المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منهج الجويني وأثره في تطور المذهب الأشعري: - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ٢

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الثاني: الماتريدية وعلاقتهم بالأشعرية

- ‌أولا: الأشعري والماتريدي

- ‌ منهج الماتريدي وعقيدته:

- ‌ثانيا: مقارنة بين الأشعرية والماتريدية:

- ‌المبحث الثالث: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره

- ‌ أسباب انتشار المذهب الأشعري:

- ‌المبحث الرابع: عقيدة الأشعرية

- ‌الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة وأشهر رجالهم إلى عهد ابن تيمية

- ‌ أبو الحسن الطبري:

- ‌ الباقلاني:

- ‌ابن فورك:

- ‌عبد القاهر البغدادي:

- ‌البيهقي:

- ‌القشيري:

- ‌الجويني:

- ‌منهج الجويني وأثره في تطور المذهب الأشعري:

- ‌أبو حامد الغزالي:

- ‌أعلام الأشاعرة في الفترة بين الغزالي والرازي:

- ‌ ابن تومرت

- ‌ فخر الدين الرازي:

- ‌ منهج الرازي وأثره في تطور المذهب الأشعري

- ‌ أبو الحسن الآمدي:

- ‌ عز الدين بن عبد السلام

- ‌صفي الدين الهندي

- ‌ بدر الدين بن جماعة

- ‌ ناصر الدين البيضاوي

- ‌ عضد الدين الإيجي

- ‌ أبو علي السكوني

- ‌ خلاصة وتعقيب:

- ‌الباب الثاني: موقف ابن تيمية من الأشاعرة

- ‌الفصل الأول: عرضه لجوانبهم الإيجابية واعترافه بما عندهم من حق

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة

- ‌أولاً: وصفهم بأنهم من أهل السنة في مقابل المعتزلة والرافضة:

- ‌ثانياً: تفضيله أقوالهم على أقوال غيرهم من المعتزلة والجهمية والفلاسفة:

- ‌ثالثاً: ذكره لإيجابيتهم وردودهم على الباطنية والملاحدة

- ‌رابعاً: الأشاعرة يحمدون لما لهم من مساع وجهود مشكورة:

- ‌خامساً: إنصافه لأعلام الأشاعرة

- ‌أ - أبو الحسن الأشعري:

- ‌ب - الباقلاني والجويني:

- ‌جـ - الغزالي:

- ‌د - الرازي وغيره:

- ‌هـ - الأشاعرة المعاصرون لابن تيمية:

- ‌الفصل الثاني: منهجه العام في الرد على الأشاعرة

- ‌مقدمة

- ‌أولاً: بيان جوانبهم الإيجابية وما عندهم من حق:

- ‌ثانياً: الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء:

- ‌ثالثاً: مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم

- ‌خامساً: جهلهم بالسنة وبمذهب السلف

- ‌سادساً: إرجاع أقوالهم المخالفة لمذهب أهل السنة إلى أصول الفلاسفة والجهمية والمعتزلة

- ‌سابعاً: لا تعارض بين العقل والنقل

- ‌ المقدمات:

- ‌ثامناً: الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم، وردود بعضه على بعض

- ‌تاسعا: تناقض الأشاعرة:

- ‌عاشراً: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم:

- ‌حادي عشر: تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين:

الفصل: ‌منهج الجويني وأثره في تطور المذهب الأشعري:

‌منهج الجويني وأثره في تطور المذهب الأشعري:

يعتبر الجويني إمام الحرمين من أعظم أعلام الأشاعرة، ولا يكاد يذكر المذهب الأشعري إلا ويسبق إلى الذهن هذا الإمام المشهور كأحد من يتمثل هذا المذهب في أقواله وكتبه، ولذلك فاستعراض عقيدته وأقواله تدل على أشعريته وموافقته لشيوخه الأشاعرة مما لا داعي لبسطه هنا، وإنما المقصود الإشارة إلى عموم منهجه الذي طور فيه هذا المذهب، ويمكن عرض ذلك من خلال ما يلي:

أ - تجديده في داخل المذهب الأشعري، فالجويني وإن تبني أقوال شيوخه السابقين ونقلها إلا أنه رد أو ناقش منها ما يرى أنه يستحق الرد والمناقشة بل إمام الأشاعرة أبو الحسن الأشعري الذي يذكره الجويني غالباً بقوله: قال شيخنا أو ذهب شيخنا (1) ، ودافع عن كتابه " اللمع" فيما وجه إليه من المطاعن من قبل المعتزلة وغيرهم (2) ؛ لم يسلم من تضعيف أقواله، ومن الأشاعرة - بعد الأشعري - الذين نقل أقوالهم الجويني وناقش بعضها: الباقلاني (3) ، وأبو إسحاق الإسفراييني (4) ، وان فورك (5)، ومن ثم فيلاحظ في منهج الجويني بهذا الخصوص ما يلي:

1 -

إن الجويني ضعف التأويل المشهور - والمنسوب للأشعري - لبعض الصفات الفعلية مثل الاستواء والنزول والمجيء من أنه فعل فعله الله في العرش

(1) انظر: - على سبيل المثال - الإرشاد (ص: 14) ، وغيرها، والشامل (ص: 149) ، والبرهان (1/135-274) .

(2)

ذكر الجويني فصولاً في كتابه الشامل ذكر فيها المطاعن التي وجهت إلى اللمع للأشعري وأجاب عنها، انظر (ص: 245-287-338-342) .

(3)

انظر: البرهان (1/89،101، 148-149، 218، 280، 287)، والإرشاد (ص:407) ، والشامل (ص: 198، 211،221، 233،247، 274،294، 570) .وغيرها.

(4)

انظر: البرهان (1/95، 100، 111، 170)، والإرشاد (ص: 33، 333) ، والشامل (ص: 212، 267، 350، 433، 533، 624) ، والكافية في الجدل (ص: 307، 409) .

(5)

انظر: البرهان (1/116)، والشامل (ص: 212، 346، 543، 562) .

ص: 602

سماه استواء، أو فعل يفعله كل ليلة، أو يوم القيامة سماه نزولاً أو مجيئاً (1) ، وترجيحه التأويل بالملك والغلبة بالنسبة للاستواء، وبنزول أو مجيء أمره أو بعض ملائكته.

2-

نقده لمذهب الأشعري في مسألة تكليف مالا يطاق (2)، يقول: " نقل الرواة عن الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه أنه كان يجوز تكليف ملا يطاق، ثم نقلوا اختلافاً عنه في وقوع ما جوزه من ذلك، وهذا سوء معرفة بمذهب الرجل، فإن مقتضى مذهبه أن التكاليف كلها واقعة على خلاف الاستطاعة، وهذا يتقرر من وجهين: أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل، والأمر بالفعل يتوجه على المكلف قبل وقوعه، وهو إذ ذاك غير مستطيع

والثاني: أن فعل العبد عنده واقع بقدرة الله تعالى، والعبد مطالب بما هو من فعل ربه ولا ينجى من ذلك تمويه المموه بذكر الكسب، فإنا سنذكر سر ما نعتقده في خلق الأعمال " (3) ، ثم رجح منع تكليف مالا يطاق، ورجح جواز ورود الصيغة به دون الطلب كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (البقرة:65) ، وخلاصة قوله: " إنه يكلف المتمكن، ويقع التكليف بالممكن، ولا نظر إلى الاستصلاح ونقيضه " (4) ، فالجويني بهذا القول يكون قد بعد عن مذهب الأشاعرة في هذه المسألة، ويزيدها إيضاحاً قوله في مسألة " قدرة العبد " هل تقارن المقدور أو تسبقه.

3-

وفي مسألة الاستطاعة، أو القدرة الحادثة للعبد (5) ، ذكر مذهب أبي الحسن الأشعري أن القدرة الحادثة تقارن حدوث المقدور ولا تسبقه

(1) انظر: الشامل (ص: 549، 555، 556) .

(2)

مع أنه في الإشاد (ص: 226) ، رجح مذهب الأشعري والأشاعرة في جوازه.

(3)

البرهان في أصول الفقه (1/102-103) .

(4)

المصدر نفسه (1/105) .

(5)

رجع الجويني في الإرشاد (ص: 218)، مذهب الأشاعرة المشهور وهو أن القدرة الحادثة تقارن " في المطبوعة الأرشاد: وهو خطأ" حدوث المقدور بها.

ص: 603

ثم قال بعد شرحه: "ومذهب أبي الحسن رحمه الله مختبط عندي في هذه المسألة "(1)، ثم قال:" ومن أنصف من نفسه علم أنه معنى القدرة التمكن من الفعل، وهذا إنما يعقل قبل الفعل وهو غير مستحيل في واقع حادث في حالة الحدوث"(2) .

4-

وفي مسألة أزلية كلام الله تعالى والخلاف الواقع بين الكلابية والأشعرية في أزلية الأمر والنهي- وهما من أجزاء الكلام عندهم- قال:" اشتهر من مذهب شيخنا أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- رضي الله عنه مصبره إلى أن المعدوم وقع في العلم وجوده واستجماعه شرائط التكليف فهو مأمور- معدوما- بالأمر الأزلي، وقد تمادي المشغبون عليه، وانتهى الأمر إلى انكفاف طائفة من الأصحاب هم هذا المذهب، وقد سبق القلانسي (3) رحمه الله من قدماء الأصحاب- إلى هذا، وقال: كلام الباري تعالى في الأزل لايتصف بكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وإنما يثبت له هذه الصفات فيما لايزال عند وجود المخاطبين"(4) ، ثم رد ثم رد الجويني على القلانسي- الذي يمثل مذهبه مذهب الكلابية (5) ، ثم ذكر مسلكين لأئمة الأشاعرة في إثبات أن المعدوم مأمور، ثم ذكر طريقة أبي الحسن الأشعري في ذلك (6) ،

ثم قال معلقا: " هذا منتهى مذهب الشيخ [الأشعري]رضي الله عنه فأقول: إن ظن ظان أن المعدوم

(1) البرهان (1/277) .

(2)

المصدر نفسه (1/279) .

(3)

رجح محقق البرهتن هنا (1/270)، وقبل ذلك (ص: 135) أن المقصود بالقلانسي أحمد بن إبراهيم المعاصر لابن فورك المتوفى سنة 406هـ، وليس هو القلانسي الآخر السابق للأشعري المعاصر للمحاسبي وغيره من الكلابية، وترجيحه هذا مرجوح، والراجح أنه قصد القلانسي الكلابي، ولذلك قال عنه هنا: أنه من قدماء الأصحاب، ثم ذكر قوله في هذه المسألة والذي هو قول ابن كلاب وأصحابه.

(4)

البرهان (1/270-271) .

(5)

انظر: المصدرنفسه (1/271) .

(6)

البرهان (1/272-274) ..

ص: 604

مأمور فقد خرج عن حد المعقول، وقول القائل: إنه مأمور على تقدير الوجود تلبيس، فإنه إذا وجد، ليس معدوما، ولاشك أن الوجود شرط في كون المأمور مأمورا"- ثم قال بعد هذا الكلام مباشرة- معلنا حيرته في هذه المسألة العظيمة المتعلقة بكلام الله تعالى:" وإذا لاح ذلك بقي النظر في أمر بلا مأمور، وهذا معضل الأرب، فإن الأمر من الصفات المتعلقة بالنفس، وفرض متعلق لا متعلق له محال، والذي ذكره (1) في قيام الأمر بنا في غيبة المأمور تمويه، ولا أرى ذلك أمرا حاقا، وإنما هو فرض تقدير- وما أرى الأمر لو كان كيف يكون- إذا حضر المٌخَاطَب قام بنفس الأمر إالحاق المتعلق به، والكلام الأزلي ليس تقديرا، فهذا مما نستخير الله تعالى فيه، وإن ساعف الزمان أملينا مجموعا من الكلام ما فيه شفاء الغليل إن شاء الله تعالى"(2) ، هذا منتهاه في مسألة من أهم المسائل التي تميز بها المذهب الأشعري0

4-

ويري الجويني أن الأشاعرة وضعوا بعض الأصول مثل: نفي التجسيم عن الله ومثل نفي العلو (الجهة) ، ثم ذكر أن المعتزلة عجزوا عن نصب الأدلة على استحالة كون القديم جسماً (3) ، كما أن نفى الجهة لا يستقيم على أصولهم أيضاً (4) ، والجويني بهذا الأسلوب يبرز مذهب الأشاعرة على أنه أكثر أصالة وأقوي أدلة في نفي بعض الصفات، ونفى العلو عن الله تعالى- من المعتزلة - الذين هم أهل التجهم والتعطيل، وهذا منهج للجويني في إعلاء المذهب الأشعري يعتمد على أسلوب غريب؛ إذ لو أنه ذكر أن أصول المعتزلة لا تستقيم على نفي الصفات السبع، أو الرؤية أو أن القرآن كلام الله غير مخلوق لكان هذا معتادا غير مستغرب، أما أن

يذكر أن أصولهم لا تستقيم على نفى العلو وإنما تستقيم الأدلة على أصولنا نحن الأشاعرة فهذا هو الذي يلفت الانتباه0

(1) أي الأشعري فيما سبق انظر: البرهان (1/273) .

(2)

البرهان (1/274-275) .

(3)

انظر: الشامل (ص: 414) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (ص:528) .

ص: 605

5-

وفي مسألة أخبار الآحاد- وإفادتها للعلم ثم حجيتها في العقيدة- يسير الجويني في ركب غالب شيوخه في أنها لا تفيد العلم (1)، وفي أحد المواضع في الشامل ذكر قولين أحدهما قول الباقلاني: إنه لا يقطع بها في القطعيات، الآخر قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني الذي ذكره قائلا:" وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن الحديث المدون في الصحاح الذي لم يعترض عليه أحد من أهل الجرح والتعديل، هو (2) مما يقضي به في القطعيات، وليس من أصله أنه يبلغ مبلغ التواتر، إذ لو بلغه لأوجب العلم الضروري، ولكنه مما يتوجب العلم استدلالا ونظراً "(3)،ثم قال الجويني:"والصحيح في ذلك طريقه القاضي"(4) ،وفي البرهان كانت عبارة قاسية جدا فيمن يقول إن خبر الواحد العدل يفيد العلم، يقول:" ذهبت الحشوية من الحنابلة، وكتبة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم، وهذا خزي (5) لا يخفي مدركه على ذي لب "(6) .

ب- تأويله للاستواء وللصفات الخبرية:

في العرض السابق لأقوال شيوخ الأشاعرة- قبل الجويني- تبين أن تأويل هذه الصفات كان موجودا قبل الجويني، وليس كما اشتهر من أنه أول من تأولها، ومع ذلك فللجويني مذهب متميز فيها، قرب فيه من مذهب المعتزلة0

ويوضح ذلك أن السابقين كابن فورك ومن بعده قالوا بنفي الجهة، ثم قالوا في الاستواء: إنه بمع نى العلو بالقهر والتدبير - كما يقول ابن فورك- أو على معنى الملك - كما يقول البغدادي - لكنهم أبطلوا تأويل المعتزلة استوى باستولى،

(1) انظر: الإرشاد (ص: 161)، والشامل (ص: 100) .

(2)

في الشامل (وهو) والواو زائدة.

(3)

الشامل (ص: 557) .

(4)

نفس المصدر والصفحة.

(5)

ذكر المحقق في الحاشية أن في نسخة ت:خرق.

(6)

البرهان (1/606) .

ص: 606

فلما جاء الجويني ذكر أن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقال: " لم يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة، إذ العرب تقول: استوى فلان على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك، واستعلى على الرقاب، وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية، فنص تعالى عليه تنبيهاً بذكره على ما دونه، فإنه قيل: الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مطامحة ومحاولة؟ قلنا: هذا باطل، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر، ثم الاستواء بمعنى الاستقرار بالذات ينبئ عن اضطراب واعوجاج سابق، والتزام ذلك كفر "(1) ، ثم ذكر أنه لا يبعد تفسير الاستواء بالقصد، ثم ذكر التفويض ورده (2) . أما في الشامل فذكر عدة أقوال فيه: منها التفويض مع القطع بنفي الجهات والمحاذيات، بحيث يكون الاستواء من الأسرار التي لا يطلع علها الخلائق، والله تعالى مستأثر بعلمها (3)، ثم قال: "ذهب بعضهم إلى أن المراد بالاستواء: الاقتدار والقهر والغلبة، وذلك سائغ في اللغة، شائع فيها، إذ القائل يقول: استوى المالك على الإقليم، إذا احتوى على مقاليد الملك فيه، ومنه قول القائل:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف أو دم مهراق (4)

وقول آخر:

ولما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر (5) " (6)

(1) الإرشاد (ص: 40-41) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص: 41) .

(3)

انظر: الشامل (ص: 550) .

(4)

هذا البيت منسوب إلى الأخطل النصراني، وقد سبق تخريجه، وفي الشامل " ولا دم ".

(5)

لم أقف على قائله.

(6)

الشامل (ص:553) .

ص: 607

ثم ذكر الاعتراض الذي أورده في الإرشاد وأجاب عنه بمثل ما أجاب به هناك (1) ، ثم ذكر القول الآخر أنه بمعنى القصد والإرادة، وقول الأشعري أنه فعل في العرش واستبعده (2)، أما في لمع الأدلة - المختصر في العقائد - فلم يذكر سوى التأويل: حيث قال: " المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو، ومنه قول العرب: استوى فلان على المملكة - أي استعلى عليها واطردت له " ومنه قول الشاعر:

"قد استوى بشر

." (3) ، وفي النظامية - وهي من آخر مؤلفاته - قطع بتنزيه الله عن الاختصاص ببعض الجهات (4) ، ثم ذكر أن مذهب السلف إجرؤها على ظاهر دون تأويل، وهو ما رجحه (5) .

هذه خلاصة أقوال الجويني في الاستواء، ومنه يتبين أن ما اختاره في لمع الأدلة وقال بجواز القول به في الإرشاد والشامل هو قول المعتزلة (6) ، الذي رده شيوخ الجويني، كابن كلاب والأشعري والباقلاني والبيهقي وغيرهم، وبذلك يصبح الجويني أول من ارتضى هذا التأويل الاعتزالي المشهور.

أما الصفات الخبرية فقسمان: ما عدا صفة الوجه والعين واليدين، فقد تأوّله غالب الأشاعرة ومنهم أبو الحسن الطبري، والبغدادي والبيهقي وغيرهم ومشى على طريقتهم الجويني (7) ، وذلك مثل صفة القدم، والساق، والأصابع

(1) انظر: الشامل (ص: 553) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص: 554-556) .

(3)

لمع الأدلة (ص: 95) .

(4)

انظر: النظامية (ص: 21) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (ص: 32-34) .

(6)

انظر: مثلاً كلامهم حول الاستواء وتأويله، وشواهدهم في ذلك: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار الهمذاني (ص: 226-227) .

(7)

انظر: مثلاً تأويل الجويني للقدم الشامل (ص: 562)، والإرشاد (ص: 162) ، والأصابع الشامل (ص: 564) ، والساق الإرشاد (ص: 159) .

ص: 608

وغيرها، فالجويني ليس في مذهبه جديد في هذا، أما صفة الوجه والعين واليدين فجمهور شيوخ الجويني من الأشاعرة على إثباتها بلا تأويل، والذي أثر عنه تأويلها عبد القاهر البغدادي - كما سبق تفصيل ذلك - ولم يقل يقول البغدادي في تأويلها أحد من تلامذته، ومنهم البيهقي الذي أثبتها بلا تأويل، فلما جاء الجويني قطع بتأويلها، وإن كان قد رجع عن ذلك عن النظامية، يقول الجويني في الإرشاد:" ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى، والسبيل إلى إيباتها السمع دون قضية العقل، والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود"(1) ، ثم شرح ذلك ورد على الذين يعتقدون أنها صفات لله تعالى لورود النصوص الصريحة بذلك (2) ، ثم يسوق الجويني كلاماً في الرد على شيوخه الأشاعرة المثبتين لهذه الصفات نهج فيه منهج المعتزلة الذين يصفون الأشاعرة حين يثبتون بعض الصفات دون بعض بأنهم متناقضون لأن مساق الصفات واحد فإما أن تثبت جميعاً أو تؤول جميعاً، يقول الجويني هنا:" ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات [أي صفات اليدين والعين والوجه] بظواهر هذه الآيات ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات، تمسكاً بالظاهر، فإن ساق تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضاً طريق التأويل فيما ذكرناه "(3) ،

ولاشك أن الجويني معه الحق فيما يقول، لأن تأويل شيوخه لصفات الاستواء والنزول والمجيء ليس بأولى من تأويل الصفات الخبرية، ودلالات النصوص واحدة.

وفي الشامل تأوّل الجويني النصوص الواردة في العين (4) ، أما في النظامية فقد رجع عن التأويل فيها كلها إلى التفويض.

(1) الإرشاد (ص: 155) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص: 155-157) .

(3)

المصدر السابق (ص: 157-158) ..

(4)

انظر: الشامل (ص:556-557) .

ص: 609

ومما سبق يتبين أن الجويني وإن كان قد سبق إلى تأويل الاستواء والوجه واليدين والعين - إلا أن مذهبه فيها تميز بأمرين:

الأول: اختيار تأويل الاستواء بالاستيلاء والملك - كقول المعتزلة - وهذا التأويل بالذات رده شيوخ الأشاعرة ومنهم عبد القاهر البغدادي الذي قال بعد أن رد تأويل المعتزلة بأن الصحيح تأويل العرش على معنى الملك أي أن الملك ما استوى لأحد غيره (1) ، وهذا القول للبغدادي ليس ببعيد من قول المعتزلة، ومع ذلك فلم يجسر على مخالفة شيوخه الذين ردوا تأويل المعتزلة للاستواء، فلما جاء الجويني أزال هذا الحاجز، ورأى أنه لا فرق بين التأويلين، ولذلك نص على تأويل المعتزلة واختاره.

الثاني: التأويل الصريح لصفة الوجه واليدين والعين، مع إلزام الأشاعرة أن تأويلها لازمهم كتأويل الاستواء والنزول.

جـ - قربه من المعتزلة ومذهبهم:

يجمع الباحثون على تأثر الجويني بالمعتزلة أكثر ممن سبقه من الأشاعرة (2) ، وما تقدم - في الفقرة السابقة - دليل واضح على قربه منهم وتأثره بهم، ومن الأدلة والشواهد على ذلك ما يلي:

1-

إن الجويني في مسألة كلام الله والقرآن، لما شرح مذهب الأشاعرة، ورد على المعتزلة قال: " واعلموا بعدها أن الكلام مع المعتزلة وسائر المخالفين في هذه المسألة يتعلق بالنفي والإثبات، فإن ما أثبتوه وقدّروه كلاماً فهو في

(1) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص: 112-113) .

(2)

انظر: مقدمة تحقيق الشامل (ص: 77)، حيث ذكر المحققون: أن الجويني لم يخالف المعتزلة في الأصول؛ لكنه خالفهم في فهمهم لهذه الأصول نفسها، وانظر: في علم الكلام: الأشاعرة، أحمد صبحي (ص:123-132) ، حيث ذكر أن خصومه الأشاعرة للمعتزلة فترت لدى الجويني، وانظر: نشأة الأشعرية (ص: 409)، وإمام الحرمين: عبد العظيم الديب (ص: 84) ، وغيرها.

ص: 610

نفسه ثابت، إنه كلام الله تعالى إذ [لعل صوابها إذا] رد إلى التحصيل آل الكلام إلى اللغات والتسميات فإن معنى قولهم: هذه العبارات كلام الله، أنها خلقه، ونحن لا ننكر أنها خلق الله (1) ، ولكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلماً به، فقد أطبقنا على المعنى، وتنازعنا بعد الاتفاق في تسميته، والكلام الذي يقضي أهل الحق بقدمه هو الكلام القائم بالنفس، والمخالفون ينكرون أصله ولا يثبتونه " (2) ،والجويني لم يخالف في هذا بقية الأشاعرة لأنهم يفرقون بين كلام الهل القائم بالنفس، وبين القرآن المتلو، فالأول قائم بالله لا يجوز انفصاله عن الله بحال، كما لا يجوز حدوثه، بل هو أزلي كأزلية الحياة والعلم كما أنه واحد ليس بحروف ولا أصوات أما الكلام المتلو فهم وإن صرحوا أنه كلام الله إلا أنهم عند التحقيق يقولون: إن هذا الكلام - بعباراته - فهمه جبريل أو غيره من الله، ولذلك فهو حكاية لكلام الله أو عبارة عنه، فالقرآن المتلو على هذا القائل به هو جبريل أو غيره - وقد ذكر ما يدل على ذلك من قوله الباقلاني - لكن الجديد في قول الجويني تصريحه بأنه لا ينكر أن تكون العبارات - أي القرآن المتلو - خلق الله، وهذا مذهب المعتزلة، وإن خالفهم في أن الكلام هو الكلام القائم بالنفس، ولتوضيح قول الجويني هذا ننقل ما ذكره الإيجي في الموقف - الذي يعتبر من أهم كتب الأشاعرة التي استقر عليها مذهبهم في القرون المتأخرة، يقول - حول صفة الكلام -: " وقالت المعتزلة: أصوات وحروف يخلقها الله في غيره، كاللوح المحفوظ، وجبريل أو النبي، وهو حاديث.

وهذا لا ننكره، لكننا نثبت أمراً وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس

ثم نزعم أنه قديم، لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى، ولو قالت المعتزلة: إنه هو إرادة فعل يصير سبباً لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبره به، أو إرداته لما أمر به لم يكن بعيداً - لكني لم أجده في كلامهم - إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة: وهو

(1) ذكر المحققان أن في نسخة م: لا ننكر كونها خلقاً له.

(2)

الإرشاد (ص: 116-117) .

ص: 611

خلق الأصوات والحروف، وكونها حادثة قائمة (1) ، فنحن نقول به، ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك، وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته " (2) .

فالجويني في نصه السابق يخفف من حدة المعركة بين الأشعرية والمعتزلة في مسألة خلق القرآن، ويصرح بأن المذهب الأشعري لا يعارض قول المعتزلة، ومن ثم فالخلاف معهم في أنهم لا يثبتون الكلام النفسي.

2-

دفاعه عن المعتزلة فيما نقل من مذاهبهم، فمثلاً في مسألة التحسين والتقبيح العقلي الذي قال به المعتزلة يقول الجويني:" واضطرب النقلة عنهم في قولهم يقبح الشيء لعينه أو يحسن، فنقل عنهم أن القبح والحسن في المعقولات من صفات أنفسها ونقل عنهم أن القبح صفة النفس، وأن الحسن ليس كذلك، ونقل ضد هذا عن الجبائي، وكل ذلك جهل بمذهبهم، فمعنى قولهم يقبح ويحسن الشيء لعينه أنه يدرك ذلك عقلاً من غير إخبار مخبر "(3) ، ثم رد على المعتزلة في قولهم هذا وهذا يدل على إطلاعه على كتبهم، ومعرفته بأقوالهم.

3-

وفي مسألة المخاطب إذا خص بالخطاب ووجه الأمر إليه وهو في حالة اتصال الخطاب به هل يعلم أنه مأمور، رجح الأشاعرة أنه يعلم، وقالت المعتزلة: إنه لا يعلم إلا بعد مضي زمان الإمكان الذي يسعه فعل المأمور به، وقد رجح الجويني مذهب المعتزلة وقال:" المختار ما عزى إلى المعتزلة في ذلك "(4) .

4-

وللجويني صلة خاصة بكتب أبي هاشم الجبائي (5) ، الذي يرد في

(1) قال في شرح الموافق (8/95) ، قائمة، بغير ذاته تعالى.

(2)

المواقف (ص: 293-294) ، ومع شرحه وحواشيه (8/92-95) .

(3)

البرهان (1/88-89) .

(4)

البرهان (1/282)، وانظر ما قبلها (ص: 280-281) .

(5)

هو عبد السلام بن أبي علي بن عبد الوهاب - تقدمت ترجمة أبيه عند الحديث عن الأشعري - ولد أبو هاشم سنة 277هـ، وتوفي سنة 321 هـ، وإليه تنسب فرقة البهشمية - إحدى فرق المعتزلة - انظر في ترجمته وآرائه: تاريخ بغداد (11/55) ، والمنتظم (6/261) ، والأنساب (3/176) ، ووفيات الأعيان (3/183) ، " وفي هذين المصدرين أنه ولد سنة 247هـ وهو خطأ"، وسير أعلام النبلاء (15/63)، والملل والنحل (1/78) والفرق بين الفرق (ص: 184) ، والتبصير بالدين (ص: 80) .

ص: 612

كتبه كثيراً، وأقرب مثال على ذلك قول الجويني بالأحوال، وتأكيده على ذلك بعد أن ذكر تردد الباقلاني في القول بها، ومما يلاحظ أن الباقلاني لما قال بالأحوال لم يوافق أبا هاشم الجبائي في أن الحال لا معدومة ولا موجودة، ولا معلومة ولا مجهولة -كما سبق بيان قوله - لكن الجويني وافق الجبائي في عدم اتصاف الحال بالوجود والعدم (1) ، ولإن قطع بأنها معلومة مقدورة مرادة (2) ، مع تفسير معين لهذه المعاني (3) .

ومن الأدلة على صلة الجويني بأبي هاشم دفاعه عنه فيما نسب إليه في مسألة تعريف العلم، وأن علم المقلد هل يعتبر علماً أم لا، يقول:" نقول: عقد المقلد إذا لم يكن له مستند عقلي فهو على القطع من جنس الجهل، وبيان ذلك بالمثال: إن من سبق إلى عقده أن زيداً في الدار، ولم يكن فيها، ثم استمر العقد، فدخلها زيد، فحال المعتقد لا يختلف وإن اختلف المعتقد، وعن ذلك نقل النقلة عن عبد السلام بن الجبائي - وهو أبو هاشم - أنه كان يقول: العلم بالشيء والجهل به مثلان، وأطال المحققون ألسنتهم فيه، وهذا عندي غلط عظيم في النقل، فالذي نصن عليه الرجل في كتاب الأبواب: إن العقد الصحيح مماثل للجهل، وعني بالعقد اعتقاد المقلد "(4) .

وفي مسألة الصلاة في الدار المعصوبة ذكر قول أبي هاشم الجبائي: أنها لا تصح، وبعد كلام ذكر معارضة المعترضين لكلامه ثم قال:" وأبو هاشم لا يسلم ذلك ولا أمثاله، وليس هو (5) ، ممن تزعه التهاويل "(6) ، ويذكر في إحدى المسائل أنه طلع على مصنفاته (7) .

(1) انظر: الشامل (ص: 639-341) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص: 642) .

(3)

انظر: تفصيل أقواله في الأحوال في الشامل (ص: 629-645)، والإرشاد (ص: 80) .

(4)

البرهان (1/121) .

(5)

في المطبوعة من البرهان لو، ولعله خطأ مطبعي.

(6)

البرهان (1/286) ، وفي الحاشية في نسخة ش، ع، ت ترمعه، وتزعه بمعنى: تكفه.

(7)

المصدر السابق (1/304) .

ص: 613

د - صلته بالفلسفة وعلوم الأوائل:

لم يكن الجويني فيلسوفاً، أو متبنياً لأفكار الفلاسفة، وإنما اطلع على كتبهم واستفاد منها في تأصيل المذهب الأشعري في بحوثه الكلامية ولذلك جاء تفكيره - كما عبر البعض - متسماً بنزعة فلسفية عميقة (1)، وتأثر الجويني بِكتب الأوائل من الفلاسفة تمثل فيما يلي:

1-

نقوله عنهم، يقول في مسألة إحاطة الإنسان بأحكام الإلهيات وحقائقها:" أقصى إفضاء العقل إلى أمور جميلة منها، والدليل القاطع في ذلك على رأي الإسلاميين: إن ما يتصف به حادث، وموسوم بحكم النهاية، يستحيل أن يدرك حقيقة ملا يتناهى، وعبر الأوائل عن ذلك بأن قالوا: تصرف الإنسان في المعقولات بفيض ما يحتمله من العقل عليه، ويستحيل أن يدرك الجزء الكل، ويحيط جزء طبيعي له حكم عقلي بما وراء عالم الطبائع، وهذه العبارات وإن كانت مستنكرة في الإسلام، فهي محومة على الحقائق"(2) .

2-

مسألة علم الله بالجزئيات، التي أثارت جدلاً بالنسبة للجويني، وهل وافق الفلاسفة في قولهم: إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات، والحق أن عبارة الجويني موهمة وذلك حين يقول:" وبالجملة علم الله تعالى إذا تعلق بجواهر لا تتناهى فمعنى تعلقه بها استرساله عليها من غير فرض تفصيل الآحاد"(3) ، وقد شنع عليه من العلماء الإمام المازري (4)، وقال:" إنما سهل عليه ركوب هذا المذهب إدمانه النظر في مذهب أولئك "(5) ، والجويني الذي قال العبارة الموهمة السابقة هو الذي يقول في نفس الكتاب " إن الرب تعالى كان

(1) انظر: مقدمة تحقيق الشامل (ص: 76) .

(2)

البرهان (1/142) .

(3)

البرهان (1/145-146) .

(4)

كما هجره صديقه القشيري لأجلها بقول الذهبي: " هذه هفوة اعتزال، هجر أبو المعالي عليها، وحلف أبو القاسم القشيري لا يكلمه، ونفي بسببها، فجاور وتعبد، وتاب ولله الحمد منها"(السير 18/472) .

(5)

طبقات السبكي (5/201) .

ص: 614

عالماً في أزله تفاصيل ما يقع فيما لا يزال " (1) ، وهذا نص في إثبات علم الله بالجزئيات، ولذلك دافع السبكي - بحق - في طبقاته عن الجويني وأطال الكلام حول هذه المسألة وأتى بالنقول من كتب الجويني الأخرى كالشامل والإرشاد، كما نبه إلى النص الذي نقلناه آنفاً من البرهان وهي نقول تدل على إثباته لعلم الله بالجزئيات "(2) .

3-

ومن معالم تأثره بالكتب الفلسفية ما هو واضح في منهجه من التحديد الدقيق للمصطلحات في كتبه، فهو قبل أن يبدأ في الكلام في أي باب يبدأ بتعريف المصطلحات والتعريفات (3) ، وتأخذ هذه المقدمات - أحياناً - قسطاً كبيراً من كتبه، وهذا المنهج الذي سلكه الجويني ظهر جلياً في كتب متأخري الأشعرية، حيث يصل الأمر أن تبلغ المقدمات أكثر من ثلثي الكتاب قبل أن يدخل المؤلف في المقصود من الكتاب وهو البحث في الإلهيات، ومن الأمثلة على ذلك كتاب شرح المقاصد، والمواقف وشروحه.

هـ - الفقه وأصوله عند الجويني وعلاقة ذلك بمذهبه الكلامي:

يعتبر الجويني من أئمة الشافعية، وقد سبقت الإشارة إلى أنه كتب كتاباً يفضل فيه مذهب الشافعي ويرى أنه الأحق بالاتباع، وهو ما صرح به أيضاً في البرهان (4) .

ومن الأمور الملفتة والبارزة في منهجه إدخاله مسائل المنطق والكلام في أصول الفقه، ولما كان كتابه من الكتب الأصولية المتقدمة فقد تأثر بمنهجه هذا من جاء بعده من الأشاعرة وغيرهم مثل الغزالي والرازي والآمدي وغيرهم.

يقول النشار في عرضه لمسألة إدخال المنطق الأرسطي في أصول الفقه: " أما الأشاعرة فقد احترزوا بأصولهم عن منطق أرسطوا، ونجد هذا واضحاً لدى عدو

(1) البرهان (2/130) .

(2)

انظر: طبقات السبكي (5/192-207) .

(3)

انظر: مثلاً لمع الأدلة (ص: 76) من أول الكتاب، وما بعدها، والإرشاد (ص: 5) وما بعدها.

(4)

(2/1148-1155) .

ص: 615

ممتاز للتراث اليوناني - أبي بكر الباقلاني - وهو شخصية ضخمة لم تبحث بع، ولم يصل إلينا إنتاجها الأصولي إلا خلال كتب المتأخرين أيضاً".

"

ولكن ما لبث علم الأصول أن اتجه وجهة أخرى على يد إمام الحرمين (478هـ) ، وقد كان المظنون أن إمام الحرمين سار على منهج المدرسة الكلامية الأصولية الأولى، إلا أنه تسنى لي بحث مخطوطة نادرة لكتاب البرهان فتبين لي أنه وإن كان إمام الحرمين خالف المنطق الأرسططاليسي في نقاط كثيرة إلا أنه تأثر به إلى حد ما، بل قد تجد عنده أول محاولة لمزج منطق أرسطو بأصول الفقه، فكما أنه خالف متكلمي أهل السنة في القول بالواسطة أولاً، ثم وافق أبا هاشم الجبائي في أقوال له كثيرة

تراه يخالفهم أيضاً في محاولته مزج المنطق الأرسططاليس في الأصول، ويمهد الطريق بذلك لتلميذه أبي حامد الغزالي (1) ، (2) وقد أدخل الجويني مسائل كلامية كثيرة في أصول الفقه ومنه صيغ الأمر (3) ، والكلام النفسي (4) ، وعلم الله (5) ، وتكليف ما لا يطاق (6) ، والاستطاعة (7) ، والمعجزة (8) ، والتحسين والتقبيح (9) وغيرها.

و حيرة الجويني ورجوعه:

لما كان الجويني ممن خاض في مسائل علم الكلام أكثر ممن سبقه، وما تميزت به شخصيته من استقلال واعتداد، بحيث لا يرى غضاضة في مخالفة

(1) للغزالي كتابه المشهور: المستصفي، وله المنخول من تعليقات الأصول نص في آخر على أنه اقتصر " على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل " المنخول (ص: 504) .

(2)

مناهج البحث (ص: 73) - ط الرابعة -.

(3)

البرهان (1/212) .

(4)

نفسه (1/199) .

(5)

نفسه (1/145) .

(6)

نفسه (1/102) .

(7)

نفسه (1/276) .

(8)

نفسه (1/148) .

(9)

نفسه (1/87) .

ص: 616

شيوخه وتزييف أقوالهم أحياناً ولو كانوا أعلاماً كالأشعري، والباقلاني، وابن فورك، وأبي إسحاق الإسفراييني وغيرهم، لهذا ولما يحسب من قصده الحق وتجرده فقد برز في كتبه ما يدل على تراجعه عن بعض أقواله، وانتهاء الأمر عنده إلى الحيرة ويمكن عرض الشواهد التالية من كتبه.

1-

في أثناء جواب الجويني عن المطاعن التي وجهت إلى اللمع للأشعري، ومنها استدلاله في إثبات حدث العالم بالنطفة وأنه لم يوضح الدلالة على حدثها القائم على إثبات الأعراض، وبعد مناقشات يقول الجويني:" ثم نقول: لا يتوقف ثبوت حدث العالم على إثبات الأعراض، ولكن من علم تعاقب الأحوال المتناقضةعلى بعض الذوات، علم استحالة عروة منها، فهذا يفضي به إلى العلم بحدث الذات، وإن لم يتعرض لكون الأحوال موجودات، وكونها أغياراً للذات، فلم يتوقف إذاً إثبات حدث الجواهر على إثبات الأعراض، هكذا قال ابن مجاهد والقاضي رضي الله عنهما فاستبان بما قلناه أنه لا يتوقف العلم بحدث العالم على العلم بثبوت الأعراض، فإن المقصد يثبت دون ذلك "(1) ، فالجويني يصرح هنا بأن دليل حدوث العالم

(1) الشامل (ص: 247)، ومن العجيب أن الجويني وهو يدافع عن الأشعري في عدم ذكره لدليل حدوث الأجسام قال:" إنه " أي الأشعري، رأى كثيراً من الناي ينفرون عن طرق الكلام ويأبونها، ولو صدر الكلام بإثبات الأعراض والتعرض للجواهر لن يأمن أن ينفر صدر كتابه مطالعه، فبدأ بإثبات الصانع في معرض لا يأباه أحد ثم ذكر حدث العالم في درج الكلام، الشامل (ص: 279) .

ص: 617

لا يتوقف على دليل حدوث الأعراض، ولكنه لما أخذ يرد على الكرامية في مسألة القول بأن الله جسم قال:" وسبيل الكلام أن يسألوا عن دلالة حدث العالم، فإن ترددوا فيها، ولم يستقلوا بإيرادها بأن عجزهم عن قاعدة الدين، وأصل المعارف، فإن السبيل الذي به تتوصل إلى معرفة المحدث ثبوت الحدث، وإن راموا ذكر الدلالة على حدث الأجسام، لم يطردوا دلالة إلا تقرر عليهم مثلها في الجسم الذي حكموا بقدمه"(1) ، ومن أصول أدلة حدوث العالم عند الجويني أن الجواهر لا تخلو من الأعراض (2) .

فالجويني في رده على الكرامية سد طرق إثبات حدث العالم إلا بطريق حدوث العالم إلا بطريق حدوث الأجسام والأعراض، وهو هناك في رده على خصوم الأشعري يصرح بأنه لا يتوقف إثبات حدوث الجواهر على حدوث الأعراض؟.

وقد رجح الجويني في إثبات الصانع إدعاء الضرورة في أن هذا العالم لابد له من خالق دون الدخول في طرائق الاستدلال، يقول الجويني بعد كلام ومناقشات حول ما ذكره الأشعري من أدلة إثبات الصانع وأن هذا الكون لابد له من خالق كما أن البناء لا بد له من بانٍ والكتابة لا بد لها من كاتب:" قال عبد الملك بن عبد الله: أسد الطرق اعندي في المسألة ادعاء الضرورة، ومن لم يسلك هذا المسلك أولاً اضطرته الحاجة إلى سلوكه أخرا "(3) ، وهذا الذي يدعي فيه الجويني الضرورة كتب حول الاستدلال له كلاماً طويلاً (4) .

2-

حيرته في مسألة هل المعدوم مأمور؟ وقد تقدم كلامه في ذلك حين قال: وهذا مما نستخبر الله تعالى فيه.

3-

في مسألة قدرة العبد ذكر في الشامل والإرشاد ولمع الأدلة (5) ، أنه لا تأثير لها كما هو مذهب جمهور الأشاعرة ثم رجع في النظامية إلى أن لها تأثير (6) .

4-

ومن الأمور المهمة رجوعه في نظرته إلى السلف، فإنه قال في كتابه - الكافية في الجدل - في الجواب عن الاعتراض الذي يقول: إن السلف لم يستخدموا بعض أنواع القياس في الرد على الخصم - فقال بعد ذكر عدة أجوبة: " وأيضاً فإنهم [أي السلف] لما علموا أنه قد يكون بعدهم من لعل الله سبحانه يخصه بجودة قريحة، وزيادة فهم، وفطنة وذكاء

لم يطولوا واقتصروا على النبذة والإشارة" (7) ،فهذه عبارات توحي بتجهيل وسلبية للسلف، لكنه يقول عنهم في الغياثي - الذي ألفه بعد النظامية - فهو في آخر كتبه (8) ، موصياً مغيث الدولة الذي هو نظام الملك - قائلاً: " والذي أذكره لائقاً بمقصود

(1) انظر: الشامل (ص: 411) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص: 204، 209، 220) .

(3)

المصدر السابق (ص: 282-283) .

(4)

انظر: الشامل (ص: 123-342) .

(5)

انظر: الشامل (ص: 182)، والإرشاد (ص: 208) ، ولمع الأدلة (ص: 107) .

(6)

انظر: النظامية (ص: 43-51) .

(7)

الكافية في الجدل (ص: 346-347) .

(8)

أحال الجويني في الغياثي (ص: 190) على النظامي.

ص: 618

هذا الكتاب أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء، وزاغت الآراء وكانوا رضي الله عنهم ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون رضي الله عنهم عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر، وتبلد في القرائح، هيهات، قد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجحهم بياناً

" (1) .

5-

حيرته في مسألة العلو - وقصته مع الهمذاني مشهورة (2) - وقد صرح بالحيرة في هذه المسألة في النظامية بعد كلام طويل (3) .

6-

رجوعه عن علم الكلام، وهو من الأمور المشهورة التي لا ينازع فيها إلا من يحمل في قلبه تعصباً أعمى للأشاعرة وعلومهم الكلامية، ومن أقواله في رجوعه:

أ - ما رواه الفقيه غانم الموشيلي: سمعت الإمام أبا المعالى يقول: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام "(4) .

ب - ما حكاه أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور " (5) .

(1) الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم (ص: 190-191)، وفي هذا الكتاب (ص: 193-194) ، هاجم المأمون بسبب تساهله مع المعطلة، وترجمته لكتب الأوائل، وحملة المسؤولية أمام الله.

(2)

انظرها: في العلو الذهبي (ص: 188)، وقال الألباني في مختصر العلو (ص: 277) " إسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ " وانظر: سير أعلام النبلاء (18/474، 175، 477) وطبقات السبكي (5/190) ، وحاول ردها بما لا طائل من ورائه.

(3)

انظر: النظامية (ص: 23) .

(4)

سير أعلام النبلاء (18/463) .

(5)

المصدر السابق (18/474) ، وطبقات السبكي (5/191) .

ص: 619

جـ - وروى عنه أنه قال: " قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني "(1) .

د - وقال أبو الحسن الشقيرواني الأديب -وهو من تلاميذ الجويني -: سمعت أبا المعالى يقول: " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به "(2) .

وقد حاول السبكي رد هذه الأقوال المروية عن الجويني بأساليب معهودة عند السبكي حين يتعلق الأمر بالطعن على الأشاعرة.

7 -

رجوع الجويني في النظامية.

اشتهر عن الجويني أنه رجع في النظامية وأبرز ما رجع فيه مسألتان:

أ - مسألة القدرة الحادثة وقوله: إنه مؤثرة بعد أن كان يرى أنها غير مؤثرة - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك -.

ب - مسألة الصفات الخبرية، فإنه قال: " اختلفت مسالك العلماء في الظواهرالتي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها، وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزام هذا المنهج في أي الكتاب وما يصح من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقلاً أتباع سلف الأمة، فالأولى الأتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي

(1) السير (18/474) ، والمنتظم (9/19) ، والسبكي (5/185) .

(2)

السير (18/474) ، والمنتظم (9/19) ، والسبكي (5/186) .

ص: 620

القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة.

وقد درج أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة.." (1) ، ورجوع الجويني في النظامية لم يكن رجوعاً كاملاً إلى مذهب السلف في جميع المسائل العقيدة وعلم الكلام، والدليل على ذلك:

1 -

أن رجوعه بالنسبة للصفات كان إلى التفويض، وليس هذا مذهب السلف.

2-

أن الجويني أبقى على بعض المسائل وعرضها كما هي في مذهب الأول ومنها مسألة حدوث الأجسام (2) ، وكلام الله (3) ، ومنع حلول الحوادث التي هي مسألة الصفات الاختيارية (4) ، والرؤية بلا مقابلة (5) ، كما أنه أوّل بعض الصفات مثل المحبة أوّلها بالإرادة (6) ، وفي الإيمان ذكر أولاً أنه التصديق (7)، ثم ذكر عند الكلام على زيادة الإيمان ونقصانه قول السلف: إنه معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وقال:" هذا غير بعيد في التسمية "(8) ، لكنه ذكر بعده القول الآخر؛ إنه التصديق، ولم يرجح بينهما.

*

*

*

هذا هو الجويني في أحواله وأقواله، ومما سبق يتبين كيف خطا بالمذهب الأشعري نحو الاعتزال، والتأصيل الكلامي.

(1) النظامية (ص: 32-33) .

(2)

النظامية (ص: 16) ، وما بعدها.

(3)

المصدر السابق (ص: 27-30) .

(4)

المصدر نفسه (ص: 27) .

(5)

نفسه (ص: 39) .

(6)

نفسه (ص: 61) .

(7)

نفسه (ص: 85) .

(8)

نفسه (ص: 90) .

ص: 621