الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العربية؛ كما دفعت مثل العرب فى الفروسية، التى تسرى فى كل قصة من قصصهم، روكر وبلاطه إلى أن ينهجوا نهجًا جديدًا فى المغامرة الأوروبية التى قصد بها روكر أن يزيد من رفعة اسمه واسم أسرته.
وما من حاكم كان أشد من روكر إدراكًا لعظم ما غنم بامتلاكه صقلية، فحماها كل الحماية من المؤامرات. السياسية والمنافسات الدينية، ولكن سرعان ما حل اليوم الذى احتقر فيه أبناؤه نصيبهم فى هذا الميراث، وامتهن الفكر واللغة والعلوم والثقافة الإسلامية شيئًا فشيئًا، وجر النسيان عليها ذيوله آخر الأمر؛ ولكن "صقلية كانت أشد الممالك الأوربية تألقًا ما بقى اليونان والعرب ينعمون بالحماية وتظلهم عين الرعاية".
المصادر:
أفضل الثقاة المحدثين هو Storia dei Musulmani di Sicilia،: Michele Amari، 1854، 3 مجلدات و Biblioteca arabosicula ossia raccolta di testi arabiciche toccano la geografia، Storia، biografie e La bibliografia cella Sicilia، 1857 - وانظر أيضًا:
(1)
Declins and Fall of the Roman Empire: Gibbon، جـ 6، طبعة Bury.
(2)
History of the Moorish Empire in Europe: S.P.Scott، 1904، فى ثلاثة مجلدات.
(3)
الإدريسى: صفة المغرب، طبعة وترجمة، Dozy and de Goeje، 1866.
(4)
ابن الأثير: الكامل، طبعة Tornberg وكذلك مختارات Fagnan من العبارات المغربية.
(5)
ابن بطوطة، طبعة باريس.
صبحى [كرواثر جوردن T.Crouther Gordon]
صلاح الدين
الملك الناصر صلاح الدين يوسف الأول، وهو ابن الأمير نجم الدين أيوب، ولد فى تكريت سنة 532 هـ (1138 م)، وانتقل أبوه بعد مولده بقليل، أو بعد مولده ببضع سنوات فى بعض
الروايات، إلى الشام حيث نصبه زنكى واليا على بعلبك، وظل فى منصبه هذا (وقد أقطعه زنكى ثلث المدينة وملحقاتها) إلى ما بعد استيلاء الأتابك أبق على هذه المدينة، ونشأ صلاح الدين وإخوته فى بعلبك، فلما بلغ صلاح الدين السابعة عشرة من عمره صحب أباه إلى بلاط نور الدين حين استولى نور الدين على دمشق سنة 549 هـ (1154 م؛ انظر فيما يتصل باحتلال بعلبك ودمشق مقدمة Baalbek، in islamischer zeit فى المجلد الثالث من Baalbek، Ergebnisse der Ausgra. bungen und Untersuchungen in den Jahren 1899 - 1905 برلين 1925)، ومن العجيب أننا لا نعرف إلا القليل عن شباب صلاح الدين وتعليمه، ولم يكن لصلاح الدين شأن ما فى بلاط نور الدين، بل إن الأمير أسامة، الذى كان يقيم فى هذا البلاط، لم يكن يعرفه، كما يتبين من سيرته التى كتبها بقلمه، على أنه برز أول ما برز حين صحبه شيركوه معه فى أول حملة له على مصر سنة 559 هـ (1164 م) على كره منه (فى رواية أبى شامة دون أن يبين لذلك سببا) وكان شاور وزير الخليفة العاضد قد عُزل وحل محله منافس له هو ضرغام فاستنجد شاور بنور الدين أتابك الشام، ووعده بثلث خراج مصر، على حين طلب ضرغام من أمورى الأول Amauryi صاحب بيت المقدس مؤازرته ووعده بإتاوة كبيرة، على أن ضرغاما منى بالهزيمة وقتل قبل أن يستطيع أمورى أن يمد له يده بأية مساعدة. وأعيد شاور إلى الوزارة، ولم يف بوعده، وأراد شيركوه أن يظفر بما وعد فأمر صلاح الدين باحتلال بلبيس وناحيتها وأن يجمع منهما الخراج، فنشب على الأثر قتال حامى الوطيس، ووجد شاور نفسه فى مأزق حرج فاستنجد بالملك أمورى، ولم يجد شيركوه وصلاح الدين بدًا من التحصن ببلبيس، وأبلى الرجلان بلاء حسنا فى الدفاع عن المدينة حتى تعذر على شاور وأمورى الاستيلاء عليها، وفى هذه الأثناء استولى نور الدين على حصن حارم الهام وتقدم صوب بانياس مما اضطر أمورى إلى العودة إلى الشام لمنع نور الدين من الاستيلاء على أراض أخرى، وكان قد اتفق مع شيركوه على
أن ينسحب شيركوه من مصر ويتركها لشاور. وبلغ شيركوه الشام هو وصلاح الدين فى مستهل سنة 560 هـ (أواخر سنة 1164 م)، وقواته سليمة لم تمس، وكانت أهم نتائج هذه الحملة أن نور الدين ورجاله تبينوا ثروة مصر وقوتها التى لا بأس بها، وتاق شيركوه إلى غزو البلاد والاستقرار فيها، ولكن نور الدين لم يشأ أن يفرق جيشه لأنه كان يحارب الصليبيين، على أنه حدث بعد ثلاث سنوات فحسب أن عقد شاور حلفا جديدا مع أمورى، فتلقى شيركوه الأمر بأن شرع فى القيام بحملة أخرى على مصر، واصطحب معه صلاح الدين أيضًا (أكتوبر 1168)، "على كره منه أول الأمر"؛ وكان هدفه الأول احتلال ضفة النيل، فلما تغلب على الصعاب التى صادفته أثناء المسير وأفلت من الفرنجة، أمكنه أن يبلغ جنوبى القاهرة وأقام معسكرا حصينا قرب الجيزة، على أن أمورى سرعان ما أقبل بجنده وعسكر فى الجهة المقابلة له فى الفسطاط، وعقد فى الوقت نفسه اتفاقا خاصا بالجزية مع الخليفة نفسه، ثم هاجم أمورى شيركوه وأكرهه على التقهقر إلى الصعيد، ثم اضطره إلى الوقوف فى البابين، وخاض شيركوه القتال، بعد شئ من التردد، عملا بنصيحة صلاح الدين وبعض الأمراء، وأفلح فى هزيمة أمورى، على حين أكره صلاح الدين جيش الخليفة على أن يولى الأدبار، ولم يكن شيركوه فى مركز يسمح له بمواصلة هذا النصر، بل عاد ومعه صلاح الدين إلى الاسكندرية، ثم ترك صلاح الدين مع نصف جيشه، ومضى هو إلى الصعيد يجمع الجزية، وكانت هذه أول مرة يستقل فيها صلاح الدين بالقيادة، وتقدم أمورى صوب الإسكندرية على رأس جيشه وجيش من المصريين، وكان أسطول الصليبيين يراقب الساحل، ووجد صلاح الدين مشقة فى رد غائلة الفرنجة عن المدينة فقد حاصروها وراحوا يصلونها نارا حامية بمدفعيتهم العظيمة، ومن ثم استنجد بشيركوه وعاد شيركوه مسرعا ولم يضرب خيامه قط إلا عندما أصبح أمام القاهرة، وهنالك دخل فى مفاوضات مع أمورى لعقد صلح، وتم الصلح بينهما فى منتصف شوال سنة 562 هـ (مستهل أغسطس سنة
1167 م)، وقد تعهد شيركوه بأن يعود إلى الشام ومعه صلاح الدين، وتبادل الفريقان الأسرى، وقوبل صلاح الدين بالحفاوة والتكريم فى معسكر أمورى وزار النصارى فى الاسكندرية وزعم كل من الطرفين أنه هو المنتصر، وترك أمورى حامية فى القاهرة كما ترك إدارة لجمع الخراج، وربما كان الخوف من انتصارات نور الدين هو السبب الأكبر فى عقد معاهدة الصلح، على أن أمورى لم يحافظ على الصلح، ذلك أن مستشاريه زينوا له غزو مصر بعد أربعة عشر شهرا فحسب، كما أن حاميتيه فى الاسكندرية والقاهرة نصحتاه بالاستيلاء على مصر نهائيا، فتقدم صوب بلبيس واستولى عليها فى 29 من المحرم سنة 564 هـ (2 نوفمبر سنة 1168 م)، وأعمل القتل فى جميع سكانها فلم يترك منهم أحدا أو يكاد، وقد نفر منه المصريون لهذه الوحشية، ثم تقدم صوب القاهرة، وسعى الوزير شاور إلى إشعال النار فى الفسطاط رغبة منه فى حماية المدينة، ويقال إنها ظلت تحترق 54 يوما، ومنع الدخان المتصاعد من الحريق أمورى من تخير مكان مناسب لمحاصرة القاهرة، وأسرع الخليفة ما وسعه الأسراع إلى إيفاد الرسل للاستنجاد بنور الدين، على حين كان شاور يفاوض أمورى؛ وأوفد نور الدين شيركوه ومعه صلاح الدين، وكان صلاح الدين لا يزال متأثرا بما لقيه من بلاء خلال حصار الإسكندرية، وإنما قرر الذهاب مع شيركوه بعد شئ من التردد، وزود بالرجال والجياد والسلاح. وحاول أمورى أن يعترض طريق شيركوه دون جدوى، وفى غرة ربيع الثانى سنة 564 هـ (2 يناير سنة 1169 م) راح يتقهقر، ولم تنقض بضعة أيام حتى ظهر شيركوه أمام القاهرة وحياه أهل المدينة تحية المنقذ، على أن شاور ظل يناصبه العداء، ودبر أن يأسره هو وأمراءه فى عيد من الأعياد، واتصلت هذه الخيانة بعلم شيركوه ورجاله فقرر صلاح الدين أن يتخلص منه، وقبض على شاور بينما كان راكبا فى جوار القاهرة وأمر بقتله، وسر الخليفة إذ تخلص من وزيره المستبد، وأقام شيركوه وزيرا فى السابع عشر من ربيع الثانى سنة 564 هـ (18 يناير سنة 1169 م)، إلا
أنه لم ينقض شهران على ذلك حتى توفى شيركوه، وظن الخليفة أن صلاح الدين سيكون له خادما مطيعا لما اتسم به من دماثة الخلق فعينه وزيرا ولقبه "بالملك الناصر"(25 من جمادى الآخرة = 26 من مارس)، وبعث إليه نور الدين خطاب تهنئة اعترف له فيه بأنه قائد جند الشام، ومنذ ذلك الحين ظهرت عظمة صلاح الدين، فقد اجتمع له علاوة على القوة والبأس اللذين أتاحتهما له الظروف المواتية موهبة عظيمة عرف كيف يفيد منها. وإذا كان حتى ذلك الحين قد تردد فى وقف حياته على الحرب حتى أن نور الدين كان يعمد إلى حمله حملا أو يكاد على الاشتراك فى الحملات على مصر، وإذا كان أيضًا لم يهتم بشئ قدر اهتمامه بالمجادلات الفقهية الكلامية ولم يكن يظهر أمام الناس إلا قليلا جدا كما مر بنا، فإنه قد عزف عن ذلك كله فصدف عن المجادلات الكلامية لا يمارسها إلا فى أوقات فراغه على سبيل التسلية. وقد وضحت السبيل أمامه: وهى أن يكفل السلطان له ولأسرته، وأن يكبح جماح الشيعة، وأن يقاتل الصليبيين حتى النهاية، وقد استطاع أن يحقق هذه الأهداف إلى حد كبير، لأن الطريق كان ممهدا له بغض النظر تماما عن قدرته وحميته، إذ لولا ما أتاه نور الدين من قبل من أعمال، ولولا قدرة أبيه أيوب السياسية، واضمحلال الخلفاء الفاطميين، بل لولا المشاحنات الداخلية بين الصليبيين، لما استطاع قط أن يحرز تلك الانتصارات العظيمة فى حياته بالقدر الذى أتيح له، ويرجع ذلك إلى انعدام الوحدة أصلا بين ولاة المسلمين؛ لقد كان صلاح الدين أقرب إلى السياسى منه إلى القائد، يأخذ بنصيحة مستشاريه المقتدرين، وكان بارعا موفقا فى اختيار معاونيه، دون أن يترك بحال زمام السلطان يفلت من يده، وكان يدير ديوانه رجلان من أهل العلم يلقب كل منهما بالوزير، وهما القاضى الفاضل، ثم عماد الدين الكاتب الإصفهانى، وقد اشتهر كلاهما فى رسائله بجمال العبارة ورشاقة اللفظ، وكانا يراسلان باستمرار كبار العمال وأصدقاء صلاح الدين من الولاة، وإن المرء ليذهل من غزارة رسائل صلاح الدين وما كانت تحتويه من التقارير السرية الضافية،
وقد التحق القاضى ابن شداد، كاتب سيرته، بخدمته فى تاريخ متأخر، أى من سنة 584 هـ (1188 م)، بوصفه كاتبه الخاص.
وملك صلاح الدين زمام الحكم فى مصر، وأثار عداء الحرس السودان (النوبيين والأحباش) الذين كانوا قد جلبوا إلى القاهرة جنودا مرتزقة فاستولوا على السلطان فى ظل الخلفاء الضعفاء وشغلوا المناصب ذات الشأن فى البلاط وفى الحكومة، وانضم إليهم الجميع، ذلك أنهم وهم من غلاة الشيعة كانوا يميلون إلى السخط على صلاح الدين واعتناقه مذهب أهل السنة، وأرسل كبير الحجاب فى قصر الخليفة يستنجد بالملك أمورى، على أنه قبض على رسوله ففشلت الخطة، وقتل الخصى ووضع مقر الخليفة تحت حماية رجال يمكن الاعتماد عليهم، ومن ثم تمرد الحرس السود فى القاهرة فأحرق صلاح الدين منازلهم ليستطيِع التغلب عليهم، ولكنهم هربوا إلى الجيزة وهناك استأصل شأفتهم جنود صلاح الدين، ولم يرتض الفرنجة حكم صلاح الدين فقد عدوه بحق مصدر تهديد لبيت المقدس، فأرسلوا الرسل يطلبون بصفة عاجلة العون من فرنسا وألمانيا وإنجلترا والإمبراطور البوزنطى والبابا، ونجحوا فى الحصول على جيش يحمله أسطول من السفن سار إليهم من القسطنطينية، كما أرسلت إليهم قوة ثانوية من إيطاليا الجنوبية، واتفق البوزنطيون والفرنجة على الاستيلاء على دمياط أولا ثم السير إلى القاهرة، واستنجد صلاح الدين بنور الدين، ذلك أنه وجد نفسه مضطرًا إلى أن يدفع عن نفسه شر الفرنجة والبوزنطيين من ناحية، وأن يحسب حساب المصريين الذين لم تكن تهدأ لهم ثائرة قط من ناحية أخرى، وكذلك طلب أن ترسل إليه النجدات تحت إمرة أبيه، فى الوقت الذى طلب فيه أيضًا من أفراد أسرته أن يقفوا إلى جانبه فى القاهرة.
ولعل انتصارات الفرنجة والبوزنطيين كانت حقيقة بأن تكون أكبر وأعظم لو لم يطل الحصار أكثر مما كان مقدرًا له بفضل حمية المدافعين؛ وأخذ الجيش البوزنطى يعانى
من نقص المؤن، وساور أمورى الشك فى الحصول على نصر كامل فآثر أن يفاوض صلاح الدين وأن يعقد معه الصلح لقاء مبلغ جسيم من المال، وربما كان الحسد والخوف قد فعلا فعلهما فى نفسه؛ وكان نور الدين قد غزا فى الوقت نفسه حوران وتهيأ لرد كرات الفرنجة، إلا أنه حدث زلزال مروع سنة 565 هـ (1170 م) أصاب المدن الشامية بدمار هائل، فاضطر الفرنجة والمسلمون على السواء إلى إلقاء أسلحتهم والشروع فى إعادة بناء المدن التى أصابها التدمير؛ وقام صلاح الدين فى السنة التالية (566) بغزوة على فلسطين وتقدم حتى بلغ الرملة وعسقلان، ثم عاد إلى مصر ليستعد للاستيلاء على ميناء أيلة على البحر الأحمر، وليكفل الاتصال شيئًا فشيئًا بين مصر وفلسطين، ونجح فى السنة نفسها فى الاستيلاء على أيلة، وفى السنة التالية (567) أجاب نور الدين إلى رغبته فحذف اسم الخليفة الفاطمى من خطبة الجمعة، واستمر فى ذكر اسم الخليفة العباسى، وسرعان ما توفى الخليفة العاضد بعد ذلك، ويخالجنا الشك فى أنه مات ميتة طبيعية، ويقول الكتاب المسيحيون إنه إما أن يكون قد انتحر وإما أن يكون توران شاه أخو صلاح الدين قد قتله عملا بأوامر أخيه، ويقال إن نور الدين قد سره كل السرور أن ينتهى حكم الفاطميين، وعندما بلغ مسامع الخليفة العباسى نبأ امتداد رقعة أراضيه أرسل بعض كساوى التشريف إلى نور الدين، على أن هذه الكساوى لم تكن تليق بمركز نور الدين (بوصفه واليا)، ومن ثمّ فإنه، وإن كان قد ارتداها فعلا، فقد أرسلها فى الحال مع رسول الخليفة إلى صلاح الدين.
وسرعان ما غشيت سحابة العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين، ذلك أن صلاح الدين فى القاهرة كان يعد فى نظره مستقلا أكثر مما يجب، فقد كان معه أبوه وإخوته، وبذلك خلت يد نور الدين من الرهائن، فلما أراد صلاح الدين تنفيذ خطته الخاصة بتأمين المواصلات بين مصر وفلسطين اقترح على نور الدين حصار الشوبك والكرك، وخرج هو ليقوم بهذا الحصار، على أنه
عندما رحل نور الدين إلى الكرك نصح صلاح الدين أمراؤه بألا يشخص إليه، خشية على سلامته، وعمل بنصحهم وعاد أدراجه، واعتذر بعدم استقرار الأحوال فى مصر، وغضب نور الدين لذلك، وحشد الجند لقتال صلاح الدين، وعرف هذا الأمر فى بلاط صلاح الدين فرأى بعض أمرائه أن يقاتل، إلا أن أباه كان يخشى من هيبة نور الدين العظيمة فنصحه بأن يكتب إليه خطابًا يعلن فيه طاعته، ومن ثم عادت العلاقات بينهما إلى التحسن، إلا أن الشك الذى كان يساور كل منهما حيال الآخر لم يتبدد، ومن ثمّ لم يتم الاستيلاء على المدينتين المذكورتين الكرك والشوبك، بل إن صلاح الدين لم يبذل ما وسعه من الجهد لعون مولاه على الصليبيين، وقصد صلاح الدين الكرك فى السنة التالية، ولكنه انسحب مرة أخرى معتذرا بمرض أبيه عندما تقدم نور الدين، ثم استقر قرار صلاح الدين فى هذا الموقف العسير على أن يكفل لنفسه ولأسرته مركزًا مأمونا على نحو يرضى نور الدين، فأوفد أخوه توران شاه سنة 569 هـ (1173/ 4 م) فى حملة على عبد النبى الشيعى الذى كان قد استولى على اليمن، وأفلح توران شاه فى طرده وغزا اليمن، وعمل على أن يذكر اسمه فى الخطبة بعد الخليفة بوصفه واليا، وأرسل الرسل إلى صلاح الدين الذى أبلغ الأمر إلى نور الدين والخليفة، على أن مركز صلاح الدين كان لا يزال مهددا، وخاصة أنه اضطر إلى مواجهة فتنة أخرى فى ربيع ذلك العام، وقرر نور الدين حينئذ أن يمتشق الحسام لقتاله، وكان معظم السبب فى ذلك أنه غضب لازدياد سطوة الصليبيين من جراء نكوص صلاح الدين، وكان قد حشد جيشا حين دهمه مرض خطير فى دمشق، وتوفى بعد بضعة أيام فى الحادى عشر من شوال (15 من مايو)، ومن ثمّ تخلص صلاح الدين من هم ثقيل وأصبح حرا فى دعم سلطانه، ثم اعترف بالملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الذى كان قد بلغ الحادية عشرة من عمره، وانصرف بشخصه إلى قتال النورمانديين الذين ينزلون صقلية، وكانوا قد ظهروا أمام الإسكندرية بأسطول قوى فى نهاية عام 569 هـ
(1173/ 4 م)، وأنزلوا بحارتهم إلى البر، وما إن انقضت ثلاثة أيام حتى كانوا قد منوا بالهزيمة، وقتل معظمهم بمعاونة الجنود الذين كانوا قد أنفذوا لإمداد الحامية القوية، وظفر صلاح الدين بغنائم لا حصر لها، وكان الملك أمورى قد توفى أيضًا قبل ذلك بوقت قليل، ومن ثم أصبح صلاح الدين آمنا يتمتع بسلطان واسع، وبات يستطيع الانصراف كلية إلى أمنية حياته، وهى قتال الصليبيين، وبدأ بتوجيه التفاتة إلى الشام التى دعاه إليها أمراء دمشق سنة 570 هـ (1174 م)، ووجد الحالة هناك لا تسر، إذ لم يكن بين المسلمين شخصية ذات إرادة تهديهم، ولذلك وجد بحق، كما وجد نور الدين من قبله حين تعرض لموقف مثل موقفه، أن الضرورة كل الضرورة تقتضيه أن يتولى السلطان الحقيقى فى الشام ولو إلى حين، لأنه كان قيلا من الأقيال التابعين للصالح إسماعيل الذى حاول أن يقيم من نفسه وصيا عليه، وجرت الأمور على غير ما يشتهى أول الأمر حين امتشق الحسام لقتال أمراء إسماعيل وزعم بأنه سيخلص إسماعيل منهم، بل إن حلب نفسها قاومته، كما قاومته حماه وحمص وبعلبك، وجاء الغازى عم إسماعيل من بلاد الجزيرة على رأس جيش عرمرم، مما جعل صلاح الدين مستعدا لأن يعقد صلحا فى مصلحة الملك الصالح إسماعيل، على أن شروطه لم تقبل، ومن ثم وجد صلاح الدين نفسه مكرها على القتال، وأعلن استقلاله وحذف اسم الصالح إسماعيل من الخطبة؛ وقد كان هذا القرار فى مصلحة صلاح الدين إذ منى العدو بهزيمة منكرة فى قرون حماة؛ على أن صلاح الدين أظهر تسامحا كبيرا، فقد ترك حلب فى حوزة إسماعيل، وكان لا يخشى منه أى ضرر وأقطع بعض أقاربه حماة وحمص وبعلبك وكانت قد استسلمت له استسلاما بلا قتال. وفى شهر ذى القعدة سنة 570 هـ (مايو 1175 م) منحه الخليفة بناء على طلبه ولاية مصر والنوبة واليمن والمغرب، من مصر حتى طرابلس وفلسطين والشام الوسطى، ومن ثم اعتبر نفسه سلطانًا، كما يقرر أبو الفداء صراحة، وكذلك اعتبره معاصروه، على أنه لم يتخذ لنفسه هذا
اللقب بل سمى نفسه سلطان الإسلام والمسلمين، وقام الحزب الزنكى بمحاولة أخيرة لعزل صلاح الدين، وانتهت هذه المحاولة بعد بضعة معارك وحصار حلب للمرة الثالثة بصلح فى أواخر سنة 571 هـ (آخر يونية سنة 1176 م) وترك لصلاح الدين آخر الأمر الأراضى التى غزاها، ثم حاصر صلاح الدين بعدئذ حليفا لإسماعيل هو الشيخ سنان زعيم الحشاشين، أو شيخ الجبل كما كان يلقب فى قلعته بمسيد، وكان الشيخ سنان قد أنفذ رجاله الحشاشين لقتال صلاح الدين بضع مرات، على أن صلاح الدين لم يستطع الاستيلاء على مسيد، ذلك أن الحشاشين المتعصبين دافعوا عنها بعنف وقوة، فرفع صلاح الدين الحصار عنها وتلقى من سنان وعدًا بألا يعود لمهاجمته، ومن ثم تمكن من القضاء على هذا الخطر أيضًا وعاد إلى مصر.
وقد عد صلاح الدين بناء القلعة التى كان قد بدأها فى هذا العام عملا على جانب عظيم من الأهمية فى القاهرة؛ وفى جمادى الأولى سنة 573 هـ (نوفمبر سنة 1177 م) قام فجأة بحملة سريعة على فلسطين وخرب المنطقة المحيطة بغزة وعسقلان، وقاومه الملك بلدوين الرابع Baldwin IV، بيد أنه اضطر إلى الانسحاب إزاء تفوق صلاح الدين الظاهر، ومن ثم تفرق جنود صلاح الدين وأعملوا يد السلب والنهب فى البلاد، على حين جمع بلدوين الداوية وكثيرا من الفرسان تحت إمرة راينالد Raynald صاحب الكرك، وظهر ثانية على مسرح القتال؛ ووجد صلاح الدين نفسه مضطرًا أول الأمر إلى أن يجمع جيشه الجرار، والتقى الجيشان جنوبى الرملة، وأظهر فرسان الداوية بسالة عظيمة فى القتال انتهت بهزيمة منكرة لجيش صلاح الدين فى غرة جمادى الآخرة سنة 573 هـ (1177 م)، بالرغم من تفوقه، وكان النصر مفاجئا حتى ظن الصليبيون أنه تحقق بمعجزة، وقيل إن صلاح الدين نفسه أفلت من الأسر بشق الأنفس، ووقع فى الأسر ابن أخيه وغيره من القادة ورجال العلم الذين كانوا فى حاشيته؛ وأقيمت صلاة للشكر فى بيت المقدس تكريما لهذا النصر، وكان من آثار هذه الهزيمة أن
شيد الملك بلدوين فى العام التالى (574 هـ = 1178 م) حصنا على جسر بنات يعقوب فوق نهر الأردن، مكنه من السيطرة على هذا النهر وعلى السهل الممتد حتى بانياس، ولم يكن فى مقدور صلاح الدين أن يحول بينه وبين ذلك، وعرض صلاح الدين على الملك تعويضا قدره 100.000 دينار إذا أقلع عن هذا البناء، ولكنه لم يفز بطائل، فاضطر إلى الحملة على الحصن، وأنفذ ابن أخيه وأقدر قواده عز الدين فرخ شاه للحملة على بلدوين الذى أصيب بنكسة فى أواخر سنة 574 هـ (مايو 1179 م)، وأفلح صلاح الدين بعد انقضاء سنة فى أن يلحق به هزيمة نكراء فى مرج العيون فى الثانى من المحرم سنة 575 هـ (10 يونيه سنة 1179 م)، ووقع فى الأسر عدد كبير من الفرنجة المشهورين واستولى صلاح الدين بعد شهرين على الحصن القائم على جسر بنات يعقوب وسّواه بالأرض، ولم يقع قتال على نطاق واسع فى السنة التالية؛ وفى المحرم من سنة 576 هـ (يونيه - 1180 م) عقد بلدوين هدنة مدتها سنتان مع صلاح الدين، وفى السنة التالية توفى إسماعيل صاحب حلب وابن نور الدين؛ وقد خلفه ابن عمه عز الدين مسعود الذى أوصى له وهو على فراش الموت، وكان جنديا مقتدرا إلا أنه بادل أخاه زنكى الثانى سنجار بحلب رغبة منه فى الحصول على أملاك موحدة، وفى هذه الأثناء نشبت الحرب بين صلاح الدين والفرنجة على إثر الغزوات المتصلة التى كان يقوم بها راينالد ده شاتييون Raynald de Chatillion أمير الكرك، على القوافل المتجهة إلى مصر؛ على أن زنكى الثانى عقد الصلح مع الفرنجة، بيد أن صلاح الدين سعى إلى أن يسيطر وحده على بلاد المسلمين وشغل نفسه فى بضع السنوات التالية بغزو بقية الشام (حلب)، وكان ذلك فى صفر سنة 579 هـ (يونية 1183 م)، والسيطرة على أرض الجزيرة باحتلال أهم المدن وردها إقطاعات كما كانت، ولم يكن ثمة صلح دائم مع الصليبيين، ولكن الجانبين تفاديا القتال على نطاق واسع، وفى السنة نفسها عقد صلح مدته أربع سنوات بين بلدوين الخامس، الوصى على رايموند الثالث Raymond III أمير
طرابلس، وبين صلاح الدين، وتوفى بلدوين الخامس بعد ذلك بقليل، واعتلى خليفته جى ده لوزينيان Guy de Lusignan العرش فى السنة التالية بالرغم من اعتراض رايموند، وعكر راينالد ده شاييون صفاء السلام مرة أخرى، إذ خرج من الكرك وانقض على قافلة كبيرة، وأبى أن يقدم ترضية أو يعطى تعويضا. وغضب صلاح الدين لذلك غضبا شديدا، وفى أواخر سنة 582 هـ (فبراير 1187 م) غزا منطقة الكرك ودعا جنوده المصريين إلى حماية الحجاج العائدين من مكة، على حين احتشد جنوده الشوام فى حارم، وأدرك الصليبيون الخطر الشديد المحدق بهم، فعقد جى الصلح مع رايموند، وراحت الجنود تفد من كل حدب وصوب حتى استطاع جى أن يحشد جيشما قوامه 30.000 رجل، واتخذ هذا الجيش مركزه فى صفورية، وفى السابع عشر من ربيع الثانى سنة 583 هـ (26 يونية سنة 1187 م)، وصل صلاح الدين إلى جنوبى بحر الخليل واستولى على مدينة طبرية بعد حصار دام ستة أيام، ولم يثبت له إلا الحصن وحده. وحاول رايموند عبثا أن يحذر الصليبيين من ترك مركزهم المأمون الذى يتوفر فيه الماء إبان حمارة القيظ، واعتقد أعداؤه بأنه عقد اتفاقا مع صلاح الدين فنصحوا الملك بأن يحمل على السلطان، فأمر بالسير صوب طبرية وضرب خيامه فى حطين لقضاء الليل، حيث لم يجد الجيش حتى ما يكفيه من الماء، ومنى الصليبيون بهزيمة منكرة بالرغم مما أبدوه من بلاء عظيم، ووقع الملك وعدد كبير من الفرسان فى الأسر، واستقبل صلاح الدين الملك استقبالا حافلا، ألا أنه قتل بيده راينالد، الذى كان قد عكر صفو السلام، وجعل أمراءه وقضاته يقتلون جميع الداوية وفرسان القديس يوحنا، وكما كفلت له وقعة قرون حماة السيطرة على الشام، كذلك كفلت له معركة حطين الفاصلة السيطرة على فلسطين وبيت المقدس، وسقطت فى يده حصون طبرية والناصرة، والسامرة وصيداء وبيروت وبترون وعكا والرملة وغرة وحبرون ثم سار صوب بيت المقدس واستولى على بيت لحم والبثنية وجبل الزيتون، فى رجب 853 هـ (سبتمبر سنة
1187 م)؛ وضرب صلاح الدين خيامه أول الأمر غربى المدينة، ودافع أهلها عن أنفسهم دفاعا مجيدا، بيد أنه عندما هاجم المدينة من مركز أكثر صلاحية فى الشمال واستخدم المنجنيقات لقذف القذائف الثقيلة اضطرت المدينة إلى التسليم فى نهاية الشهر؛ واستطاع أهل اليسار أن يفتدوا أنفسهم، أما أولئك الذين لم يستطيعوا افتداء أنفسهم فقد بيعوا عبيدا، ولكن بعض ذوى المكانة من المسلمين والنصارى تدخلوا فى الأمر فأطلق سراح بضعة آلاف أسير، كما أن صلاح الدين نفسه أطلق سراح عدد كبير من الفقراء، ولم يسمح بالإقامة إلا لعدد قليل من المرضى ومن تعهدوا بأداء ضريبة الرؤوس، ودمر كل ماله علاقة بالدين المسيحى، ورممت قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وشيدت المستشفيات والمدارس فى ذكرى هذه المناسبة العظيمة، وزاد كثير من أمراء الأيوبيين من جلال هذه الأيام بحضورهم وبما شيدوا من عمائر فخمة. ويمكننا أن نقول إن العالم الإسلامى كله قد شارك فى الاحتفال بالاستيلاء على بيت المقدس وكان ذلك أمنية يصبو المسلمون إلى تحقيقها. وأعقب هذا النصر استيلاء صلاح الدين على المدن والحصون التى كانت لا تزال مسيحية عنوة أو بغير قتال، ولم يبق فى يد المسيحيين إلا أنطاكية وطرابلس وصور وعدد من البلدان والحصون الصغيرة، على أن سوء الحظ لازم صلاح الدين بقية العام، ذلك أنه أخطأ فلم يفسح لجيشه الضعيف الذى أنهكه التعب الوقت ليسترد قوته بل مضى يحاصر صور، فمنى بهزيمة شديدة نتيجة لاستبسال حاميتها فى الدفاع عنها وما صادفه فى البحر من نكبات؛ وأعيد بناء عكا وتحصينها بعد مشاورات طويلة عقدها مع أميره قرقوش، وكان قرقوش قد أثبت كفايته بتشييد قلعة القاهرة، وحمل صلاح الدين حملة فاشلة على كوكب، ثم شخص إلى دمشق. وفى ربيع الثانى سنة 584 هـ (يونية 1188 م) دعا أمراء المسلمين فى الشام وبلاد الجزيرة وجنودهم للقيام بحملة جديدة، واستولى خلال القتال الذى نشب من بعد على اللاذقية وجبلة وصهيون وسرمين وبرزوية، ثم عقد هدنة
مدتها سبعة شهور مع بوهمند الثالث Bohemund III أمير أنطاكية؛ وعاد صلاح الدين فى غرة رمضان من العام نفسه إلى دمشق وصرف حلفاءه من لبلاد الجزيرة، ولكنه احتفظ بجنوده هو تحت السلاح رغبة منه فى الاستيلاء على صفد وكوكب والكرك والشوبك، وكانت الحملة طويلة الأجل ولكنها آتت ثمارها وانتهت فى غرة ذى القعدة سنة 585 هـ (ديسمبر سنة 1189 م) بالاستيلاء على جميع هذه البلاد.
وعندما علم غريغورى الثامن Gregory VIII بالاستيلاء على بيت المقدس أعلن الحرب الصليبية، فلما توفى واصل كليمنت الثالث Clement III، جهوده؛ وتوقفت العداوات التى كانت قائمة بين ملوك أوروبا واتخذت الخطوات للتقريب بين فيليب الثانى philip II ملك فرنسا وريتشارد الأول Richard I ملك إنجلترا؛ وكانت أول نجدة أرسلها الصليبيون الجدد أسطولا أنفذه ويليام أمير صقلية. وقد حرر هذا الأسطول طرابلس فأصبحت بذلك دعامة لموانى فلسطين، وأخذت فرق أكبر وأصغر من هذه تفد من أوروبا إلى الأرض المقدسة وتنزل إلى البر فى صور، وقام الإمبراطور فريدريك الأول Frederick I بحرب صليبية على رأس جيش كبير جهز تجهيزا حسنا، وسلك طريقه إلى الأرض المقدسة عن طريق القسطنطينية بعد أن أنذر صلاح الدين، ومن غير طائل، بأن يسلمه بيت المقدس، ولم يستطع الإمبراطور إسحق Isaac صاحب القسطنطينية أن يمنعه من المرور، وكان هذا الإمبراطور قد عقد معاهدة مع صلاح الدين ثبت عدم جدواها، وشدت النجدات الجديدة من أزر الفرنجة فبدأوا حصار عكا فى الرابع عشر من رجب سنة 585 هـ (28 أغسطس سنة 1189 م) ويعد هذا الحصار من أعظم الأعمال العسكرية التى تمت فى القرون الوسطى؛ وكان صلاح الدين قد أسر الملك جى لوزينيان والكونت مونت فرّا Montferrat عند استيلائه على بيت المقدس، إلا أنه أطلق سراحهما تلبية لطلب الملكة سيبل Sybil فى تاريخ مبكر يرجع إلى جمادى الأولى سنة 584 هـ (يوليو 1188 م)، بعد أن تعهدا بألا يمتشقا السلاح ضده
مرة أخرى؛ على أن البطريرك أحلهما من قسمهما فشرعا يحاصران عكا وهما يعتمدان على معاونة فريدريك الأول ملك ألمانيا وريتشارد الأول ملك إنجلترا وفيليب الثانى ملك فرنسا، وقوَّت من ساعدهما أول الأمر النجدات المتواصلة التى كانت تفد من كثير من البلاد الأوروبية، وقد وضح عندئذ نشاط صلاح الدين فى أجلى صوره، فقد عرف الصليبيون فى هذا القتال الذى استمر بضع سنوات السلطان العظيم وتعلموا كيف يقدرونه.
وقاد الملك جى الفرنجة إلى عكا بعد استعداد دام شهرين، ثم وصل صلاح الدين فى اليوم التالى، ونشب القتال للاستيلاء على المدينة بالبر والبحر، وقد امتاز الصليبيون على المسلمين بأن الحامية كانت فى عزلة عن البحر أو تكاد وكانت تعانى أيضًا من نقص المؤن، زد على ذلك أن الصليبيين بالرغم من أنه لم يلحق بهم فى عكا إلا عدد قليل جدا من الفرسان الألمان نظرا لوفاة فريدريك الأول، فقد كانوا يتفوقون تفوقا لاشك فيه على العرب بفضل وصول جيش فيليب وبخاصة جيش ريتشارد الأول، وبفضل استمرار وصول السفن التى تحمل المؤن والجنود، ثم إنه كان فى حورة الصليبيين مدافع حصار غاية فى الجودة، على حين كان عند المسلمين بعض الصناع المهرة الذين يصنعون القنابل الحارقة. وقد امتاز صلاح الدين على الصليبيين بالقيادة الموحدة بالرغم من أن جيشه كان قد أضناه قتال السنوات الطوال حتى إن معاونة حامية عكا ما كانت لتفيده كثيرا، ومن ثم تمرد جيشه آخر الأمر، وعرقل مساعى الصليبيين ما نشب بينهم من خلاف وما ثار من تنافس بين الملك جى والكونت مونت فرًّا وكذلك التنافس بين ريتشارد وفيليب، وزخرت السنوات التالية بالقتال فى البر والبحر، وحاول صلاح الدين عبثا أن يحصل على جيوش جديدة من الشرق مستعينا بتدخل الخليفة، وفى السابع من جمادى الآخرة سنة 587 هـ (12 يوليه 1191 م) استسلمت الحامية من تلقاء نفسها دون أن تنتظر قرار صلاح الدين، وفرض على الحصن ومن فيه
من الأسرى أن يسلموا، واتفق على إطلاق سراح رجال الحامية نظير دفع 200.000 قطعة من الذهب، وانقضى شهر دون أن يدفع هذا المبلغ، فأمر ريتشارد بأن يقتل 3000 أسير من أسرى الحرب، ولقد كان من نتيجة هذا العمل الوحشى الذى استنكره الإخباريون المسيحيون أيضًا، أن قتل المسلمون كل من كان لديهم من أسرى المسيحيين؛ وسرعان ما استولى ريتشارد بعدئذ على قيصرية وحصَّن يافا، على حين دمر صلاح الدين حصن الرملة، ثم استمرت مفاوضات الصلح منذ ذلك الحين ودون انقطاع تقريبا بين الجانبين المتقاتلين، وكان محورها الأكبر الملك العادل أخا صلاح الدين، وكان الطلبان الجوهريان اللذان طلبهما المسلمون هما التنازل عن بيت المقدس، وتسليم الصليب المقدس؛ واقترح ريتشارد بعدئذ، وكان رجلا تستحوذ عليه الأفكار الرومانسية، أن تتزوج أخته الملك العادل الذى كان من المنتظر أن يحكم بيت المقدس، وانتهج سياسة التوفيق والمسالمة فأدت إلى الصلح شيئًا فشيئا، ثم أنعم بلقب فارس على الملك الكامل ابن الملك العادل؛ وعقد الصلح بعد بضعة مواقع أخرى فى 23 من شعبان سنة 588 هـ (2 نوفمبر سنة 1192)، وقسمت اللد والرملة وسويت عسقلان بالأرض وسمح للصليبيين بأن يحجوا إلى الأماكن المقدسة دون أن يحملوا سلاحا؛ وكان السبب الرئيسى الذى حدا بريتشارد إلى عقد الصلح هو مرضه ورغبته فى العودة إلى انجلترا، وكذلك انقطاع النجدات من أوربا؛ وبالرغم من الجهود التى بذلتها أوربا بأسرها، أصبح الجانب الأكبر من فلسطين على الإسلام تحت إمرة صلاح الدين، فيما عدا شقة الأرض التى تحاذى الساحل، وأمنت أسباب الاتصال بين فلسطين والقاهرة؛ وكان صلاح الدين على علاقة طيبة ببوهموند أمير أنطاكية، ونعم صلاح الدين بالسلام فى بضعة الأشهر التالية التى قدر له أن يحياها، وحصن بيت المقدس، ثم سار على مهل إلى دمشق حيث استقبله الأهالى بالتهليل والتكبير حوالى آخر ذى القعدة (آخر نوفمبر)؛ وقضى الشتاء فيها مع أسرته، ثم دهمه المرض فى صفر سنة 589 هـ (فبراير
سنة 1193 م) وتوفى بعد ذلك بأربعة عشر يوما وهو فى الخامسة والخمسين من عمره؛ وقد آلت دمشق إلى ابنه الأكبر ونال ابنه الثانى حلب، وكانت مصر من نصيب ابن ثالث، وكان من نصيب أخيه الملك العادل شمالى بلاد العرب وبلاد ما بين النهرين، وزالت وحدة أملاكه بعد وفاته ببضع سنوات، ولم يكن من المرجح حتى لو امتد به الأجل، أن يستطيع إقناع أفراد أسرته بأن يتفقوا فيما بينهم اتفاقا معقولا، على أنه لم يتعرض فى حياته قط أو يكاد لموقف اضطره إلى قتال فرد من أفراد أسرته، فما كان من المستطاع النيل من سلطانه وهو الذى قام على أساس من المقدرة والرحمة والتقوى، ولم يكن الطمع من خصاله، فقد تهيأت له الفرصة مرتين: مرة عند وفاة الخليفة الفاطمى العاضد وأخرى عند وفاة الأتابك نور الدين، ليجمع ثروة طائلة، إلا أنه وزع كنوز الخليفة على جنده وحاشيته، ولم يمس ثروة نور الدين بل سلمها لابنه؛ لقد كان متعصبًا ضد الصليبيين بوصفهم مجموعة لا بوصفهم أفرادًا، ولم يكن متعصبا ضد الرعايا المسيحيين الذين فى دولته، وإن كان عندما اعتلى العرش قد نفذ فى البداية القوانين الخاصة بملابس المسيحيين واليهود تنفيذا أكثر صرامة، وقد نهج النهج نفسه الذى انتهجه نور الدين، ويمكن وصفه بأنه بطل الردة السنية عن الشيعية (الفارسية) فى العمارة والأسلوب وكتابة الوثائق الرسمية. وفى السنوات الأخيرة من حكمه كانت العلاقات طيبة بين المسلمين والنصارى، ويبدو أن ريتشارد قد أنعم على بعض المسلمين بلقب فارس، مثل الملك الكامل بن الملك العادل؛ وكان صلاح الدين محبوبًا موقرًا من شعبه، ولا يزال هو والسلطان بيبرس وهارون الرشيد أشهر الشخصيات فى الشرق حتى اليوم، وهو يعد فى أوربا مثالا للشهامة والمروءة، والحق إنه لم يكن قاسيًا قط فى غير ما تدعو إليه القسوة، بل كثيرًا ما دعته شهامته إلى إطلاق سراح