المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خامسا: جهلهم بالسنة وبمذهب السلف - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ٢

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الثاني: الماتريدية وعلاقتهم بالأشعرية

- ‌أولا: الأشعري والماتريدي

- ‌ منهج الماتريدي وعقيدته:

- ‌ثانيا: مقارنة بين الأشعرية والماتريدية:

- ‌المبحث الثالث: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره

- ‌ أسباب انتشار المذهب الأشعري:

- ‌المبحث الرابع: عقيدة الأشعرية

- ‌الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة وأشهر رجالهم إلى عهد ابن تيمية

- ‌ أبو الحسن الطبري:

- ‌ الباقلاني:

- ‌ابن فورك:

- ‌عبد القاهر البغدادي:

- ‌البيهقي:

- ‌القشيري:

- ‌الجويني:

- ‌منهج الجويني وأثره في تطور المذهب الأشعري:

- ‌أبو حامد الغزالي:

- ‌أعلام الأشاعرة في الفترة بين الغزالي والرازي:

- ‌ ابن تومرت

- ‌ فخر الدين الرازي:

- ‌ منهج الرازي وأثره في تطور المذهب الأشعري

- ‌ أبو الحسن الآمدي:

- ‌ عز الدين بن عبد السلام

- ‌صفي الدين الهندي

- ‌ بدر الدين بن جماعة

- ‌ ناصر الدين البيضاوي

- ‌ عضد الدين الإيجي

- ‌ أبو علي السكوني

- ‌ خلاصة وتعقيب:

- ‌الباب الثاني: موقف ابن تيمية من الأشاعرة

- ‌الفصل الأول: عرضه لجوانبهم الإيجابية واعترافه بما عندهم من حق

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة

- ‌أولاً: وصفهم بأنهم من أهل السنة في مقابل المعتزلة والرافضة:

- ‌ثانياً: تفضيله أقوالهم على أقوال غيرهم من المعتزلة والجهمية والفلاسفة:

- ‌ثالثاً: ذكره لإيجابيتهم وردودهم على الباطنية والملاحدة

- ‌رابعاً: الأشاعرة يحمدون لما لهم من مساع وجهود مشكورة:

- ‌خامساً: إنصافه لأعلام الأشاعرة

- ‌أ - أبو الحسن الأشعري:

- ‌ب - الباقلاني والجويني:

- ‌جـ - الغزالي:

- ‌د - الرازي وغيره:

- ‌هـ - الأشاعرة المعاصرون لابن تيمية:

- ‌الفصل الثاني: منهجه العام في الرد على الأشاعرة

- ‌مقدمة

- ‌أولاً: بيان جوانبهم الإيجابية وما عندهم من حق:

- ‌ثانياً: الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء:

- ‌ثالثاً: مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم

- ‌خامساً: جهلهم بالسنة وبمذهب السلف

- ‌سادساً: إرجاع أقوالهم المخالفة لمذهب أهل السنة إلى أصول الفلاسفة والجهمية والمعتزلة

- ‌سابعاً: لا تعارض بين العقل والنقل

- ‌ المقدمات:

- ‌ثامناً: الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم، وردود بعضه على بعض

- ‌تاسعا: تناقض الأشاعرة:

- ‌عاشراً: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم:

- ‌حادي عشر: تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين:

الفصل: ‌خامسا: جهلهم بالسنة وبمذهب السلف

‌خامساً: جهلهم بالسنة وبمذهب السلف

.

كثيراً ما يحكم شيخ الإسلام ابن تيمية على أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم بأن معرفتهم بالسنة وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قليلة، وأن خبرتهم بمذهب السلف وأهل السنة والجماعة ضعيفة، ولم يكن شيخ الإسلام يطلق أحكامه تلك بناءً على ظن، أو إلزام، وإنما كان منطلقاً من معرفة تامة بكتب الأشاعرة وغيرهم، واستيعاب عجيب لأقوالهم ومقالاتهم، وتتبع دقيق لكتبهم في المقالات والملل والفرق، وكان شيخ الإسلام قبل هذا كله على دراية بأحكام الكتاب والسنة، واطلاع واسع على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع تمييز صحيحه من ضعيفه، كما أن معرفته بأقوال أهل السنة وأحوالهم ورواياتهم ورسائلهم وردودهم وكتبهم، كانت قوية ومتمكنة.

ولذلك جاء نقد شيخ الإسلام للأشاعرة مبيناً على وثائق من كتبهم مع مقارنتها بما في كتب السلف، كما أن مناظرته لخصومه في حياته لا تخلو من بيان مثل هذه الحقائق (1) .

وقد جاءت تعليقات شيخ الإسلام كما يلي:

- تعليق مجمل يبين حال أهل الكلام في ذلك، وأحياناً يضرب الأمثلة بأكثر من واحد منهم.

- نقد مفصل لكل واحد من أعلام الأشاعرة.

(1) ذكر ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (2/23) ، في معرض ترجمته لعبد الغني المقدسي وإشارت إلى مناظرته لخصومه، قال - أي ابن رجب - " لقد عقد مرة مجلس لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية، فتكلم فيه بعض أكابر المخالفين، وكان خطيب الجامع، فقال شيخ شرف الدين عبد الله -أخو الشيخ- كلامنا مع أهل السنة، وأما أنت، فأنا أكتب لك أحاديث من الصحيحين وأحاديث من الموضوعات - وأظنه قال: وكلاماً من سيرة عنتر- فلا تميز بينهما - أو كما قال -فسكت الرجل " وذكر شيخ الإسلام في درء التعارض (8/89)، في معرض بيانه لجهل الأشاعرة بأقوال ومذهب السف فقال:" حتى أن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار، فإذا قيل له: أهذا نقله أحد عن الشافعي، أو فلان، أو فلان؟ قال: لا، ولكن هذا قاله العقلاء، والشافعي لا يخالف العقلاء، أو نحو هذا الكلام..".

ص: 792

أ - أما النقد المجمل، فإن شيخ الإسلام أشار إلى جهل كثير منهم بالسنة وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول عن المتكلمين:" فإن فرض أن أحداً نقل مذهب السلف كما يذكره، فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف كأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، وابن الخطيب، وأمثالهم، ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة، فضلاً عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف البخاري ومسلماً وأحادثيهما إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث المفتري المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك ففيها عجائب "(1) .

وفي كتبهم المصنفة في أصول الدين - يحكون الإجماع أو النزاع - ويجهلون مذهب السلف، يقول شيخ الإسام وقد بين بالأدلة وجوب معرفة أقوال السلف في العلم والدين وأن معرفتها أنفع من معرفة أقوال المتأخرين، وإن الاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم - يقول:" وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم، ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك - من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف - فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع، وهم لا يعرفون في ذلك قوال السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرهان فتارةً يحكون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين، طائفة، أو طائفتين، أو ثلاث، وتارة عرفوا أقوال بعض السلف، والأول كثير في مسائل أصول الدين وفروعه، كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعاً ونزاعاً ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم، كما تجد ذلك في مسائل أقوال الله وأفعاله وصفاته، مثل مسألة القرآن والرؤية والقدر وغير ذلك "(2) ،

ويقول - بعد نقده لكتب المقالات -: مثل كتب الأشعري والشهرستاني والنوبختي وأبي عيسى الوراق، وأنهم ينقلون

(1) مجموع الفتاوي (4/71-72) .

(2)

الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوي (13/25) ..

ص: 793

أقوال مختلف الطوائف؛ " والقول الذي جاء به الرسول، وكان عليه الصحابة والتابعون أئمة المسلمون لا يعرفونه ولا يذكرونه، بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول: إنه الحق، تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك، وينصرون أحدها، ويكون كل ما ذكروه أقوالاً فاسدة، مخالفة للشرع والعقل، والقول الذي جاء به الرسول - وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول - لا يعرفونه، ولا يذكرونه، فيبقى الناظر في كتبهم محائراً ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه، ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على بعض علمه ببطلان تلك المقالمات كلها، وهذا موجود في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة، متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوهما "(1) .

والعبارة الأخيرة تدل على أن شيخ الإسلام يعمم حكمه على جميع كتبهم، الفلسفية والكلامية، وليس في هذا مبالغة، فإن كتبهم - ومناهجهم فيها - لا تحمل روح مذهب السلف الصافي، ويكفي المطلع على كتب أهل السنة، وما ألفوه من العقائد الواضحة المبنية على الكتاب والسنة - أن يطلع على واحد من كتب هؤلاء - كالتمهيد، أو الشامل، أو الإرشاد، أو نهاية الإقدام، أو الاقتصاد في الاعتقاد، أو غاية المرام، أو الأربعين للرازي، أو المواقف - ليجد هذا الحكم عادلاً غير جائز.

ويقول شيخ الإسلام- في موضع آخر - جامعاً في الحكم بين كتبهم في المقالات والملل وكتبهم الكلامية: " وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس، إما نقلاً مجرداً، مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال - كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم - فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم، وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة، فلا يوجد فيها في جميع مسائل

(1) درء التعارض (9/67-68) ، وانظر أيضاً (7/35-36) .

ص: 794

الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه، ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام، ولهذا يوجد الحاذق المصنف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض، وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب، كما قال أبو المعالي وقت السياق: لقد خضت البحر الخضم..وكذلك أبو حامد.. والشهرستاني " (1) ، وشيخ الإسلام - مع نقده الشديد لهم - يعتذر لهم بأنهم لم يكن قصدهم مخالفة الحق وعدم ذكره، وإنما عدم معرفتهم به هي السبب ولذلك يقول: في موضع آخر من هذا الكتاب: " إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه، ونفس ما بعث الله به رسوله وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس؛ لا ينقلونه، لا تعمداً منهم لتركه، بل لأنهم لم يعرفوه، بل ولا سمعوه، لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين " (2) .

وأهل الكلام إذا نصروا ما هو شائع من أصول أهل السنة والجماعة، - مثل القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، وأن أهل القبلة لا يكفرون بالذنب ولا يخلدون في النار، والشفاعة، وعذاب القبر، والحوض، والخلفاء الأربعة، وغير ذلك - إذا نصروا مثل هذه العقائد لا يكونون منطلقين من منطلق أصول ومنهج السلف، يقول شيخ الإسلام عنهم: " وكثير من أهل الكلام في كثير مما ينصره لا يكون عارفاً بحقيقة دين الإسلام في ذلك، ولا ما جاءت به السنة، ولا ما كان عليه السلف، فينصر ما ظهر من قولهم بغير المآخذ التي كانت مآخذهم في الحقيقة، بل بمآخذ آخر قد تلقوها عن غيرهم من أهل البدع، فيقع في كلام هؤلاء من التناقض والاضطراب والخطأ ما ذم

(1) منهاج السنة (3/68) .

(2)

المصدر السابق (3/208) .

ص: 795

به السلف مثل هذا الكلام وأهله.." (1) .

ومن الأمثلة الواضحة التي ذكرها شيخ الإسلام - دليلاً على جهل هؤلاء بمذهب السلف مسألة " القرآن " والخلاف فيها، وقد قدم لذلك بقوله: بعد ذكره للخلاف بين المعتزلة والأشاعرة، " فأخذ هذا بعض صفة الكلام وهذا بعضها، والمتكلم المعروف من قام به الكلام، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته، ولهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها، وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل فلا يعرفونه، ولا يعرفون قائله، فالشهرستاني صنف الملل والنحل وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله، والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره، والقاضي أبو بكر، وأبو المعالي، والقاضي أبو يعلى، وابن الزاغوني، وأبو الحسين البصري، ومحمد ابن الهيصم، ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين، تجد الواحد منهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة، ويختار واحداً منها، والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام أحمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم "(2) .

ثم ذكر شيخ الإسلام أن الجويني في الإرشاد لم يذكر في مسألة كلام الله إلا أربعة أقوال: قول المعتزلة، والكرامية، والكلابية - الذي يرجحه - وقولاً رابعاً نسبه إلى الحشوية وأهل الظاهر، زعم فيه أنهم يقولون إن المسموع من أصوات القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى، وأن القرآن إذا كتب بجسم صار المداد عين كلام الله القديم (3)، قال شيخ الإسلام معلقاً على ما ذكره في هذا القول:" ومعلوم أن هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول "(4) ، فلم يذكر الجويني القول عن أئمة السلف، فلما جاء الشهرستاني - وهو أعلم

(1) الإيمان (ص: 416) ، ط المكتب الإسلامي.

(2)

درء التعارض (2/307) .

(3)

انظر: كلام الجويني في الإرشاد (ص:128-130) ، ونقله شيخ الإسلام في درء التعارض (2/310-311) .

(4)

انظر: درء التعارض (2/311) .

ص: 796

بالمقالات من أخوانه (1) - ذكر قولاً سادساً نسبه إلى السلف والحنابلة وفصل القول فيه، وذكر فيه قولهم: إن القرآن حروف وأصوات أزلية كما ذكر تفريقهم بين صوت القارئ وكلام الباري (2)، قال ابن تيمية:" قلت فهذا القول الذي ذكره الشهرستاني وحكاه عن السلف والحنابلة ليس هو من الأقوال التي ذكرها صاحب الإرشاد وأتباعه، فإن أولئك لم يحكوا إلا قول من يجعل القديم عين صوت العبد والمداد، وهذا القول لا يعرف به قائل له قول أو مصنف في الإسلام، وأما القول الذي ذكره الشهرستاني فقال به طائفة كبيرة، وهو أحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم من الطوائف، وهو المذكور عن أبي الحسن بن سالم وأصحابه السالمية"(3) ،

ثم قال شيخ الإسلام: " فبعض هذا القول الذي ذكره الشهرستاني عن السلف منقول بعينه عن السلف، مثل إنكارهم على من زعم إن الله خلق الحروف، وعلى من زعم أن الله لا يتكلم بصوت ومثل تفريقهم بين صوت القارئ وبين الصوت الذي يسمع من الله، ونحو ذلك فهذا كله موجود عن السلف والأئمة، وبعض ما ذكره من هذا القول ليس هو معروفاً عن السلف والأئمة، مثل إثبات القدم والأزلية لعين اللفظ المؤلف، ولكن القول الذي أطبقوا عليه: هو أن كلام الله غير مخلوق، ولكن تنازعوا في مرادهم بذلك، والنزاع في ذلك موجود في عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم.. والنزاع في ذلك مبني على هذا الأصل، أنه لم يزل متكلماً - هل يتعلق بقدرته ومشيئته أم لا؟ فهذا القول السابع لم يذكره الشهرستاني ونحوه، إذا الأقوال المعروفة للناس في مسألة الكلام سبعة أقوال "(4) ، أي من غير قول أهل الحق.

(1) انظر: المصدر السابق (2/315) .

(2)

انظر: كلام الشهرستاني في نهاية الإقدام (ص: 309-310، 313، 317) ، ونقل أغلبه ابن تيمية في درء التعارض (2/315-321) .

(3)

انظر: درء التعارض (2/321) ..

(4)

انظر: درء التعارض (2/323) .

ص: 797

فالجويني والشهرستاني لم يعرفا حقيقة مذهب السلف ليحكموا على الوجه الصحيح.

ب - أما نقد شيخ الإسلام المفصل لبعض أعلام الأشاعرة لجهلهم باسنة ومذهب السلف فكثير، ويمكن الإشارة إلى النماذج التالية:

1-

قال عن أبي الحسن الأشعري: " لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد ونحوه بالبصرة وبغداد، فإن الأشعري أخذ السنة بالبصرة عن زكريا بن يحيى الساجي، وهو من علماء أهل الحديث المتبعين لأحمد ونحوه، ثم لما قدم بغداد أخذ عمن كان بها، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي ذكرها عن أهل السنة والحديث إما ألفاظ زكريا بن يحيى الساجي التي وصف بها مذهب أهل السنة، وإما ألفاظ أصحاب الإمام أحمد وما ينقل عن أحمد ورسائله الجامعة في السنة، وإلا فالأشعري، لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث، وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة، لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوالهم أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير، وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل، ولهذا لما صنف كتابه في مقالات الإسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام واختلافهم على التفصيل، وأما أهل السنة والحديث فلم يذكر عنهم إلا جملة مقالات مع أن لهم في تفاصيل تلك من الأقوال أكثر مما لأهل الكلام، وذكر الخلاف بين أهل الكلام في الدقيق فلم يذكر النزاع بين أهل الحديث في الدقيق "(1) ، ويقول شيخ الإسلام - في موضع آخر - " ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري، وقد ذكر فيه من المقالات وتفصيلها ما لم يذكره غيره، وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم، وليس في جنسه أقرب إليهم منه، ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة وقال به الصحابة والتابعون له بإحسان في القرآن والرؤية والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه.

(1) التسعينية (ص: 286-287) .

ص: 798

وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين، وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين المختلفين في أصول الدين، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام

" (1) . والأشعري - كما هو معلوم - أقرب بني طائفته إلى مذهب أهل السنة.

2-

ابن فورك، والقاضي أبو يعلى، والقشيري، وقد انتقد هؤلاء لخلطهم في كتبهم بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة، يقول عن ابن فورك وغيره:" ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة، ويقولون بتأويل الجميع، كما فعل بشر المريسي، ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر ابن فورك في كتابه " مشكل الحديث" حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل (2) ، وأمثاله من الموضوعات "(3) ، ويقول عن القاضي أبي يعلى الحنبلي - الذي يميل إلى الأشاعرة - " وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في أبطال التأويلات رداً لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة "(4) ، ويقول عن القشيري " إن ما يوجد في " الرسالة " وأمثالها من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع.. وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة "(5) . وهؤلاء مع جهلهم بالسنة فهم أيضاً يشاركون عموم أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم في جهلهم بمذهب أهل السنة.

3-

أبو المعالي الجويني، وقد سبق نقل كلام شيخ الإسلام عنه وعن الشهرستاني وغيرهما من أهل الكلام في جهلهم بمذهب أهل السنة، وقد بين

(1) منهاج السنة (3/70) ، وانظر أيضاً (3/71-208) ، ومجموع الفتاوي (16/308) ، ودرء التعارض (7/36) .

(2)

سبق بيان حاله (ص:751) .

(3)

درء التعارض (5/236) .

(4)

المصدر السابق (5/237) .

(5)

مجموع الفتاوي (10/680) ، والكلام نفسه في الاستقامة (2/69) .

ص: 799

في التسعينية جهل الجويني بالسنة وأقوال سلف الأمة فيقول في معرض مناقشته له حول الصفات الخبرية وغيرها: " وأبو المعالي يتكلم بمبلغ علمه في هذا الباب وغيره، وكان بارعاُ في فن الكلام الذي يشترك فيه أصحابه والمعتزلة - وإن كانت المعتزلة هم الأصل فيه - لكثرة مطالعته لكتب أبي هاشم ابن الجبائي، فأما الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وقول أئمتها فكان قليل المعرفة بها جداً، وكلامه في غير موضع يدل على ذلك، ولهذا تجده في عامة مصنفاته في أصوله وفروعه إذا اعتمد على قاطع فإنما هو ما يدعيه من قياس عقلي أو إجماع سمعي، وفي كثير من ذلك ما فيه، فأما الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها فهو قليل الاعتماد عليها والخبرة بها "(1) ، ثم ذكر مثالاً في رده على الآجري، وبيان أبي عبد الله القرطبي ما في رد الجويني على الآجري من التحامل، ثم ناقش شيخ الإسلام كلام الجويني من وجوه عديدة (2) ،

ثم قال: " ومن العجب أن الآجري يروي في كتاب الشريعة له من طريق مالك والثوري والليث وغيرهم، فلو تأمل أبو المعالي وذووه الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه مايخصهم، ولكن أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه، كان قليل المعرفة بالآثار النبوية، ولعله لم يطالع الموطأ بحال حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له بالصحيحين -البخاري ومسلم - وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، وأمثال هذه السنن علم أصلاً، فكيف بالموطأ ونحوهن وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني، وأبو الحسن مع تمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه، ويجمع طرقها، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله، فإما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك، فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الباب يورث جهلاً عظيماً بأصول الإسلام، واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي الذي هو نخبة عمره: " نهاية المطلب في دراية المذهب " ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلا حديث واحد

(1) التسعينية (ص: 243-244) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص: 244-251) ..

ص: 800

في البسملة، وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره، ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه (1)

في مذهب الشافعي، فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة منم فروع الفقه، كيف يكون حالهم في غير هذا؟ وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل الفروع، فكيف يتخذ إماماً في أصول الدين، مع العلم بأنه إنما نيل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة، وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين، غايته فيه أنه يوجد منه نقل جمعه، أو بحث تفطن له، فلا يجعل إماماً فيه كالأئمة الذين لهم وجوه (2) ، فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه، وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما هو بعينه من الكلم الذي نصت عليه الأئمة " (3) . والجويني - كما سبق بيانه في ترجمته وبيان منهجه - من أعظم الأشاعرة أثراً في نقل المذهب الأشعري إلى التأويل في الصفات والقرب من مذاهب المعتزلة.

4-

الغزالي: قال الغزالي عن نفسه: " بضاعتي في علم الحديث مزجاة "(4) ، وكثيراً ما يشير شيخ الإسلام إلى هذه الشهادة التي شهد بها على نفسه، ويقول عنه:" وأبو حامد ليس له من الخبرة بالآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك، الذين يميزون بين صحيحه وسقيمه، ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها"(5)، ويقول عنه أيضاً: - بعد ذكره لطريقة الصحابة وأن التابعين

(1) الوجه والأوجه عند فقهاء الشافعية: ما نسب إلى أصحاب الشافعي من كل مجتهد متقيد بمذهب الإمام، يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده، ويجتهدون في بعضها وأن لم يأخذوه من أصله، واختلفت الشافعية هل ينسب الوجه إلى الشافعي، قال النووي وغيره: الأصح أنه لا ينسب. انظر: المجموع للنووي (1/78،111) ، - ت المطيعي، ونهاية المحتاج (1/48) ..

(2)

التسعينية (ص: 250-251) .

(3)

قانون التأويل (ص: 246) ، في ذيل معارج القدس.

(4)

انظر مثلاً: نقض التأسيس المخطوط (3/99-100) ، ودرء التعارض (1/5) ، ومجموع الفتاوي (35-176) .

(5)

درء التعارض (7/149) ،

ص: 801

لهم بإحسان من أهل الحديث والسنة وكانوا معظمين لهم - " فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين لم يذكرهمن أبو حامد، وذلك لأن هؤلاء لا يعرف طريقهم إلا من كان خبيراً بمعاني القرآن خبيراُ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيراً بآثار الصحابة، فقيهاً في ذلك عاملاً بذلك، وهؤلاء هم أفضل أهل الخلق منم المنتسبين إلى العلم والعبادة، وأبو حامد لم ينشأ بين من كان يعرف طريقة هؤلاء، ولاتلقى عن هذه الطبقة، ولا كان خبيراً بطريقة الصحابة والتابعين، بل كان يقول عن نفسه: أنا مزجى البضاعة في الحديث، ولهذا يوجد في كتبه من الأحاديث الموضوعة والحكايات الموضوعة ما لا يعتمد عليه من له علم بالآثار "(1) ، ولجهل الغزالي والرازي بمذهب السلف اعتمد عليه الأخير في نقل مذهب السلف في الصفات وأنه إما التأويل وإما التفويض (2) .

5-

الشهرستاني: وقد سبقت الإشارة إلى نقد ابن تيمية له، وقد قال فيه:" والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعي، ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقل من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين، ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول الكبار، لأنه لم يكن يعرف هذا وهو وأمثاله من أهل الكلام"(3) .

6-

الفخر الرازي: يقول عنه شيخ الإسلام: " ليس في كتبه - وكتب أمثاله - في مسائل أصول الدين الكبار القول الصحيح الذي يوافق المنقول والمعقول، الذي بعث الله به الرسول، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها، بل يذكر بحوث المتفلسفة الملاحدة "(4)، ويقول عنه أيضاً:" والرازي لم يكن له خبرة بأقوال طوائف المسلمين "(5) ، بل إنه يذكر في تفسيره أحياناً أقوالاً كلها باطلة ولا يذكر القول الحق (6) .

(1) شرح الأصفهانية (ص: 128) .

(2)

انظر: نقض التأسيس المخطوط (2/358) .

(3)

منهاج السنة (3/214) ، وانظر أيضاً (3/208-209) .

(4)

تفسير سورة الإخلاص، مجموع الفتاوي (17/247) .

(5)

انظر: منهاج السنة (2/306) ، المحققة.

(6)

انظر: منهاج السنة (3/110)، وانظر أيضاً: درء التعارض (9/254، 260-262) ، نقض التأسيس المخطوط (2/357-358) ، مجموع الفتاوي (4/62-63) ، منهاج السنة (3/68-69،109) .

ص: 802