الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صقلية
نلمس فى تاريخ صقلية صورة مصغرة لقصة الحضارة الغربية، وصقلية تقع فى قلب البحر المتوسط، وهى أيضًا فى القلب من حروب القرون الوسطى وتجارة هذه القرون وثقافتها؛ وقد اجتمعت فيها الحركات الكبرى للفينيقيين واليونانيين والرومان والمسلمين حيث خاضوا معاركهم وهلكوا جميعا؛ وتغشى غاشية من الظلام أيامها الأولى حين اندمج السيكل Sicels والسيكان Sicans، وحين استقر تجار فينيقية فى مستعمرات فى الرؤوس المطلة على البحر وعلى طول ساحله؛ ويبزغ فجر عصر جديد عندما تمد دول المدن اليونانية أيديها طلبا لأراض جديدة وتستقر فى ناكسوس Naxos (735 ق. م)، وقوصرة (Corcyra)، وسراقوسة (Syracuse)(734)؛ وتظل عملية الاستعمار سائرة باطراد قرونا طويلة، ويصبح العنصر اليونانى فى الجزيرة قويا، وفى مستهل الحرب البيلوبونيزية (427) لاح أن حلم أثينا فى غزو صقلية سوف يتحقق، على أن النتيجة لم تكن نصرا كتب لأثينا ولا طغيانا لكورينثة بل أسفرت الحرب عن انتشار الثقافة القديمة؛ وكان هانيبال فى هذه الأثناء يستعرض بسالته التى عرف بها الفينيقيون، فأخضع سنة 409 سلينوس Selinus وهميره Himera، وعاد إلى قاعدته فى قرطاجنة، ومن ثم بدأت المنافسة بين اليونان وقرطاجنة، تلك المنافسة التى كانت السمة الوحيدة التى اتسم بها تاريخ الجزيرة بضعة قرون؛ وحكم ديونيزيوس Dionysius الأول والثانى، وديون Dion، وتيموليون Timoleon، وأكاثوكليس Agathocles وبيروس Pyrrhus وهيرو Hiero الثانى، يساورهم دائمًا الرعب من الغزوات السامية، ولم تنعم صقلية بالسلام إلا بعد أن قضت رومة على المنافسة الإفريقية لها القضاء المبرم، ومع ذلك فإن عبقرية الحضارة كانت واضحة خلال هذه الحقبة الطويلة من الدهر فى موانى سراقوسة، وفى أسلحة
تاورمينيوم Tauromenium، وفى معابد سيلينوس، وفى قصائد ثيوقريطس Theocritus الرعوية، وحتى عندما طأطأت اليونان وقرطاجنة هامتيهما لرومة، كانت صقلية لا تزال تغذيها الروح الهيلينية، وكان نير رومة أمرا لا يصعب احتماله، ومع ذلك فإن عنصر العبيد فى الجزيرة كان كبيرا جدا، ويرجع بعض السبب فى هذا إلى تاريخ الجزيرة الفريد فى بابه وبعضه الآخر إلى حاجة رومة للقمح الذى تنبته حقولها، وأدى ذلك إلى نشوب الفتن فيها سنتى 132 و 102 ق. م. على أن رومة سقطت أمام الوندال والقوط، وقدِّر على صقلية أن تذوق مثلها بربرية أحدهما والتسامح غير المنتظر الذى اتسم به الآخر، على أنه ما لبث أن ظهر بليزاريوس Belisarius فأعاد إلى رومة قوتها وأيقظها من سباتها الذى راحت تغط فيه بعد تدهورها.
وفى هذه الأثناء كانت بلاد العرب تموج بحركة كبيرة، ولو أن هذه الحركة كانت تهدف إلى الدعوة الدينية، إلا أنها كانت فيضا من فيوض الأجناس وتصدع نهر من أنهار السلالات البشرية، وتوفى محمد عليه الصلاة والسلام سنة 632 م، إلا أن حروبه السياسية الدينية استمرت، ففى الشام تغلغلت الجيوش الإسلامية تحت إمرة معاوية حتى بلغت الإسكندرية، وهناك سحقت أسطول الروم سنة 652 وأصبحت السيادة البحرية للعرب، وفى السنة نفسها شن العرب هجومهم الأول على صقلية، ومع أن أحدًا من المؤرخين العرب لم يسجل شيئًا عن هذه الحملة إلا أنه تكفينا شهادة ثيوفانيس Theophanes، فقد دافع عن الجزيرة أوليمبيوس Olympius نائب العاهل الرومى (البوزنطى)، بيد أن المسلمين فازوا بغنائمهم وأبحروا إلى دمشق بسفن امتلأت بزاد عظيم من اللحم والدم والفضة والذهب، وعادوا ليذوقوا أطايب سراقوسة التى أعملوا فيها يد العنف، على أن هذه الحملات لم تكن إلا جهودا فردية من فيض القوة العسكرية، لم تتسم بأية صبغة حاسمة أو يظهر فيها أى طابع سياسى.
وولت الأيام التى تجلى فيها سلطان بنى أمية وانبثقت قوة الإسلام من ناحية أخرى سوى الشام، ومع ذلك فإن هجمات العرب والبربر وجدت لها مخرجًا جديدًا فى جزائر البحر المتوسط، فمنذ أيام موسى عليه السلام راح القراصنة يزعجون هذه البقاع وينشرون الرعب القاتل بين أهل جزائر قورشقة وسردانية وصقلية، وفى سنة 705 م كانت سراقوسة ضحية للسلب مرة أخرى، إلا أن الإفريقيين كانوا هم السالبين هذه المرة، وظل الإفريقيون يعودون المرة بعد المرة طوال هذا القرن إلى كنزهم ويقومون بجهود محدودة حيال الجزيرة؛ وبلغ من شدة أثر هذه الغارات وإزعاجها للقوم أن الشريف غريغورى ظن أنه قد أحسن صنعا بعقده معاهدة مع العرب سنة 813 مدتها عشر سنوات، وقد احترم العرب نصوص هذه المعاهدة، ولكن الجائزة كانت مغرية كل الإغراء، وكان استنجاد يوفيميوس Euphemius السراقوسى بالعرب لدفع عدوان ميشيل المتلعثم سنة 827 ذريعة جاءت فى وقتها للقيام بغزو شامل، فقد أنفذ زيادة اللَّه الأغلبى صاحب القيروان سفنه المائة من سوسة فى الثالث عشر من يونيه، وبدأ الغزو الحقيقى لصقلية، ويختفى يوفيميوس من المسرح، ويتصدر العربى وحده التاريخ فى بضعة القرون التالية.
وقاد أسد بن الفرات حملة جمعت خليطا من المقاتلة؛ فقد جُنِّد رجال الحاشية فى القيروان الذين يصعب، قيادهم فرقًا زودت بالجنود من اليمن وخراسان، ومن الشام والمغرب، وكانوا جميعا من المتطوعين، وهاجموا مازر Mazara أول مدينة فى الجزيرة وأخضعوها، ثم جربوا قوتهم فى حملتهم على سراقوسة، ولكن الطاعون أشاع الفوضى فى صفوفهم وسلبهم حتى قائدهم، وكانت الأحوال فى وطنهم خطيرة حقًا ولم يكن بينهم خالد آخر يحفزهم إلى النصر، وكان عليهم أن يفكوا الحصار، على أن غمّهم ما لبث أن انقلب يأسا عندما رأوا أن أسطول
الروم يقطع عليهم خط الرجعة، ومن ثم أكرهوا على الهرب إلى الجبال والتحصن فى مدينة ميناو Mineo، وبقوا فيها إلى أن ظهر أسطول من المغامرين الأسبان وأمدهم بالزاد والعتاد، بيد أن بلاط القيروان كان قد توطدت أركانه، وكان لا يزال غير راض عما تم من غزو، فأنفذ أسطولا كبيرا من 300 سفينة تحمل 20.000 رجل، حاصروا تحت إمرة آسبغ مدينة غلوالية واستولوا عليها، حيث فعل الطاعون بهم مرة أخرى ما استحال على الجيوش الصقلية أن تفعله، على أن بعض الغارات الأخرى نجحت فى الجزيرة، فقد ركزت فرقة اهتمامها ببلرم (باليرمو) وأكرهتها على التسليم، وكان غزو هذه المدينة هى ومدن أخرى كثيرة أصغر منها يعد حقًا من المغامرات فى تاريخ الغزو الإسلامى، فقد كان بداية لها شأنها فى إخضاع نواح أخرى، وأصبحت بلرم مقرًا للأمير، بل هى قد مكنت العرب من صقلية تمكينًا. والحق إن المهاجمين اطمأنوا إلى ممتلكاتهم الجديدة اطمئنانًا عظيما حتى إنهم انقلبوا يتحدى بعضهم بعضًا، ومن ثم بدأت قصة الانشقاق الصقلى الذى غشى الإدارة الإسلامية حتى النهاية. وكان بين العنصرين الأسبانى والإفريقى فى المغامرة احتكاك دائم، بل إن هذا الاحتكاك أفسده التمييز بين اليمنيين والأمويين وبين الفرس والبربر. وما إن حلت سنة 840 م حتى كان ثلث الجزيرة قد أصبح يحكمه المسلمون، وسرعان ما استنجدت نابولى ورددت منحدرات جبل فيزوف وسهول كالابريا ومياه البحر الأدرياوى صرخات الحرب يطلقها المسلمون، بل إن فرق المسلمين لهددت رومة نفسها سنة 846 م وتعذر عليهم اختراقها فأعملوا السيف فيما بقى خارجها، وكان ثمة حملة أخرى قدمت من القيروان، فقد أغار جعفر سنة 875 م على سراقوسة بجيش كامل العدة، وحاصرها ثلاث سنوات سقطت على إثرها بين يدى المسلمين هذه المدينة العظيمة، الحافلة بالتاريخ الإنسانى العريقة فى الحضارة؛ ويتبع ذلك قصة الاستيلاء على الغنائم، بل يتبعه أيضًا الأهواء والغيرة والتحزب والشقاق؛
على أن هذا النصر الجديد زود الفاتحين بمواثيق جديدة؛ ولم يكن دوقا إسبوليتو Spoleto وتوسكانيا Tuscany بريئين من الاشتراك فى الأسلاب، والحق إن سيادة الأغلبى كانت تامة إلى حد أن البابا يوحنا الثامن وجد من الحكمة أن يؤدى له الجزية سنتين، ولقد حجب الهلال الصليب بلا ريب فى ذلك الحين.
على أنه بقيت بعد بضع مدن لم تحن رأسها، ذلك أن قوة العرب لم تكن مستطيعة أن تخضع كل مكان على طول الساحل، بل إن الفتنة كانت ترفع رأسها حتى فى المراكز الكبرى مثل بلرم؛ ففى سنة 900 ثارت فتن خطيرة هددت السلام فى قصبة البلاد، على أن النذر داخل المعسكر الإسلامى كانت أشد حلكة وظلامًا، فبينما كان الأمر يقتصر من قبل على الدمدمة العالية أو الحركات السرية إذا به ينقلب حروبًا أهلية، وظهر إبراهيم بشخصه فى صقلية ليثبت وجوده، وبفضل حضوره سقطت تاورمينا ورامطة Rametta (908)، بيد أن وفاته كانت السبب فى حرب ضروس أخرى حالت دون فتح صقلية الشرقية، وتنفس المسلمون الصعداء عندما أبرموا معاهدتهم مع الإمبراطور قسطنطين بورفيروكينتوس Constantine Porphyrogenitus سنة 956 م، فلما عادوا للاستيلاء على تاورمينا سنة 963 ورامتا سنة 965، كان الشعب الإسلامى فى صقلية قد غلب على أمره، بعد أن ظل هذا الشعب يناضل 138 عاما فى سبيل سيادة الجزيرة وراح ينعم بهذه السيادة 73 سنة أخرى، وقد ظلت ثقافة الشرق تنساب طوال هذه المدة فى عقول أهل صقلية وفى قلوبهم وامتزجت فيهما بتراث اليونان ورومة النفيس، وقد أسفر قراع العقل بالعقل عن طراز فى الحياة لا مثيل له فى التاريخ، فقد اجتمع هناك كل ما فى الشرق من روحانيات وكل ما فى اليونان من جمال وكل ما فى اللاتين من حمية ونشاط، ولم يكن ثمة سبيل إلى السلام إلا بالتسامح، وإن كانت صقلية قد سارت فى أى طريق فإن هذه الطريق كانت بلا جدال طريق التسامح.
وشمل الهدوء البلاد سبعة عشر عامًا، عاد بعدها المسلمون يقرعون أبواب صقلية من جديد، ولكن أوتو الثانى Otto II، ومن ورائه إمبراطورية غربية، اضطر إلى الانسحاب من القتال مقهورًا مدحورًا، وإنما لاح النصر عندما استجمع الإمبراطور الشرقى بازيل الثانى قواته المبعثرة سنة 1027 م ليقوم بهجوم حاسم على الفاتحين المشاغبين الذين اقتحموا أملاكه، ولم يطل به العمر حتى يشهد نتيجة عمله، إلا أن تابعه مانياكيس Maniaces واصل خطة الغزو، فقد استغل سخط أبى الأعفر فراح ينتصر فى كل خطوة يخطوها طيلة أربع سنوات، وما إن حلت سنة 1043 حتى كانت مسّينة Messana وسراقوسة وغيرهما من المدن الكثيرة قد خضعت لسيادة المسيحيين. على أن مانياكيس استدعى إلى الوطن للقضاء على بعض المخاوف التى ثارت هناك فاضطر إلى أن يترك عمله دون أن يتمه، وسرعان ما استرد المسلمون بعض ما فقدوه، والظاهر أن الإمبراطورية لم تكن قادرة على رد غائلة الفاتحين إلا أن الساعة حلت سنة 1060 وظهر الرجل المنتظر، فقد كانت مسينة لا تزال تناضل ساعية إلى الخلاص من قضائها المحتوم باستيلاء العرب عليها حين استنجدت بالكونت النورمندى روكر صاحب هوتفيل، وكان هذا النورمندى قويًا بامتلاكه إيطاليا، بيد أنه كان ينتظر الوقت الملائم للاستيلاء على الجزيرة القائمة أسفلها، فاستجاب لنداء أهل المدينة واستولى عليها وجعلها قصبة مملكته، وما إن حلت سنة 1071 م حتى كانت بلرم قد سقطت، وفى سنة 1078 انتزعت تاورمينا من أيدى المسلمين، واستولى النورمندى على سراقوسة سنة 1085، وكان العرب قد استولوا على مالطة سنة 870 فاستردها روكر منهم سنة 1090، ومن ثم تم فى بضع سنوات غزو صقلية بأسرها، وساد الحكم النورمندى الجزيرة كلها، واحتل سادة النورمنديين القصور، كما احتل الجنود النورمنديون الحصون، ولاح أن كل ما كان للعرب من مجد قد ولى وانقضى.
وبالرغم من هذا فإن الثقافة العربية وجدت عصب حياتها فى كيان الغزو
النورمندى، ذلك أن العرب كانوا قد نسوا حتى ذلك الحين فنون السلام الرفيعة فى تلك اللجَّة من الحروب المتوالية، أما بعد فقد أكرهتهم الحوادث على الانطواء على أنفسهم فتبينوا ما فى أدبهم وأشعارهم وقوانينهم وعلومهم من كنوز، ولم يتخلصوا فحسب من القتال، بل نعموا أيضًا بحماية روكر حماية كاملة، ذلك أن روكر لم يكن متحزبًا فى مسيحيته، ثم إنه شجع هؤلاء المسلمين على أن ينموا مواهبهم، إن لم يكن قد شجعهم على أن ينشروا دينهم، بل لقد اتهم هو نفسه بأنه مسلم، ذلك أن روكر كان رجلا غير مثقف، وإذ رأى بعينيه اللتين لم تظلهما غشاوة التعصب عبقرية العرب العظيمة، أبى أن يقتل روح هذه العظمة، فمنح المسلمين الحرية التامة فى ممارسة شعائر دينهم، بل حرم على المسيحيين أن يبشروا بدينهم بين العرب، كما خفف من وطأة النظام الإقطاعى النورمندى على المسلمين، وأخذ بنظام الإدارة الإسلامى، بل أبقى على الموظفين المسلمين فظلوا يعملون تحت إمرته، وقيل إن معظم تجار باليرمو أثناء السيادة النورمندية كانوا من المسلمين، على أنه ما من شك فى أن أحسن رجال المال الذين كانوا عنده كانوا من المسلمين، وكانت الأرض بأسرها يزرعها المغاربة دون سواهم، ذلك أنهم كانوا قد أظهروا فى الأندلس براعتهم فى فلاحة الأرض حتى جعلوها تؤتى أطيب ثمارها؛ وكان ورق البردى وقصب السكر والكتان والزيتون تزرع بوفرة فى الجزيرة، وكانت نظم الرى العظيمة تطبق حيث يشح الماء، ويستغل كل جزء من أجزاء الجزيرة، وقد يقال إن عدد من كانوا يقيمون فى وادى مازر Mazara فى هذه الحقبة من الزمن لم يكونوا يقلون عن المليونين، وكذلك ازدهر علم الطب، ولم يكن بلاط روكر مشهورًا ببراعة أطبائه فحسب بل كان مشهورًا أيضًا بكثرة عددهم. وازدهرت اللغة العربية بوصفها وسيلة التفاهم الكبرى كما كانت هى اللغة الرسمية، وهنالك شنفت آذان اليونانيين والنورمنديين قصائد العرب وقصصهم التى تشيد بالصحارى العربية، وهنالك أيضًا نقلت روائع أفلاطون وأرسطوطاليس إلى