الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حادي عشر: تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين:
النقد الذي وجهه شيخ الإسلام للمتكلمين - وفيهم الأشاعرة - من خلال هذا الموضوع - نقد فريد من نوعه، وهو يعتبر من أشد وأقسى ما وجه لهم من نقد. وتفرد شيخ الإسلام - فيما أعلم - بالتركيز على هذه المسألة إنما جاء نتيجة خبرته الواسعة بأقوال أهل الكلام وبأقوال أهل الفلسفة والباطنية، الذين كانوا يمثلون خطراً سياسياً وعقدياً على المجتمعات الإسلامية، خاصة قبيل وأثناء حياة شيخ الإسلام.
والناظر في تاريخ الفلاسفة، وتاريخ الحركات الباطنية، كالإسماعيلية ودولة الفاطميين، والقرامطة، وغيرها، يرد عليه سؤال محير، خلاصته: أن هذه الحركات الفلسفية والباطنية إذا كانت تقوم على صريح الكفر والإلحاد وتعطيل الشرائع، فكيف وجدت لها موطأ قدم، بل وأتباعاً بين المسلمين؟ وكيف لا تمضي فترة على شهرة الفيلسوف إلا وقد صار له أتباع وتلاميذ؟ وكيف أرسلت الدولة الفاطمية الباطنية دعاتها في مختلف أقطار العالم الإسلامي ليدعوا إلى نحلتهم، ثم يجد كثير من هؤلاء من يستجيب لهم؟. صحيح أن هؤلاء كانوا يستخدمون أساليب ملتوية، ويتظاهرون بالتشيع والرفض، ويقصدون أنواعاً من المناطق لا تخلو من وجود من يتستر بالزندقة، ولكن لماذا لم يبعث اليهود أو النصارى - وأولئك أشد كفراً منهم - بمن يدعو إلى نحلهم ومللهم، ولا شك أنهم سيحاولون لو كانوا يجدون من يستجيب لهم؟.
إن جانباً كبيراً من مدلول هذه الأسئلة يفسره هذا التسلط من جانب هؤلاء الملاحدة على المتكلمين المنتسبين إلى الأسلام، حين تلاعبوا بنصوص الوحي من الكتاب والسنة وأعملوا فيها آراءهم وعقولهم تأويلاً وتحريفاً.
إن الفيلسوف أو القرمطي لن يجد المشقة في إقناع أتباعه بما عنده من سفسطة أو قرمطة، إذا أطلعهم على أقوال وتأويلات هؤلاء المتكلمين - وقد يكون فيهم من هو من فقهاء الأمة وأعلامها - لأنه سيجد عند هؤلاء مقالات عجيبة،
مثل قول كثير منهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا حال فيه ولا بائن منه، أو قول بعضهم: إن الله في كل مكان، من غير حلول، وسيجد أيضاً من يؤول أكثر من ألف دليل من الكتاب والسنة دالة على إثبات علو الله تعالى وفوقيته على خلقه، وسيجد من يقول بإثبات رؤية الله في الدار الآخرة، ولكن من غير مقابلة ولا مواجهة، وسيجد من يقول: إن كلام الله معنى واحد، لا فرق فيه بين ما هو أمر أو نهي أو خبر. وسيجد غيرها من الأقوال التي تصادم العقول والنصوص.
فهل بعد ذلك سيجد الفيلسوف أو القرمطي أو الصوفي الغالي مشقة في إقناع أتباعه بتأويل نصوص المعاد، أو أنها خطاب للجمهور لإصلاح أحوالهم في الدنيا، أو تأويل نصوص العبادات والأوامر والنواهي؟.
حقاً إن ما عمله هؤلاء المتكلمون - حين خالفوا منهج ومذهب السلف في تلقي النصوص - أن فتحوا الباب لكل ملحد وزنديق أن يتأول كلام الله كيف يشاء.
والكلام هنا إنما هو لتفسير ما حدث، وليس للمفاضلة بين هؤلاء؛ إذ لا شك ولا ريب أن هؤلاء المتكلمين أفضل من أولئك، وأقوالهم أقرب إلى العقل والنقل من أقوال الملاحدة الخارجين عن الإسلام.
ولما كان من منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على خصومه، بيان كيف وقع التسلط من هؤلاء الملاحدة، حرص على ذكر أسباب ذلك، مع ذكر أنواع من هذا التسلط.
فقد ذكر شيخ الإسلام عدة أسباب لتسلط هؤلاء على المتكلمين:
1-
منها: "عدم علمهم بما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم تحقيقهم لقواعد المعقول، فإن الأقوال المبتدعة لابد أن تكون مناقضة للعقل والشرع"(1) .
(1) شرح الأصفهانية (ص: 331) - ت العودة.
2-
ومنها: "ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة، ويخالفون بها المعقولات الصحيحة، التي ينسر فيها خصومهم أو غيرهم"(1) .
3-
ومنها: "مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة، ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه"(2) .
وقد أشار شيخ الإسلام بإجمال في الرد على المنطقيين إلى عدد من هذه العقليات الفاسدة التي تسلط بسببها الفلاسفة على المتكلمين، فقال في مسألة رؤية الله: وإمكان رؤيته يعلم بالدلائل العقلية القاطعة، لكن ليس هو الدليل الذي سلكه طائفة من أهل الكلام كأبي الحسن وأمثاله؛ حيث ادعوا أن كل موجود يمكن رؤيته، بل قالوا: ويمكن أن تتعلق به الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، فإن هذا مما يعلم فساده بالضرورة عند جماهير العقلاء. وهذا من أغاليظ بعض المتكلمين، كغلطهم في قولهم: إن الأعراض يمتنع بقاؤها، وأن الأجسام متماثلة، وأنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل قسمة
…
وكذلك غلط من غلط من المتكلمين وادعى أن الله لم يخلق شيئاً بسبب ولا لحكمة، ولا خص شيئاً من الأجسام بقوى وطبائع، وادعى أن كل ما يحدث فإن الفاعل المختار الذي يخص أحد المتماثلين بلا تخصيص أصلاً يحدثه، وأنكر ما في مخلوقات الله وما في شرعه من الحكم التي خلق وأمر لأجلها" - يقول شيخ الإسلام معلقاً -: "فإن غلط هؤلاء مما سلط أولئك الفلاسفة، وظنوا أن ما يقوله هؤلاء وأمثالهم هو دين المسلمين أو قول الرسول وأصحابه، ولهذا كانت مناظرة ابن سينا هي للمعتزلة، وابن رشد للكلابية. وكانوا إذا بينوا فساد بعض ما يقول مبتدعة أهل الكلام يظنون أنه لم يبق حق إلا ما يقولونه هم، وذلك بالعكس، وليس الأمر كذلك، بل ما يقوله مبتدعة أهل الكلام
(1) نقض التأسيس المطبوع (1/223) .
(2)
المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة.
فيه خطأ مخالف للشرع والعقل، والخطأ فيما تقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين" (1) .
هذه أهم الأسباب التي يرى شيخ الإسلام أنها أدت إلى تسلط الفلاسفة على هؤلاء المتكلمين، وخلاصتها البعد عن دلائل الكتاب والسنة، والخوض في الدلائل العقلية الفاسدة.
وقد ألمح شيخ الإسلام لشيء من قصة تسلط الحركات الباطنية في العالم الإسلامي على أثر مقالات أهل الكلام، فقال عن دليل حدوث الأجسام الذي جاء به هؤلاء من المعتزلة والأشعرية: "فطريقتهم التي أثبتوا بها أنه خالق للخلق مرسل للرسل إذا حققت عليهم وجد لازمها أنه ليس بخالق ولا مرسل، فيبقى المسلم العاقل إذا تبين له حقيقة الأمر وكيف انقلب العقل والسمع على هؤلاء متعجباً، ولهذا تسلط عليهم بها أعداء الإسلام من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم، لما بينوا أنه لا يثبت به خلق ولا إرسال، فادعى أولئك قدم العالم، وأثبتوا موجباً بذاته وقالوا: إن الرسالة فيض على النبي من جهة العقل الفعال لا أن هناك كلاماً تكلم الله تعالى به، قائماً به أو مخلوقاً في غيره.
وكان في الوقت الذي أظهرت الجهمية في مقالتهم الأولى - وامتحنوا أئمة الإسلام كأحمد بن حنبل وغيره - قد ظهر أصل كلمة هؤلاء الملاحدة الباطنية، وذلك في إمارة المأمون ثم المعتصم، وتجدد بعد ذلك من الحوادث العظمية التي كانت في الإسلام في أثناء المائة الرابعة ما يطول شرحه مما تزلزل به أقطار البلاد الإسلامية" (2) ، ويقصد شيخ الإسلام ما قام به القرامطة، والباطنية من أحداث في العالم الإسلامي. وقد ظهرت تلك البدع المخالفة للشرع والعقل، وخفيت السنن الموافقة للعقل والسمع - دخلت الملاحدة من هذا الباب فأخذوا من أولئك
(1) الرد على المنطقين (ص: 310-311) .
(2)
شرح الأصفهانية (ص: 329-330) - ت العودة.
المبتدعة ما وافقتهم عليه، وجعلوه أصلاً لما يريدونه من إلحادهم زندقتهم " ثم ذكر أمثله فقال: " فصاروا يقولون للمعتزلي: أنت وافقتنا على إن ما قام به العلم والقدرة يكون جسماً، مشبهاً بخلقه، وذلك ممتنع، فكذلك ما سمى عالماً قادراً لا يكون إلا جسماً مشبهاً للخلق، فيجب عليك أن تنفي الأسماء كما نفيت الصفات.
ويقولون للكلابي: أنت وافقتنا على أن ما قامت به الحوادث فهو حادث فإن ما قامت به الحوادث لم يخل منها، فيكون حادثاً لامتناع حوادث لا أول لها، وما قامت به العراض فهو جسم محدث، فيجب عليك أن تنفي الصفات وتنفي العلم والقدرة؛ لأن هذه الصفات أعراض فلا تقوم إلا بجسم ولأن ما قامت به الأعراض قامت به الحوادث، ولا يفرق بين هذا عقل ولا نقل، فقولك: إنه تقوم الأعراض دون الحوادث تناقض، فإذا قال: أنا لا أسمي ما يقوم به عرضاً لأن العرض لا يبقى زمانين، وصفاته باقية عندي، قالوا: قولك: إن العرض لا يبقى زمانين، مخالف لصريح العقل، بل هو مما يعلم فساده بضرورة العقل، وحينئذ فلا فرق بين بقاء صفاته وصفات غيره، فإما أن تسمى الجميع عرضاً، أو لا تسمى الجميع عرضاً، وإذا قال: إنما قلت: إنه لا يقبل الحوادث لأن ما قامت به الحوادث لا يخلو منها، قالوا له: وإذا كان عندك قد صار فاعلاً بعد أن لم يكن، ولم يلزم من ذلك أنه لا يخلو من الفعل فقل: إنه قام به الفعل بعد أن لم يكن، كما قال إخوانك من مثبتة الصفات: الكرامية وغيرهم، ولا يلزم من ذلك أن يكون الفعل لم يقم به ".
يقول شيخ الإسلام معلقاً على هذا " إلى غير ذلك من الحجج التي صار يحتج بها الملاحجة على أصناف أهل الكلام المحدث، حتى حدث في الإسلام من شر القرامطة الباطنية والفلاسفة الملاحدة ما يعرفه من عرف أيام الإسلام "(1) .
وأهم الجوانب التي تسلط بها هؤلاء الملاحدة على الأشاعرة والمتكلمين:
1-
دليل المتكلمين على حدوث العالم الذي هو دليل حدوث الأجسام،
(1) شرح الأصفهانية (ص: 330-331) - ت العودة.
فإن الفلاسفة لما رأوا تناقضهم في ذلك قالوا: لما كان دليلكم متناقضاً صح قولنا بقدم العالم لأنكم لم تستطيعوا الاستدلال على إفساده.
2-
خوض المتكلمين في التأويل لنصوص العلو والصفات، فقالت الملاحدة من الفلاسفة والباطنية ونحن أيضاً نتأول نصوص المعاد، أو نصوص الأحكام الشرعية.
وقبل الانتقال إلى بيان تعليق شيخ الإسلام على ذلك، نعرض رأي الأشاعرة في هذه المسألة، والملفت للنظر - حسب ما اطلعت عليه من كتب الأشاعرة - أن غالب الأشاعرة لم يذكروها أو لم يعروها اهتماماً، والذي عرض لها - على حد علمي - هو من خاض في الفلسفة منهم، وبالتحديد الغزالي والرازي.
أما الغزالي فقد ذكر ذلك في ثلاثة من كتبه، هي تهافت الفلاسفة، وفضائح الباطنية، وإحياء علوم الدين، وأما الرازي فقد ذكرها في اثنين من كتبه هما: نهاية العقول، والأربعين في أصول الدين، فماذا أجاب هؤلاء وكيف ناقشوا هذا الموضوع الخطير؟
يقول الغزالي عن نصوص المعاد وحشر الأجساد والجنة والنار- في أثناء رده على الفلاسفة الذين حصروا السعادة بسعادة النفوس والأرواح دون الأجساد (1) - " فإن قيل: ما ورد في الشرع [أي من نصوص المعاد] أمثال ضربت على حد أفهام الخلق، كما أن الوارد من آيات التشبيه وأخباره أمثال على حد فهم الخلق، والصفات الإلهية مقدسة عما يتخيله عوام الناس؟ يقول الغزالي: " والجواب أن التسوية بينهما تحكم، بل هما يفترقان من وجهين:
(1) ذكر ابن سينا في النجاة (ص: 291) - ط الكردي أن المعاد قسمان: بدني، جاءت به الشريعة، ولا يمكن إثباته إلا بها. والحكماء لا يكادون يلتفتون إلى هذا، والثاني: عقلي وهو الذي يكون للنفوس، ثم شرح ذلك بما ينقض ويرد النوع الأول، وانظر: تعليق سليمان دنيا في حاشية تهافشت الفلاسفة (ص: 294-295) .
أحدهما: أن الألفاظ الواردة في التشبيه تحتمل التأويل على عادة العرب في الاستعارة، وما ورد في وصف الجنة والنار، وتفصيل تلك الأحوال بلغ مبلغاً لا يحتمل التأويل، فلا يبقى إلا حمل الكلام على التلبيس بتخييل نقيض الحق لمصلحة الخلق، وذلك ما يتقدس عنه منصب النبوة، الثاني: أن أدلة العقول دلت على استحالة المكان والجهة والصورة ويد الجارحة وعين الجارحة، وإمكان الانتقال والاستقرار على الله سبحانه وتعالى. فوجب التأويل بأدلة العقول، وما وعد به من أمور الأخرة ليس محالاً في قدرة الله تعالى فيجب إجراؤه على ظاهر الكلام، بل على فحواه الذي هو صريح فيه " (1) . وقال في فضائح الباطنية - ويلاحظ أنه في هذين الكتابين يتبنيى مذهب الأشاعرة - " فإن قيل فهلا سلكتم هذا المسلك في التمثيلات الواردة في صفات الله تعالى من آية الاستواء وحديث النزول ولفظ القدم.. إلى غير ذلك من أخبار لعلها تزيد على ألف، وأنتم تعلمون أن السلف الصالحين ما كانوا يؤولون هذه الظواهر، بل كانوا يجرونها على الظاهر، ثم إنكم لم تكفروا منكر هذه الظواهر، بل اعتقدتم التأويل وصرحتم به - قلنا: كيف تستتب هذه الموازنة والقرآن مصرح بأنه {ليسيَ كَمثْلِهِ شًيْء} (الشورى: 11) ، والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى، ونحن نعلم أنه لو صرح مصرح فيما بين الصحابة بأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان ولا يماس جسماً ولا ينفصل عنه بمسافة مقدرة وغير مقدرة ولا يعرض له انتقال وجيئة وذهاب وحضور وأفول، وأنه يستحيل أن يكون من الآفلين والمنتقليين والمتمكنين إلى غير ذلك من نفي صفات التشبيه لرأوا ذلك عين التوحيد [والتنزيه (2) ]
ولو أنكر الحور والقصور والأنهار والأشجار والزبانية والنار لعد ذلك من أنواع الكذب والإنكار، ولا مساواة بين الدرجتين " (3) . ثم أحال مع زيادة وشرح على ماسبق أن ذكره في نفس الكتاب (4) - وهو مقارب جداً لما أورده
(1) تهافت الفلاسفة (ص: 291-293) ، - ت سليمان دنيا.
(2)
في المطبوعة - ت بدوي [والتنزيل] وهو تحريف أو خطأ مطبعي..
(3)
فضائح الباطنية (ص: 154-155) .
(4)
انظر: المصدر السابق (ص: 53-155) .
في التهافت من ذكر الوجهين لكنه زاد على ما في التهافت بأن عقب بقوله: " ومساق هذا الكلام يتقاضى بث جملة من أسرار الدين إن شرعنا في استقصائها ورغبنا في كشف غطائها "(1) .
وخلاصة رد الغزالي أن نصوص الصفات محتملة، أما نصوص المعاد فهي كثيرة بحيث بلغت مبلغاً لا يحتمل التأويل، ثم إن أدلة العقول أوجبت تأويل نصوص الصفات أما نصوص المعاد فلا تؤول لأنها لا تخالف أدلة العقول، وهؤلاء الملاحدة قد يقولون: إن نصوص الصفات أكثر من نصوص المعاد، كما أنهم قد يعترضون باعتراضات عقلية علىنصوص المعاد، فكيف يكون جوابهم؟
والي يظهر أن الغزالي شعر بضعف المناقشة فأحال في الإحياء - لما تطرق إلى هذا الموضوع - إلى الكشف، فقال بعد كلام طويل حول تباين الطوائف في التأويل بحيث وصل الأمر بالفلاسفة أن يؤولوا كل ما ورد في الآخرة:" وجد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله، وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قروره، وما خالف أولوه، فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم ولا يتعين له موقف "(2) .
وهكذا انتقل الغزالي من ضعف المناقشة إلى الإحالة على الكشف.
أما الرازي: فإنه قال في مسألة إثبات المعاد بعد أن استدل عليه بنصوص السمع، وإجماع الأنبياء: " فإن قيل: لا نسلم إجماع الأنبياء - صلوات الله عليهم - على ذلك، وأما الظواهر في القرآن والأخبار الدالة على إثبات المعاد البدني فإنه لا يجوز التعويل عليها في هذه المسألة من وجهين: أحدهما: أنكم قد دللتم في أول هذا الكتاب على أن التمسك بظواهر الآيات والأحاديث لا يفيد القطع.
(1) فضائح الباطنية (ص: 155) .
(2)
إحياء علوم الدين (1/104) .
وثانيهما: هو أن المتشابهات الواردة في القرآن الدالة على التشبيه ليست أولى ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على إثبات المعاد الجسماني، ثم إنكم تجوزون تاويل تلك الآيات، فلم لا تجوزون أيضاً تأويل الآيات الواردة هاهنا.." (1) ، ثم قال الرازي في الجواب: " قولكم قد دللتم على أن التمسك بظواهر الآيات والأخبار لا يفيد القطع قلنا: لم نتمسك في هذا الموضع بآية معينة ولا بحديث معين، وإنما تمسكنا بما علم ضرورة من دين الأنبياء عليهم السلام في إثبات المعاد البدني، وبهذا خرج الجواب عن قوله: إن في كتاب الله آيات كثيرة دالة على التشبيه والقدر لأنا لم نتمسك بالآيات حتى يلزمنا الجواب عن هذه المعارضة، بل الأمر المعلوم بالضرورة من دينهم، ولم يقل أحد: إنهم علم من دينهم عليهم السلام بالضرورة قولهم بالتشبيه والقدر، فظهر الفرق " (2) . فالرازي أحال على الضرورة فقط دون النصوص في المعاد.
ويذكر الرازي في باب التكفير - بعد أن رجح ماحده الغزالي للكفر وهو أنه " تكذي الرسول في شيء مما جاء به ونعني بالتكذيب نفس التكذيب بما علم من الدين ضرورة "(3)، يذكر عدة اعتراضات منها:" أن صاحب التأويل إما أن يجعل من المكذبين، بل يجعل من المكذبين من يرد قوله عليه السلام من غير تأويل - وإما أن يجعل من المكذبين، فإن كان الأول لزمنا أن لا نكفر الفلاسفة في قولهم بقدم العالم، وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات (4) ،وإنكارهم الحشر والنشر، لأنهم يذكرون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم النصوص الواردة في التشبيه، لأنهم يحملون النصوص الواردة في خلق الله تعالى العالم على تأثيره في العالم واحتياج العالم في وجوده إليه، ويحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات، على أنه قد يعلم كل الجزئيات، على وجه كلي،- ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في شقاوتها وسعادتها بعد المفارقة "(5) ، ثم قال
(1) نهاية العقول - مخطوط - (265 - أ) .
(2)
المصدر السابق (266- ب) .
(3)
المصدر نفسه (288-أ) .
(4)
في المخطوطة: الجهات، والتصويب، من نقض التأسيس، المطبوع، (1/225) .
(5)
نهاية العقول (288-أ) .
في الجواب: " إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم، وإثبات العلم بالجزئيات وإثبات الحشر والنشر، وأن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه، ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل ما خالف دينه فهو يكفر.. فالحاصل أنا لا نكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر، بل للإجماع على الوجه المذكور، ومثله غير حاص على الاختلاف الحاصل بين الأمة "(1) ،
أي في موضوع الصفات، فالرازي أحال على الضرورة والإجماع، وهذا صحيح، لكنه عجز عن جوابهم بنصوص الوحي مع اعتراضهم عليه بتأويله لنصوص الصفات.
وفي الأربعين ذكر اعتراض هؤلاء الملاحدة بقوله: " ثم إن المتكلمين سلطوا التأويلات على تلك الظواهر وزعموا أن المبدأ منزه عن الأحوال الجسمانية فكذا المعاد المذكور في الكتب الإلهية فلم لا يسلطون التأويلات عليها، ولم ينكرون أن يكون ذلك المعاد مبرأ عن الأحوال الجسمانية.."، ثم قال في الجواب:" إن التأويلات إنما يصار إليها لو كان الاحتمال قائماً، ولما علمنا بالنقل المتواتر المستفيض من دين محمد عليه السلام أنه إنما كان مثبتاً للمعاد الجسماني ومكفراً لكل من كان منكراً له لم يبقَ في هذا الباب مجال "(2) . فأحال على النقل المتواتر ومعلوم أن نصوص الصفات والعلو أيضاً معلومة بالنقل المتواتر، فما الفرق؟
وقد سبق ذكر أن الغزالي أحال على أدلة العقول وأنها تقتضي تأويل بعض آيات الصفات دون نصوص المعاد، وهذا هو جواب المعتزلة والمائلين إلى مذهبهم من الزيدية في درودهم على الباطنية، فقد قال يحيى بن حمزة العلوي (3)
(1) هذا النص ساقط من نسخة نهاية العقول التي بين يدي، مع أن الكلام في الصفحة المقابلة مستمر، لكن الموضوع مختلف - وقد أكملته من نقض التأسيس - المطبوع - (1/225-226) ..
(2)
الأربعين للرازي (ص: 293) .
(3)
هو المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، العلوي، ولد في مدينة صنعاء سنة 669هـ، ودعا إلى نفسه بعد موت الإمام محمد بن المطهر سنة 729هـ، وله مؤلفات عديدة وهو من علماء الزيدية الكبار، توفي في ذمار باليمن سنة 745هـ، انظر: البدر الطالع (2/331) ، والأعلام (8/143) ، ومعجم المؤلفين (13/195) .
- المعاصر لابن تيمية -: " فإن قالوا: هذا ينقلب عليكم، فإنكم تجوزون تأويلات الظواهر كما أولتم اليد والوجه ولفظ الاستواء وغيرها، قلنا: هيهات ما أبعد هذا القلب وأعمى قلب صاحبه عن الحق، فإن لنا معياراً صادقاً وفيصلاً فارقاً في التأويل، وهو نظر العقل، فإن دل العقل على بطلان ظاهر اللفظ وكان له معنى سائغ في اللغة بطريق التجوز حملناه عليه، فلما دل العقل على بطلان اليد والوجه وغيرها لأنها من سمات الحوادث حملنا ذلك على معانٍ سائغة في اللغة بطريق المجاز "(1) ، وهذا هو جواب الغزالي، أما كتب الباطنية نفسها فقد نصت على التأويل وأن تأويلاًَ ليس ألأولى من تأويل (2) .
هذه أجوبة المتكلمين - أشاعرة ومعتزلة - على هذا المأزق الذي أوقعهم فيه ملاحدة الفلاسفة والباطنية، والملاحظ أن الفلاسفة جعلوا النصوص الواردة في الصفات والمعاد نسقاً واحداً، وقالوا إن المقصود بها خطاب الجمهور، أما الخاصة - من أهل الحكمة - فيتأولونها كلها.
فابن سينا جعل الشرع والملل الآتية على لسان الأنبياء برام بها خطاب الجمهور كافة - وقد سبقت الإشارة إلى قانونه هذا (3)، وقد بنى تطاوله على المتكلمين على مايلي:
1-
أن قول المتكلمين بأن هناك نصوصاً تقبل التأويل وأنها من قبيل المجاز ويمثلون لذلك بنصوص الصفات مثل: اليد والوجه والإتيان والاستواء والضحك والغضب وغيرها. فكذلك يقال في نصوص المعاد، يقول ابن سينا: " والمواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع في مثلها تصلح أن تستعمل على هذا الوجه
(1) مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار (ص: 90)، وانظر (ص: 171-176) - ط الثالثة.
(2)
انظر مثلاً: تاج العقائد للداعي الإسماعيلي اليمني علي بن محمد بن الوليد (ص: 113-117) حيث نص على أن تأويلهم ليس بأولى من تأويل المتكلمين.
(3)
انظر: ما سبق (ص: 629) ، عند الكلام على الغزالي ومنهجه.
ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس " (1) . وهو يشير بقوله: " مواضع في مثلها " إلى نصوص المعاد والجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب الحسي.
2-
أن نصوص الصفات منها ما يقبل التأويل - على حد زعم ابن سينا - ولكن فيها ما لا يقبل التأويل بحال، ويضرب لذلك بمثل قوله تعالى:{هَلْ ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} (الأنعام: 158)، ويقول عنها وما يجري مجراها:" ليس مماتذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازة، فإن كان أريد فيها ذلك إضماراً فقد رضي بوقوع الغلظ والشبهة، والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحاً "(2)، وبعد أن يذكر بعض النصوص التي هي في موضع المجاز والاستعارة على حد زعمه مثل نصوص اليد والجنب يقول عنها:" كما أن في هذه الأمثلة لا تقع شبهة في أنها استعارة مجازية كذلك في تلك لا تقع شبهة في أنها ليست استعارة ولا مراداً فيها شيء غير الظاهر"(3) ، والنتيجة التي يريد ابن سينا أن يخلص إليها هي أنه إذا كانت هناك نصوص صريحة ظاهرة ولا تقبل التأويل، ثم إنكم أيها المتكلمون تأولتموها، فهذا يدل على أن نصوص الشرع كافة غير مقصود بها ما يدل عليه ظاهرها، لذلك تصبح من باب خطاب الجمهور وهي غير محتج بها في هذه الأبواب ومن ثم فيجب ألا يعتمد في إثبات المعاد عليها، بل المرجع في ذلك إلى العقل وأدلته (4) .
أما ابن رشد (5)
- أخطر الفلاسفة - فقد حاول أن يقارب الهوة التي تفصل بين دين الأنبياء ومذاهب الفلاسفة، وذلك بقوله إن للنصوص ظاهراً
(1) الأضحوية لابن سنيا (ص: 99) .
(2)
المصدر السابق (ص: 99-100) .
(3)
المصدر نفسه (ص:100) .
(4)
المصدر نفسه (ص:103) .
(5)
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، المسمى بابن رشد الحفيد، تمييزاً له عن جده شيخ المالكية، ولد الحفيد سنة 520هـ، واتصل - عن طريق الفيلسوف ابن طفيل - بالأمير الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، الذي كان مائلاً إلى أقوال الفلاسفة - فكلفه بشرج وتقريب كتب أرسطو، ففعل ابن رشد وألف في ذلك كتباً عديدة من أشهرها شرح ما بعد الطبيعة لأرسطو - مطبوع - فلما تولى المنصور يعقوب قربه أولاً، ثم نكبه ثانياً فنفى وأحرقت كتبه، ثم رضى عنه لكنه توفي بعد ذلك =بقليل سنة 594هـ، وقيل سنة 595هـ، من مؤلفاته: تهافت التهافت، ومناهج الأدلة، وفصل المقال، وغيرها كثير، ويعتبر ابن رشد من أخطر الفلاسفة لأمور: أولهما: أنه كان قاضياً وفقيهاً، وهو صاحب بداية المجتهد وهذا يعطيه مكانة بين الناس، وثانيها: أنه حاول أن يقرب بين الفلسفة والدين، وأن يجعل من هؤلاء الملاحدة أناساً أخياراً وفضلاء، وثالثهما: التصاقه بالدولة الموحدية التي قامت على أنقاض الدولة المرابطية المسنية، وهذا أعطاه جرأة في أقواله وآرائه ولذلك لم يستطع علماء الإسلام أن يبينوا حقيقة حاله إلا بعد جهد، انظر في ترجمته ومحنته، عيون الأنباء (ص: 530) ، والديباج المذهب (2/257)، وتاريخ قضاة الأندلس (ص: 111) ، وسير أعلام النبلاء (21/307) ، والوافي (3/114)، وانظر ابن رشد للعقاد (ص: 18-26) ، وابن رشد فيلسوف قرطبة (ص: 9) ، وما بعدها، وفي فلسفة ابن رشد الوجود والخلود - بيصار (ص: 39) ، وما بعدها، وابن رشد الحفيد: حمادي العبيدي (ص: 13) ، وما بعدها، وقصة الصراع بين الدين والفلسفة، توفيق الطويل (ص: 126-133) ، ودراسات في الفلسفة الإسلامية، محمود قاسم (ص: 87-135) وغيرها..
وباطناً، وأن الشريعة قسمان: ظاهر مؤول، فالظاهر فرض الجمهور والمؤول فرض العلماء، وقد نص على ذلك في بعض كتبه (1) ، ولم يجل التأول خاصاً في بعض صفات الله كما فعل الأشاعرة، بل جعله عاماً في الصفات والمعاد والجنة والنار وغيرها، واشترط أن يقوم بهذا التأويل العلماء أو من يسميهم أهل البرهان وهم الحكماء الفلاسفة عنده، أما الجمهور والعامة فالتأويل عليهم حرام، والإفصاح لهم بحقائق التأويل الفلسفية لا يجوز (2)، يقول:"وهاهنا أيضاً ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة، ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في السوداء إذا أخبرته أن الله في السماء: أعتقها فإنها مؤمنة"(3) ، إذ كانت ليست من أهل البرهان" (4) . ولذلك فخطأ الأشاعرة الذي وقعوا فيه - عند ابن رشد - هو أنهم صرحوا بهذا التأويل للجمهور، فلو أنهم حجبوه عنهم وصرحوا به لأنفسهم ولمن كان من أهل الحكمة والبرهان لكان موقفهم سليماً كما يرى الحفيد.
(1) انظر: فصل المقال (ص: 44-46) ، - ت عمارة، وتهافت التهافت (2/550-551) ، - ت سليمان دنيا، والكشف عن مناهج الأدلة (ص: 40) ، ضمن فلسفة ابن رشد.
(2)
انظر: تهافت التهافت (2/557-558) .
(3)
سبق تخريجه (ص: 565) . والحديث رواه مسلم.
(4)
فصل المقال (ص: 48) .
والملاحظ أن ابن رشد - وهو يتكلم عن الظاهر والباطن - قسم النصوص إلى ثلاثة أقسام:
1-
قسم تأويله كفر، وهو ما كان في الأصول، ويمثل لذلك بمن يعتقد أن لا سعادة أخروية ولا شقاء، وأنه قصد بما ورد فيها إصلاح أحوال الناس في الدنيا، وأن ذلك حيلة، وأنه لا موجود إلا المحسوس (1) ، وابن رشد يريد بهذا القول أن يدافع عمن يقلده من الفلاسفة، وأنهم لم يقصدوا إنكار وجود سعادة أخروية، ،وإن فسروا هذه السعادة بأنها للنفوس والأرواح فقط.
2-
ما يجب تأويله من الظواهر لأهل البرهان فقط دون العامة، مثل الصفات والعلو - كما سبق بيانه -.
3-
وهناك نوع ثالث - وهذا هو الموطن الذي تسلط فيه على المتكلمين - متردد بين هذين الصنفين عند أهل النظر والبرهان فقط، فبعضهم يلحقه بالأول وبعضهم يلحقه بالثاني، والمخطئ فيه منهم معذور، أما الجمهور فليس لهم تأويله، ويجعل ابن رشد أمر المعاد من هذا النوع فيقول:"فإن قيل: فإذا تبين أن الشرع على ثلاث مراتب، فمن أي هذه المراتب الثلاث هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله، فنقول: إن هذه المسألة، الأمر فيما بين، إنها من الصنف المختلف فيه، وذلك أنا نرى قوماً ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون: إن الواجب حملها على ظواهرها؛ إذ كان ليس هاهنا برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها، وهذه طريقة الأشعرية، وقوم آخرون أيضاً ممن يتعاطى البرهان يتأولونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً، وفي هذا الصنف أبو حامد معدود، هو وكثير من المتصوفة، ومنهم من يجمع فيه التأويلين كما فعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه"(2)، ثم يقول ابن رشد: "ويشبه
(1) فصل المقال (ص: 47) .
(2)
فصل المقال (ص: 49-50) ، أما ما أشار إليه ابن رشد من مذهب الغزالي، فقد سبق في ترجمة الغزالي بيان ميوله الفلسفية والصوفية، فمثل ما يشير إليه ابن رشد ليس غريباً عليه، وانظر الاقتصاد (ص: 134-135) والأربعين (ص: 215-216) ، والغزالي لا ينكر المعاد، بل ثبته - وقد سبق نقل رده على الباطنية فيه - ولكنه في بعض كتبه يفسر بعض أحواله تفسيرات فلسفية.
أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذوراً، والمصيب مشكوراً أو مأجوراً، وذلك إذا اعترف بالوجود، وتأول فيها نحواً من أنحاء التأويل أعني في صفة المعاد، لا في وجوده
…
" (1) . وهكذا فابن رشد يجعل إثبات المعاد الجسماني وتفاصيل ما ورد عن الجنة وما فيها من أنواع النعيم، والنار وما فيها من ألوان العذاب، كل ذلك قابل للتأويل، لكن لأهل البرهان فقط دون الجمهور، مثل الصفات تماماً.
وتفريق الأشعرية - على حد زعمه - مما لا دليل عليه (2) .
وبعد هذا النقل المطول لأقوال الأشاعرة والفلسفة في هذا الموضوع المهم، نأتي إلى أقوال ومواقف شيخ الإسلام من ذلك، وقد سبق في بداية هذه الفقرة ذكل تعليله لأسباب هذا التطاول:
1-
وأول ما يلاحظ أن شيخ الإسلام ركز على ذكر تطاول المعتزلة على الأشاعرة وكشفهم لتناقضهم. ومعلوم أن الأشاعرة يعتبرون مذهبهم مخالفاً لمذهب وأصول المعتزلة، ولذلك يردون عليهم كثيراً، ويبرزون - في كتبهم - القضايا التي هي موطن خلاف بينهم، ولما كانت مخالفة المعتزلة لمذهب أهل السنة مما لا يشك فيه أحد من الأشاعرة ذكر شيخ الإسلام أن هؤلاء تطاولوا عليهم وأظهروا تناقضهم. ففي معرض الرد على الأشاعرة بعد ذكره لوجه مطول في تناقضهم في الشرعيات والعقليات، يقول:"أن يقال هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم وظننتم أنكم بها صرتم مؤمنين بالله وبرسوله وباليوم الآخر، وزعمتم أنكم تقدمتم بها على سلف الأمة وأئمتها وبها دمغتهم أهل الإلحاء من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم وتسلط عليكم عدوكم وتوجب تكذيب نبيكم والطعن في خير قرون هذه الأمة، وهذا أيضاً فيما فعلتموه في الشرعيات والعقليات"(3)، ثم ذكر نماذج لذلك ومنها:
(1) فصل المقال (ص: 49-51) .
(2)
انظر: فصل المقال (ص: 51-53) ، حيث ينعني ابن رشد على أبي حامد ذكره للتأويلات في الكتب التي ألفت للجمهور، وانظر: المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد. محمد عمارة (ص 18-28) .
(3)
التسعينية (ص: 261) .
أ- أن الأشاعرة مع مخالفتهم للمعتزلة في مسألة الرؤية والقرآن - وهي من البدع القديمة التي أظهرها المعتزلة والجمهية - إلا أنهم وافقوهم على نفي العلو والقول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه والعجيب "أن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من (1) اليهود والنصارى، لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم الناس إليها، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم" - يقول شيخ الإسلام مخاطباً الأشاعرة -: "فموافقتكم للمعتزلة على ما أسروه من التعطيل والإلحاد الذي هو أعظم مخالفة للشرع والعقل مما خالفتموه (2) فيه في مسألة الرؤية والقرآن، فإن كل عاقل يعلم أن دلالة القرآن على علو الله على عرشه أعظم من دلالته على أن الله يرى
…
فوافقتم الجهمية المعتملة وغيرهم على ما هو أبعد عن العقل والدين مما خالفتموهم فيه" (3)، ثم يقول شيخ الإسلام - مخاطباً الأشاعرة - إن هذا أوجب فسادين عظيمين:
"أحدهما: تسلط المعتزلة ونحوهم عليكم، فإنكم لما وافقتموهم على هذا التعطيل، بقي بعد ذلك إثباتكم للرؤية ولكون القرآن غير مخلوق قولاً باطلاً في العقل عند جمهور العقلاء، وانفردتم عن جميع طوائف الأمة بما ابتدعتموه في مسألة الكلام والرؤية، وقويت المعتزلة بذلك عليكم وعلى أهل السنة، وإن كنتم قد رددتم على المعتزلة"(4) ، وذلك بما فعله الأشعري وغيره من إبراز تناقض المعتزلة.
والثاني: "أن الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهر فيه خلاف المعتزلة، وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى، كما في مسألة الرؤية فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في إثباته
…
" (5) ، وكذا في مسألة القرآن وكلام الله (6) .
(1) كذا في المطبوعة من التسعينية، ولعل العبارة: من [أقوال] اليهود..
(2)
لعل الصواب خالفتموهم.
(3)
التسعينية (ص: 262-263) .
(4)
المصدر السابق (ص: 263) .
(5)
المصدر السابق (ص: 364) .
(6)
المصدر السابق (ص: 264-269) .
ب- وكذلك ما خالفوا فيه المعتزلة كمسألة الأسماء والأحكام حيث مالوا إلى مذهب المرجئة وقالوا مقابلة لمذهب المعتزلة: لا نعلم الفساق هل يدخل أحد منهم النار أو لا يدخلها، فوقفوا وشككوا في نفوذ الوعيد في أهل القبلة جملة، وهذا أشد ابتداعاً من مذهب المعتزلة، والسلف رحمهم الله لا يتنازعون في أنه لابد أن يدخل النار من يدخلها من أهل الكبائر ولكن لا يخلدون فيها، وهذا خلاف مذهبي المعتزلة والمرجئة (1) .
جـ - وكذا ردودهم على المعتزلة في مسائل القدر (2) .
ويقول شيخ الإسلام معقباً على ما سبق: "وأنتم قد خالفتم من نصوص الكتاب والسنة وسلف الأمة في مسائل الصفات والقرآن والرؤية ومسائل الأحكام والقدر وما تأولتموه، فالمعتزلة ونحوهم إذا خالفوا من ذلك ما تأولوه لم يكن لكم عليهم حجة، وإذا قدحتم في المعتزلة بما ابتدعوه من المقالات وخالفوه من السنن والآثار قدحوا فيكم بمثل ذلك، وإذا نسبتموهم إلى القدح في السلف والأئمة نسبوكم إلى مثل ذلك، فما تذمونهم به من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع يذمونكم بنظيره، ولا محيص لكم عن ذلك إلا بترك ما ابتدعتموه وما وافقتموهم عليه من البدعة، وما ابتدعتموه أنتم، وحينئذ فيكون الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها سليماً من التناقض والتعارض"(3) .
وهناك نماذج أخرى عديدة يرمي فيها المعتزلة الأشاعرة بالتناقض في الأقوال (4) ، وحينما يتسلط هؤلاء على الأشاعرة، ويتبين أن أقوال هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى مذهب السلف قريبة من أقوال هؤلاء المعتزلة - بل قد تكون أكثر تناقضاً منهم وأعظم بعداً عن مذهب السلف - حينما تبرز مثل هذه الحقائق،
(1) التسعينية (ص: 269-270) .
(2)
انظر: المصدر السابق (ص: 270-271) .
(3)
انظر: المصدر نفسه (271-272) .
(4)
انظر مثلاً: منهاج السنة (2/305) - المحققة -، والكيلانية، - مجموع الفتاوى (12/436)، وشرح الأصفهانية (ص: 69-72) - المطبوعة - والتسعينية (ص: 93-94) ، ودرء التعارض (5/250-251) .
فإنها تكون من أعظم البيان والحجة على فساد ما خالف فيه الأشاعرة مذهب أهل السنة والجماعة، خاصة وأن المعتزلة اشتهروا بمخالفة مذهب السلف، بل إن بعض أئمة أهل السنة كفروهم.
2-
وإذا كان ما سبق فيه بيان تطاول المعتزلة على الأشاعرة، فإن غلاة الصوفية والفلاسفة والقرامطة تسلطوا على الفريقين جميعاً، يقول شيخ الإسلام في معرض فضحه لعقائد غلاة الصوفية كابن عربي وابن سبعين، وبيانه لما كان بينهم وبين القرامطة الباطنية من اتصال (1)، يقول عن ابن سبعين:"وهو وابن عربي وأمثالهما في ترتيب دعوتهم من جنس ملاحدة الشيعة الباطنية"(2)، ثم يقول عن ملاحدة الصوفية والباطنية:"وقوى ضلالهم أمور: منها اعتقادهم أن ما جاءت به الرسل باطناً يناقض ظاهره، ومن أسباب ذلك ما حصل لهم من الحيرة والاضطراب في فهم ما جاءت به الرسل. ومنها: أنهم رأوا الطريق التي سلكها المتكلمون لا تفيد علماً، بل هي إما سفسطة وجدل بالباطل عند من عرفه، وإما جدل يفيد المغالبة عند من لم يعرف حقيقته، وذلك أن هؤلاء سلكوا في الكلام طريقة صاحب الإرشاد"(3) ونحوه، وهي مأخوذة في الأصل عن المعتزلة نفاة الصفات، وعليها بنى هؤلاء وهؤلاء أصل دينهم، وجعلوا صحة دين الإسلام موقوفاً عليها" (4) ،
وهذا هو دليل حدوث الأجسام المشهور، يقول شيخ الإسلام بعد ذلك مبيناً كيف استطال هؤلاء على المتكلمين: " فجاء هؤلاء المتفلسفة لما رأوا هذه عمدة هؤلاء المتكلمين في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع، وتفطنوا لموضع المنع فيها وهو قولهم: يمتنع دوام الحوادث قالوا: هذه الطريقة تستلزم كون الصانع كان معطلاً عن الكلام والفعل دائماً إلى أن أحدث كلاماً وفعلاً بلا سبب أصلاً، قالوا: وهذا مما يعلم بطلانه بصريح العقل قالوا: وليس معكم من نصوص الأنبياء ما يوافق هذا، وأما إخبار الله أنه خلق السموات
(1) انظر: الصفدية (1/265-272) .
(2)
انظر: المصدر السابق (1/272) .
(3)
وهو أبو المعالي الجويني.
(4)
الصفدية (1/273/274) ..
والأرض في ستة أيام، فهذا يدل على أنه خلقها من مادة قبل ذلك كما أخبر أنه {استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت:11] ، وكذلك في أول التوراة ما يوافق هذا.
قالوا: وهذا النص وإن كان يناقض قولنا بقدم العالم فليس فيه ما يدل على قولكم بتعطيل الصانع عن الصنع، وحينئذ فنحن نقول في هذا النص وأمثاله من نصوص المبدأ والمعاد ما نقوله نحن وأنتم في نصوص الصفات" (1) ، والملاحظ أنه مع أن الموضوع هو دليل حدوث العالم الذي لا يرجع فيه هؤلاء ولا هؤلاء إلى أدلة النصوص، وإنما يرجعون إلى أدلة العقول، الملاحظ أنهم استطالوا عليهم في اتفاقهم معهم على تأويل نصوص الصفات، لذلك فمن حقهم أن يؤولوا أيضاً نصوص حدوث العالم وما في الآخرة وهو ما يعبر عنه بالمبدأ والمعاد.
وهؤلاء الذين استطالوا على المتكلمين قسام، يقول شيخ الإسلام:"ثم من هؤلاء من سلك طريق التأويل كما فعل ذلك من فعله من القرامطة كالنعمان قاضيهم، صاحب أساس التأويل، وكأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية، وكتاب الافتخار، وأمثالهما، وألقى هؤلاء جلباب الحياء (2) وكابروا الناس وباهتوهم، حتى ادعوا أن الصلاة معرفة أسرارهم أو موالاة أئمتهم، والصوم كتمان أسرارهم، والحج زيارة شيوخهم، وهذا يبوحون به إذا انفردوا بإخوانهم".
(1) انظر: الصفدية (1/275-276) .
(2)
من المؤسف حقاً أن هذه الكتب الإلحادية الباطنية التي ألقي فيها جلباب الحياء، وجاهر فيها أصحابها بكل إلحاد وزندقة قد بدأ تنتشر وتطبع على يد مؤسسات وأفراد تفرغو لخدمة هذه الطوائف.
وانظر أمثلة لتأويلات هؤلاء في بعض الكتب التي أشار إليها شيخ الإسلام، منها: أساس التأويل للقاضي النعمان، قاضي قضاة الدولة الفاطمية المتوفي سنة 363هـ، انظر:(ص: 38) وما بعدها، (وص: 50) وما بعدها، وانظر: كتاب الافتخار للداعي الإسماعيلي أبي يعقوب السجستاني المتوفي سنة 353هـ (ص: 24) وما بعدها، (وص: 74) وما بعدها، أما كتاب الهفت المروي عن جعفر الصادق والمنسوب إلى المفضل الجعفي - فقد غطى على هذه الكتب وبلغ الغاية في الكفر والزندقة والإلحاد مع التأويلات المضحكة التي لا يقبلها أي عقل، انظر:(ص: 32) وما بعدها.
" وأما الذين سكنوا بين المسلمين كالفارابي وابن سينا وأمثالهما فما أمكنهم أن يقولوا مثل هذا، وعلموا أنه مما يظهر بطلانه فقالوا: إن الرسل إنما خاطبت بما يخيل إليهم أموراً ينتفعون باعتقادها في الإيمان بالله واليوم الآخر، وإن كان ما يعتقدون من تلك الأمور باطلاً لا يطابق الحقيقة في نفسه، والخطاب الدال على ذلك كذب في الحقيقة عندهم، لكنه يسوغ الكذب الذي يصلح به الناس، ومن تحاشى منهم على إطلاق الكذب على ذلك فعنده أنه من باب تورية العقلاء الذين يورون لمصلحة أتباعهم"(1) ، ومن هؤلاء من يجوز التأويل لأهل البرهان من الفلاسفة، أما الجمهور والعامة فلا يجوز عليهم التأويل، يقول شيخ الإسلام معقباً على ما سبق:"فكان ما سلكه أولئك المتكلمون في العقليات الفاسدة، والتأويلات الحائدة هي التي أخرجت هؤلاء إلى غاية الإلحاد ونهاية التكذيب للمرسلين وفساد العقل والدين"(2) .
والملاحظ أن ابن سينا مع أنه تأثر بكلام المتكلمين وخاصة المعتزلة - وذلك في مسائل منها نفي الصفات والعلو - إلا أنه لما خلط هذه الأقوال بأقوال الفلاسفة صار يستطيل على هؤلاء المتكلمين "ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين، وليس الأمر كذلك، وإنما هو قول مبتدعتهم، وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص، ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية"(3) ، ونصوص شيخ الإسلام في هذا كثيرة (4) - لأن خطأ هؤلاء المتكلمين في هذه المسألة التي هي من أهم المسائل، بل وكثيراً ما يجعلونها عماد التوحيد، وهي مسألة حدوث العالم - كان سبباً في تسلط هؤلاء الملاحدة عليهم.
(1) الصفدية (1/276) .
(2)
المصدر السابق (1/277) .
(3)
درء التعارض (8/239) .
(4)
انظر: شرح الأصفهانية (ص: 138، 256-267) - ت العودة، (وص: 71) من المطبوعة، ومنهاج السنة (1/104-109، 213-215، 249-251) - المحققة - ودرء التعارض (1/372-373، 2/281-288، 8/98، 282-283) .
3-
وأخطر الموضوعات التي أشار فيها شيخ الإسلام إلى تطاول الفلاسفة والباطنية على المتكلمين موضوع الصفات والقدر وأنه إذا جاز لهم تأويلها أو بعضها، فلم لا يجوز تأويل نصوص المعاد، والعبادات، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه المسألة في اثنين من أهم كتبه التي أفردها في الرد على الأشاعرة وهما نقض التأسيس ودرء تعارض العقل والنقل؛ إضافة إلى الإشارات المتعددة في مختلف كتبه.
أما نقض التأسيس: فقد ذكر فيه أسباب تسلط هؤلاء الفلاسفة على المتكلمين ثم نقل كلام الرازي في نهاية العقول - الذي سبق نقله - ثم قال معلقاً على جواب بأنا نعلم المعاد ضرورة: "فلينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون: نحن نعلم الأخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة، فلم يجعلوا مستند العلم بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه؛ لأنهم [أي الفلاسفة] عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر، فعدلوا إلى ما ذكروه من أنا نعلم بالاضطرار إخبارهم بالمعاد الجسماني. فإن هذا الذي قالوه صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني، لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك في القرآن وبالأخبار وإجماع السلف"(1) ، ثم بين شيخ الإسلام أن السلف رحمهم الله تعالى لم يفرقوا بين الصفات والقدر بالضرورة، وقول بعضهم: إنه لم يقل أحد إن هذا معلوم بالضرورة في دينهم، ليس كذلك؛ بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة، وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول، ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية، والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية" (2) .
وقد نقل شيخ الإسلام كلام ابن رشد في فصل المقال (3) ، وجعله معاد
(1) نقض التأسيس - المطبوع - (1/223-224) .
(2)
المصدر السابق - المطبوع - (1/224) .
(3)
انظر: المصدر السابق - المطبوع - (1/226-237) .
الأبدان مما يجوز تأويله، ثم رد على ابن رشد وبين ما في كلامه من ميل إلى مذاهب الفلاسفة (1) ، وشيخ الإسلام - كما هي عادته - يوثق أقواله بالنقل من كتب هؤلاء، بحيث لا تبقى شبهة لأحد أو مجال لدعوى التحريف أو تحميل الكلام ما لم يحتمله.
وقد أعاد شيخ الإسلام الموضوع مرة أخرى، وأشار إلى تناقض الرازي في أقواله وردوده على الفلاسفة في أمر المعاد، وبين شيخ الإسلام أنه يقال له في مسائل الصفات والقدر ما يقوله هو لأولئك في مسائل المعاد (2) ، وفي موضوع المحكم والمتشابه والرد على الرازي الذي جعل المتشابه ما خلف الدليل العقلي، يقول شيخ الإسلام:"فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي، لا صفة في الخطاب وكونه في نفسه قد أحكم وبين وفصل، مع أن المعارض العقلي لا يمكن الجزم بنفيه إذا جوز وقوعه في الجملة، ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتج بشيء منها في العمليات، فلم يبق على قوله لنا آيات محكمات وهن أم الكتاب، بحيث يرد المتشابه إليها، ولكن المردوم إليه هو العقلي فما وافقه أو لم يخالفه فهو المحكم، وما خالفه فهو المتشابه، وهذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله تعالى وأياته، ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب (3) على رأي الملاحدة الذين يقولون: إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل لكون عقولهم لا تقبل الحق فخاطبهم بالتجسيم مع علمه أنه باطل "، قال شيخ الإسلام:"وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد، وقالوا خاطبهم أيضاً بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم، وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول"(4) .
ومنهج الأشاعرة - خاصة المتأخرين منهم - في تعاملهم مع النصوص الواردة من الكتاب والسنة في أبواب الصفات هو منهج من لا يرى لها حرمة، بل هي إما مردودة إن كانت أخبار آحاد، أو مؤولة إن كانت ثابتة بالتواتر،
(1) انظر: نقض التأسيس (1/260) .
(2)
انظر نقض التأسيس - المخطوط - (3/196-199) .
(3)
أي كتاب الرازي: أساس التقديس، ويسمى تأسيس التقديس.
(4)
نقض التأسيس: المخطوط - (2/274-275) .
ولاشك أن هذا مدخل سهل ويسير لمن أراد أن يطعن في بقية النصوص، ويلزم هؤلاء فيها بما التزموه في نصوص الصفات والعلو التي جاءت نصاً صريحاً في مدلولاتها.
ولذلك لما رد شيخ الإسلام على هؤلاء في قانونهم الفاسد الذي قالوا فيه بتقديم العقل على النقل عند التعارض، جعل أحد الأوجه في الرد عليهم بيان استطالة الملاحدة على هؤلاء المتكلمين - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، مع الإحالة في تفصيله إلى هنا (1) -، يقول شيخ الإسلام: "الوجه العشرون أن تقول: ما سلكه هؤلاء نفاة الصفات من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر الله به عباده من أمور اليوم الآخر، حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم، ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال: كالصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحج. فجعلوها للعامة دون الخاصة، فآل الأمر بهم إلى الإلحاد في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل كما قال تعالى:{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62] ، فأفضى الأمر بمن سلك سبيل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف، حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحداً وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وهذا تعطيل للخالق، وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن، وهو قول فرعون، ولهذا كانوا معظمين لفرعون
…
وآخر تحقيقهم استحلال المحرمات وترك الواجبات، كما كان يفعل أبرع محققيهم التلمساني وأمثاله (2)
- ثم ذكر أحوال الصوفية، والقرامطة الباطنية والإسماعيلية ومن كان ينتسب إليهم كابن سينا وغيره (3) -، ثم قال:
(1) انظر: ما سبق في هذا الفصل في مبحث لا تعارض بين العقل والنقل، الفقرة السادسة.
(2)
انظر: درء التعارض (5/3-4) ..
(3)
انظر: المصدر السابق (5/4-10) .
"والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات، والإعراض عن دلالة الآيات، كما ذكر ذلك ابن سينا في "الرسالة الأضحوية" التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليه ليعطوه مطلوبه منهم من الجاه والمال"(1) . ثم نقل شيخ الإسلام نصاً مطولاً من هذه الرسالة الأضحوية (2) .
وهؤلاء المتكلمون بمنهجهم الباطل كانوا سبباً في استطالة عدد كبير من طوائف الملاحدة، ومن أبرزها:
- طائفة الفلاسفة.
- طائفة الباطنية من القرامطة والإسماعيلية وغيرهم.
- وغلاة الصوفية الذين وصل بهم الأمر إلى وحدة الوجود وتعطيل الشرائع، وشيخ الإسلام وهو في موضع الرد على أولئك المتكلمين لا يجعل ذلك مبرراً للسكوت عن أقوال هؤلاء الملاحدة، بل يفضحهم ويرد عليهم، ويبين أن هؤلاء المتكلمين أفضل منهم بدرجات، ولذلك يقول بعدما نقل أقوال ابن سينا في الأضحوية التي استطال بها على المتكلمين.
"والكلام على هذا من فنين:
أحدهما: بيان لزوم ما ألزم لنفاة الصفات، الذين سموا نفيها توحيداً من الجهمية والمعتزلة ونحوهم.
والثاني: بيان بطلان كلامه، وكلامهم الذي وافقوهم عليه" (3) .
ثم شرح شيخ الإسلام هذين الأمرين شرحاً وافياً، بين فيه كيف استطال ابن سينا على المتكلمين، كما رد على ابن سينا وأغلظ عليه بما يستحقه (4) .
(1) انظر: درء التعارض (5/10) .
(2)
انظر: المصدر السابق (5/10-18) .
(3)
انظر: المصدر نفسه (5/18-19) .
(4)
انظر: المصدر السابق (5/19) إلى نهاية هذا الوجه (ص: 203)، وانظر: تعليقات شيخ الإسلام على أقوال ابن سينا في (5/63-73) .
وفي موضوع يذكر نماذج من هذا التسلط فيقول:
" المتفلسفة الدهرية كالفارابي وابن سينا يزعمون أن العقل يحيل معاد الأبدان، فيجب تقديم العقليات على دلالة السمع، ويخاطبون من أقر بالمعاد من المعتزلة وموافقيهم في نفي ذلك بما تخاطب به المعتزلة المثبتة للصفات ويقولون لهم: قولنا في نصوص المعاد كقولكم في نصوص الصفات، وهكذا خاطبت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهما متكملة الإثبات في مسألة القدر، وقالت: القول في النصوص المثبتة للقدر وأن الله خالق أفعال العباد، كالقول في نصوص الصفات "(1) .
ويشرح المأزق الذي وقع فيه هؤلاء المتكلمون فيقول: "إن هؤلاء النفاة للصفات المثبتين للمعاد هم بين المؤمنين بالجميع كالسلف والأئمة، وبين الملاحدة المنكرين للصفات والمعاد، فالملاحدة تقول لهم: قولنا في نفي كقولكم في نفي الصفات، فلا يستدل بالشرع على هذا ولا على هذا لمعارضة العقل له.
والمؤمنون بالله ورسوله يقولون لهم: قولنا لكم في الصفات كقولكم للملاحدة في المعاد، فإذا قلتم للملاحدة: إثبات المعاد معلوم بالاضطرار من دين الرسول قلنا لكم: وإثبات الصفات والعلو والأفعال معلوم بالاضطرار من دين الرسول" (2) .
ولما ناقش شيخ الإسلام نفاة العلو ورد عليهم طويلاً، كان من ضمن منهجه في الرد عليهم بيان هذه الاستطالة من جانب الملاحدة، وأنه لا يستطيع نقض أقوالهم ما دام موقفهم من نصوص العلو المتواترة بهذه الطريقة، وقد ساق شيخ الإسلام حواراً بين هؤلاء بين فيه كيف ينتهي الأمر إلى عجز المتكلمين عن مناقشة الملاحدة إلا بنوع من التناقض، يقول شيخ الإسلام في مقدمة هذا الحوار: "أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص [وذلك حين قال: إنها معارضة بأدلة العقول] :
(1) درء التعارض (5/250-251) .
(2)
المصدر السابق (5/301-302) .
إذا احتججت على من ينفي ما تثبته بالنصوص، كإثبات القدر - إن كنت من المثبتين له - أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب ونحو ذلك - إن كنت من المثبتين لهـ إذا قال لك منازعك: هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضشها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها. فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك.
فإن قلت: ما أثبته معلوم بالاضطرار من الدين.
قال لك: أهل الإثبات للعلو: وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين.
فإن قلت: أنا لا أسلم هذا لكم.
قالوا لك: ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة " (1) .
ويستمر في هذا الحوار العديب الذي قال فيه شيخ الإسلام: " واعلم أنهل يلس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق "(2) .
وهذا الباب الذي أبدع شيخ الإسلام في أسلوب عرضه، واستخدامه في الرد على الأشاعرة وغيرهم يفسر - مع غيره من الأوجه - ذلك العداء الشديد والحقد المتراكم عليه في حياته وبعد مماته من جانب أعداد كبيرة من أهل الأهواء أو من أتباعهم المقلدين لهم.
لقك كان شيخ الإسلام رحمه الله علماً شامخاً وما استطاع معارضوه أن يجادلوا حجته بالحجة، وإنما لجأؤا إلى الأساليب الملتوية من التشهير وتحريف الكلام مما قد ينع العامة، ولكنه لا يثبت أمام الحجاج بالشرع والعقل.
(1) درء التعارض (7/ 134-135) .
(2)
المصدر السابق (7/136)، وانظر: بقية الحوار مع ردود ومناقشات أخرى إلى (ص: 140) ، من هذا الجزء، وانظر أيضاً: حول موضوع الاسطالة: الدرء (8/241-242)، ومنهاج السنة (2/112) - المحققة - والتسعينية (ص: 261) وغيرها.
والخلاصة أنه ليس لهؤلاء المتكلمين نفاة الصفات أو بعضها مخلص لا مخرج من هذه المضايق التي وقعوا فيها إلا بالعودة إلى منهج السلف وإثبات ما أثبته الله ورسوله ونفي ما نفاه الله ورسوله.
* * *
وبعد: فهذه خطوط عامة في منهج شيخ الإسلام في الرد على الأشاعرة فيما خالفوا فيه أهل السنة، ومنها يتبين:
1-
أن شيخ الإسلام وهو يرد على هؤلاء لم ينسً في أي موقف من المواقف الرد انيبين ما عندهم من أمور إيجابية وأقوال صائبة، وكيف يغفل هذا وهو يقول في معرض الرد على أحد ملاحدة الفلاسفة الإسماعيلية - وهو ابن سينا -:" وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق ما قال"(1) ، ثم يذكر أدلة على ذلك.
2-
أن شيخ الإسلام يرجع المسائل الفرعية إلى أصولها، ويقرر الرد ببيان هذه الأصول:
- فبين أن الكتاب والسنة فيهما الكفاية والهداية التامة.
- كما يقرر أن ما وقع فيه هؤلاء من علم الكلام المذموم الذي اتفق السلف على ذمة.
- ويقرر أيضاً أن السلف أعلم وأحكم، ولا يجوز معارضة ما أجمعوا عليه. وبين أثناء ذلك جهل هؤلاء المتكلمين بحقيقة مذهب السلف.
- كما يقرر أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين العقل الصريح والنقل الصريح.
3-
ثم إن شيخ الإسلام يستخدم في الرد عليهم أساليب غير مباشرة لكنها عميقة الأثر:
(1) انظر: درء التعارض (5/78) .
- فهو يرجع أقوال هؤلاء إلى أصولها الاعتزالية والفلسفية، وهم يصرحون في مخالفة هؤلاء والرد عليهم.
- ثم يرد على متأخيرهم بأقوال شيوخهم، ولقد كان هذا من أشد وأوجع ما لقي الأشاعرة، ولذلك امتحنوا شيخ الإسلام محنة عظيمة بسبب الفتوى الحموية لأنها مبنية على هذا الوجه.
- ولم يكتف ببيان مناقضتهم لشيوخهم بل أبرز تناقض أقوالهم أنفسهم، سواء في كتبهم المتعددة أو في الكتاب الموحد.
4-
وأخيراً فإن شيخ الإسلام قد اهتم ببيان أمرين عظيمين بالنسبة لهؤلاء:
أحدهما: ما وقعوا فيه من الحيرة والشك والاضطراب، وهي حيرة أشبهت كثيراً حيرة ملاحدة الفلاسفة، ثم رجوع كثير منهم إلى المذهب الحشق وتبرمه مما كان عليه من علم الكلام، والسؤال الحاسم هنا: إذا كان الأمر بهذه المثابة، فهل الأولى بهؤلاء الأتباع الذين يناقشهم شيخ الإسلام ويبين الأمر لهم، هل الأولى بهم أن يبدأوا من حيث بدأ شيوخهم فيدخلوا في علم الكلام ويتعلموه ويستخدموه، حتى إذا غاصوا فيه وبلغوا الغاية أو ما يقاربها، قالوا مثل شيوخهم ياليتنا لم نتعلم علم الكلام، وياليتنا نموت على عقيدة العجائز. أم الأولى بهم أن يأخذوا من ذلك درساً ويبدأوا منحيث انتهى بالاعتماد على الكتاب والسنة اعتماداً كاملاً ونبذ ما عدا هما مما هو مخالف ومناقض لهما؟
والثاني: أن هؤلاء المتكلمين بمنهجهم فتحوا الباب لتسلط الملاحدة من الفلاسفة، والباطنية، وغلاة الصوفية، عليهم وعلى المسلمين، وكم في هذا من الخطر على عقيدة المسلمين وشريعتهم؟.