المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ويقوم منهج شيخ الإسلام - في نقض هذا القانون - - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ٢

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الثاني: الماتريدية وعلاقتهم بالأشعرية

- ‌أولا: الأشعري والماتريدي

- ‌ منهج الماتريدي وعقيدته:

- ‌ثانيا: مقارنة بين الأشعرية والماتريدية:

- ‌المبحث الثالث: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره

- ‌ أسباب انتشار المذهب الأشعري:

- ‌المبحث الرابع: عقيدة الأشعرية

- ‌الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة وأشهر رجالهم إلى عهد ابن تيمية

- ‌ أبو الحسن الطبري:

- ‌ الباقلاني:

- ‌ابن فورك:

- ‌عبد القاهر البغدادي:

- ‌البيهقي:

- ‌القشيري:

- ‌الجويني:

- ‌منهج الجويني وأثره في تطور المذهب الأشعري:

- ‌أبو حامد الغزالي:

- ‌أعلام الأشاعرة في الفترة بين الغزالي والرازي:

- ‌ ابن تومرت

- ‌ فخر الدين الرازي:

- ‌ منهج الرازي وأثره في تطور المذهب الأشعري

- ‌ أبو الحسن الآمدي:

- ‌ عز الدين بن عبد السلام

- ‌صفي الدين الهندي

- ‌ بدر الدين بن جماعة

- ‌ ناصر الدين البيضاوي

- ‌ عضد الدين الإيجي

- ‌ أبو علي السكوني

- ‌ خلاصة وتعقيب:

- ‌الباب الثاني: موقف ابن تيمية من الأشاعرة

- ‌الفصل الأول: عرضه لجوانبهم الإيجابية واعترافه بما عندهم من حق

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة

- ‌أولاً: وصفهم بأنهم من أهل السنة في مقابل المعتزلة والرافضة:

- ‌ثانياً: تفضيله أقوالهم على أقوال غيرهم من المعتزلة والجهمية والفلاسفة:

- ‌ثالثاً: ذكره لإيجابيتهم وردودهم على الباطنية والملاحدة

- ‌رابعاً: الأشاعرة يحمدون لما لهم من مساع وجهود مشكورة:

- ‌خامساً: إنصافه لأعلام الأشاعرة

- ‌أ - أبو الحسن الأشعري:

- ‌ب - الباقلاني والجويني:

- ‌جـ - الغزالي:

- ‌د - الرازي وغيره:

- ‌هـ - الأشاعرة المعاصرون لابن تيمية:

- ‌الفصل الثاني: منهجه العام في الرد على الأشاعرة

- ‌مقدمة

- ‌أولاً: بيان جوانبهم الإيجابية وما عندهم من حق:

- ‌ثانياً: الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء:

- ‌ثالثاً: مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم

- ‌خامساً: جهلهم بالسنة وبمذهب السلف

- ‌سادساً: إرجاع أقوالهم المخالفة لمذهب أهل السنة إلى أصول الفلاسفة والجهمية والمعتزلة

- ‌سابعاً: لا تعارض بين العقل والنقل

- ‌ المقدمات:

- ‌ثامناً: الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم، وردود بعضه على بعض

- ‌تاسعا: تناقض الأشاعرة:

- ‌عاشراً: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم:

- ‌حادي عشر: تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين:

الفصل: ويقوم منهج شيخ الإسلام - في نقض هذا القانون -

ويقوم منهج شيخ الإسلام - في نقض هذا القانون - على مقدمات ثم الردود التفصيلية.

أما‌

‌ المقدمات:

1 -

فقد بين الإسلام ثقته المطلقة بما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن فيهما الهدى والبيان الكامل، ولذلك فهو يقول:" ففي الجملة: النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بين قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب، وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق. بل تقول قولاً عاماً كلياً: إن النصوص الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات، مبناها على معانٍ متشابهة وألفاظ مجملة "(1) .

فهو يقرر أنه حين يناقش هؤلاء وما عندهم من عقليات لم يشك لحظة واحدة في أن هذه العقليات شبه وخيالات، ولا يمكن أن تعارض نصوص الوحي.

2-

كما بين أيضاً أنه حينما يخوض في مناقشة هؤلاء وبيان فساد ما عندهم من العقليات التي يعارضون بها نصوص الوحي، إنما يفعل ذلك بطريق التنزيل لهم، يقول:" إنا في هذا المقام نتكلم معهم بطريق التنزيل إليهم، كما نتنزل إلى اليهودي والنصراني في مناظرته، وإن كنا عالمين ببطلان ما يقوله، اتباعاً لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125) ، وقوله {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46) ، وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول ويصدون به أهل الإيمان عن سواء سبيل - وإن جعلوه من المعقول بالبرهان- أعظم من أن يبسط في هذا المكان "(2)، ثم يبين حقيقة الإيمان بالرسول وتصديقه وأنه يقوم على التسليم المطلق له ولما جاء به فيقول: " وقد تبين بذلك أنه لا يمكن أن يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقاً بشرط، ولا موقوفاً على انتفاء مانع، بل لابد من تصديقه في كل ما أخبر به تصديقاً جازماً، كما في أصل الإيمان به، فلو قال الرجل: أنا أؤمن به

(1) درء التعارض (1/155-156) .

(2)

المصدر السابق (1/188) .

ص: 821

إن أذن لي أبي أو شيخي، أو: إلا أن ينهاني أبي أو شيخي لم يكن مؤمناً به بالاتفاق، وكذلك من قال: أؤمن به إن ظهر لي صدقه، لم يكن بعد قد آمن به، ولو قال: أؤمن به إلا أن يظهر لي كذبة لم يكن مؤمناً، وحينئذٍ فلابد من الجزم بأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل قطعي، لا سمعي ولا عقلي، وإن ما يظنه الناس مخالفاً له إما أن يكون باطلاً، وإما أن لا يكون مخالفاً، وأما تقدير قول مخالف لقوله وتقديمه عليه: فهذا فاسد في العقل، كما هو كفر في الشرع، ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الخلق الإيمان بالرسول إيماناً مطلقاً، جازماً، عاماً: بتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أوجب أمر، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل" (1) .

فمن كانت لديه هذه الثقة المطلقة، وهذا الإيمان الصادق بما جاء به الرسول - وهو من أوليات وبديهيات الإيمان - فلا يمكن أن يظن بأخبار الوحي الظنون، ولا أن يخطر له خاطر أنه يمكن أن يعارضه عقل أو غيره.

3-

بين شيخ الإسلام الخطوط العامة اللازمة لنقض هذه القوانين التي ابتدعها هؤلاء، يعارضون بها الكتاب والسنة، وكان من آثارها: قولهم بأن الاستدلال بالأدلة السمعية مبني على مقدمات ظنية، وأن أخبار الآحاد لا يحتج بها في العقيدة، ومن ثم فالعقل مقدم على النقل، وهذه الخطوط العامة هي:

- بيان أن الأدلة السمعية حجة بنفسها، وأنها تفيد اليقين والقطع، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه أفرد في ذلك مصنفاً قديماً، وأنه ذكر طرفاً من بيان ذلك في شرح أول المحصل للرازي (2) .

- أن الرسول بلغ البلاغ المبين، وبين مراده، " وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه: إنه يحتاج إلى التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فلابد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ

(1) درء التعارض (1/188-189) .

(2)

لم يصل إلينا - فيما أعلم - هذان الكتابان - وقد وصل - والحمد لله - كلام طويل لشيخ الإسلام حول هذا الموضوع، وهو في مخطوطة نقض التأسيس (2/303-357)

ص: 822

بخطاب آخر، لا يجوز أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليهم، لإمكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين.." (1) .

- بيان انتفاء المعارض العقلي، وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقاً، وقد ألف ذلك كتابه الكبير درء التعارض العقل والنقل (2)، وقال فيه:" ولما كان بيان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي، وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء، بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول، وتصديقه فيما أخبر، إذ كان أي دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي القاطع ناقضه، بل يصير ذلك قدحاً في الرسول، وقدحاً فيمن استدل بكلامه، وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء، فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الاخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء، فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات أو بعضها، أو نفي عموم خلقه لكل شيء، أو نفي أمره ونهيه، أو امتناع المعاد، أو غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه بذلك الكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض ".

وكثيراً ما يشير شيخ الإسلام إلى منهجه، يقول في درء التعارض في الوجه الثالث والأربعين:

" وأما طريق الرد عليهم فلنا فيه مسالك:

(1) درء التعارض _1/22-23) ، وقد شرح ذلك في جواب سؤال وجه إليه، وقد ذكر نصه كاملاً في مقدمة درء التعارض (1/25-78) ، وهو في مجموع الفتاوي (3/293-326) ، لكنه ناقص الآخر، كما أنه شرح ذلك في رسالته معارج الوصول في بيان أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول. وهي ضمن مجموع الفتاوي (19/155-202) .

(2)

انظر: درء التعارض (1/22) .

ص: 823

الأول: أن نبين فساد ما ادعوه معارضاً للرسول صلى الله عليه وسلم من عقلياتهم.

الثاني: أن نبين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معلوم بالضرورة من دينه، أو معلوم بالأدلة اليقينية، وحينئذٍ فلا يمكن مع تصديق الرسول أن نخالف ذلك، وهذا ينتفع به كل من آمن بالرسول.

الثالث: أن نبين أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل لا يناقضه، إما بأن ذلك معلوم بالضرورة العقل، وإما بأنه معلوم بنظرة، وهذا أقطع لحجة المنازع مطلقاً، سواء كان في ريب من الإيمان بالرسول، وبأنه أخبر بذلك، أو لم يكن كذلك، فإن هؤلاء المعارضين منهم خلق كثير في قلوبهم ريب في نفس الإيمان بالرسالة، وفيهم من في قلبه ريب في كون الرسول أخبر بهذا. وهؤلاء الذين تكلمنا على قانونهم، الذي قدموا فيه عقلياتهم على كلام الله ورسوله، عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو لله ونحوها" (1) .

ويلاحظ أنه هنا زاد وجهاً وهو بيانه أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل، وهذا مثل إثبات العلو لله حيث دل عليه أيضاً العقل والفطرة.

ولما تحدث شيخ الإسلام - عن هذه المسألة - مسألة ما يدعي من تعارض العقل والنقل، في غير كتابه درء تعارض العقل والنقل، أشار إلى المنهج الصحيح في ذلك (2)، ومن ذلك قوله تعليقاً على انحراف المنحرفين: أهل التخييل والتجهيل، والتأويل، قال: " إن الذي دعاهم إلى ذلك ظنهم أن المعقول يناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ظاهر ما أخبر به الرسول، وقد بسط الكلام على رد هذا في مواضع، وبين أن العقل لا يناقض السمع، وأن ما ناقضه فهو فاسد، وبين بعد هذا أن العقل موافق لما جاء به الرسول، شاهد له، ومصدق له، لا يقال: إنه غير معارض فقط، بل هو موافق مصدق، فأولئك كانوا يقولون: هو مكذب مناقض:

(1) انظر: درء التعارض (6/4-5) .

(2)

انظر مثلاً: نقض التأسيس - المطبوع - (1/247-248) ، والمخطوط (2/330-331) ، ومجموع الفتاوي (6/245-246) ، وأيضاً (16/643) وغيرها.

ص: 824

- بين أولاً أنه لا يكذب ولا يناقض.

- ثم بين ثانياً أنه مصدق موافق.

وأما هؤلاء:

- فبين أن كلامهم الذي يعارضون به الرسول باطل [لا يعارض به (1) ] ولا يكفي كونه باطلاً لا يعارض.

- بل هو أيضاً مخالف لصريح العقل، فهم كانوا يدعون أن العقل يناقض النقل.

فبين أربع مقامات:

1-

أن العقل لا يناقضه.

2-

ثم بين أن العقل يوافقه.

3-

وبين أن عقلياتهم التي عارضوا بها النقل باطلة.

4-

وبين أيضاً أن العقل الصريح يخالفهم.

ثم لا يكفي أن العقل يبطل ما عارضوا به الرسول، بل يبين أن ما جعلوه دليلاً على إثبات الصانع إنما يدل على نفيه، فهم أقاموا حجة تستلزم نفي الصانع، وإن كانوا يظنون أنه يثبتون بها الصانع.. ولهذا كان يقال في أصولهم:" ترتيب الأصول في تكذيب الرسول"، ويقال أيضاً:" ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول"، جعلوها أصولاً للعلم بالخالق، وهي أصول تناقض العلم به، فلا يتم العلم بالخالق إلا مع اعتقاد نقيضها" (2) ، وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك بمثالين - عن الأشاعرة -لا يدلان على إثبات الصانع، بل هي تؤدي إلى التكذيب به: أحدهما: قول الرازي بالإمكان تبعاً لابن سينا، وزعمه أنه لا يمكن إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن قديم، وهذا باطل، والثاني: دليل حدوث الأعراض ولزومها للأجسام، حيث أدى بهم هذا إلى أنهم ادعوا امتناع كون الرب يفعل بمشيئته وقدرته وعطلوه عن الصفات، فلم يثبتوا الصانع القديم (3) .

(1) في المطبوع [لا تعارض فيه] ولعل الصواب ما أثبت كما يدل عليه الكلام الذي بعده.

(2)

مجموع الفتاوي (16/442-443) .

(3)

المصدر السابق (16/452-455) .

ص: 825

4-

وشيخ الإسلام لا يلغي العقل - كما قد يفهمه عنه بعض خصومه أو الجاهلين بمنهجه - بل يقرر دائماً أن القرآن جاء بالأدلة العقلية والأمثلة المضروبة، وقد سبق شرح ذلك عند الحديث عن منهجه العام (1)، ولذلك يقول في كتابه درء التعارض:" والمقصود في هذا المقام أنه يمتنع تقديم العقل على الشرع، وهو المطلوب.. ونحن لم ندع أن أدلة العقل باطلة، ولا أن ما به العلم صحة السمع باطل، ولكن ذكرنا أنه يمتنع معارضة الشرع بالعقل وتقديمه عليه.. [ثم يقول] : " إن مسمى الدليل العقلي - عندما يطلق هذا اللفظ - جنس تحته أنواع، فمنها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، باتفاق العقلاء " (2) ، وشيخ الإسلام يحدد موطن النزاع في المقصود بالعقل أو الدليل العقلي، إذ ليس كل دليل عقلي، مرفوضاً، بل إن القرآن الكريم والسنة النبوية جاءا بالأدلة العقلية في إثبات الربوبية، والألوهية، والنبوة، والمعاد. وغيرها..

أما الردود التفصيلية على هذا القانون فقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه درء التعارض أربعة وأربعين وجهاً رئيسياً، وتخلل أكثر هذه الأوجه أوجه فرعية ومناقشات تفصيلية تبلغ أحياناً أكثرر من مجلد، كما هو الحال في الوجه التاسع عشر (3) ، والثالث والأربعين (4) ، ولتداخل بعض هذه الأوجه مع البعض الآخر، فيمكن عرض منهج ابن تيمية فيها كمايلي:

أولاً: مناقشة صياغة الدليل أو القانون الذي وضعوه ومناقشة ما حوى من عبارات أو مصطلحات وما ترتب على ذلك من النتائج الباطلة، وقد بين ذلك من خلال الأوجه: الأول، والثاني، والثالث، والخامس عشر.

أ - فصياغة القانون تقول: إذا تعارض العقل والنقل، فما المراد بالعقل والنقل. هل المراد القطعيان أو الظنيان، أو ما كان أحدهما قطعياً والآخر ظنياً،

(1) انظر: (ص: 252) ، وما بعدها من الباب الأول.

(2)

انظر: درء التعارض (1/191) .

(3)

الذي بدأ من (1/320) ، إلى نهاية المجلد الرابع.

(4)

بدأ في بداية المجلد السادس إلى (7/140) .

ص: 826

فكل هذه الأمور محتملة ولابد من البيان، أما الإطلاق الأمر وإجماله فليس بسديد، وهنا يوضح شيخ الإسلام هذه الاحتمالات بقوله:" إما أن يريد به القطعيين، فلا نسلم بإمكان التعارض حينئذٍ " لأن القطعي لا يمكن أن يعارضه قطعي آخر. " وإما أن يريد به الظنيين، فالمقدم هو الراجح مطلقاً " سواء كان العقل أو النقل، وحينئذٍ فتقديمه لرجحانه فقط لا لكونه عقلاً أو نقلاً، " وإما أن يريد به ما أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقاً، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعياً لا لكونه عقلياً "، ثم ينتهي شيخ الإسلام بهذه النتيجة بقوله:" فعلم أن تقديم العقلي مطلقاً خطأ، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ "(1) .

وقد يعجب المرء في هذا الكلام الذي يقوله شيخ الإسلام وما يحمل في ظاهره من إعلاء لشأن العقل وكأنه قد يصل إلى منزلة النقل، وشيخ الإسلام يقول هذا قاصداً تفتيت هذا القانون الذي وضعوه، وأن المنطق السليم يقتضي أن يفصل الأمر فيه وأن يقسم كل من العقلي والنقلي إلى مقطوع ومظنون سواء من ناحية الثبوت أو الدلالة، ومع ذلك كله فلا يمكن أن يتعارض العقل الصريح والنقل الصحيح أبداً.

وينتج من هذا أن حصر الاحتمالات بأربعة - وهي تقديم السمعي مطلقاً أو تقديم العقلي مطلقاً، والجمع بين النقضين، أو رفع النقيضين - غير سديد إذ هناك قسم آخر وهو أنه " يقدم العقلي تارة، والسمعي أخرى، فأيهما كان قطعياً قدم -وإن كانا جميعاً قطعين فيمتنع التعارض - وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم "(2) وهذا هو التقسيم الصحيح، أن يفصل الأمر والله تبارك وتعالى أنزل الميزان بالحق.

ب - يقول قانونهم: " وإما أن يقدم السمع، وهو محال؛ لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل "(3) فيقال: ماذا تقصدون بقولكم: إن العقل أصل النقل؟

(1) درء التعارض (1/86-87) .

(2)

المصدر السابق (1/87) .

(3)

المصدر نفسه (1/4) .

ص: 827

فإن أريد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، فهذا لا يقوله عاقل لأن الشيء الثابت في نفس الأمر هو ثابت، سواء علم دليل ثبوته أو لم يعلم فهو في نفسه ثابت، فلو فرض أنا جهلنا الدليل، فعدم العلم بالدليل لا يعني عدم المدلول يقول شيخ الإسلام: " فما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه، ومن أرسله الله إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق وإن لم يصدقه الناس

" (1) .

أما إن أُريد به أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا على صحته - وهذا هو الذي أرادوه - فيرد شيخ الإسلام متسائلاً عن المقصود بالعقل: هل هو الغريزة التي تميز الإنسان من الحيوان، أم المقصود العلوم التي تستفاد من تلك الغريزة، أما العقل بمعنى الغريزة فلا يمكن أن يراد " لأن تلك الغريزة ليست علماً يتصور أن يعارض النقل، وهي شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة وما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له "(2)، أما إن أراد بالعقل العلوم الحاصلة بالعقل فالجواب من وجوه:

- أن المعارف العقلية كثيرة جداً، وهذه ليست كلها أصلاً للسمع بل الدليل على صحتها منها ما يعلم به صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

- ثم إن الأدلة العقلية ليست كلها يعلم بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل الذي يعلم به صدقه منها قليل.

- أن أعلام الأشاعرة يقولون: إن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم عند ظهور المعجزات منها قليل.

- بل إن دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لها طرق كثيرة متنوعة، وهي لا تتوقف على المعجزات وحدها.

(1) درء التعارض (1/88) .

(2)

المصدر نفسه (1/89) .

ص: 828

والنتيجة أن " ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير

وحينئذٍ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات مالا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحاً في جميعها، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحاً في جميعها، ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها كما لا يلزم من صحة بعض السمعيات صحة جميعها، وحينئذٍ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فضلاً عن صحة العقليات المناقضة للسمع" (1) .

والخطأ الذي وقع فيه هؤلاء أنهم جعلوا المعقولات نوعاً واحداً، وأنهم جعلوا المعقول الذي قد يحتاج إليه في إثبات صدق الرسول، دليلاً على تقديم جميع المعقولات وهذا باطل.

ثم يورد شيخ الإسلام اعتراضاً لهم، ويجيب عليه من عدة أوجه، سنذكر تفصيل كثير منها فيما بعد. إن شاء الله (2) .

جـ - ومن الوجوه التي يناقش فيها شيخ الإسلام قانونهم الفاسد الوجه الخامس عشر، وخلاصته أن الدليل الشرعي لا يقابل بكونه عقلياً، وإنما يقابل بكونه بدعياً، لأن البدعة تقابل الشرعة، ويوضح هنا شيخ الإسلام أن الدليل الشرعي ليس هو خبر الصادق فقط، بل - مع هذا - هناك أدلة شرعية قد تكون سمعية وقد تكون عقلية، كأدلة توحيد الله والمعاد التي ذكرها الله في كتابه فهي أدلة شرعية، وهي أيضاً عقلية يعلم صحتها بالعقل، وخطأ هؤلاء في قانونهم ظنهم أن أدلة أصول الدين نوعان: سمعيات: وعقليات، ومن ثم توهموا التعارض بينها ظناً منهم أن السمعيات فقط هي الخبر المجرد (3) .

(1) انظر: درء التعارض (1/90) .

(2)

انظر: المصدر السابق (1/91-100) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (1/198-200) .

ص: 829

ثانياً: مناقشة مضمون القانون وبيان خطئه وتناقضه:

وهذا تابع للوجه السابق ومكمل له، إلا أنه لما لم يتعلق بنفس صياغة القانون وترتيب قضاياه بعضها على بعض كما هو واضح في الوجه السابق - أفرد هنا لأنه يناقش دلالات هذا القانون ويبين ما فيه من خطأ وتناقض وقد فصل شيخ الإسلام ذلك من خلال ما يلي:

أ - يقال لهم: " العقل إما أن يكون عالماً بصدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، وإما أن لا يكون كذلك.

فإن لم يكن عالماً امتنع التعارض عنده إذا كان المعقول معلوماً له، لأن المعلوم لا يعارضه المجهول، وإن لم يكن المعقول معلوماُ له لم يتعارض مجهولان.

وإن كان عالماً بصدق الرسول امتنع مع هذا أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، غايته أن يقول: هذا لم يخبر به، والكلام ليس هو فيما لم يخبر به، بل إذا علم أن الرسول أخبر بكذا فهل يمكنه - مع علمه بصدقه فيما أخبر وعلمه أنه أخبر بكذا - أن يدفع عن نفسه علمه بثبوت المخبر، أم يكون علمه بثبوت مخبره لازماً له لزوماً ضرورياً، كما تلزم سائر العلوم لزوماً ضرورياً لمقدماتها " (1) ، وهذا القانون يؤدي إلى التناقض لأنه يقول: لا تعتقد بثبوت ما علمت أنه أخبر به لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أنه صادق، فكأن يقول له: لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه. " فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به، بعد علمه أنه رسول الله؛ لئلا يفضي تصديقهم له إلى عدم تصديقهم لهم، بل إذا قيل له: لا تصدقه في هذا، كان هذا أمراً له بما يناقض ما علم به صدقه، فكان أمراً له بما يوجب أن لا يثق بشيء من خبره، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز في غيره " (2) ، وفعلاً فقد آل ببعضهم إلى أن لا يستفيدوا من جهة الرسول شيئاً من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله وأفعاله.

(1) درء التعارض (1/134) .

(2)

المصدر السابق (1/135) .

ص: 830

ب - وهناك وجه آخر، مترتب على الوجه السابق، وهو أن يقال: إذا علم صدق الرسول وصحة السمع، فهل يعلم أنه أخبر بمحل النزاع، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن.

أما الأول: فإنه إذا علم وتيقن يمتنع أن يعارضه المعقول الصريح.

أما الثاني: وهو ما إذا كان مظنوناً، وحينئذٍ فإذا عارضه العقل الصريح وجب تقديم العلم على الظن، لا لكونه معقولاً.

وأما الثالث: فلا تقع فيه المعارضة.

وبهذا يتبين أن ما جزموا به من تقديم العقل مطلقاً باطل (1) .

جـ - أن يقال لهم " العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له، ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجابين.. وبيان ذلك هاهنا: أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع، كما قد ذكروا هم ذلك، وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلاً له أنه أصل في ثبوته في نفسه وصدقه في ذاته، بل هو أصل في علمنا به، أي دليل لنا على صحته، فإذا كان كذلك فالدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه، وهذا كالمخلوقات، فإنها آية للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها، وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي. (2) .. ".

وهذه أهم المناقشات التي أفحم فيها شيخ الإسلام أصحاب هذا القانون الفاسد، وينبغي أن يلاحظ أن أصحاب هذا القانون قد ثبت عندهم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في نبوته، ومعنى ذلك أن صدق الرسول عندهم وعند غيرهم

(1) درء التعارض (1/137) .

(2)

المصدر السابق (5/268-269) .

ص: 831

من أهل الإسلام ثابت في نفس الأمر، لكن هؤلاء يقولون: إن دليل ثبوته جاء بالدليل العقلي، ثم ركبوا قانونهم وقالوا: العقل أصل السمع، ويستنتج من ذلك أنهم يقولون:

- إن العقل أصل في علمنا بصحة الشرع ودليل عليه، وليس أصلاً في ثبوته في نفس الأمر.

- وكذلك هم يقولون صدق الرسول ثابت في نفس الأمر، أي أنهم وهم يقولون بهذا القانون لا ينكرون صحة نبوة الرسول، فهي ثابتة عندهم بدليلها العقلي.

فشيخ الإسلام يقول لهم: على فرض أن صحة الشرع لا تعلم إلا بالدليل العقلي - والواقع أنها تعلم بطرق كثيرة وأئمتهم معترفون بذلك - فإن النتيجة ضدهم، لأنه يلزم من علمنا بصحة الشرع علمنا بصحة الدليل العقلي الدال عليه، كما يلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا بصحة الشرع، أما مسألة ثبوته في نفس الأمر فإنه يلزم من ثبوت ذلك الدليل، وهذا كما أن المخلوقات دالة على وجود الله، فيلزم من وجودها في نفس الأمر وجود الله، لكن لا يلزم من وجود الخالق سبحانه وتعالى وجود المخلوقات، ومثله ثبوت النبوة فإنه يلزم من وجود دلالة النبوة - كالمعجزة - صدق النبي، لكن لا يلزم من عدم وجود هذه الدلالة عدم صدق النبي، لأن نبوته قد تثبت بطرق أخرى.

وحينئذٍ فإذا كان الشرع ثابتاً في نفس الأمر، فلا يلزم من ثبوته ثبوت الدليل العقلي الدال عليه، لأنه قد يكون ثبت بأدلة أخرى، وإذا افترض ثبوت الدليل العقلي في نفس الأمر، وثبوت المدلول الشرعي في نفس الأمر لم يكونا بمنزلة واحدة - كما فعلوا في قانونهم الفاسد - لأن الشرع أقوى حيث يلزم من ثبوته ثبوت الدليل العقلي؛ لا العكس، وهذا على فرض أن الدليل الشرعي قد يعلم بأدلة أخرى.

أما إذا حصروا صحة الدليل الشرعي بهذا الدليل العقلي لا غير، كان غاية الأمر أن يكونا متلازمين، وحينئذٍ فالقدح في الشرع قدح في دليله العقلي

ص: 832

ولا يستلزم القدح في الدليل العقلي القدح في الشرع، فثبت تميز الشرع على كل حال (1) .

د - يقول شيخ الإسلام في الوجه الرابع والثلاثين: " إن الذين يعارضون الشرع بالعقل، ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول، ويقولون: إن العقل أصل للشرع، فلو قدمناه عليه للزم القدح في أصل الشرع؛ إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقروا بصحة الشرع بدون المعارض، وذلك بأن يقروا:

- بنبوة الرسول.

- وبأنه قال هذا الكلام.

- وبأنه أراد به كذا.

وإلا فمع الشك في واحد من هذه المقدمات لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل، فكيف مع معارضة العقل " (2) .

فهذا رجوع إلى أصل القضية التي بنوا عليها قانونهم الفاسد، فإنهم حينما يقولون بتعارض العقل والنقل، يقال لهم: ما النقل الذي تقولون إن العقل عارضه: هل هو النقل المبنيس على أن محمداً رسول الله الصادق، وأن هذا النقل ثبت عنه بلا ريب، وأنه قصد وأراد به أمراً محدداً واضحاً، لأنه بلغ البلاغ المبين، وهو معصوم من أن يقره الله على خطأ فيما بلغه وأخبر به؟ إن كان الأمر كذلك فإن من ثبت هذا الإيمان في قلبه امتنع أن يعارضه بدليل عقلي فضلاً عن أن يقدم الدليل العقلي عليه.

أما حين يكون هذا النقل جاء إلى رجل يطعن في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يزعم مثلاً أن الرسول لم يعلم بهذه المسألة التي أخبر بها، أو أنه غير معصوم في تبليغه البلاغ المبين، أو بطعن في صحة الأخبار وفي ثبوتها، أو يقول: إن الأدلة السمعية لا يستفاد منها العلم بمراد المتكلم - كما يقوله الرازي ومتبعوه -

(1) انظر: درء التعارض (5/269-271، 275)، وانظر:(5/277-280) ففيه مناقشات مهمة. وانظر: الوجه الثلاثين (5/286-288) .

(2)

انظر: درء التعارض (5/340-341) .

ص: 833

فهذا لم يثبت عنده الدليل النقلي الذي عارضه العقل عندهمن ليس نقلاً ثابتاً في نفس الأمر - لأنه إما أخبار آحاد، أو غير معروف مراد المتكلم به، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يقال: إن العقل عارضه، والمعارضة إنما تكون لنقل صادر عن رسول الله الصادق، ثابت عنه بطرق صحيحة، معروف مراده به لأنه بينه أتم البيان وأوضحه، ومن ثبت لديه هذا النقل بهذه الصفة لم يقدم عليه غيره لا دليلاً عقلياً ولا غيره.

ثالثاً: مقابلة هذا القانون الفاسد بقانون شرعي مستقيم

وكثيراً ما يستخدم شيخ الإسلام هذا المنهج، يقابل الأقوال الفاسدة التي يدعي الخصوم صحتها، بأقوال أخرى صحيحة تكون أكثر إحكاماً وأقوى دلالة، وأكثر إقناعاً، فمثلاً يقول في مقابلة هذا القانون الفاسد:" إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر بهن ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل، ومعلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم"(1) ، ويضرب شيخ الإسلام لذلك مثلاُ بالعامي إذا علم عين المفتي، ثم دل غيره وبين أنه علم أنه مفتٍ، فإذا اختلف العامي الدال، والمفتي، فيجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال العامي أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فيقول له أنت لما شهدت بأنه مفت ودللت عليه شهدت بوجوب تقليده، دون تقليك (2) .

ويقول شيخ الإسلام في وجه آخر: " تقديم المعقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض، وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو يمكن مؤتلف، فوجب الثاني دون الأول "(3) ، وذلك لأن الشرع واحد، مستقيم وهو قول الصادق فلا يختلف باختلاف أحوال الناس، أما العقول فمختلفة متفاوته، فقد يعلم زيد بعقله ما لا يعلمه عمرو، بل إن زيداً نفسه يعلم بعقله في وقت ما يجهله في وقت آخر.

وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك بعدة أمثلة واقعية بين العقلاء في أمور عقدية،

(1) انظر: درء التعارض (1/138) .

(2)

انظر: درء التعارض (1/138) .

(3)

انظر: درء التعارض (1/138) .

ص: 834

هذا يدعي بعقله شيئاً وذلك يدعي بعقله شيئاً مخالفاً لهذا الذي ادعاه الأول، ومن ذلك أن أكثر العقلاء يقولون: نحن نعلم بضرورة العقل وامتناع رؤية مرئى بلا مقابلة ولا جهة، وبعض العقلاء يقولون: إن هذا ممكن.. وهكذا (1) .

وقد صاغ شيخ الإسلام معارضة قانونهم في موضع آخر بقوله: " يعارض دليلهم بنظير ما قالوه، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم النقل، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح؛ فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن حبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون هذه الأدلة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العق دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله.. "(2) .

والعقل إنما دل على صدق النقل، وثبوت ما جاء به في نفس الأمر، فإذا قيل: إن العقل عارض هذا النقل كان ذلك قدحاً في العقل الدال على النقل من باب أولى، وقد أورد شيخ الإسلام اعتراضات كثيرة وأجاب عنها (3) .

رابعاً: أن أمور السمع - التي يقال: إن العقل عارضها - معلومة بالاضطرار وذلك كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك، فإن هذه " مما علم الاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها، وما كان معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام

(1) درء التعارض (1/145-146) .

(2)

المصدر السابق (1/170-171) .

(3)

المصدر نفسه (1/173-192) .

ص: 835

امتنع أن يكون باطلاً، مع كون رسول الله حقاً، فمن قدح في ذلك وادعى أن الرسول لم يجيء به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين " (1) ، يوضح ذلك أن أهل العلم الذين عنوا بعلم الرسول، العالمين بالقرآن وتفسيره وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والعالمين بأخباره وأخبار الصحابة " عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده مالا يمكن دفعه عن قلوبهم، ولهذا كانوا متفقين على ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر، كما اتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن، ونقل الصلوات الخمس، والقبلة، وصيام شهر رمضان، وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر، كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر، ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني، سواء كان التواتر لفظياً أو معنوياً، كتواتر شجاعة خالد وشعر حسان

" (2) .

ولا يقول عاقل: إن الصحابة والتابعين لم يكونوا عالمين بالكتاب والسنة ولا عارفين بمراد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقاصده، إلا أن يكون من أهل الإلحاد والزندقة، لأن من سير أحوال الصحابة والتابعين علم أنهم كانوا أفقه الناس وأعلم الناس، وهو الذين نقلوا إلينا الشرع فهم أعلم الناس بما ينقلونه معرفة وفهماً، وإذا كان الأمر كذلك فيمتنع أن يعارض هذا المعلوم المشهور المتواتر عنهم عقلي أو غيره.

ولاشك أهل الحديث والسنة، الذين يعنون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، لديهم من الموازين والمعايير الدقيقة التي توصلهم إلى العلم اليقيني، مالا يوجد عند أصحاب هذا القانون من أهل الكلام، ولذلك ففي الوقت الذي يصرّ هؤلاء على الطعن بكتاب الله وسنة رسوله لقانون عقلي طرأ عليهم - وفي الغالب أنهم قلدوا فيه غيرهم - نجد أهل السنة لا يخطر ببالهم خاطر من ذلك لمعرفتهم وثقتهم المطلقة بما في الكتاب والسنة، بل يرون أن معارضتهما من صفات المنافقين وأهل البدع والكلام المذموم.

(1) انظر: درء التعارض (1/195) .

(2)

المصدر نفسه: الصفحة نفسها.

ص: 836

خامساً: أن هذا القانون مخالف لما هو معلوم من أن مهمة الرسل والبيان والهدى، ولذلك فهو من فعل المكذبين لهم، وقد شرح شيخ الإسلام ذلك من خلال الأوجه التالية:

أ - أن معارضة أقوال الرسول بأقوال غيرهم هو من فعل الكفار، قال الله تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (غافر:4)، وقال:{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (الكهف:56) ، وغيرها، " ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن وجادل في ذلك بعقله ورأيه فهو داخل في ذلك، وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله، بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله فقد دخل في ذلك، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة؟ "(1) ، ومعارضة الكتب الآلهية بأقوال الرجال من أصول الكفر، والمعارضة قد تكون أحياناً صريحة، وأحياناً مبطنة كما يفعل كثير من أهل الإلحاد والكلام المذموم.

ب - " إن الله سبحانه ذم من ذمه من أهل الكفر على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (آل عمران:98-99) ، ومعلوم أن سبيل الله هو ما بعث به رسله مما أمر به وأخبر عنه، فمن نهى الناس نهياً مجرداً عن تصديق رسل الله وطاعتهم، فقد صدهم عن سبيل الله، فكيف إذا نهاهم عن التصديق بما أخبرت به الرسل، وبين أن العقل يناقض ذلك، وأنه يجب تقديمه على ما أخبرت به الرسل "(2) ، ومن فعل ذلك فقد بغى سبيل الله عوجاً، وقدم عليها ما يرى أنه مستقيم من دليله العقلي المبتدع.

(1) درء التعارض (5/206) .

(2)

المصدر السابق (5/210) .

ص: 837

جـ - أن الله أرسل رسوله بالهدى والبينات ليخرج الناس من الظلمات إلى النور - ودلائل هذا من القرآن كثيرة لا تحصى - وقول هؤلاء مناقض لهذه الحقيقة مناقضة تامة لأنهم يزعمون أن ما جاء به الرسول من إثبات الصفات لله معارض بالعقول فيجب تأويله، وأن النصوص بعد تأويلها تأويلات من عندهم لم يذكرها رسول الله تكون واضحة مفهومة صحيحة المعنى، ونتيجة هذا أن النصوص التي بلغتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها الهدى والبيان، وهذا محادة لله ولرسوله ومناقضة لدعوة الرسول (1) .

د- " إنّا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن أو الحكمة الذي بلغته إلينا قد تضمن أشياء كثيرة تناقض ما علمنا بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله - مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنهن لا نتلقى منه هدى ولا علم (2) - لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول لم يرضَ الرسول منه بهذا "(3) ، ولاشك أن هذا القانون الفاسد متضمن لمثل مقالة هذا الرجل فحكمهما واحد.

هـ - أن معارضة الأنبياء بمثل هذه الأمور هو من فعل الشياطين المعادين للأنبياء، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام:112)، وهذا منطبق على هؤلاء الذين ابتدعوا كلاماً محدثاً صدوا به عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال أحد زعماء الجهمية:" ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فأقروا به في الظاهر، ثم صرفوه بالتأويل، ويقال: إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل"(4) ، فهذا مما يوحي به هؤلاء لغيرهم زخرف القول غروراً.

(1) انظر: درء التعارض (5/211-214) ، وانظر أيضاً (5/357-358) .

(2)

كذا ولعل الصواب ولا علما.

(3)

درء التعارض (5/214-215) .

(4)

المصدر السابق (5/218) .

ص: 838

و - أن الله تعالى ذم أهل الكتاب على ما فعلوه من عدة وجوه:

- كتمانهم ما أنزل الله.

- والكذب فيه.

- وتحريفه.

- وعدم فهمه.

وأهل الكلام مشابهون لهم في هذه الوجوه:

- فهم تارة يعرضون عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعارضونهما بآرائهم وأهوائهم فيكتمون الأحاديث المخالفة لأقوالهم.

- وأحياناً يضعون بعض الأحاديث التي توافق بدعهم.

- وهم أيضاً يحرفون النصوص بأنواع التأويلات الفاسدة.

- وهم أيضاً لا يفهمون النصوص لأنهم إما أن يؤولوها إلى معانٍ أخرى، أو يفوضونها فيصيرون مثل أهل الكتاب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني (1) .

وهذا واضح من التطبيق العملي لأحوال أهل الكلام فهم معرضون عن الكتاب، أما السنة فهم أجهل الناس بها - كما سبق بيانه -.

ز- أن من المقطوع به أن الرسول أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به ومن لم يكن كذلك لم يكن مؤمناً به، وإذا كان كذلك كانت أقوال هؤلاء التي يعارضون بها أقواله معلومة الفساد بالضرورة (2) .

ح - أن الله ذكر في كتابه أنه ضمن الهدى والفلاح لمن اتبعه، قال تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:2)، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى

(1) انظر: درء التعارض (5/223-227) .

(2)

انظر: المصدر السابق (5/338-339) .

ص: 839

وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه:123-127) ، والآيات في ذلك كثيرة جداً دالة على أن ما جاء به القرآن فيه الهداية التامة وأن من اتبعه وصدقه فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، ومن أعرض عنه فقد ضل وغوى فكيف بمن قال بنقيض ما جاء به؟

ومعلوم أن " للضلال تشابهاً في شيئين:

أحدهما: الإعراض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

والثاني: معارضته بما يناقضه " (1) .

وأهل الكلام لهن نصيب وافر من هذين (2) .

سادساً: النتائج الفاسدة التي تنتج عن هذا القانون الذي أتى به هؤلاء، وقد بين شيخ الإسلام أن هذا القانون فتح أبواباً عديدة من الشر، وكانت له آثاره السيئة في الأمة الإسلامية، وهذه الآثار أدت إما إلى ضعف ثقة المسلمين بكتاب ربهم وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث أصبحت عند كثير من أتباع هؤلاء لا يستفاد منها علم يقيني بل هي ظواهر يجب تأويلها أو تفويضها، وإما إلى تسلط أهل الباطل من أهل الفلسفة والباطنية على المسلمين حين سوغوا لأنفسهم تأويل النصوص التي لم يخالف فيها أحد حتى من أهل الكلام؛ احتجاجاً بتأويل أهل الكلام لنصوص أخرى مشابهة لتلك في الدلالة.

أ - فقد بين شيخ الإسلام أن غاية ما ينتهي إليه هؤلاء إما إلى التأويل وإما إلى التفويض، وهذا من أعظم الضلال والقدح في الكتاب والسنة، وقد شرح ذلك شيخ الإسلام (3) .

ب - أن منهج هؤلاء في رد نصوص الصفات وغيرها، هو نفسه الذي سلكه ملاحدة الفلاسفة والباطنية الذين أنكروا ما أخبر الله به من أمور الآخرة

(1) انظر: درء التعارض (5/376) .

(2)

انظر: المصدر السابق (5/378-379) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (1/201-208) .

ص: 840

فأولوها تأويلات أخرى، وكذلك فعلوا فيما يتعلق بأركان العبادات كالصلاة والزكاة والحج والصيام حيث جعلوها للعامة دون الخاصة، أوأولوها تأويلات أخرى كما فعلت الباطنية.

وهذه الاستطالة من هؤلاء الملاحدة على المتكلمين من أخطر الأمور التي كانت من آثار سلوك المتكلمين هذا القانون الفاسد. وقد اهتم شيخ الإسلام بهذه القضية وأطال فيها الكلام (1) ، ولأهمية ذلك في منهج شيخ الإسلام العام في الرد على الأشاعرة فسنفرده إن شاء الله في فقرة مستقلة ضمن هذه الخطوط العامة في منهجه في الرد على الأشاعرة.

ج - ومن الآثار السيئة أن مآل هؤلاء الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم إلى أحد حالين:

1-

إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة، فمآل كلامهم إلى إبطال الشرائع وذلك بإسقاط الواجبات واستحلال المحرمات.

2-

وإما إن كانوا من أهل الكلام فلابد لهم من التأويل الفاسد، وهؤلاء قد أدى بهم هذا إلى التناقض، إما بفهم فاسد حيث ظنوا أنه لابد من تأويل مثل قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض (2) ، وعبدي جعت فلم تطعمني (3) ، حيث يظنون أن المعنى الفاسد هو الظاهر لهذه النصوص، وهذا فهم فاسد، وإما بتأويلهم لنصوص صريحة واضحة في الصفات أو غيرها فيتأولونها على وجوه أخرى فاسدة، ومعلوم أن نصوص الكتاب والسنة واضحة الدلالة مفهومة المعنى، ولكن هؤلاء بسبب قانونهم الفاسد لم يكن لهم قانون واضح مستقيم يفرقون به بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والنصوص التي لا تحتاج إلى تأويل (4) .

(1) انظر: درء التعارض (5/3-203) .

(2)

سبق تخريجه (ص: 563-564) .

(3)

رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل عبادة المريض، ورقمه (2569) .

(4)

انظر: درء التعارض (5/234-241) .

ص: 841

د - ومن الآثار الفاسدة أن هؤلاء المتكلمين لم يبقَ معهم من الطرق التي يسلكونها إلا طريقان:

- إما طريق النظار وهي الطريق القياسية العقلية.

- وإما طريق الكشف والتصوف.

ومعلوم أن في هذين الطريقين من التناقض والمخالفة للكتاب والسنة ما هو معروف مشهور، ومن المعلوم أن النتيجة التي ينتهي إليها من سلك الطريق الأول: الحيرة والشك كما حدث لكثير من أهل الكلام، ومن سلك الطريق الثاني: انتهى به الأمر إلى الشطح المؤدي إلى الإلحاد (1) .

سابعاً: وهناك أيضاً لوازم فاسدة تلزم من قال بهذا القانون ومن ذلك:

أ - أن قول هؤلاء يؤدي إلى الاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس أصول دينهم، ولا عرفهم علماً يهتدون به، وإنما بين لهم الأمور العملية فقط كالعبادات والمعاملات وغيرها، فيلزم من هذا أن تكون عقولهم ومشايخهم الذين بينوا لهم أشرف العلوم وهي علوم أصول الدين، أفضل من الأنبياء الذين لم يبينوا إلا الأضعف وهو الأمور العملية، وفعلاً أدى هذا ببعض الملاحدة إلى أن يفضلوا الفيلسوف أو الولي على النبي، " ومن لم يصل إلى هذا الحد من ملاحدة المتكلمين والمتعبدين ونحوهم، فقد شاركهم في الأصل، وهو تفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء، ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء لزمه ذلك لزوماً لا محيد عنه.. إذا جعل العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والمعاد لا يستفاد من خطاب الأنبياء وكلامهم وبيانهم وطريقهم التي بينوه، وإنما يستفاد من كلام شيوخه وأئمته"(2) .

ب - أنه يلزم -إذا كانوا يعتقدون أنه لا يستفاد من كلام الله ورسوله شيء في بيان أصول الدين - يلزم من هذا أن الأنبياء قد لبسوا على الناس ودلسوا،

(1) انظر: درء التعارض (5/245-246) ، وانظر مثلاً على ذلك من كلام الغزالي (5/346-357) .

(2)

انظر: درء التعارض (5/363) .

ص: 842

بل أصلوهم وجهلوهم، أو حيروهم وشككوهم وجعلوهم مذبذبين لا يعرفون الحق من الباطل، " فعند هؤلاء: كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم، يمرض ولا يشفى، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي (1) النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى، كما يوج في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة كابن الخطيب وابن سينا، وابن عربي، وأمثالهم، خيراً من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه.. " (2) ، يقول شيخ الإسلام: " وإنما ذكرنا هذا لأن كثيراً من الجهمية النفاة يقولون: فائدة إنزال هذه النصوص المثبته للصفات، وأمثالها من الأمور الخبرية التي يسمونها هم المشكل والمتشابه، فائدتها عندهم: اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها، حتى تنال النفوس كد الاجتهاد، وحتى تنهض إلى التفكير والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها، الموصلة إلى الحق، فحقيقة الأمر عندهم أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق، ولا يدل على العلم، ولا يفهمن منه الهدى، بل يدل على الباطل، ويفهم منه الضلال " (3) . ثم ضرب لذلك بمثال (4) .

ج - أنه يلزم أيضاً على قولهم أن يكون الرسل تكلموا في غاية الجهل والضلال أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال، وذلك لأن هؤلاء يزعمون أن الرسل لما تكلموا في الأمور الإلهية كان كلامهم غير دال على الحق في الأمور الإلهية ولا أفاد علماً فيها:" بل دلالته الظاهرة نقيض الحق والعلم والعرفان مفهمّة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجع إليه ذووا الإيقان "(5) ، وهذا لازم قول هؤلاء. ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أعلم الخلق بربه وبأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده.

(1) لعل التعبير جاء من قوله تعالى {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [سورة الشمس] ، وانظر تهذيب اللغة للأزهري 12/280، وتفسير هذه الآية في الطبري وابن كثير وفتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان وغيرها، وانظر حاشية محقق درء التعارض في هذا الموضع، وخلاصة معنى الآية، قد خسر من أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح.

(2)

درء التعارض (5/364) .

(3)

درء التعارض (5/365) .

(4)

المصدر نفسه (5/366-368) .

(5)

المصدر السابق (5/370) .

ص: 843

وأنه أحرص الناس على تعليم الخلق وبيان الحق لهم وأدلة ذلك كثيرة جداً (1) .

فهذه لوازم فاسدة وخطيرة تلزم على قول هؤلاء الذين جاءوا بهذا القانون الفاسد يقدمون فيه عقولهم على الكتاب والسنة.

ثامناً: أن حقيقة قول هؤلاء - الذين يعارضون النقل والعقل - " أن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية، بل ولايستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله، فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل، ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل (2) ، لزم أن لا يستفاد من نصوص الوحي شيء.

ومعلوم أن العقول مختلفة ومتفاوتة، وأهل الطوائف كلٌ يدعي أن معقوله يعارض النصوص أو طائفة منها، فإذا كانت الطوائف متباينة في أقوالها ومذاهبها، فقد عورضت النصوص بمعقولات متباينة مختلفة، والنتيجة أن نصوص الوحي أصبحت لا حرمة لهان بل ولا حجة فيهان بل من جوز على خبر الله وخبر رسوله أن يناقضه المعقول لم يمكنه أن يصدق بشيء من أخبار الوحي عن الأمور الغائبة، وهذا إبطال للوحي وللرسالات.

وأهل الإيمان يعلمون أن خبر الله ورسوله حق وصدق " موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلمن من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئاً من أخباره وناقضه فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالمن بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره، وهذه حال المؤمنين للرسول، الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح، لا عقلي ولا سمعي "(3) . وقد شرح شيخ الإسلام هذا في موضع آخر (4) ، وذكر أن حذاق المتكلمين التزموا القول بهذه النتيجة الباطلة، ومنهم الرازي الذي قال بعد

(1) درء التعارض (5/371-374) .

(2)

درء التعارض (5/242) .

(3)

انظر: المصدر السابق (5/255) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (5/320) .

ص: 844

أن ذكر في التمسك بالسمعيات أن المطالب ثلاثة أقسام: منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع، ومنها ما يستحيل العلم بها إلا بالسمع، ومنها ما يصح العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى "،وبعد أن شرح الرازي ذلك قال: " إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر..

وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال: وذلك لأننا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي، لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي، فإما نكذب العقل، وإما نؤول النقل، فإن كذبنا العقل، مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل، فحينئذٍ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذن لا يكون النقل مقطوع الصحة، وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلاً، فتعين تأويل النقل " (1) .

- وهذا هو مضمون القانون الذي سبق نقله عن الرازي في أساس التقديس، والكلام الخطير قول الرازي بعد هذا مباشرة: " فإذن الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوحود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره، فحينئذٍ لا يكون الدليل النقلي مفيداً للمطلوب إلا إذا بينا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك الأمر إلا من وجهين: إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي - وحينئذٍ يصير الاستدلال بالنقل فضلاً غير محتاج إليه - وإما أن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلاً، اللهم إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه، ولكنا زيفنا هذه الطريقة، أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص، ولا المقدمة الفلانية الأخرى، وحينئذٍ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية

(1) نهاية العقول - مخطوط - (14 -أ-ب) ، ونقله شيخ الإسلام في درء التعارض (5/330-331) ..

ص: 845

لها غير معارضة لهذا الظاهر " - يقول الرازي -: " فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي يتوقف إفادته اليقين على ذلك، فإذا الدليل النقلي تتوقف إفادته على مقدمة غير يقينية وهي عدم دليل عقلي، فوجب تأويل ذلك النقل.."، ثم قال: " فخرج مما ذكرناه أن الدلالة النقلية لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية.." (1) .

قال شيخ الإسلام معلقاً على كلام الرازي هذا " قلت فليتدبر المؤمن العاقل هذا الكلام، مع أنه قد ينزل فيه درجة، ولم يجعل عدم إفادته اليقين إلا لتجويز المعارض العقلي، وإلا فهو وغيره في موضع آخر -ينفون أن يكون الدليل السمعي مفيداً لليقين لكون موقوفاً على مقدمات ظنية كنقل اللغة والنحو التصريف، وعدم المجاز، والاشتراك، والنقل والإضمار، والتخصيص وعدم المعارض السمعي أيضاً مع العقلي (2) ، وبهذا دفع الآمدي (3) ، وغيره الاستدلال بالأدللة السمعية في هذا الباب.. والمقصود هنا أن نبين اعترافهم بما ألزمناهم به، وإذا كان كذلك فيقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخبر أمته بما أخبرهم به من الغيب من أسماء الله وصفاته وغير ذلك، فإنه لم يرد منهم ألا يقروا بثبوت شيء مما أخبر به إلا بدليل منفصل غير خبره، فإذا كان القول مستلزماً لكون الرسول أراد أن لا يثبت شيء بمجرد خبره، وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه كذب على الرسول، علم أن هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام "(4) .

بقي إن يقال أن الرازي لما قسم المطالب إلى ثلاثة أقسام، جعل منها قسماً لا يعلم إلا بالسمع وهو ما ترجع فيه أحد طرفي الممكن على الآخر (5) ، فهل يتمشى هذا مع ما قاله سابقاً عن الظواهر النقلية أنها مظنونة وأنها لا تفيد اليقين؟

(1) نهاية العقول (14 - ب) ونقله في درء التعارض (331-333) .

(2)

انظر: أساس التقديس للرازي (ص: 182) .

(3)

انظر: أبكار الأفكار (41-ب) .

(4)

انظر: درء التعارض (5/335-336) .

(5)

انظر: نهاية العقول (14- أ) ، ودرء التعارض (5/329) .

ص: 846

الحق أن هذا تناقض، يقول شيخ الإسلام:" ومعلوم أن ما ذكروه ينفي أن يكون الدليل السمعي حجة في هذا القسم أيضاً، وذلك لأن الشيء الذي يمكن وجوده وعدمه، إذا دل الدليل السمعي على أحد طرفيه، وجوزنا أن لا يكون مدلول الدليل السمعي ثابتاً، أمكن هنا أيضاً أن لا يكون ذلك المخبر به ثابتاً في نفس الأمر، وأن يكون الشارح لم يرد ما دل عليه قوله، ولا يحتاج ذلك إلى تجويز قيام دليل عقلي يعارض ذلك.. وحينئذٍ فلا يستدل بالسمع على مالا مجال للعقل فيه من الأمور الأخروية، وهذا نهاية الإلحاد "(1) .

ومن خلال ما سبق يتبين كيف أن هذا القانون مؤداه إبطال السمع والاقتصار على أدلة العقول، وهذا منتهى قانونهم الفاسد.

تاسعاً: أن المسائل التي يقولون -إنه تعارض فيها العقل والسمع - هي من المسائل المشتبهة، ولذلك فإن أهل الكلام حيالها مختلفون لأن كل طائفة منهم بنت أقوالهم في هذه الأمور المجملة المشتبهة على ما عندها من المعقولات التي تدعي أنها قطعية تفصل في الأمر المراد.

وبيان ذلك كما يلي:

أ - أن عامة موارد التعارض " هي من الأمور الخفية المشتبهة التي يحار فيها كثير من العقلاء، كمسائل أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما بعد الموت من الثواب والعقاب والجنة والنار والعرش والكرسي، وعامة ذلك من أنباء الغيب التي تقصر عقول أكثر العقلاء عن تحقيق معرفتها بمجرد رأيهم، ولهذا كان عامة الخائضين فيها بمجرد رأيهم:

- إما متنازعين مختلفين.

- وإما حيارى متهوكين.

(1) انظر: درء التعارض (5/388) .

ص: 847

وغالبهم يرى أن إمامة أحذق في ذلك منه، ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل" (1) ، ويستشهد شيخ الإسلام لذلك بنماذج تبين أن هؤلاء يعتقدون أن أئمتهم أعلم وأحذق، ولذا فهم يحيلون عليهم في الأمور التي لا يفهمونها، وربما يرون أن عقولهم تعارضها لكنه يهاب مخالفة إمامه، يقول شيخ الإسلام: " تجد أتباع أرسطو ليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات والإليهات، مع أن كثيراً منهم قد يرى بعقله نقيض ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه. ز"، ثم يقول شيخ الإسلام: " بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، تجد أحدهم دائماً يجد في كلامهم ما يراه هو باطلاً، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلاً وعلماً وديناً، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه؟ " (2) .

والعجيب أن هؤلاء المقلدين لأئمتهم لا يقول أحدهم أبداً: إذا تعارض قولي مع قول إمامي قدمت قولي على قوله، فكيف يقول: إذا تعارض عقلي أو عقل فلان مع الكتاب والسنة وجب تقديم العقل عليه؟

ب - أن كل طائفة تدعي أن ما عندها معلوم بالأدلة العقلية القطعية ومن نظر في أقوال وأدلة الفلاسفة، والجهمية، والمعتزلة، والرافضة، وغيرهم فسيجد أن كل طائفة من هؤلاء تدعي أن قولها ومذهبها قائم على الأدلة العقلية أو السمعية الصحيحة، وأن من خالفها من سائر الطوائف متناقضون مخالفون لصريح العقل أو السمع، بل الأمر أشد من ذلك فإن الطائفة الواحدة يقع بين أئمتها وأصحابها من الاختلاف والتباين ما هو معلوم مشهور وكل واحد من هؤلاء يدعي أن ما عنده قائم على الأدلة الصحيحة، وكل ما كانت الطائفة أبعد عن السلف كان اختلاف أقوالها أكثر.

(1) انظر: درء التعارض (1/151) .

(2)

انظر: المصدر السابق (1/151-155) .

ص: 848

فمثلاً إذا نظرت إلى مسألة الصفات أو الرؤية، أو خلق أفعال العباد فستجد طائفة تقول: إن إثبات هذه الأمور معلوم بالأدلة العقلية القطعية، وتقابلها طائفة أخرى تقول: إن نفي هذه الأمور معلوم العقلية والقطعية، وهكذا بقية المسائل، وكل من الطائفتين فيهم من الذكاء والمعرفة ما هم متميزون به عن بقية الناس (1) ، فما هو المعقول الذي يرجع إليه ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؟

ولقد كان من نتائج هذا القانون - مع تباين عقول الناس - أن انتهى الأمر بكثير من أهل الكلام إلى الشك والحيرة، كما حصل للجويني، والشهرستاني والرازي وغيرهم (2) - وسيرد تفصيل ذلك إن شاء الله - يقول شيخ الإسلام معقباً: " فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية، وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات، ثم لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب، بل إما إلى حيرة وارتياب، وإما إلى اختلاف بين الأحزاب، فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات.

فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب.." (3) ، ويفسر أهل الجهل البسيط بأنهم أهل الشك والحيرة، وأهل الجهل المركب بأنهم أرباب الاعتقادات الفاسدة (4) .

ج - أن دلالة السمع متفق عليها:

- أما عند أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهو أمر واضح متواتر.

(1) انظر: درء التعارض (1/156) .

(2)

انظر: المصدر السابق (1/166) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (1/169) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (1/170) .

ص: 849

- وأما عند أهل الكلام فإن هؤلاء لم يتنازعوا في أن السمع من الأدلة، وإنما اختلفوا هل عارضه العقل أم لا؟ وإلا فكلهم متفقون على أن الكتاب والسنة مثبتان للأسماء والصفات، والمعاد. وغيرها.

أما أدلة العقول - التي جاء بها هؤلاء يعارضون بها السمع - فهي أدلة مختلف فيها، غير متفق عليها، والدليل على ذلك ما سبق من أن كل طائفة تقول، إن أدلة خصومها باطلة.

وإذا كانت دلالة السمع متفقاً عليها، ودلالة العقول مختلفاً فيها فإنه يمتنع أن يقدم ما هو مختلف فيه على ما هو متفق عليه (1) .

د - أن ما جاء به هؤلاء مبني على الألفاظ المجملة، ولذلك فهو من البدع المحرمة في الدين " والبدعة لو كانت باطلة محضاً لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقاً محضاً، لاشوب فيه، لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقاً محضاً لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل "(2)، ثم استشهد شيخ الإسلام بقوله تعالى لبني إسرائيل:{يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ* وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 40-42) ، وبين شبه المتكلمين بهؤلاء (3) ، وقد ضرب شيخ الإسلام للألفاظ المجملة التي لبسوا بها بين الحق والباطل، بعدة أمثلة منها:

1-

لفظ " التوحيد " وكيف قصدوا به نفي الصفات عن الله (4) .

2-

لفظ الجسم والتركيب، حيث نفوا لأجلهما الصفات (5) .

(1) انظر: درء التعارض (1/192-194) .

(2)

انظر: المصدر السابق (1/209) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (1/209-211،219-220) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (1/224) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (1/238) .

ص: 850

3-

الرؤية (1) .

4-

الجهة (2) .

5-

الجبر (3) .

6-

ومسألة اللفظ بالقرآن (4) .

وقد بين كيف وقع اللبس بهذه الألفاظ، وموقف أهل السنة من الأقوال المبتدعة التي لبس أصحابها بها بين الحق والباطل (5) .

عاشراً: بيان فساد العقليات التي يدعون أنها معارضة للأدلة الشرعية:

في الوجوه السابقة ناقش شيخ الإسلام هذا القانون الفاسد بطرق متعددة تبين تناقضهم، ومخالفتهم للكتاب والسنة، وتكشف ما في قانونهم من المحادة لله ولرسوله، وما لزم عليه من اللوازم الباطلة، وما انتهى إليه من النهايات الفاسدة.. الخ أما في هذا الوجه فقد انتقل فيه شيخ الإسلامن إلى مجال آخر وطريقة أخرى في نقض قولهم وبيان ما فيه من الباطل.

وقد سبق في المقدمات - قبل ذكر هذه الردود التي فيها التفصيل في مسألة تعارض العقل والنقل - نقل بعض النصوص لشيخ الإسلام تبين منهجه في ذلك، ونزيد هنا نصاً آخر يوضح المراد. يقول: رحمه الله:

" إن الكلام هنا أربعة أنواع:

أحدهما: أن نبين أن ما جاء به الكتابم والسنة فيه الهدى والبيان.

والثاني: أن نبين أن ما يقدر من الاحتمالات فهي باطلة، قد دل الدليل الذي به يعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها.

(1) انظر: درء التعارض (1/250) .

(2)

انظر: المصدر السابق (1/253) .

(3)

المصدر نفسه (1/254) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (256-269) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (1/271) .

ص: 851

والثالث: أن نبين أن ما يدعي أنه معارض لها من العقل فهو باطل.

والرابع: أن نبين أن العقل موافق لها معاضد، لا مناقض لها معارض" (1) .

أما الأول: فقد سبق في المقدمات بيان أن شيخ الإسلام أحال على كتابين من كتبه، كما أنه بين ذلك في ثنايا ردوده ومناقشاته في هذا الكتاب.

وأما الثاني: فتدخل فيه الوجوه السابقة، ومن ذلك بحوثه المتعددة حول الألفاظ المجملة.

وأما الثالث: فتفصيل القول فيه في هذا الوجه - وسيأتي بيانه بعد قليل -.

وأما الرابع: فسيأتي في الوجه الذي يلي هذا الوجه.

فإذا كان من الخطوط العامة لمنهج شيخ الإسلام هنا أن يبين بطلان هذه المعقولات التي صدوا بها عن الكتاب والسنة.

وهنا لا بد من وقفة قصيرة لأن شيخ الإسلام خاض في المناقشات العقلية والفلسفية والكلامية، ونقل أقوال الفلاسفة والمتكلمين، وأطال في النقول، وعلّق عليها وناقشها، حتى أن القارئ لكتابه هذا يمل من كثرة نقوله ومناقشاته، واستطراداته، وقد يتوقف عن الاستمرار في القراءة لهذا السبب، ويعتب على شيخ الإسلام بعض محبيه، ظناً منهم أنه خاض في علم الكلام والفلاسفة كما خاض أولئك لكن الفارق بينه وبينهم أنه لم يتلبس بشيء من أقوالهم الفاسدة، وأن نيته في ذلك كانت حسنة، وهذا - مع ما فيه من الاعتذار لشيخ الإسلام - إلا أنه مجانب لكامل الحقيقة لأمور:

الأول: أن شيخ الإسلام أجاب عن ذلك من خلال مناقشاته، ومن خلال أسئلة بعض محبيه كالحافظ البزار، وقد سبق ذكر عدة وجوه في ذلك عند الكلام على منهجه (2) .

(1) انظر: درء التعارض (1/279) .

(2)

انظر: ما سبق في الباب الأول (ص: 226-231) .

ص: 852

والثاني: أن شيخ الإسلام لم يخص فيها خوض الذين يظنون أن فيها فائدة، فضلاً عن أن يكون من المعجبين بها، فهو رحمه الله - لم تتغير قناعته لحظة واحدة في أن الكتاب والسنة فيهما ما يغني كل الغنى عن أقوال وترهات الفلاسفة والمتكلمين (1) ، ولذلك فإنه وهو يخوض غمار هذه المناقشات لبيان ما فيها من الباطل لا ينفك عن الإشارة إلى ما في القرآن والحديث من البيان والهدى التام.

الثالث: أن هذه الأقوال التي ينقلها ويناقشها لم تبقِ في دائرة ضيقة ككتب الفلاسفة وما شابهها حتى يقال: إن جماهير المسلمين ينكرون هذه الكتب وتأثرهم بها ضعيف، وإنما انتشرت وتناقلها وتبناها عدد كبير من أعيان الفقهاء الذين هم قدوة لكثير من الناس في الفقه وأصوله، والعقيدة والتفسير وغير ذلك من أنواع العلوم التي برزوا فيها، لذلك فكتبهم وأقوالهم وتحقيقاتهم معتمدة عند هؤلاء الأتباع الذين لا يفرقون في الاقتداء بشيوخهم بين أصول الدين وفروعه، ولذلك صار الضلال الناتج عن هذا كبيراً جداً، فرأى شيخ الإسلام أنه لا يمكن رد هذا الباطل وإقناع هؤلاء الأتباع إلا ببيان فساد أقوال شيوخهم وتهافتها، فنقل أقوال هؤلاء، كما نقل أقوال شيوخهم من أهل الاعتزال والفلسفة، وبين ما فيها من الضلال والانحراف.

وقد كان بيان شيخ الإسلام لفساد العقليات التي يزعمون أنها معارضة للشرع من خلال ثلاثة أوجه في كتابه هي: الوجه الثاني عشر (2) - وهو مختصر جداً - والثامن عشر (3) والتاسع عشر الذي أطال فيه بحيث شمل بقية المجلد الأول (4) ، والمجلد الثاني والثالث والرابع بكاملها.

وقد كانت مناقشته لذلك كما يلي:

أ - ذكر شيخ الإسلام أن الشبه التي يعارضون بها نصوص الشرع في الأسماء والصفات أهمها شبهتان:

(1) سبق شرح هذا ضمن هذا الفصل.

(2)

درء التعارض (1/194) .

(3)

المصدر السابق (1/280-320) .

(4)

المصدر نفسه (1/320) .

ص: 853

إحداهما: شبهة التركيب والتجسيم، وأنه يلزم من إثبات الصفات لله أو العلو التركيب أو أن يكون الله جسماً، وإذا كان كذلك كان مشاركاً لغيره في الوجود، وهذا ينافي ما يجب لله من التوحيد، قالوا والمركب مفتقر إلى جزئه، وهذه الشبهة في الأصل هي حجة الفلاسفة والجهمية الذين نفوا جميع الصفات والأفعال عن الله تعالى.

والشبهة الثانية: حجة الأعراض، حيث استدلوا بحدوث الأجسام على حدوث العالم، وعلى حدوث الأجسام بملازمتها للأعراض، وهذه في الأصل حجة المعتزلة، ولأجلها نفوا جميع الصفات عن الله، مع ملاحظة أن هؤلاء قد يحتجون بالحجة الأولى التي هي شبهة التركيب والتجسيم (1) .

وقد تلفق الأشاعرة هاتين الحجتين الداحضتين وبنوا عليهما ما نفوا من العلو والصفات.

ب - ثم بين شيخ الإسلام بطلان هاتين الشبهتين:

أما شبهة التركيب والتجسيم: فقد بين فيها تناقض الفلاسفة والمتكلمين، كما بين ما في مثل هذه الألفاظ من الاشتباه (2)، وقال:" إن إثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منه لكل عاقل، وإنه لا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجودات مطلقاً، وأما من يجعل وجود العلم هو وجود القدرة، ووجود القدرة هو وجود الإرادة، فقود هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهى الإلحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات"(3) .

ثم رد على زعمهم أن نفي الصفات توحيد، وناقشهم في ذلك، وبين

(1) انظر: درء التعارض (1/301-302) .

(2)

انظر: المصدر السابق (1/280-283) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (1/283) .

ص: 854

أن مآل أقوالهم إلى أقوال المتصوفة أصحاب وحدة الوجود (1) .

وأما شبهة دليل الأعراض وحدوث الأجسام: فقد ناقشها طويلاً- وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح ردوده على هذه الشبهة - ولكن الذي يناسب المقام هنا الإشارة إلى الأمور التالية:

1-

رد على هذه الشبهة بصورة مجملة، وبين أن السلف والصحابة لم يتوقف إيمانهم على هذا الطريق (2) .

2-

لما كان الهدف الأساسي من هذا الدليل عندهم أن يثبتوا به حدوث العالم ليردوا على الفلاسفة القائلين بقدم العالم، ذكر شيخ الإسلام أن هؤلاء الملاحدة أوردوا على المتكلمين سؤالهم المشهور حول حدوث العالم، وأنهم ألزموهم بأحد أمرين:

- إما القول بالترجيح بلا مرجح تام.

- أو القول بالتسلسل والدور (3) .

وهما ممتنعان عند المتكلمين، وقد استقصى شيخ الإسلام أجوبة المتكلمين كما ذكرها الرازي، الذي ذكر أجوبة الناس عليها، ثم بين فسادها وعدل إلى الإلزام للفلاسفة وهو أن لا يحدث - على قولهم - في العالم حادث، والحس يكذبه، وقد أجابه الفلاسفة بأن هذا لا يصح إذا كان التسلسل باطلاً، أما إذا كان صحيحاً فنحن نقول به (4) .

3-

تخبط المتكلمون في الجواب عن شبهة الفلاسفة، وناقشوها مناقشات

(1) انظر: درء التعارض (1/283-291) ، وحول شبهة التجسيم، انظر أيضاً:(4/134-290) ، وقد بين أن فحول النظار والفلاسفة بينوا فساد طرق من نفى الصفات أو العلو بناء على نفي التجسيم، انظر:(4/282) .

(2)

انظر: درء التعارض (1/308-320) .

(3)

انظر: شرح ذلك في درء التعارض (1/320-322) .

(4)

انظر: المصدر السابق (1/322-323) .

ص: 855

ضعيفة (1)، يقول شيخ الإسلام - بعد أن عرضها - " قلت: المقصود هنا أن يعرف نهاية ما ذكره هؤلاء في جواب الدهرية عن المعضلة الزباء، والداهية الدهياء، ولا يخفى على العاقل الفاضل ما في هذه الأجوبة " (2) ، ثم ذكر أنه يمكن الرد على هؤلاء الفلاسفة من وجوه كثيرة، وأن كل طائفة من طوائف المسلمين تتمكن من قطعهم بجواب مركب من قولهم وقول طائفة أخرى من المسلمين، وذكر مثالاً للأجوبة التي يجاب بها هؤلاء الفلاسفة وينقض بها باطلهم (3) ، وبين في أثناء ذلك أن " كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفي بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه اليقين " (4) ، ويقصد شيخ الإسلام أجوبة المتكلمين الضعيفة.

4-

بين شيخ الإسلام بشكل قاطع أن الرد على الفلاسفة إنما يتم على قول أهل السنة والجواعة الذين يثبتون لله الصفات ويثبتون له الأفعال، وأنه تبارك وتعالى متصف بالصفات الاختيارية التي نفاها الأشاعرة ومن قبلهم من المعتزلة وغيرهم، يقول شيخ الإسلام بعد ردوده ومناقشاته على الفلاسفة وإبطال حججهم: " وإذا تدبر العاقل الفاضل تبين له أن إثبات الصانع وإحداثه للمحدثات لا يمكن إلا بإثبات صفاته وأفعاله، ولا تنقطع الدهرية من الفلاسفة وغيرهم قطعاً تاماً عقلاً لا حيلة لهم فيه، إلا على طريقة السلف أهل الإثبات للأسماء والأفعال والصفات، وأما من نفى الأفعال أونفى الصفات فإن الفلاسفة الدهرية تأخذ بخناقه، ويبقى حائراً شاكاً، مرتاباً مذبذباً بين أهل الملل المؤمنين بالله ورسوله وبين هؤلاء الملاحدة كما قال تعالى في المنافقين:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء:143)(5) .

(1) انظرها في درء التعارض (1/320-350) .

(2)

انظر: درء التعارض (1/350) .

(3)

انظر: المصدر السابق (1/351) وما بعدها.

(4)

انظر: المصدر نفسه (1/357) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (1/375) .

ص: 856

5-

ولما كان نقض أقوال الفلاسفة إنما يستقيم على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يثبتون لله الصفات الاختيارية، أو ما يسمى بحلول الحوادث (1) ، لا على مذهب نفاتها، ذكر شيخ الإسلام أدلة السمع على أفعال الله وصفاته الاختيارية، ونقل الخلاف في هذه المسألة (2) ، ثم نقل أقوال علماء الإسلام في إثباتها (3) . ثم ذكر ذلك مفصلة من الكتاب والسنة (4) . والعقل (5) .

وقد أعقب الأدلة السمعية بذكر أدلة النفاة للصفات الاختيارية، وناقشها (6) . كما ربطها بمسألة كلام الله (7) .

وبهذا يتبين الرد على الفلاسفة في قولهم: إن الترجيح بلا مرجح ممتنع، وإن هذه إنما ترد على نفاة صفات الأفعال الاختيارية لله تعالى، أما على مذهب أهل السنة المثبتين لها فلا ترد.

6-

أما شبهة التسلسل، فقد بين بطلان قول الفلاسفة فيها على كل تقدير (8)، لكنه فرق بين نوعين من التسلسل:

أحدهما: التسلسل في الفاعلين، فهذا ممتنع بلا ريب لأن المخلوقات لو فرض التسلسل فيها لابد أن تنتهي إلى الخالق الواحد.

والثاني: التسلسل في الآثار، فهذا يفرق فيه بين النوع والعين، فالعين التسلسل فيه ممتنع، أما النوع فلا مانع منه وهو قول أهل السنة والحديث الذين يقولون: إن الله لم يزل فاعلاً وإنه يتكلم إذا شاء.

(1) ذكر شيخ الإسلام في درء التعارض (2/239)، أن أهل السنة لا يطلقون عبارة: حلول الحوادث، ومعلوم أن المتكلمين يقصدون بها الصفات الاختيارية.

(2)

انظر: درء التعارض (2/18-20) .

(3)

انظر: درء التعارض (2/20-115) .

(4)

انظر: المصدر السابق (2/115-147) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (2/220) ، وما بعدها.

(6)

انظر: المصدر نفسه (2/156) ، وما بعدها (2/342) ، وما بعدها (4/3) ، وما بعدها.

(7)

انظر: المصدر نفسه (2/244) .

(8)

انظر: المصدر نفسه (1/339) ، وما بعدها (2/282-288) .

ص: 857

وقد ناقش شيخ الإسلام حجة الفلاسفة في مسألة التسلسل وبين ضعف المتكلمين في جوابها، وذكر حججهم - ممثلة في أقوال الرازي - وناقشها بالتفصيل (1) ، ثم عاد شيخ الإسلام يناقش مسألة حلول الحوادث كما سبق (2) .

وفي النهاية ذكر شيخ الإسلام الخلاصة، وكيف اضطرب المتكلمون في هذه المسائل مع أنهم جعلوها من الأصول التي تقدم على الشرع قال شيخ الإسلام:" وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالاً تستلزم الجمع بين النقيضين تارة، ورفع النقيضين تارة، بل تستلزم كليهما، والأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين لا يذكرون فيه إلا أقوالاً ضعيفة، والقوال الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه"(3)، وذكر من الأمثلة على ذلك مما سبق:

أ - مسألة حدوث العالم، فإنهم لا يذكرون إلا قولين:

- قول من يقول بقدم الأفلاك، وهم الفلاسفة الدهرية.

- وقول من يقول: بل تراخي المفعول عن المؤثر التام، وأنه يمتنع أن يكون الله لم يزل متكلماً إذا شاء ويفعل إذا شاء.

- والقول الصواب الذي هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه، وهو القول بأن الأثر يتعقب التأثير التام، فهو سبحانه إذا كوّن شيئاً كان، وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والانكسار عقب التطليق والكسر.

ب - وفي كونه موجباً بذاته فاعلاً بمشيئته وقدرته يذكرون قولين:

- قول الفلاسفة: هو موجب بذاته في الأزل، وأن علّته تامة في الأزل فيجب أن يستلزم معلوله، فتكون مخلوقاته أزلية معه. وهذا باطل.

- وقول من يقول: إنه فاعل مختار، لكنه يفعل بوصف الجواز فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، إما بمجرد كونه قادراً، أو لمجرد كونه قادراً

(1) انظر: درء التعارض (2/344-399، 3/3-389) .

(2)

انظر: المصدر السابق (4/3) ، وما بعدها.

(3)

انظر: المصدر نفسه (4/290) .

ص: 858

عالماً، أو لمجرد إرادته القديمة، فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر، وهذا قول أهل الكلام وهو قول فاسد، وإن كان أقل فساداً من الذي قبله.

- أما القول الثالث وهو الصواب وإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأه امتنع لعدم مشيئته له فهو موجب بمشيئته وقدرته، لا بذات خالية عن الصفات. فهذا لا يذكرونه (1) .

فتبين أن هذه الأصول العقلية التي قدموها على السمع هي أصول فاسدة وأن كونهم أرادوا بها إثبات حدوث العالم والرد على الدهرية الفلاسفة، جاء على نقيض مقصدوهمن حيث لم يستطيعوا الرد عليهم، وطعن بعضهم في أدلة بعض، ولو سلكوا الطريق الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وقال به أئمة أهل السنة والحديث، لوافقوا مدلول السمع أولاً، ولنقضوا أقوال الفلاسفة الدهرية ثانياً ولما وقعوا في الارتباك والتناقض، وتسلط أعداء الإسلام عليهم.

حادي عشر: أن العقل موافق للنقل:

في الوجه السابق بين شيخ الإسلام فساد الأصول التي اعتمدوا عليها في تقديم العقل على الشرع، وهنا يبين أن هؤلاء يزعمون أن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وأن ما ناقضها من الأدلة العقلية تفيد اليقين، فيجب تقديم هذه على تلك. فيرد عليهم ببيان أن الأدلة العقلية موافقة للأدلة النقلية لا معارضة لها، وطبق ذلك على مثال مشهور يذكرون عنده قانونهم الفاسد وهو إثبات العلو والفوقية لله تعالى.

والفرق بينهما أنه في الوجه السابق رد على من يزعم أن صدق الرسول موقوف على إثبات دليل حدوث الأجسام، وهنا يرد على من يقول: إن العقل يعارض ظواهر النصوص فيجب تقديمه من غير أن يقول: إن صدق الرسول مبني على هذا.

(1) انظر: درء التعارض (4/290) ، إلى نهاية الجزء.

ص: 859

ولأهمية هذه المسألة يحسن إيراد ما ذكره شيخ الإسلام في هذا الموضوع، حيث قسم هؤلاء إلى طائفتين:

الأولى: " من يقول: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به، وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة أو أتباعهم من الأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية: [الذين يقولون (1) ] : إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام وأنه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقاً أو الحركات، وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها، وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى، المتعلقة بمشيئته واختياره، بل نفي صفاته، وأن يكون القرآن مخلوقاً، وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يكون فوق العالم "(2) ، ثم ناقش شيخ الإسلام هذه الطائفة باختصار مبيناً أن قول هؤلاء معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام (3) .

الطائفة الثانية: " من قال: إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث، من غير أن يقول: إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها، كما يقوله من يعتقد صحة هذا الطريق، طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وإن قال: إنه يمكن تصديق الرسول بدونها، كما يقوله الأشعري نفسه، وكثير من أصحابه، والرازي وأمثاله، وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية.. فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون: إنه يمكن تصديق الرسول بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام "(4)، ثم بين شيخ الإسلام حال هاتين الطائفتين حيال دليل الأعراض فقال:

" لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق، وإن قالوا: إن تصديق الرسول لا يتوقف عليها:

(1) زيادة مني ليستقيم الكلام.

(2)

انظر: درء التعارض (7/73-74) .

(3)

انظر: المصدر السابق (7/71-73) .

(4)

انظر: المصدر السابق (7/73-74) .

ص: 860

ثم منهم من يقول: إنها لا تعارض النصوص، بل يمكن الجمع بينهما، وهذه طريقة الأشعري وأئمة أصحابه: يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن، مع اعتقادهم صحة طريق الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وهذه طريقة أبي حاتم البستي، وأبي سليمان الخطابي، والتميميين، كأبي حسن التميمي وغيره من أهل بيته، وأبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى، وأبي بكر البيهقي وابن فورك وابن الزاغوني، وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية.

ومن هؤلاء: من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله، كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه.

فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث، سواء قالوا: إن تصديق الرسول موقوف عليها كما يقوله من يقوله من المعتزلة وأتباع صاحب الإرشاد، أو لم يقولوا ذلك كما يقوله من يوافق الأشعري والرازي، وجمهور المسلمين على أن تصديق الرسول ليس موقوفاً عليها " (1) .

والخلاصة أن الأشاعرة طائفتان:

طائفة: ترى صحة دليل الأعراض، لكنها لا تعارض به النصوص، ولذلك أثبتوا الصفات الخبرية، والعلو.

وطائفة: ترى وجوب دليل الأعراض، أو صحته فقط، وسواء قال هؤلاء إن تصديق الرسول متوقف عليه أو غير متوقف فإنهم جميعاً يرون أنه يعارض النصوص ولذلك نفوا لأجله الصفات الخبرية والعلو.

أما الصفات الاختيارية لكل من قال بصحة دليل الأعراض -ولو لم يوجبه -التزم نفيها.

(1) انظر: درء التعارض (7/74-75) .

ص: 861

بعد هذه المقدمة نعود إلى المثال الذي ذكره شيخ الإسلام هنا وهو إثبات العلو، الذي نفاه متأخرو الأشاعرة لأدلة عقلية يذكرونها، وحين يرد عليهم بالنصوص الكثيرة الدالة على إثباته يذكرون هذا القانون كما فعل الرازي في الأربعين (1) .

وقد رد عليهم شيخ الإسلامن وناقش الموضوع طويلاً بحيث استغرق الجزء السادس بكامله، وثلث الجزء السابع تقريباً (2) ، وقد بين أن نفاة العلو ليس معهم من الأدلة النقلية إلا حديث واحد مكذوب، وما ورد في القرآن أن الله " أحد " واحتجاجهم بذلك فاسد (3) .

ثم ذكر ما أجاب به النفاة - وعلى رأسهم الرازي - على أدلة مثبتي العلو من العقل والفطرة، وناقشها بالتفصيل مبيناً أن العقل والفطرة يوافقان ما دلت عليه النصوص، وقد بين شيخ الإسلام أن هؤلاء اعتمدوا على ما ذكره ابن سينا في الإشارات، ثم نقل كلامه وناقشه التفصيل (4) .

ثم ناقش شيخ الإسلام ادعاء الرازي في الوجه الأول من ردوده على من يثبت العلو بأنه لو كان بديهياً لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة والكرامية (5) .

كما ناقش بقية الأوجه التي ذكرها الرازي رداً على دليل المثبتة من العقل والفطرة (6) .

(1) انظر: الأربعين (ص: 115)، وانظر: لباب الأربعين كما نقله عنه شيخ الإسلام في درء التعارض (7/26) .

(2)

إلى (ص: 140) منه.

(3)

انظر: درء التعارض (6/6) .

(4)

انظر: المصدر السابق (6/18-112) .

(5)

رد عليه من وجوه، الوجه الأول (6/113)، والثاني: وما بعده (6/267) ، وقد نقل أقوال الطوائف قبل الحنابلة والكرامية وقولهم في إثبات العلو، انظر:(6/114) ، وما بعدها. كما بين عجز النفاة العلو عن الرد على الحلولية، انظر:(6/115) ، وما بعدها.

(6)

انظر: درء التعارض (6/272-287) .

ص: 862

ثم ساق أدلة الرازي العقلية على نفي العلو وناقشها (1) .

وأخيراً ساق شيخ الإسلام قانون الرازي الفاسد الذي أتى به هنا في العلو ليرد به النصوص الشرعية المثبتة للعلو، وناقشه بالتفصيل (2) .

والخلاصة أن هؤلاء الذين ظنوا أن الدليل العقلي يعارض السمع مخطئون لأنه قد ثبت أن ما ذكروه معارضاً للسمع إنما هي أوهام توهموها، وأن العقل والفطرة يؤيدان ما دلت عليه النصوص فبطل قانونهم الذي ذكروه.

ثاني عشر: أن العقليات التي يقال: إنها أصل السمع، وأنها معارضة له، ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها.

وهذا هو الوجه الثالث والأربعون الذي بدأ في أثناء الجزء السابع (3) واستغرق أغلبه مع الأجزاء الثامن والتاسع والعاشر الذي هو آخر الكتاب.

يقول شيخ الإسلام في أول هذا الوجه: " يقال: العقليات التي يقال: إنها أصل للسمع وإنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها، فامتنع أن تكون أصلاً له، بل هي أيضاً باطلة، وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة، فإن إجماع هذه الطرق هي طريقان أو ثلاثة:

- طريقة الأعراض، والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون.

- وطريقة التركيب، والاستدلال بها على أن التصوف بها ممكن أو محدث، فهاتان الطريقتان هي جماع ما يذكر في هذا الباب.

- والثالثة: الاستدلال بالاختصاص على إمكان المختص أو حدوثه.

(1) انظر: درء التعارض (6/287-إلى-7/24) .

(2)

انظر: المصدر السابق (7/25-140) .

(3)

(ص: 141) .

ص: 863

قد يقال إنها طريقة أخرى، وقد تدخل في الأولى..

" ثم الطريقة الأولى مبنية على امتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث، والثانية: مبنية على أن ما اجتمعت فيه معانٍ لزم أن يكون ممكناً أو حادثاً، والثالثة: مبنية على أن المختص لابد له من مخصص منفصل عنه.

وهذه المقدمات الثلاث قد نازع فيها جمهور العقلاء، وكل من هذه الطرق تسلكه الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات والأفعال، ويسلكه أيضاً نفاة الأفعال القائمة به دون الصفات " (1) وهم الأشعرية.

وكما في الوجهين السابقين أطال شيخ الإسلام في تقرير هذا الوجه، ودعم أقواله بالاستشهاد بأقوال أهل الكلام والفلسفة التي تبين أن ما زعمه هؤلاء من أن العلم بالصانع وإثبات حدوث العالم لا يمكن إلا بهذه الطرق العقلية التي ذكروها غير صحيح، ويعتبر هذا الوجه -على طوله - من أهم الأوجه التي أوردها في هذا الكتاب وأكثرها إفادة لمن خاض في علم الكلام أو حسن الظن به، أو قلد شيوخه فيه.

وإذا ثبت أن هذه العقليات ليست مما يتوقف صحة السمع عليها، وأن العلم بوجود الله ووحدانيته وحدوث ما سواه يمكن أن يعلم بطرق أخرى كثيرة - تبين فساد القانون العقلي الذي ردوا به نصوص الشرع.

ويمكن تلخيص ما ذكره شيخ الإسلام في تقرير هذا الوجه كما يلي:

أ - أن السلف أجمعوا على ذم علم الكلام، وعلم الكلام الذي ذموه ليس المصطلحات الحادثة - كما ظن بعض أهل الكلام - بل ذموا علم الكلام القائم على هذه الطرق المبتدعة كطريقة حدوث الأجسام وغيرها -وقد سبق شرح ذلك ضمن هذا الفصل - والذين نقلوا ذم السلف لعلم الكلام هم أئمة الأشاعرة، كالغزالي (2) وأبي الحسن الأشعري الذي ذكر في رسائله إلى أهل الثغر

(1) انظر: درء التعارض (7/141-142) .

(2)

انظر: المصدر السابق (7/144) ، وما بعدها.

ص: 864

أن الرسل لم يدعوا إلى هذا الدليل المبتدع، دليل الأعراض وحدوث الأجسام (1) .

وكذلك نقل ذلك الشهرستاني (2) والرازي (3) والخطابي (4) .

ولما كانت طريقة الأعراض من الطرق التي جعلها الأشاعرة أصلاً في الدلالة على صدق الرسول، وأن السلف ذموها قال شيخ الإسلام معلقاً:" وإذا كان كذلك تبين أن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موقوفاً على شيء من المقدمات المتناقضة لإثبات الصفات الخبريةن والرؤية، والعلو على العرش، ونحو ذلك مما دل عليه السمع وهو المطلوب (5) "، ويقول بعد نقل كلام ابن عساكر والبيهقي ومناقشته:" قلت: وهذا اتفاق علماء الأشعرية مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف على أن الكلام المذموم عند السلف: كلام من يترك الكتاب والسنة، ويعول في الأصول على عقله، فكيف بمن يعارض الكتاب والسنة بعقله؟ وهذا هو الذي قصدنا إبطاله "(6)، وبهذا تتضح حقيقتان:

إحدهما: اتفاق السلف وإجماعهم على ذم هذا الكلام المبتدع المبني على الأصول العقلية المخالفة للشرع.

والثانية: أن علماء الكلام أنفسهم - وفيهم الأشاعرة - قد شهدوا على اتفاق السلف على ذم الكلام، وإذا كانت هذه الطرق المبتدعة من علم الكلام المذموم فكيف يقال: إنها أصل الشرع؟

ب - أن الفلاسفة بينوا فساد طرق هؤلاء المتكلمين، يقول شيخ الإسلام، " ومما يوضح ذلك أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام في إثبات الصانع التي أحدثتها المعتزلة والجهمية، وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم من أصحاب

(1) انظر: درء التعارض (7/186) وما بعدها.

(2)

انظر: المصدر السابق (7/227) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (7/228) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (7/279) ،وما بعدها، وقد نقل عنه نصوصاً طويلة.

(5)

انظر: درء التعارض (7/242) .

(6)

المصدر السابق (7/274-275) .

ص: 865

الأئمة الأربعة وغيرهم، قد طعن فيها جمهور العقلاء، فكما طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم، وذموا أهل الكلام بها، كذلك طعن فيها حذاق الفلاسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن العزيز أصح منها، وإن كان أولئك المعتزلة والأشعرية أقرب إلى الإسلام من هؤلاء الفلاسفة من وجه آخر " (1) ، وقد نقل ش شيخ الإسلام كلام أبي الوليد بن رشد وعلق عليه (2) ، وقال بعد إتمام النقول الطويلة عنه ونقده لطرق الأشاعرة العقلية: " قلت: فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين كأرسطو وأتباعه، يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم، من طريقة الأعراض ونحوها، وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلمن للعامة والخاصة، والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة، والطرق التي لأولئك هي مع طولها وصعوبتها لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة، هذا مع أنه لم يقدر القرآن قدره، ولم يستوعب الطرق التي في القرآن، فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق.." ثم قال شيخ الإسلام: " ولنا مقصودان:

أحدهما: أن ما به يعلم ثبوت الصانع وصدق رسوله، لا يتوقف على هذه الطرق المعتزلية الجهمية، وهذه الطرق هي التي يقال: إنها عارضت الأدلة الشرعية، ويقال: إن القدح فيها قدح في أصل الشرع، فإذا تبين أنها ليست أصلاً للعلم بالشرع كما أنها ليست أصلاً لثبوته في نفسه بالاتفاق، بطل قول من يزعم أن القدح في هذه العقليات قدح في أصل الشرع، وهو المطلوب.

والمقصود الثاني: أن هذه العقليات المعارضات للشرع باطلة في نفسها، وإن لم نقل: إنها أصل للعلم به " (3) .

والخلاصة: أن هذه الطرق العقلية ذمها السلف، وعلماء الأشاعرة والفلاسفة فكيف يعارض بها السمع؟

(1) انظر: درء التعارض (7/242) .

(2)

انظر: المصدر السابق (7/345-352، 9/68-333) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (9/333-334) .

ص: 866

جـ - أن قول هؤلاء: إن معرفة الصانع ليس لها دليل إلا دليل حدوث الأجسام قول مردود لأن العلماء اختلفوا في معرفة الله، هل تحصل ضرورة أم لا، وقد ساق شيخ الإسلام الخلاف في ذلك (1) ، ونقل أقوال الأشاعرة، وإقرارهم أنها قد تقع ضرورة (2) - ثم قال معلقاً:" فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة، كما هو قول الكلابية والأشعرية، وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية، والنجارية والجهمية وغيرهم، وهو قول طوائف أهل السنة من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم"(3) . وقال بعد نقل إقرار الشهرستاني بأن معرفة الله تقع ضرورة: " قلت: فهذا كله كلام الشهرستاني، وهو من أئمة المتأخرين من النظار وأخبرهم بالمقالات، وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم، إلى آخر ما ذكره، وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية، دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر "(4) .

ولتكملة هذا الموضوع وأهميته في نقض هذا القانون الفاسد الذي زعموه ذكر شيخ الإسلام أن الخلاف وقع في وجوب النظر المؤدي إلى المعرفة، والذي زعم هؤلاء أنه النظر في دليل الأعراض (5) ، وأيضاً اختلف قوم في النظر هل هو فرض على الأعيان أو على الكفاية (6) ، ثم هل المعرفة تحصل بالسمع أو بالعقل (7) .

(1) منهم من يقول: إنها لا تحصل إلا بالنظر، وهذا قول أهل الكلام من المعتزلة، والأشاعرة، ومنهم من قال: إن المعرفة يخترعها الله في القلوب من غير نظر ولا بحث وهذا قول الصوفية والشيعة، والجمهور من طوائف المسلمين قالوا: يمكن أن تقع ضرورة ويمكن أن تقع بالنظر، انظر: درء التعارض (7/352-354) .

(2)

انظر: درء التعارض (7/352-395) .

(3)

انظر: المصدر السابق (7/395) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (7/403) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (7/405) .

(6)

انظر: المصدر نفسه (7/440) وما بعدها.

(7)

انظر: المصدر نفسه (8/24) وما بعدها.

ص: 867

وهذا كله يدل على أن كلام العلماء قائم على بيان تنوع الطرق المؤدية إلى المعارف، يقول شيخ الإسلام، معلقاً:" فطرق المعارف متنوعة في نفسها، والمعرفة بالله أعظم المعارف، وطرقها أوسع وأعظم من غيرها، فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفياً عاماً لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه، فإن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل "(1) .

د - أن كثيراً ممن يوجب هذه الطريقة ويصححها - أي طريقة حدوث الأجسام - قد رجع عن ذلك، وتبين لهم ذم هذا الكلام، وذلك مثل الجويني والغزالي والرازي وغيرهم (2) ، وقد استشهد شيخ الإسلام بكلام الجويني (3) ، وبكلام الأشعري في اللمع حيث عول على دليل حدوث صفات الأجسام (4) ، وبين شيخ الإسلام أن دليله - وإن لم يكن هو دليل القرآن القائم على إثبات حدوث الأجسام نفسها وإيجادها من عدم - إلا أنها أحسن وأكمل من دليل الأعراض الذي يوجبه كثير من هؤلاء، ثم نقل كلام الباقلاني في شرح اللمع ورد عليه تحوير كلام الأشعري بأنه يقصد دليل الأعراض، وقد أطال شيخ الإسلام النقول عن الباقلاني وعلق عليها كثيراً (5) ، وأشار إلى ذلك مبيناً أن طريقة الأشعري خير من طريقة الباقلاني، وطريقة الباقلاني خير من طريقة المعتزلة (6) .

هـ - ركز على بيان دليل الفطرة، والأحاديث الواردة فيها، ثم نقل أقوال

(1) انظر: درء التعارض (8/46) .

(2)

انظر: درء التعارض (8/47-348) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (8/47-51)

(4)

انظر: المصدر نفسه (8/70-73) ، وانظر تعليقات شيخ الإسلام في (8/100،335-336) .

(5)

انظر كلام الباقلاني في درء التعارض (8/81،103-106)، وقد رد عليه شيخ الإسلام من وجهين: أحدهما: (8/106) ، والثاني (8/310) ، وذكر بينهما كلاماً طويلاً تضمن مناقشات بين الفلاسفة والمتكلمين حول ترجيح الممكن بلا مرجح، وبين تناقضهم جميعاً.

(6)

انظر: درء التعارض (8/303-304) .

ص: 868

العلماء في المراد بها (1) ، ورجح أن المقصود بها فطرة الإسلام (2) ، وذكر أن الأدلة العقلية تدل على صدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن كل مولود يولد على الفطرة (3)، ثم استشهد بقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56) ، وذكر الخلاف في الآية حول المقصود بالعبادة، وهل وقعت منهم جميعاً أو من بعضهم (4) ، ثم بين أنه على جميع الأقوال فالآية دالة على " أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به، مقرون بعبوديته طوعاً وكرها، وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم، وأنه لم ينفك عنها أحد منهم، مع العلم أن النظر المعين الذي يوجبه الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم، فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر"(5) .

وبعد أن ربط بين موضوع الفطرة وما يقوله كثير من أهل الكلام وغيرهم من أن المعرفة قد تحصل بغير العقل (6)، قال شيخ الإسلام:" قد ذكرنا ماتيسر من طرق الناس في المعرفة، ليعرف أن الأمر في ذلك واسع وأن ما يحتاج الناس إلى معرفته، مثل الإيمان بالله ورسوله، فإن الله يوسع طرقها وييسرها، وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلاً عظيماً، وليس الأمر كما يظنه كثير من أهل الكلام من أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعينونها "(7) .

والطرق التي سلكها هؤلاء في إثبات حدوث العالم جمعت وصفين: " أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها، ولا هي مع هذا برهانية، فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور "(8) ، وقد سبقت الإشارة إلى نقد ابن رشد

(1) انظر: درء التعارض (8/359) ، إلى نهاية الجزء، وقد اعتمد في نقل الأقوال فيها على ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد، انظر: درء التعارض (8/366-444) ، وقارن النصوص بما في التمهيد في الجزء المطبوع أخيراً (18/57-93) ، مع ملاحظة أن النقول فيها تقديم وتأخير.

(2)

انظر: درء التعارض (8/371-410) .

(3)

انظر: المصدر السابق (8/456) وما بعدها.

(4)

انظر: المصدر نفسه (8/468-479) .

(5)

درء التعارض (8/479-480) ، وانظر أيضاً (8/482) .

(6)

انظر: المصدر السابق (9/3-66) .

(7)

المصدر نفسه (9/66) .

(8)

المصدر نفسه (9/75) .

ص: 869

الفيلسوف لطرق المتكلمين (1) ، وطرق الفلاسفة والمتكلمين كلها باطلة، ومنشأ ضلالهم أنهم نفوا صفات الله وأفعاله القائمة بنفسه (2) .

و ذكر مسألة صفات الله ضمن ما نقله عن ابن رشد، فذكر صفة العلم، وأطال حولها الكلام راداً على الفلاسفة نفاة علم الله بالجزئيات (3) ، كما ذكر صفة الإرادة (4) ، والكلام (5) ، والسمع والبصر (6) ، ثم ذكر مسألة التنزيه، وما يتعلق به من مسألة التجسيم (7) . ثم قال معلقاً:" وهذه الطرق التي يسلكها نفاة الجسم وأمثالهم أحسن أحوالها أن تكون عوجاً طويلة قد تهلك، وقد توصل؛ إذ لو كانت مستقيمة موصلة لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة؟ ولا ريب أن الذين يعارضون الكتاب والسنة إنما يعارضونها بطرق هؤلاء، فهم يعرضون عن كتاب الله في أول سلوكهم ويعارضونه في منتهى سلوكهم وقد قال تعالى:) {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:123-124) ، فقد بين أن حذاق الفلاسفة أيضاً يثبتون أن التصديق بما جاء به الشارح لا يتوقف على شيء من الطرق الكلامية المحدثة، ولا شيء من طرقهم الفلسفية"(8) .

فالصفات ثابتة لله تعالى، والأدلة العقلية توافق الأدلة النقلية في إثباتها، والفلاسفة أقروا بهذه الصفات على وجه الإجمال، فدل ذلك على أن من زعم أن شبهة التركيب أو التجسيم قاطعة في وجوب نفي صفات الله أو بعضها؛ فقوله من أعظم البهتان والباطل.

(1) انظر: درء التعارض (9/68-379) .

(2)

انظر: المصدر السابق (9/252) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (9/379-434، 10/3-196) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (10/197-199) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (10/199-224) .

(6)

انظر: المصدر نفسه (224-225) .

(7)

انظر: المصدر نفسه (10/225) إلى نهاية الكتاب.

(8)

درء التعارض (10/316-317) .

ص: 870

وبهذه الأدلة والمناقشات يتبين أن هذه العقليات التي ذكرها أصحاب هذا القانون ليست مما يتوقف صحة السمع عليها، بل هي باطلة، ومعرفة الله ومعرفة حدوث العالم تعلم بطرق عديدة منها الضرورة والفطرة التي تحصل عند العبد، وإذا كان كذلك فما ادعاه هؤلاء من أن معرفة الله ومعرفة حدوث العالم لا يعلم إلا بهذا الطريق الذي ذكروه غير صحيح، فبطل قانونهم، والحمد لله رب العالمين.

*

*

*

هذا ملخص منهج شيخ الإسلام في بيان عدم تعارض العقل والنقل، والرد على الأشاعرة - وغيرهم- في قانونهم الفاسد الذي ردوا به كثيراً من النصوص وتأولوها تأويلات باطلة، ولاشك أن المسألة خطيرة وذات جذور عميقة - ضل بسببها كثير من الناس - ومن ثم أفرد لها شيخ الإسلام هذا الكتاب الفريد.

ص: 871