الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
المنصور بن أبى عامر
أحد كبار رجالات الأندلس المعروفين، تولى منصب الحجابة فى
عهد الخليفة هشام المؤيد بالله ثم أصبح الأمر كله فى يديه
وسيطر على أمور الدولة بعد أن دخل فى صراع مع جعفر
المصحفى الذى كان يتولى الحجابة من قبله وانتهى هذا الصراع
بالقبض على جعفر ودخوله السجن حتى مات. وبعد أن أصبحت
السيطرة كاملة لابن أبى عامر فكر فى إنشاء مدينة جديدة
يتوافر فيها الأمان ومظاهر السلطان فكانت مدينته الزاهرة أو
العامرية شرقى قرطبة والتى استغرق بناؤها عامين، وضمت
قصرًا ومسجدًا ودواوين للإدارة ومساكن للحرس، ونقل خزائن
المال والسلاح إليها، وأقيم حولها سور ضخم كما بنى خندقًا
وتم إقطاع ضواحيها للوزراء والقادة، فابتنوا الدور وأنشئت
الشوارع والأسواق حتى اتصلت مبانيها بضواحى قرطبة، وقد
انتقل إليها ابن أبى عامر سنة (370هـ = 980م)، واتخذ له حرسًا
خاصا من الصقالبة والبربر أحاطوا بقصره، ومنعوا الدخول
والخروج إليه، وبذلك أقفرت قرطبة وأقفر قصرها ونقلت كل
مظاهر السلطان إلى المدينة الجديدة، ومنع الخليفة من أى حركة
إلا بإذن ابن أبى عامر حماية له من المتآمرين وحتى يتفرغ
للعبادة كما زعم. بدأ المنصور بن أبى عامر سلسلة من الغزوات
الشهيرة بعد أن استقرت الأمور له، ووصل عددها إلى نحو أربع
وخمسين غزوة استقصى المؤرخ القرطبى ابن حيان أخبارها
فى كتاب له مفقود عنوانه «الدولة العامرية» ويتحدث عنها ابن
خلدون فيقول: «غزا ابن أبى عامر اثنتين وخمسين غزوة فى
سائر أيام ملكه، لم ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش ولاأصيب
له بعث ولا هلكت له سرية». اتخذ المنصور فى سنة (381هـ=
991م) خطة غير مسبوقة بهدف دعم سلطانه فرشح ابنه عبدالملك
ليتولى الأمر من بعده، وتنازل له عن الحجابة والقيادة وجميع ما
كان يتولى من خطط مكتفيًا بلقب «المنصور» ثم تلقب بالملك
الكريم فى سنة (386هـ = 996م) وبولغ فى تعظيمه وإجلاله، ولم
يكن المنصور يقصد أن تجتمع السلطات فى يده، فكل السلطات
السياسية والعسكرية فى قبضة يديه بالفعل، لكنه أراد أن
يصبغ حكمه بالصبغة الشرعية، وأن تكون له رسوم الملك
والخلافة، ويقوم بتأسيس دولة تحل محل دولة بنى أمية، لكن
الظروف لم تكن مهيأة فالناس لاتميل كثيرًا إلى المنصور؛ بسبب
الوسائل الدموية التى لجأ إليها لتصفية خصومه. وقد أظهر
المنصور مقدرة كافية ممتازة فى جميع المناصب التى تولاها
وشهدت البلاد فى زمنه أمنًا واستقرارًا وطمأنينة لم تعرفها
قبله، وفى زمنه لم تعرف البلاد الثورات مقارنًا بغيره، وازدهرت
الصناعة والتجارة والزراعة، وارتقت العلوم والآداب، وامتلأت
خزائن قرطبة بالمال حتى وصلت الإيرادات إلى نحو أربعة ملايين
دينار، بخلاف الموارد من المواريث ومال السبى والغنائم، ولم
يخل عهد المنصور من الإنشاءات العظيمة على الرغم من الغزوات
المستمرة وقد أشرنا إلى بنائه مدينته الزاهرة بقصورها
وحدائقها، وجعلها قصرًا للحكم والإدارة، وقد بنى المنصور
بجانبها منية جميلة ازدانت بالحدائق والقصور أسماها
«العامرية» ، وكان يقصدها عندما يريد الاستجمام. كذلك قام
بزيادة المسجد الجامع فى «قرطبة» بعد أن اتسعت المدينة،
وضمت واحدًا وعشرين حيا، الواحد فيها أكبر من أية مدينة
أندلسية، وقد حفر حولها خندقًا بلغ 16 ميلاً وزاد سكانها كثيرًا
لا سيما البربر، وضاق المسجد الجامع بهؤلاء السكان فأدخل
المنصور فى سنة (387هـ = 997م) زيادة عليه من الناحية
الشرقية، بلغت المساحة الأصلية نفسها تقريبًا، وحرص المنصور
على الاشتراك فى هذا المشروع بنفسه، واشتغل فيه أسرى
النصارى، وتم تعويض أصحاب الدور والأماكن التى صودرت لهذا
الغرض، ولا يزال هذا الجناح قائمًا حتى اليوم، ويعرف بمسجد
المنصور، وإن تحولت عقوده الجانبيه إلى هياكل وكنائس.
وبهذه الزيادة بلغت مساحة المسجد الجامع ما يزيد على ستة
أفدنة، كما انفرد بطرازه الرائع، وليس فى العالم مسجد ولا
كنيسة فى مثل حجمه اللهم إلا قصر «فرساى» بفرنسا. كما جدد
المنصور قنطرة قرطبة على نهر الوادى الكبير، وكان «السمح
بن مالك» قد جددها من قبل وأنفق المنصور على تجديدها فى
سنة (378هـ = 988م) مائة وأربعين ألف دينار وبنى قنطرة
«أستجة» على نهر «شنيل» أحد فروع نهر الوادى الكبير. وفى
ربيع (392هـ =1002م) خرج المنصور لآخر مرة، وتوجَّه إلى
قشتالة ومنها اتجه غربًا نحو «برغش» وعاث فى تلك المنطقة،
وتقول المصادر النصرانية إنه تعرض لهزيمة على أيدى ملوك
النصارى متحدين، وإنه اضطر إلى الفرار فى جنح الظلام بعد
موقعة معهم جرت أحداثها بمكان يسمى «قلعة النسور» ، وقد
جرح المنصور ثم مات بعد ذلك متأثرًا بجراحه، لكن الباحثين
المحدثين - ومنهم المستشرق الهولندى دوزى - يرفضون هذه
الرواية لأنها تخالف الحقائق التاريخية الثابتة، فهى تتحدث عن
تحالف بين ملوك من النصارى ماتوا قبل هذه الموقعة، أضف
إلى ذلك أن المصادر الإسلامية لاتذكرشيئًا عن تلك الموقعة، مع
أنها لاتخفى هزائم المسلمين، فالصمت قرينة على أنه لم تكن
هناك هزيمة ولاحتى موقعة أصلا. ومهما يكن من أمر فقد سار
المنصور فى حملته هذه محمولا حتى وصل إلى «مدينة سالم» ،
وهناك وافاه الأجل فى (27 رمضان 392هـ = 11 أغسطس
1002م) بعد حكم دام 27 عامًا.