوى، وهذا الكتاب ليس إلا ديوانا لكثير من الشعراء الصوماليين؛ على أن المجموعة المباركة قد قسمها الشيخ عبد اللَّه إلى خمس مقالات فى التصوف، ولكن همه الحق قد صرفه إلى المقالة الثالثة والمقالة الرابعة، وقد سمى الثالثة:"السكين الذابحة على الكلاب النابحة" وسمى الرابعة: "نصر المؤمنين على المردة الملحدين" وهذه المقالة رد شديد على الطريقة الصالحية. ومن الفقهاء الصوماليين البارزين الشيخ عويس محمد البراوى، وقد نظم الشيخ عويس، علاوة على القصيدتين اللتين
نشرتا فى مجموعة القصائد التى أسلفنا ذكرها، خمس قصائد باللغة الصومالية كتبها بالحروف العربية، فكان هو الوحيد الذى جرى على هذه السنة. وهجا بالقصيدة الأولى من هذه القصائد الخمس أتباع مُد ملا. ويجدر بنا أن نذكر أيضا الشيخ عبد الرحمن الزيلعى الذى نظم عدة قصائد صوفية بالعربية (أكثرها شهرة:"سراج العقول والسرائر فى التوصل بالشيخ عبد القادر أى، الجيلانى"). وثمت فقيه صومالى آخر هو الشيخ عبد الرحمن ابن عبد اللَّه من جماعة شانشيه فى مقدشو، وقد اشتهر بالشيخ الصوفى، وهو مؤلف كتاب "شجرة اليقين" أو "النبذة اليقينية فى معجزات خير البرية" وقد نشر فى "المجموعة المباركة" ولها شهرة مستفيضة بين مذاهب الصوفية عند الصوماليين.
وثمت مخطوط عشر عليه فى براوى، وهو يشمل ترجمة لهمزية البوصيرى فى أبيات باللغة السواحلية. وأغلب الظن أن الأبحاث التى أعقبت ذلك سوف تؤدى إلى ظهور مخطوطات أخرى قديمة أو وثائق بالعربية والصومالية.
وببلاد الصومال أربع طرق صوفية إسلامية هى: القادرية؛ والأحمدية وهم أتباع أحمد بن إدريس الذى توفى فى النصف الأول من القرن التاسع عشر فى صبياء بعسير؛ والصالحية، وهى فرع حديث من الأحمدية (ورأس هذه الطريقة وصاحبها هو محمد صالح الذى كان مركز طريقته فى مكة وأخذ العهد على الصوفى السودانى إبراهيم الرشيدى مريد أحمد بن إدريس)؛ والرفاعية، وهم أتباع السيد أحمد الرفاعى. والقادرية التى تضم جل الفقهاء أصحاب التواليف الصوفية المشار إليها آنفا هم أكثر أرباب الطرق الصومالية علما وأعظمهم تمشيا مع الأفكار الحديثة. وليس لهذه الطريقة من المنازل إلا القليل، كما أنها لا تتبع تنظيما سياسيًا ما، وإنما تنصرف إلى التعليم أكثر من انصرافها إلى الزراعة. وقد دبت الفرقة بين القادرية فى بلاد الصومال والصالحية منذ عدة سنوات، والسبب الأول لذلك هى الردود التى رد بها القادرية على مد ملا الذى كان قد بدأ حملاته فى الدعوة بالقول بأنه هو نفسه التابع الحق لمحمد صالح ودفع
أتباع هذا الملا إلى قتل الشيخ عويس بن محد البراوى سنة 1327 هـ (1909). وبدأت المناظرات مرة أخرى بين الطريقتين، ولو أنها كانت فى هذه المرة أقل عنفًا، وذلك بعد نشر كتاب "المجموعة المباركة" للشيخ عبد اللَّه وقصيدة للشيخ قاسم محيى الدين البراوى حيث رد على الصالحية بترديد عبارة:"لكم دينكم ولى دينى".
أما الصالحية فكانوا على العكس من القادرية، قد شغلوا أنفسهم خاصة بالسعى إلى بسط سلطانهم السياسى على القبائل، وإقامة نظام يعتمد على الجماعات الزراعية وخاصة على ضفاف الأنهار. وقد كانت القيادة فى حركة الملا، وقد الفتنة التى أشعلها السيد محمد يوسف على الحبشة فى وادى ويب سنة 1917 لزعماء من الصالحية. وفى الجانب الآخر، كان هدف الصالحية الأراضى السوداء على طول وادى شبيلا، وهى خير الأراضى وإن كان البدو الصوماليون لم يقدروها فيما سبق حق قدرها وأستخدموها فى رعى الماشية وحسب، ذلك أن الصالحية استغلوا فى براعة المشاحنات التى دبت بين القبائل، وغير ذلك من الظروف السياسية وحاولوا أن يحصلوا من هذه القبائل على خير المناطق الصالحة للزراعة.
وأما الأحمدية فعددهم أقل من سائر الطرق الصوفية؛ وقد وجهوا همهم شأن الصالحية، إلى الحصول على الأراضى، وإن كانوا ينصرفون إلى التعليم أكثر من الصالحية. والقادرية والأحمدية ليس عندهم نظام طبقى بمعنى الكلمة، على حين نجد الصالحية فى بلاد الصومال الإيطالية يقودهم شيخ زاوية مصره (فى منتصف وادى شبيلا) وهو نائب محمد صالح فى الإقليم كله.
والقضاء الوطنى يقوم به فى بلاد الصومال الايطالية قاض مسلم، إلا فى بعض الجرائم والقضايا ذات الصبغة السياسية. وأحكام هذا القاضى تبدأ بعبارة: باسم اللَّه الرحمن الرحيم إنا نحكم بشريعة الإسلام باستخلاف الملك المعظم ملك الإيطالية. . . " (1)
(1) كان ذلك وقت كتابة هذه قبل استقلال الصومال.