الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفاة في العقل من مذهب الحلولية، ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية " (1) ، مع أن كلاً منها قول باطل، لكن رد باطل أولئك بباطل هؤلاء.
هذه إشارات سريعة يحسن بعدها الانتقال إلى المنهج التفصيلي:
أولاً: بيان جوانبهم الإيجابية وما عندهم من حق:
وقد سبق شرحها في الفصل السابق، والإشارة إليها هنا للتذكير ولتصور منهج الرد بمجمله.
ثانياً: الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء:
وهذه المسألة يركز عليها شيخ الإسلام دائماً، ولا تكاد تخلو مسألة من المسائل التي يناقشها مما خالف فيه الأشاعرة وغيرهم إلا ويعول على بيان أن الكتاب والسنة جاءا بالدين الكامل والهدى النافع لجميع الناس، وأن المسلمين سابقاً ولاحقاً لم يكونوا بحاجة إلى شيء مما ابتدعه المبتدعون، ويقرر أن الناس " متى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنة فلابد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل من السماء، كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة:213)، وكما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:59)(2) ، ويقرر شيخ الإسلام أن نفاة الصفات لا يمكن أن يعتمدوا
(1) درء التعارض (4/206-207) .
(2)
المصدر السابق (5/284) .
في أقوالهم الفاسدة على الشرع، وأن يقولوا: إنها مستمدة من الكتاب والسنة، فيقول: " ولا تجد أحداً من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع، ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة، ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
…
" (1) ،
ويأمر بعرض أقوال الناس على الكتاب والميزان الذي أنزله الله تعالى، ليميز صحيحها من فاسدها، فيقول في مسألة حوادث لا أول لها على اعتراض القائل بأن المانعين لها كثيرون:" وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخرهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟ وهل هي موافقة للشرع أم لا؟ فاعرضها على الكتاب والميزان فإن الله تعالى يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد:25) ، فاعرض [ما (2) ] يذكرونه بما ثبت من كتاب الله والسنة رسوله وما ثبت عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وزنه أيضاً بالميزان الصحيحة (3) العادلة العقلية واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالهم، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ولا تتبع الظن فإنه لا يغني من الحق شيئاً، وسل الله أن يلهمك ويهديك، فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي أن الله تعالى قال: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم (4)
…
" (5) ،
ويقرر أيضاً أن من أصول الإسلام " إن تميز ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة والحكمة ولا تخلطه بغيره، ولا تلبس الحق بالباطل، كفعل أهل الكتاب فإن الله سبحانه أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) درء التعارض (5/51) ..
(2)
في الأصل [عما] والتصويب من إحدى النسخ في الحاشية.
(3)
الميزان مذكر، ولعل الصواب [الموازين الصحيحة] .
(4)
قطعة من حديث قدسي مشهور، رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم ورقمه (2577) ورواه أيضاً الإمام أحمد في المسند (5/154) .
(5)
درء التعارض (8/275-276) ..
" تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي لا هالك (1) .."(2) .
وقد جاء تقرير شيخ الإسلام لهذه المسألة العظيمة التي تقوم على أن الكتاب والسنة فيهما ما يغني عن كل ما ابتدعه المبتدعون بالطرق التالية:
أ - أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وأوضح أصول الدين كلها حتى ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، م يقول شيخ الإسلام في أول الحموية - وهي في العلو والصفات الخبرية، وجرت له بسببها مع الأشاعرة محنة عظيمة - " من المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله، والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبه القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟ "(3) ،
ويقول في
(1) رواه الإمام أحمد عن العرباض بن ساربة رضي الله عنه (5/26) ، وابن ماجه في المقدمة رقم (43) ، والحاكم (1/96) ، وابن أبي عاصم في السنة رقم (49، 50) ، كما رواه عن أبي الدراء ابن ماجه في المقدمة رقم (5) ، وابن أبي عاصم في السنة رقم (48) ، وحديث العرباض قال فيه المنذري في الترغيب (1/86)، ت الهراس:" رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد حسن " وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/27) ، ورقمه (58) ، وفي تخريج السنة لابن أبي عاصم - بروايته - الأرقام السابقة، وفي صحيح ابن ماجه رقم (5، 41) ، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (688-937) .
(2)
مجموع الفتاوى (15/155) .
(3)
الحموية، مجموع الفتاوي (5/6)، وانظر أيضاً: نقض التأسيس المخطوط _3/198) ، ودرء التعارض (1/73-74،8/406-407)، والنبوات (ص: 58، 227، 237) ..
درء التعارض: " وبذلك يتبين أن الرسول عليه الصلاة والسلام نص على كل ما يعصم من المهالك نصاً قاطعاً للعذر، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (التوبة:115) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكَمْ نِعْمَتي وَرضَيْتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيْنَاً] ، وقال تعالى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء:165) ، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور:54) ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الاسراء:9) ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً*وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً*وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء:66-68) ، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} (المائدة:15-16) ، وقال أبو ذر: " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً " (1) ، وفي صحيح مسلم: إن بعض المشركين قالوا لسلمان: " لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى القراءة " (2) ،
وقال صلى الله عليه وسلم: [تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك
…
(3) ] (4) .
فهذه النصوص - وغيرها كثير - تدل دلالة قاطعة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ هذا الدين كاملاً، وأن تبليغه كان بأوضح بيان وأقوم حجة.
ب - أن القرآن جاء بالدلائل الواضحة لمسائل العقيدة، ومن ذلك أنه جاء بالأدلة العقلية الواضحة، لا كما يزعم المعتزلة والأشاعرة أن دلالة السمع مجرد الخبر، فقط، وأن قبوله موقوف على تصديق المخبر، وتصديق المخبر - عندهم - موقوف على الأصول العقلية التي تنتهي بهم إلى نفي الصفات عن الله
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (5/153-162) ، والطبراني في الكبير، رقم (1647) ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1803) ، وهو مروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه رواه أيو يعلى الموصلي في مسنده رقم (5109-9/46) ، ت حسين سليم أسد، وقال المحقق اسناده صحيح.
(2)
رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة، ورقمه (262) ..
(3)
سبق تخريجه قريباً.
(4)
درء التعارض (1/73-74) .
تعالى، يقول شيخ الإسلام راداً على هؤلاء:" إن القرآن ضرب الله فيه الأمثال، وهي المقاييس العقلية التي يثبت بها ما يخبر به من أصول الدين، كالتوحيد، وتصديق الرسل، وإمكان المعاد، وإن ذلك مذكور في القرآن على أكمل الوجوه، و.. عامة ما يثبته النظار من المتكلمين والمتفلسفة في هذا الباب يأتي القرآن بخلاصته، وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه، بل لا نسبة بينها لعظم التفاوت "(1) ، وشيخ الإسلام يوضح مسألة خطيرة طالما وقع في الانحراف فيها أناس كثيرون ممن تشبعوا بعلم الكلام والفلسفة حيث يظنون أن القرآن كتاب عظيم، لاشك في ثبوته، ولكنه كتاب إيمان وتسليم، وقد وصل الأمر بأحد أعلام الأشاعرة - وهو أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا الهراسي (2)
- أو بعض نظرائه من تلاميذ الجويني أن يقول: " وفي القرآن حجاج، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج، غير أن العامي يكتفي به، كقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (قّ:15) ،وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء، وكذلك قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (النحل:62) ، {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} (لنجم:21) ، وليس هذا يدل على نفي الولد قطعاً، فمبادئ النظر كافية لهم"(3) ، ويتعجب الإنسان أشد العجب من هذا الكلام، ولذلك يرد عليه شيخ الإسلام بقوله: " وأما [ما (4) ] ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل، وما بعث به
(1) التسعينية (ص: 273) .
(2)
هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري الهراسي، المعروف بالكيا -ومعناه في اللغة العجمية الكبير القدر - والهراسي بمعنى الذعر، الأعلام (4/329) ، ولد سنة 450هـ، وتوفي سنة 504هـ= =وكان من أبرز تلاميذ الجويني بعد الغزالي، درس بالنظامية، وله أحكام القرآن، مطبوع -وشفاء المسترشدين، نقد مفردات الإمام أحمد، وغيرها، انظر: تبين كذب المفتري (ص:288-289) ، المنتظم (9/167) ، سير أعلام النبلاء (19/350) ، والوافي في الوفيات (22/82) - مطبوع - وطبقات السبكي (7/231) ، وغيرها..
(3)
هذا النص نقله ابن تيمية عن الكيا الهراسي أو أحد تلاميذ الجويني، درء التعارض (7/360)، وانظر: درء التعارض أيضاً (8/94) .
(4)
زيادة يقتضيها السياق، ولعلها ساقطة طباعة.
الرسول، حتى يقول بعضهم: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن، وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن، بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية، وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول، مع مخالفتهمن لصحيح المنقول، ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (1) ، ثم بين شيخ الإسلام في معرض الرد " أن الطرق التي جاء به القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإليهة "، ثم ذكر عدة أمثلة تدل على هذا:
1-
منها دلالة قياس الأولى على نفي الولد عن الله تعالى، يقول:" مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني، لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل، وذلك أن الله تعالى ليس مماثلاً لشيء من الموجودات، فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمولي منطقي تستوي أفراده في الحكم، كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، فإنه سبحانه لا مثل له، وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى، مثل أن يُقال: كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه، وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لانقص فيه بوجه من الوجوه، لأنه سبحانه واجب الوجود، فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه، ولأنه مبدع الممكنات وخالقها، فكل كمال لها فهو منه، وهو معطيه، والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال، كما يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة" ثم يطبق هذا على المسألة التي ذكرها الكيا الهراسي وهي أن الآيات الواردة لا تدل على نفي الولد عن الله تعالى فيقول: " وكان المشركون يقولون: إن الملائكة بنات الله، كما حكى الله ذلك عنهم بقوله:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} (الزخرف:19) ،
(1) انظر: درء التعارض (7/361) .
وهم مع هذا يجعلون البنات نقصاً وعيباً، ويرون الذكر كمالاً، فقال لهم: كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين، وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم؟ فهذا احتجاج عليهم بطريق الأولى في بطلان قولهم: إن له البنات، ولهم البنين، لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقاً كما يقول من يفتري على القرآن " (1) ،
ثم يشرح الآيات الواردة في الرد على ادعاء المشركين إن لله البنات، ثم يقول " وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقاً لم يذكر هذه الحجة التي لم يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج، وظن هو وأمثاله من أهل الضلال إن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن، وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين، بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب، كقوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ* بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2)(البقرة: 116-117) ، ويستشهد بآيات أخرى يذكر ما فيها من دلالات (3) .
2-
ثم يذكر مثالاً آخر على مجيء القرآن بالأدلة البرهانية، وهو دليل إثبات المعاد، يقول في معرض رده على الكلام السابق - للكيا الهراسي أو أحد تلاميذ الجويني:" وأما ما ذكره من قوله تعالى {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (قّ:15) وقول ذلك القائل: من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الول، فيقال له: مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن، كان فيه من الدلالة على جهله وضلاله، مالا يقدر على وصفه الإنسان، وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكره من دلائل المعاد وبراهينه مالا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه، وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق "(4) ، ثم شرح أدلة القرآن التي
(1) انظر: درء التعارض (7/362-363) ..
(2)
انظر: المصدر السابق (7/367-368) .
(3)
انظر: المصدر السابق (7/368-374) .
(4)
انظر: المصدر السابق (7/374) .
جاءت بطريق الوجود والعيان، وبطريق الاعتبار والبرهان، وشرح هذين الطريقين شرحاً وافياً (1) .
3-
ثم ذكر مثالاً ثالثاً وهو ما ذكره تعالى من نفي الشركاء معه (2) .
ثم يقول شيخ الإسلام معقباً على ما سبق: " ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل، وهما متلازمان، كان من سلك الطريق العلي دله على الطريق السمعي، وهو صدق الرسول، ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية، كما بين ذلك القرآن، وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا، كما قال أهل النار في قوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك:10)(3) .
جـ - كثيراً ما يناقش شيخ الإسلام استدلال الأشاعرة الفاسد ببعض النصوص القرآنية، ومن أمثلة ذلك:
1 -
ما وقع فيه أهل الكلام - من الأشاعرة وغيرهم - في تقريرهم للعقائد الإيمانية حين يبدأون في إثبات الصانع أولاً بدليل حدوث الأجسام، ثم إثبات الصفات لله بالأدلة العقلية، ثم يتكلمون في السمعيات من المعاد والجنة والنار والإمامة وغيرها، وهذا منهجهم في جميع كتبهم تقريباً، يقول شيخ الإسلام في " قاعدة أولية " مبيناً منهج القرآن في تقرير العقيدة، مستشهداً بصدر سورة البقرة، فبعد أن صنف الخلق إلى ثلاثة أصناف قال بعد ذلك:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (البقرة:21)، ثم اتبع ذلك بتقرير النبوة في قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة:23) . قال ابن تيمية بعد ذلك: " والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف ويستعظمه، حيث قررت الربوبية ثم الرسالة، ويظن أن هذا موافق لطريقته الكلامية، في نظره في القضايا العقليات أولاً، من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقي السمعيات من النبوة كما
(1) درء التعارض (7/375-389) .
(2)
انظر: المصدر السابق (7/389-394) .
(3)
انظر: المصدر السابق (7/394) .
هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة، والكرامية، والكلابية، والأشعرية ومن سلك هذا الطريق في إثبات الصانع أولاً، بناء على حدوث العالم، ثم إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي - على ما بينهم منم اتفماق واختلاف إما في المسائل وإما في الدلائل- ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات من المعاد والثواب والعقاب والخلافة والتفضيل والإيمان بطريق مجملة، وإنما عمدة الكلام عندهم ومعظمه مقاييس تستلزم رج كثير مما جاءت به السنة فلحقهم الذم من جهة الضعف المقاييس التي بنوا عليها، ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة " (1)، ثم بين بعد كلامه عن الفرق بين المعتزلة الأشاعرة في هذا الموضوع أن المتكلم أخطأ في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته ممن وجوه ذكر منمها وجهين عظيمتين:
أحدهما: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته، التي يستلزم العلم بها العلم به، وهذه هي الطريقة الفطرية بخلاف الطرق التي أتى بها أهل الكلام من دليل الحدوث أو الإمكان أو غيرها (2) .
والوجه الثاني: " أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس، وصلاحها، وغايتها، ونهايتها، لم يقتصر على مجرد الإقرار به، كما هو غاية الطريقة الكلامية "(3)، ثم قال عنهم:" فلا وافقوا، لا في الوسائل ولا في المقاصد، فإن الوسيلة القرآنية قد أشرنا إلى أنها فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، وتلك [أي طرق أهل الكلام في إثبات الصانع] قياسية بعيدة، ولا توصل إلا إلى نوع المقصود لا إلى عينه، وأما المقاصد: فالقرآن أخبر بالعلم به والعمل له، فجمع بين قوتي الإنسان العلمية والعملية، الحسية والحركية، الإرادية الإدراكية والاعتمادية القولية والعملية، حيث قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (البقرة:21) ، فالعبادة لابد فيها من معرفته، والإنابة إليه والتذلل له، والافتقار إليه وهذا هو المقصود، والطريقة الكلامية إنما تفيد مجرد الإقرار والاعتراف بوجوده "(4) .
(1) مجموع الفتاوى (2/7) .
(2)
انظر المصدر السابق (2/9-12) .
(3)
المصدر نفسه (2/12) .
(4)
مجموع الفتاوى (2/12) .
وكلام الله لا يقاس بكلام الخلق، ولولا أن المسلمين ابتلوا بمثل هذا الكلام الذي يقوله هؤلاء، ويقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما كان هناك حاجة إلى تقرير مثل هذه الأصول التي هي من أول مسلمات كل مؤمن ينتسب إلى هذا الدين.
2-
ومن الأمثلة أيضاً احتجاجهم غير الدقيق ببعض الآيات القرآنية، مثل احتجاجهم بقوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة: 58-59) ، على دليل حدوث الأعراض الذي يقولون به، يقول شيخ الإسلام:" وكثير من أهل الكلام يجعل دلالة القرآن والأحاديث من جهة الخبر المجرد، ومعلوم أن ذلك لا يوجب العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر، فلهذا يضطرون إلى أن يجعلوا العلوم العقلية أصلاً، كما يفعل أبو المعالي، وأبو حامد، والرازي، وغيرهم، وأئمة المتكلمين يعترفون بأن القرآن بين الأدلة العقلية كما يذكر ذلك الأشعري وغيره، وعبد الجبار بن أحمد وغيره من المعتزلة ".
" ثم هؤلاء يذكرون أدلة يجعلونها أدلة القرآن، ولا تكون هي إياها كما فعل الأشعري في " اللمع " وغيره حيث احتج بخلق الإنسان، وذكر قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة: 58-59) ، لكنم هو يظن أن النطفة فيها جواهر باقية، وأن نقلها في الأعراض يدل على حدوثها، فاستدل على حدوث جواهر النطفة (1) . وليست هذه طريقة القرآن ولا جمهور العقلاء، بل يعرفون أن النطفة حادثة بعد أن أن لم تكن، مستحيلة عن دم الإنسان، بالاستحالة، وبعدم المادة الأولى لا تبقى جواهرها بأعيانها دائماً "(2)، ثم يقسم ابن تيمية النظار في نظرتهم إلى دلائل القرآن إلى ثلاث درجات:
- منهم من يعرض عن دلائله العقلية.
(1) انظر: اللمع للأشعري (ص: 7) ، ت مكارثي، والرسالة إلى أهل الثغر (ص: 35) .
(2)
مجموع الفتاوي (16/470-471) .
- ومنهم من يقر بها، لكن يغلط في فهمها.
- ومنهم من يعرفها على وجهها.
كما أنهم ثلاث طبقات في دلالته الخبرية:
- منهم من يقول: لم يدل على الصفات الخبرية.
- ومنهم من يستدل به على غير ما دل عليه.
- ومنهم من يستدل به على ما دل عليه (1) .
3-
ومن الأمثلة أيضاً احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وما ذكر عنه تعالى أنه قال:{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام:76) ، احتجاجهم بهذه الآية على أن دليل حدوث الأجسام جاء في القرآن، وقد رد عليهم ابن تيمية في ذلك طويلاً (2) .
د - وشيخ الإسلام وهو يرد على الأشاعرة يفضل مصطلحات القرآن على غيره فيقول - في المناظرة حول الواسطية لما ذكر أن مذهب السلف إثبات الصفات من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل - " إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة [أي الواسطية اتباع الكتاب والسنة، فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات لأنه لفظ له عدة معان.. وقلت أيضاً: ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11) ، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (مريم:65) ، وكان أحب إلى من لفظ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان قد يعني بنفيه معنى صحيح، كما قد يعني به معنى فاسد "(3) ، وهذا الكلام الذي يقوله هنا إنما هو في مناظرته مع خصومه
(1) مجموع الفتاوي (16/471) .
(2)
انظر مثلاً: درء التعارض (1/310، 2/73، 4/76) ، وغيرها، وسيأتي لهذه المسألة مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى.
(3)
مناظرة حول الواسطية، مجموع الفتاوي (3/165/166) .
الأشاعرة وغيرهم، حول العقيدة الواسطية التي كتبها لعموم المسلمين، ولذلك راعى فيها السهولة والشمول، مع الحرص الشديد على استعمال الألفاظ والمصطلحات الواردة في الكتاب والسنة، فلما ناظروه حولها بين منهجه وأسلوبه فيها، ولما ذكر شيخ الإسلام مسألة المعجزات ذكر أن تسميتها بآيات الأنبياء أولى وأدل على المقصود (1) .
هـ - خبر الآحاد وإفادته للعلم إذا تلقته الأمة بالقبول، وحجيته في مسائل العقيدة، ومذهب جمهور الأشاعرة في هذه المسألة مشهور، ويتلخص في أن أخبار الآحاد - وهي ما عدا المتواتر - إنما تفيد الظن دون العلم، ومن ثم فلا يحتج بها في العقائد إذا عارضها الدليل العقلي (2) ، والأشاعرة كثيراً ما ينسبون إلى جمهور العلماء القول بأن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، ويذكرون هذا عندما يتطرقون إلى هذا الموضوع في مباحث أصول الفقه (3)، ويلاحظ هنا أمور:
الأول: أن الأشاعرة مع قولهم بأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم إلا أنهم يحتجون بها في المسائل العملية التي هي مسائل الأحكام والفروع واهتمامهم بالحديث والفقه وأصوله مشهور ومعروف.
الثاني: أنهم يحتجون بأخبار الآحاد ويقررون بها بعض مسائل العقيدة، مثل المعجزات الثابتة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم غير القرآن، والرؤية، والشفاعة وعذاب القبر، والحساب والميزان والصراط، والإمامة، والتفضيل وغيرها، وهو وإن قالوا إن هذه من قبيل المستفيض المشهور، إلا أنهم يعترفون بأنها دون المتواتر.
(1) انظر: الجواب الصحيح (4/67) .
(2)
انظر مثلاً: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك (ص: 22)، والتمهيد للباقلاني (ص: 381-386) ، ت مكارثي، وأصول الدين للبغدادي (ص: 12، 18) ، والإرشاد للجويني (ص: 161، 359، 416) ، والشامل (ص: 100، 557) ، وأساس التقديس للرازي (ص:168) ، وغيرها.
(3)
انظر مثلاً: البرهان للجويني (1/606)، والمستصفى للغزالي (ص: 170) ، ط الجندي، والتبصرة للشيرازي (ص: 298) ، والعدة للقاضي أبي يعلى (3/898)، والمحصول للرازي (ج- 2 ق 1 ص:632) ، والأحكام للآمدي (2/32) .
لذلك فهم يتناقضون حين يقولون: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم، أو إنها لا يحتج بها في العقيدة، وهو إنما يلجأؤن إلى هذا حين تورد عليهم الأحاديث الواردة في إثبات الصفات لله تعالى مما يظنون أنها تقضي تشبيهاً أو تجسيماً.
الثالث: أن علماء مصطلح الحديث بحثوا هذه المسألة عند تقسيمهم الحديث إلى متواتر وآحاد، وعند كلامهم عن صحيحي البخاري ومسلم وتلقى الأمة لها بالقبول:
1-
فابن الصلاح رحمه الله يقول عن المتفق عليه بين البخاري ومسلم: " وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لقول من نفي ذلك محتجاً بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ، وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولاً هو الصحيح.."(1) ، ثم بين أن حكمة هذا يشمل أيضاً ما انفرد به أحدهما (2) .
2-
تعقب النووي ابن الصلاح فقال في التقريب: " وذكر الشيخ تقي الدين [أي ابن الصلاح] أن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون الأكثرون، فقالوا يفيد الظن ما لم يتواتر"(3) ، كما وافق النووي وخالف ابن الصلاح عزُّ الدين بن عبد السلام (4) .
وكثير من العلماء الذين جاءوا بعد النووي أيدوا ابن الصلاح، ومنهم الحافظ ابن كثير (5) ، وسراج الدين البلقيني (6) ، وابن حجر (7) ، وغيرهم.
(1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص: 24)، وانظر: صيانة صحيح مسلم (ص:85-86-115) .
(2)
انظر: علوم الحديث (ص: 25) .
(3)
التقريب للنووي (ص: 40)، وانظر: شرحه لصحيح مسلم (1/20) .
(4)
انظر: التقييد والإيضاح للعراقي (ص:41) .
(5)
انظر: الباعث الحثيث (ص: 33)، وانظر: تعليق أحمد شاكر في الحاشية.
(6)
انظر: محاسن الاصطلاح (ص: 101) .
(7)
انظر: النكت على ابن الصلاح (1/371) ، وما بعدها، ونزهة النظر (ص: 39) ، مع لقط الدرر.
فهذا الخلاف إنما ورد على ما في الصحيحين من الأحاديث، وهذا منسحب على ما ورد في غيرهما من الأحاديث الثابتة التي تلقتها الأمة بالقبول.
وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة كما يلي:
1 -
التحقيق في المقصود من خبر الواحد حيث يقال: إنه يفيد العلم، لأن البعض يظن أن من قال بهذا القول فإنه يقول بإفادته العلم في كل خبر، وهذا غير صحيح يقول شيخ الإسلام، " إن أحداً من العقلاء لم يقل إن خبر كل واحد يفيد العلم، وبحث كثير من الناس إنما هو في رد هذا القول "(1)، ويقول أيضاً:" ولا يقول عاقل من العقلاء: إن مجرد خبر الواحد أو خبر كل أحد يفيد العلم "(2) ،
وهذا بيان وتحقيق لموطن الخلاف، لأن الذين يقولون إنه يفيد الظن بنوا قولهم على أن خبر الواحد قد يصدق وقد يكذب فكيف يقال: إنه بمجرده يفيد العلم؟ وهذا صحيح بعمومه، ولكن الذين قالوا إنه قد يفيد العلم قيدوه بقيود معلومة كأن تحفة القرائن المؤيدة، أم تتلقاه الأمة بالقبول، أو يرويه الحفاظ الذي عرف عنهم الضبط والإتقان، وغيرها، وهذا الغلظ على العلماء الذي بينه شيخ الإسلام ابن تيمية أغضب شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله فقال وهو يعرض لهذا الموضوع بعد تفصيل وافٍ مشبعٍ بلغ قرابة المائة صفحة: " المقام التاسع والعاشر: وهو أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم قضية كاذبة باتفاق العقلاء إن أخذت كلية عامة، وقضية لا تفيد إن أخذت جزئية أو مهملة، فإن عاقلاً لا يقول: كل خبر لا يفيد العلم حتى تنتصبوا للرد عليه كأنكم في شيء وكأنكم قد كسرتم عدو الإسلام فسودتم الأوراق بغير فائدة، حتى كذب بعض الأصوليين كذباً صريحاً لم يقله أحد قط فقال: مذهب أحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين عنه: أن خبر الواحد يفيد العلم من غير قرينة، وهو مطرد عنده في خبر كل واحد، فيالله العجب، كيف لا يستحي العاقل من المجاهرة بالكذب على أئمة الإسلام، لكن عذر هذا وأمثاله أنهم يستجيزون نقل
(1) المسودة (ص:244) .
(2)
شرح الأصفهانية (ص:92) ..
المذاهب عن الناس بلازم أقوالهم، ويجعلون لازم المذهب في ظنهم مذهباً " (1) .
2-
يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية من أبرز العلماء الذين نبهوا إلى خطأ وقع فيه كثير من المتأخرين - قبل ابن تيمية - وذلك حين نسبوا إلى جمهور العلماء القول بأن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول لا تفيد إلا الظن، وأن القول بإفادته العلم لم يقل به إلا فئة قليلة من الحنابلة وغيرهم، يقول رحمه الله:" الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم، وعلى هذا فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث، وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر، ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم علماء الحديث علماً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله: تارة لتواتره، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول. وخبر الواحد المتلقى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالاسفراييني وابن فورك "(2)، ويقول أيضاً:" الخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً بموجبه يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معنى التواتر (3) ، لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض، ويقسمون الخبر إلى متواتر ومشهور وخبر واحد، وإذا كان كذلك فأكثر متون الصحيحين معلومة متقنة تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق وأجمعوا على صحتها، وإجماعهم معصوم من الخطأ "(4) ،
وقد أعاد هذا الكلام مرة أخرى، وذكر أن أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف وعد منه الأشعرية (5) .
(1) مختصر الصواعق (2/445) ، وكأن ابن القيم يقصد بكلامه الآمدي، لأن ما نقله هو كلامه بحروفه في الأحكام (2/32) ، مع تقديم وتأخير.
(2)
مجموع الفتاوي (18/40-41) .
(3)
يرد شيخ الإسلام على الذين يقولون، إن التواتر يحصل بالعدد فقط فيقول:" من الناس من لا يسمى متواتراً إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلاً بكثرة عددهم فقط، ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية، وهذا ضعيف.." ثم رد عليهم، انظر: مجموع الفتاوي (18/48)، وانظر مناقشة أو في المسودة (ص: 236-237) .
(4)
مجموع الفتاوي (18/48-49) ..
(5)
انظر المصدر السابق (18/70) .
بل إن شيخ الإسلام يذكر أن هذا لقول جمهور علماء أصول الفقه، فيقول: " ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، تصديقاً له، أو عملاً به، أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيراً من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف في ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق وابن فورك.
وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك، واتبعه مثل أبي المعالي، وأبي حامد، وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن الخطيب، والآمدي، ونحو هؤلاء، والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب، وأبو إسحاق، وأمثاله من أئمة الشافعية، وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله، وهو الذي ذكره أبو يعلى وأبو الخطاب وأبو الحسن بن الزاغوني، وأمثالهم من الحنابلة، وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجباً للقطع به، فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الاعتبار في الاجتماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة " (1) .
ويذكر شيخ الإسلام رأي ابن الصلاح واعتراض المعترضين فيقول بعد ذكره لنماذج عديدة من أحاديث الآحاد مما تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له، يقول:" فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل السرخسي وأبي بكر الرازي من الحنفية، وابن خواز منداد وغيره من المالكية، ومثل القاضي أبي يعلي وابن أبي موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية، ومثل أبي إسحاق الأسفراييني وابن فورك
(1) مقدمة في أصول التفسير (ص: 67-68) ، ت زرزور، وممن صرح بأنه قد يفيد خبر الآحاد العلم ممن ذكرهم ابن تيمية أبو إسحاق الأسفراييني كما في النكت لابن حجر (1/377)، والشيرازي في اللمع الذي ألفه بعد التبصرة (ص: 40) ، والسرخسي في أصوله (1/291-293) .
وأبي إسحاق النظام من المتكلمين، وإنما نازع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل، وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح القول الأول وصححه واختاره، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة، وظن من اعتراض عليه من المشايخ (1) الذي لهم علم ودين، وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو انفرد به عن الجمهور، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدى، وإلى ابن الخطيب، فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني" (2) ، ثم ذكر ابن تيمية دليل الجمهور وهو الإجماع (3) .
والدليل على أن شيخ الإسلام من أبرز العلماء الذين حققوا هذه المسألة وبينوا خطأ المتكلمين من الأشاعرة الذين حكوا الخلاف زاعمين أن قول الجمهور: أنها تفيد الظن، أن علماء أصول الحديث المحققين لما حققوا في الأمر استشهدوا ونقلوا كلام شيخ الإسلام في تحقيق ذلك، فابن كثير يقول بعد سياق الخلاف بين ابن الصلاح والنووي:" قلت: وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، والله أعلم"(4)، ثم يقول:" -حاشية - ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة [وذكرهم ثم قال بعد نهاية كلام شيخ الإسلام] : " وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطا، فوافق فيه هؤلاء الأئمة" (5) ، ومثله البلقيني في شرحه لمقدمة ابن الصلاح، فإنه قال بعد ذكر الخلاف: " وما قاله ابن عبد السلام والنووي ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين- رحمهم الله[وساق أسماءهم بما يقارب ما في الباعث
(1) كالنووي والعز بن عبد السلام - كما تقدم تقريباً -.
(2)
نقله ابن القيم مختصر الصواعق (2/373-374) .
(3)
انظر: المصدر السابق (2/374-377) ، وهو بحث مهم جداً.
(4)
الباعث الحثيث (ص: 33) .
(5)
المصدر السابق (ص: 34) .
الحثيث] أنهم يقطعون بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول" (1) ، والبلقيني يقصد ابن تيمية، والكلام الذي نقله هو كلام شيخ الإسلام، وممن نبه إلى هذا ابن حجر حيث قال بعد تلخيص كلام البلقيني: " قلت وكأنه عنى بهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية" (2) ، ثم ساق الحافظ ابن حجر كلاما أطول عن شيخ الإسلام ابن تيمية- نقله عن بعض ثقات أصحابه (3) - ثم رد ابن حجر على النووي من عدة وجوه (4) ، وكذا الفتوحي في شرح الكوكب المنير نقل عن ابن تيمية (5) ، فهؤلاء العلماء اعتمدوا في بيان حقيقة الخلاف في هذه المسألة على ما حققه وبينه ابن تيمية رحمه الله تعالى.
3-
بقيت مسألة حجية خبر الآحاد في العقيدة، وأصرح من يمثل اعتقاد جمهور الأشاعرة في ذلك الرازي الذي يقول: " أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز يدل عليه وجوه: الأول: أن أخبار الآحاد مظنونة، فلم يجز التمسك بها في معرفة الله تعالى وصفاته، وإنما قلنا إنها مظنونة لأنا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين
…
" ثم ساق أدلة منكري حجية خبر الآحاد التي ذكرها علماء أصول الفقه، ثم قال عن الصحابة في الوجه الثاني " إلا أنا قلنا إن الله تعالى أثنى على الصحابة رضي الله عنهم في القرآن على سبيل العموم، وذلك يفيد ظن الصدق، فلهذا الترجيح قبلنا روايتهم في فروع الشريعة، أما الكلام في ذات الله تعالى وصفاته فكيف يمكن بناؤه على هذه الرواية الضعيفة؟ (6) " ثم ذكر الرازي من الأسباب الوصع في الحديث وطعن في رواة الحديث بأن الملاحدة قد يروجون عليهم بعض الأحاديث الموضوعة، كما طعن في ضبط الرواة مستشهدا بنقلهم الحديث بالمعنى (7) .
(1) محاسن الاصطلاح للبلقيني (ص:101) .
(2)
النكت على كتاب ابن صلاح (1/374) .
(3)
لعله يقصد ابن القيم، لأنه ذكر في مختصر الصواعق (2/372-374) ، ما هو قريب مما ذكره ابن حجر.
(4)
انظر: النكت (1/377-379) .
(5)
انظر: شرح الكوكب المنير (2/249) ، المحققة..
(6)
أساس التقديس للرازي (ص: 167-170)، وانظر حول مذهب الأشاعرة في هذا: التسعينة لابن تيمية (ص: 242) .
(7)
انظر: المصدر السابق (ص: 170-171) .
والأدلة التي ذكرها الرازي هي نفسها أدلة الذين لا يوجبون العمل بخبر الآحاد في الأحكام، وما يجيبهم به الرازي في كتبه الأصولية يجاب به هنا، وكلامه عن أهل الحديث وروايتهم كلام من ليس خبيرا بأحوالهم ومناهجهم.
ولاشك أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد ناقش الرازي في أقواله هذه في نقض التأسيس كما يدل عليه منهجه فيما وصل إلينا من هذا الكتاب الذي تتبع في كلام الرازي كلمة كلمة وجملة جملة، وللأسف لم يصل إلينا على حد علمي- الجزء الخاص بهذه المسألة-، علما بأنه قد وصل جزء من رده على كلام الرازي بعد كلامه في خبر الآحاد، وهو القسم الثالث من أساس التقديس، ورد عليه شيخ الإسلام في الجزء الثاني من نقضه المخطوط (1) . وليس في كتب شيخ الإسلام كلام مطول حول هذا الموضوع، وإنما فيها إشارات سبق نقل بعضها، ولعل ابن القيم- كعادتهـ لخص كلام شيخ الإسلام مع إضافات وتحقيقات فيما كتبه مطولا حول أخبار الآحاد (2) .
والأدلة التي أوردها شيخ الإسلام ردا على الرازي وغيره هي كما يلي:
أ- نقل ابن تيمية عن ابن عبد البر الخلاف في خبر الآحاد هل يوجب العمل دون العلم أو العلم والعمل جميعا، وبعد ذكر أقوال العلماء في ذلك قال:" وكلهم يروى خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادى ويوالي عليها، ويجعلها شرعا وحكما ودينا في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة، ولهم في الأحكام ما ذكرنا". قال ابن تيمية معلقا على هذا: " قلت: هذا الإجماع الذي ذكره في خبر الواحد العدل في الاعتقادات يؤيد قول من يقول: إنه يوجب العلم، وإلا فما لا يفيد علما ولا عملا كيف يجعل شرعا ودينا يوالي عليه ويعادي؟ "(3) ، والعجيب أن ابن عبد البر نفسه رجح أنه يوجب العمل دون
(1) سبقت الإشارة إلى الجزء الثاني من مخطوط نقض التأسيس حقه أن يكون هو الثالث وأن يقدم عليه الثالث ليصبح الثاني، قارن بين أساس الرازي (ص: 173) ، ونقضه المخطوط (2/199) .
(2)
انظر: مختصر الصواعق (2/332-446) .
(3)
المسودة (ص: 245) .
العلم، فكيف يحتج به في العقائد ولا يوجب علما؟. ويقول شيخ الإسلام أيضا:" مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات"(1) ، ونقل شيخ الإسلام عن ابن عقيل الحنبلي حكاية الخلاف في أحاديث الآحاد الدالة على الصفات هل يقال بظاهرها، أو ترد، أو تقبل وتؤول، ثم رجح القول الثالث وقال:" هذا هو اعتقادنا"، قال ابن تيمية معلقا:" قلت هذا خلاف ما قرره في انتصاره لأصحاب الحديث، وإن كان كلامه في هذا الباب كثير الاختلاف، وخلاف ما عليه عامة أهل السنة المتقدمين من السلف"(2) .
ب- أن الاعتبار في إفادة أخبار الآحاد العلم إجماع أهل الحديث دون من عداهم، وقد سبقت نقول من كلام شيخ الإسلام في ذلك، وقد أشار شيخ الإسلام إلى إعتراض أوردة ابن الباقلاني ونصه:" فإن قيل: أما الجزم بصدقة فلا يمكن منهم، وأما العمل به [فهو (3) ] الواجب عليهم وإن لم يكن صحيحا في الباطن، وهذا سؤال ابن الباقلاني ". أجاب شيخ الإسلام بقوله: " وأما الجزم بصدقه فإنه يحتف به من القرائن ما يوجب العلم إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها، فكيف إذا احتفت بالخبر، والمنازع بنى على هذا أصله الواهي: أن العلم بمجرد الأخبار لا يحصل إلا من جهة العدد، فلزمه أن يقول: ما دون العدد لا يفيد أصلا. وهذا غلط خالفه فيه حذاق أتباعه. وأما العمل به فلو جاز أن يكون في الباطن كذبا وقد وجب علينا العمل به لا نعقد (4) الإجماع على ما هو كذب وخطأ في نفس الأمر، وهذا باطل، فإذا كان تلقي الأمة له بالقبول يدل على صدقه لأنه إجماع منهم على أنه صدق مقبول فإجماع (5) السلف والصحابة أولى أن يدل على صدقه، فإنه لا يمكن
(1) المسودة (ص: 248) .
(2)
المصدر السابق (ص: 249) .
(3)
في مختصر الصواعق - مصورة الطبعة الأولى [وهو] وكذا في طبعتي زكريا يوسف - الأولى عام 1380هـ (2/483) ، والثانية عام 1400هـ (2/583) ، ولعل الصواب ما أثبته.
(4)
في مصورة الطبعة الأولى (ولا نعقد) والتصويب من طبعتي زكريا يوسف.
(5)
في المصورة بإجماع والتصويب من طبعتي زكريا يوسف.
أحدا أن يدعي إجماع الأمة إلا فيما أجمع عليه سلفها من الصحابة والتابعين، وأما بعد ذلك فقد انتشرت انتشارا لا تضبط جميعها" (1) ،
ثم ذكر تلقي العلماء لجمهور أحاديث الصحيحين بالقبول ثم قال: " فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم، مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنجاة والأطباء، كذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم، فكما أن العلم بالتواتر يتقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لايكون معلوما لغيرهم، فضلا أن يتواتر عندهم، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم، وضبطهم لأقواله وأفعالع وأحواله، يعلمون نت ذلك علما لا يشكون فيه، مما لا شعور لغيرهم به البتة، فخبر أبي بكر وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق عندهم بقسم الضروريات. وعند الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علما، وكذلك يعلمون بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وعند الجهمية: رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروج قوم من النار بالشفاعة وعند المعتزلة والخوارج لم يقل ذلك، وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة، قاطعون بصحتها عنه، وغيرهم لا علم عنده بذلك"(2) .
فشيخ الإسلام من خلال هذا النص يناقش أهل الكلام ببيان المنهج الصحيح في طريقة طرح الموضوع، لأن هؤلاء المتكلمين يعاملون أنفسهم وكأنهم مثل- بل أفضل- من علماء الحديث الذين هيأهم الله تعالى لحفظ دينه وتبليغ شريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فأفنوا أعمارهم في دراسة السنة وتمحيص أسانيدهم ومتونها،
(1) عن مختصر الصواعق (2/374-375) ، مصورة الطبعة الأولى 1348هـ..
(2)
المصدر السابق (2/375-376) .
والغوص في عللها ودقائق رواياتها، فيأتي الواحد من هؤلاء المتكلمين ومبلغ علمه ما في كتب ابن سينا والفارابي وابن رشد، أو كتب أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة، وغيرهم، فيقول: خبر الآحاد لا يفيد العلم، ويحتج بأن هذا قول أمثالهـ من أهل الكلام - بل ويقلب الموضوع ليدعي أن قوله هو قول الجمهور، وأن القول بأنه يفيد العلم هو قول فئة قليلة ممن يسميهم حشوية أهل الحديث وبعض الحنابلة، فشيخ الإسلام يقرر أن المنهج الحق أن يرجع في كل فن إلى أهله، فكما أن الطب يرجع فيه إلى أهل الطب، فكذلك في المسألة المطروحة يرجع فيها إلى أهل الحديث فينظر في أقوالهم ورأيهم هل يفيد عندهم خبر الآحاد العلم أم لا؟ فإذا أجمعوا على أنه يفيد العلم إذا تلقته الأمة بالقبول فلا يلتفت إلى خلاف من سواهم ممن هم كالعوام في علم الحديث.
وهذا منهج تأصيلي مهم لمن أراد أن يدرس هذا الموضوع، لأن هناك جوانب ينبغي الانطلاق منها، وهو ما فعله ابن القيم رحمه الله مما وصل إلينا من مختصر الصواعق.
جـ - ومن المنهج التأصيلي الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ما نقله عنه ابن القيم، في تحقيق مذهب السلف في هذا الباب وبيان المداخل المهمة فيه، يقول شيخ الإسلام:" وأهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمخبر هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين "(1) ، وهذا رد لدعوى أهل الكلام الذين يقولون عن السلف إنهم يرون حصول العلم في خبر كل مخبر، وهذا غلط شنيع عليهم، وقد شرح شيخ الإسلام قولهم بقوله:" بل يقولون ذلك:
- لأمر يرجع إلى المخبر.
- وأمر يرجع إلى المخبر عنه.
- وأمر يرجع إلى المخبر به.
- وأمر يرجع إلى المخبر المبلغ.
(1) مختصر الصواعق (2/377) .
- فأما ما يرجع إلى المخبر فإن الصحابة الذين بلغوا الأمة سنة نبيهم كانوا أصدق لهجة، وأعظمهم أمانة، وأحفظهم لما يسمعونه، وخصهم الله من ذلك بما لم يخص به غيرهم، فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة، ثم ازدادوا بالإسلام قوة في الصدق والأمانة، وكان صدقهم عند الأمة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم عن نبيهم، أمراً معلوماً لهم بالاضطرار، كما يعلمون إسلامهم وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصديق وأصحابه لا يقاس بخبر من عداهم، وحصول الثقة واليقين بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم من سائر الخلق بعد الأنبياء، فقياس خبر الصديق على خبر آحاد المخبرين من أفسد قياس في العالم، وكذلك الثقات العدول الذين رووا عنهم هم أصدق الناس لهجة وأشدهم تحرياً للصدق والضبط، حتى لا تعرف في جميع طوائف بني آدم أصدق لهجة ولا أعظم تحرياً للصدق منهم، وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل يقيسون خبر الصديق والفاروق وأبي بن كعب بأخبار آحاد الناس، مع ظهور الفرق المبين بين المخبرين، فمن أظلم ممن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من الناس في عدم إفادة العلم، وهذا بمنزلة من سوى بينهم في العلم والدين والفضل ".
- " وأما ما يرجع إلى المخبر عنه: فإن الله سبحانه تكفل لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأن يظهر دينه على الدين كله، وأن يحفظه حتى يبلغه الأول لمن بعده، فلابد أن يحفظ الله سبحانه حججه وبيناته على خلقه لئلا تبطل حججه وبيناته، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد مماته وبين حاله للناس..".
- " وأما ما يرجع إلى المخبر به: فإنه الحق المحض، وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلامه وحي، فهو أصدق الصدق، وأحق الحق بعد كلام الله فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذي عقل صحيح، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه، والحق عليه نور ساطع يبصره ذو البصيرة السليمة، فبين المخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهاء والضوء والظلام، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره من الكلام
الصدق، فكيف نسبته (1) ، ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره وسنته، ومن سواهم في عمى عن ذلك، فإذا قالوا أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم إنهم لم يستفيدوا بها العلم، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم، كاذبون في أخبارهم أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة"..
- " وأما ما يرجع إلى المُخبر [المُبلغ] فالمخبر نوعان: نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم، وتحريهم للصدق والضبط، وكونهم أبعد خلق الله عن الكذب وعن الغلط والخطأ فيما نقلوه إلى الأمة، وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول وتلقته الأمة عنهم كذلك، وقامت شواهد صدقهم فيه، فهذا المخبر يقطع بصدق المخبر ويفيده خبر العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته، ونوع لا علم لهم بذلك وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك، فهؤلاء قد لا يفيدهم خبرهم اليقين".
ثم يعقب شيخ الإسلام بقوله: " فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر وإنصاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه أفاد ذلك علماً ضرورياً بصحة تلك النسبة، وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل معدم فقير ما يغنيه فأعطاه ذلك، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير، فكيف إذا تعدد المخبرون عنه وكثرت رواياتهم وأحادثيهم بطرق مختلفة، وعطايا متنوعة في أوقات متعددة؟ "(2) .
وحينما تفيد أخبار الآحاد العلم فإنه يحتج بها في العقائد، ومع ذلك فالتفريق بين الأحكام والعقائد أمر استجد في وقت متأخر، أما السلف من الصحابة
(1) كذا في المختصر (2/379) ، وطبعة زكريا يوسف الأولى (2/486) ، والثانية (2/586) ، ولعل الصواب (يشتبه) .
(2)
مختصر الصواعق (2/377-380) .
والتابعين فكانوا يتلقون الأحاديث كلها دون تفريق، ويؤمنون بما جاءت به ويصدقون، ويعملون بما فيها من أحكام، والإسناد الصحيح الذين يروون به حكماً من أحكام الصلاة أو الزكاة أو الحدود أو النكاح فيعملون بمقتضاه هو نفسه الإسناد الذي يروون بطريقه حديثاً في الصفات أو الرؤية أو القدر أو غيره.
دون أن يفرقوا بين هذه الأحاديث المروية التي جاءت بهذا الإسناد.
وحجية خبر الآحاد في العقيدة وإفادته العلم إذا تلقى بالقبول من المسائل التي اهتم بها العلماء، ولابن تيمية إشارات سريعة في بعض كتبه (1) ، وقد أفردت فيه بعض الرسائل والكتب (2) .
و ولابن تيمية لمحات ووقفات حول السنة والاستدلال بالأحاديث الواردة، وما وقع فيه بعض الناس من أخطاء سواء في الرواية أو الدراية، ويمكن أن نشير إلى الأمثلة التالية:
1-
حرص شيخ الإسلام مع احتجاجه بالسنة في العقائد (3) على تمييز الضعيف والموضوع منها، والتنبيه إلى غلط من احتج بها، ومن ذلك قوله: " وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل لينهجوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه، مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق (4) ، فإن هذا وأمثاله لا يكذبه
(1) انظر مثلاً: نقض التأسيس المخطوط (2/311-312)، والرد على المنطقيين (ص:37-38) ، ومجموع الفتاوي (18/16) ، ورفع الملام - مجموع الفتاوي (20/257) .
(2)
من أجمعها كتاب أخبار الآحاد في الحديث النبوي للشيخ عبد الله بن جبرين، ورسالة: الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام للشيخ ناصر الدين الألباني، وأصل الاعتقاد للدكتور عمر الأشقر، والأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد في الأحكام والعقائد تأليف سليم الهلالي وغيرها.
(3)
انظر مثلاً: الواسطية، مجموع الفتاوي (3/138-140)، وانظر: المناظرة حولها (3/168) .
(4)
حديث موضوع كما نبه إليه شيخ الإسلام، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/105) ، واللآلئ المصنوعة للسيوطي (1/3) .
من يعتقد صدقه لظهور كذبه، وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس، كما يقولون: إنه وضعه بعض أهل الأهواء ليقول: إن أهل الحديث يروون مثل هذا، ومع هذا فكل أهل الحديث، متفقون على لعنة من وضعه، ومما يشبه هذا حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق، فيصافح المشاة ويعانق الركبان. (1) ." (2) ، فشيخ الإسلام يثبت حديث النزول الصحيح، وله كتاب مشهور في شرحه، أما مثل هذه الأحاديث الموضوعة فإنه يبين حالهم ويحذر الناس منها (3) .
2-
يعتبر شيخ الإسلام من أوائل العلماء الذين ألفوا في الرسائل المتعلقة بأحاديث القصاص الموضوعة والضعيفة (4) ، وقد وصلت إلينا رسالة في ذلك ذكر فيها مجموعة من الأحاديث الموضوعة المشتهرة بين الناس في العقائد والعبادات والفضائل وغيرها. كما أنه في كتبه ورسائله كثيراً ما يبين حال بعض الأحاديث التي يتناقلها أهل الكلام والتصوف، ومن أمثلة ذلك:
أ - حديث العقل: " إن الله عزوجل لما خلق العقل قال له أقبل، فأقبل ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطي (5) "،قال شيخ الإسلام" " هذا الحديث كذب
(1) هو حديث موضوع، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/124)،وأحاديث مختارة من موضوعات الجوزقاني وابن الجوزي للذهبي (ص:40) ، واللآلئ المصنوعة (1/27/28)، والفوائد المجموعة (ص:447) ، وتنزيه الشريعة المرفوعة (1/138-139) .
(2)
درء التعارض (7/92-93) ، وانظر أيضاً (1/148-149) ، ومناهج السنة (2/422) ، المحققة.
(3)
انظر: منهاج السنة (2/508-510) ، المحققة، ودرء التعارض (1/106-108)،وانظر: ابن تيمية وموقفه من التأويل للجلنيد (ص: 330-333) .
(4)
انظر: مقدمة تحقيق أحاديث القصاص (ص:15) .
(5)
موضوع كما حكم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أورده الغزالي في مواضع من كتبه منها: المعارف العقلية (ص: 28)، وفيصل التفرقة (ص: 182) ، وميزان العمل (ص: 331) ، وإحياء علوم الدين (1/83) ، وحديث العقل رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بلفظ لما خلق الله العقل، المعجم الأوسط (2/503) ، ورقمه (1866) ، وأبو نعيم في الحلية (7/318) ، عن عائشة بلفظ أول ما خلق الله العقل، والديلمي في الفردوس رقم (4)(1/46) ، وأسانيده ضعيفة جداً، وانظر: المقاصد الحسنة (ص: 198) ، ت الخشت رقم (233) ، وكشف الخفاء (1/236)، والمنار المنيف (ص: 66) ، وتسديد القوص لابن حجر، حاشية الفردوس (1/46)، وانظر: الفوائد الموضوعة لمرعي الكرمي الحنبلي (ص: 88) ، وتخريج أحاديث إحياء علوم الدين (1/231) ، جمع محمود بن الحداد.
موضوع باتفاق أهل العلم، والذين يروونه ذكروه في فضل عقل الإنسان، وأما ما يظن بعض الناس المراد به العقل الفعال فهذا قول من يقول من المعتزلة والملاحدة الذين يقولون بأن العقل الفعال هو المبدع لهذا العالم، وهذا مما هو مخالف لما اتفقت [عليه الرسل](1) ، وقد بسط شيخ الإسلام الكلام حول هذا الحديث وتكلم في معناه، ورد على الذين يحتجو به من وجوه عديدة (2) .
ب - وحديث: " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله، فإذا ذكريوه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله تعالى "(3)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح، فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي، وأبو حامد الغزالي (4) وغيرهما، لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخ الهروي يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات، وأبو حامد قد يحمل هذا - إذا تفلسف - على ما يوافق أقوال الفلاسفة النفاة "(5) .
فحكم عليه شيخ الإسلام بأن ليس له إسناد صحيح.
(1) أحاديث القصاص (ص: 57-58) ، ط الثانية، وانظر أيضاً: جامع الرسائل (1/168)، والرد على المنطقيين (ص: 196-275) ، والجواب الصحيح (3/118) ، ودرء التعارض (5/224-386) ، ومجموع الفتاوي (18/336-338) .
(2)
السبعينية (ص: 5-44) ، والصفدية (1/237-241) .
(3)
رواه الديلمي في مسند الفردوس (1/258) ، ورقمه (799) ، قال ابن حجر في تسديد القوس - حاشية الفردوس - " أسنده عن أبي هريرة وهو من أربعين السملى في التصوف، وسنده ضعيف"، وانظر: الترغيب والترهيب (1/111) ، وتخريج أحاديث إحياء علوم الدين (1/102) رقم (83) ، وكنز العمال (10/181) .
(4)
انظر: الأحياء (1/21) .
(5)
انظر: درء التعارض (5/85-86) .
جـ - ومن ذلك ما يرويه الصوفية عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم مع أبي بكر كنت بينهما كالزنجي الذي لا يفهم "(1) ، قال شيخ الإسلام، " هذا كذب ظاهر لم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث ولا يرويه إلا جاهل أو ملحد "(2) .
وغيرها من الأحاديث (3) .
3-
رد شيخ الإسلام على أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم في فهمهم لبعض الأحاديث وما فيها من توجيه وبيان حول الإيمان بالله تعالى، ومن ذلك أحاديث الوسوسة كحديث أبي هريرة رض الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله "، وفي لفظ " يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك، فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته " (4) ، وكحديث أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ "(5) ،
فإن الرازي ونحوه ظنوا أن هذه الأحاديث ليس فيها برهان وإنما فيها طلب الاستعاذة بالله تعالى، ومثل لذلك بمثال، وهذا جواب من الرازي لسؤال ورد عليه فقيل له: لمَ لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الوسواس بالبرهان
(1) ذكره في تنزيه الشريعة (1/407) ، والأسرار المرفوعة (476)، والفوائد المجموعة (ص:335) ، ونقلوا عن ابن تيمية أنه موضوع.
(2)
أحاديث القصاص (ص:61)، وانظر أيضاً: درء التعارض (5/27)، والسبعينية (ص: 56) ، ومجموع الفتاوي (11/77،109، 168، 13/253) .
(3)
انظر مثلاً: السبعينية (ص: 62-63)، حيث رد على رواية لحديث الافتراق وأن فيها " كلهم في الجنة إلا الزنادقة وقد ذكر هذا الحديث الغزالي في فيصل التفرقة (ص: 193) ، وقال فيه شيخ الإسلام إنه كذب موضوع.
(4)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، ورقمه (134) وما بعده.
(5)
رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ورقمه (1296) ، (فتح الباري 13/265) ، ورواه مسلم في الإيمان باب بيان الوسوسة ورقمه (136)، لكن بلفظ " قال الله عزوجل إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا وما كذا حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ "..
المبين لفساد التسلسل والدور، بل أمر بالاستعاذة؟ وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:" وهذا خطأ من وجوه، بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها، ودل على مجاميع البراهين التي يرجع إليها غاية نظر النظار، ودل من البراهين على ماهو فوق استنباط النظار، والذي أمر به في دفع هذا الوسواس ليس هو الاستعاذة فقط، بل أمر بالإيمان، وأمر بالاستعاذة، وأمر بالانتهاء، ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به لا طريق غير ذلك، وبيان ذلك من وجوه.. "(1) ، وقدبين في هذه الوجوه كيف أن السنة جاءت بأكمل الحجج وأوضحها.
ومما سبق يتبين كيف كان شيخ الإسلام واثقاً من منهج القرآن والسنة وأن فيهما ما يغني ويكفي، وأن الهداية التامة والسير على الصراط المستقيم والأمن من الانحراف لا يحصل ببراهين الفلاسفة والمتكلمين القاصرة والناقصة وإنما يحصل باتباع الوحي والسير على المنهاج النبوي.
(1) درء التعارض (3/308-309)، وانظر ما بعدها إلى (ص: 318) .