الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم
.
وهذا من الأصول العامة في منهج شيخ الإسلام في رده على الأشاعرة، الذين ابتدعوا أموراً لم تكن عند السلف، بل خالفت مذهبهم وعقيدتهم، فانحرفوا عن المنهج الحق، ووقعوا في كثير من الباطل، والتزموا لوازم كثير من بدع المعتزلة والمتفلسفة، فبين شيخ الإسلام أن مذهب السلف هو الحق والموافق للكتاب والسنة، وأنهم أعرف الناس وأحسنهم فهما للنصوص، وأن كل ما خالف عقيدتهم، أو عارض ما كانوا عليه أو ما فهموه من الكتاب والسنة فهو باطل يجب رده وتحذير أمة الإسلام منه. كما بين أنه إذا كان في الكتاب والسنة ما يغني ويكفي، فالمرجع في تمييز هذه القاعدة المسلمة وتحقيقها هو ما أجمع عليه السلف أو قالوه بياناً وتفسيراً وشرحاً.
ولما كان أهل الكلام - وفيهم الأشاعرة - قد ابتدعوا بعض الأصول والقواعد العقلية المخالفة لمذهب السلف - اضطروا وهم يواجهون معارضة علماء أهل السنة والجماعة إلى أن يبرروا مخالفتهم لمذهب السلف، فجاءت لهم بعض المقالات الغريبة، مثل ما حكاه ابن تيمية عن بعض النفاة أنه قال:" إن طريقة الخلف أعلمن وأحكم، وطريقة السلف أسلم (1) ، لأن طريقة الخلف فيها معرفة النفي، الذي هو عنده الحق، وفيها طلب التأويل لمعاني نصوص الإثبات، فكان في هذه عندهم علم بمعقول، وتأويل لمنقول، ليس في الطريقة التي ظنها السلف، وكان فيه أيضاً رد على من يتمسك بمدلول النصوص، وهذا عنده من إحكام تلك الطريق، ومذهب السلف عنده عدم النظر في فهم النصوص، لتعارض الاحتمالات، وهذا عنده أسلم، لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معانٍ، فتفسيره ببعضها دون بعض فيه مخاطرة، وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة"(2) .
فهذا ظن أن مذهب السلف هو الإيمان المجرد بألفاظ النصوص، دون فهم لمعانيها ومدلولاتها، ولذلك علّق شيخ الإسلام على هذا بقوله: " فلو كان قد
(1) انظر: حول هذه المقولة إتحاف السادة المتقين (2/112) .
(2)
درء التعارض (5/378) .
بين وتبين لهذا وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات، وفهم ما دلت عليه، وتدبره وعقله، وإبطال طريقة النفاة، وبيان مخالفتها لصريح المعقول وصحيح المنقول، علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم، وأهدى إلى الطريق الأقوم، وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به، وفهم ذلك ومعرفته، وأن ذلك هو الذي هو الذي يدل عليه صريح المعقول، ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب، وأن طريقة النفاة المنافية لما أخبر به الرسول طريقة باطلة شرعاً وعقلاً، وأن من جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الآيات، وعدم إثبات ما تضمنته من الصفات فقد قال غير الحق، إما عمداً، وإما خطأ، كما أن من قال على الرسول أنه لم يبعث بإثبات الصفات، بل بعث بقول النفاة كان مفترياً عليه " (1) ، فشيخ الإسلام يبين أول سبب أدى إلى مثل هذه المقالة وهو جهل هؤلاء بحقيقة مذهب السلف، وأنهم لو عرفوه حق معرفته على الوجه الحق لعلموا أن مذهب السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى، ولكن لما جهلوا حقيقة مذهبهم ظنوا أن الخلف جاءوا بالحقائق العقلية المقنعة، وأن السلف كان مذهبهم مجرد التسليم.
ثم هناك مسألة أخرى هي أن الصحابة رضي الله عنهم ما عرف عنهم تلك المقدمات العقلية التي يوردها أهل الكلام في كتبهم، وقد حكى شيخ الإسلام عن الجويني أنه علل ذلك بأمور فيها نوع تجهيل للصحابة وإنقاص من منزلتهم في الإيمان والعلم، يقول شيخ الإسلام:" وقد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه يذكر ما ظاهره الاعتذار عن الصحابو، وباطنه جهل بحالهم مستلزم - إذا طرد - الزندقة والنفاق، فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين، ولم يقرروا قواعده، فقال لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك، هذا مما في كلامه "(2) ،
وقد بين شيخ الإسلام الدافع لهؤلاء أن يقولوا مثل هذا الكلام، فيقول: " وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون
(1) درء التعارض (5/378-379) .
(2)
لم أجد هذا الكلام فيما هو مطبوع من كتب الجويني، ولعله في كتاب الشامل الذي لم يطبع إلا جزء منه، أو في أحد كتبه الأخرى المخطوطة أو المفقودة، وقد سبق عند الحديث عن الجويني وعقيدته ومنهجه نقل نص قريب من هذا. انظر (ص:619) ..
أنها أصول الدين قد علموا أن الصحابة لم يقولوها، وهم يظنون أنها أصول صحيحة، وأن الدين لا يتم إلا بها، وللصحابة رضي الله عنهم أيضاً من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة، ولكن أخذوا من الرفض شعبة، كما أخذوا من التجهم شعبة، وذلك دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم حين غلب على الرافضة التجهم وانتقلت عن التجسيم إلى التعطيل والتجهم، إذ كان هؤلاء نسجوا على منوال المعتزلة لكن كانوا أصلح منهم وأقرب إلى السنة وأهل الإثبات في أصول الكلام، ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا محمد بن التومرت المتبع لأبي المعالي أمثل وأقرب إلى الإسلام من المغاربة الذين اتبعوا القرامطة وغلوا في الرفض والتجهم، حتى انسلخوا من الإسلام، فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هي أصول الدين، الذي لا يتم الدين إلا بها، وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد، وهم في ذلك بمنزلة كثير من جندهم ومقاتلتهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسية للملك والقتال فيها الحق والباطل، ولم نجد تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة، ولم يمكنهم القدح فيهم، فأخذوا يقولون: كانوا مشغولين بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه، وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة، وعلمهم، ودينهم، وقتالهم، [ومن (1) ]
كان لا يعرف حقيقة أحوالهم، فلينظر إلى آثارهم، فإن الأثر يدل على المؤثر، هل انتشر عن أحد المنتسبين إلى القبلة أو عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم، أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقاً، باطناً وظاهراً، وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله، وفعلهم لأمر الله
…
والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول ثم الثاني أكثر من أن تذكر، ومعلوم أن أم الفضائل العلم والدين والجهاد، فمن ادعى أنه حقق من العلم بأصول الدين أو من الجهاد ما لم يحققوه كان من أجهل الناس وأضلهم، وهو بمنزلة من يدعي من أهل الزهد
(1) في المطبوعة من التسعينية " ومن "..
والعبادة والنسك أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة " (1) . فشيخ الإسلام يذكر ثلاث طوائف ادعت كل طائفة أنها حققت ما لم يحققه الصحابة:
- المتكلمون: في مقدماتهم العقلية وأصولهم الفلسفية.
- وأهل السياسات في سياساتهم في الملك والجهاد المشتملة على الحق والباطل.
- وأهل التصوف في أحوالهم ومقاماتهم.
والعجيب أن المتكلمين يقولون: إن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد والقتال في سبيل الله، وأهل السياسات البدعية يقولون: إن الصحابة كانوا مشغولين بالعلم والعبادة عن أبهة الملك وسياستهم فيه. أما أهل التصوف والأحوال فقد بلغ بهم ما هو أشد حين فضل غلاتهم نفوسهم وطرقهم على الأنبياء وطرقهم (2) .
ولما كانت مسألة مزية السلف من الصحابة وغيرهم من أهل القرون المفضلة، وكونهم أحق الناس بوصف الاتباع والإيمان، وأكثر الناس فهماً عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ركز شيخ الإسلام ابن تيمية على تقرير ذلك بالطرق التالية:
1-
بيان عظم منزلة الصحابة رضي الله عنهم ولقد صار هذا شعاراً واضحاً لأهل السنة، يذكرونه في عقائدهم، ويبينون فيها منزلتهم، وأن كل من تنقص أحداً منهم فقيه شعبة من شعب الرفض، كما صار علماء أهل السنة يرجعون إلى أقوالهم ويتمسكون بها في العقائد، وينقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال في رسالة عبدوس بن مالك العطر - أحد رفقاء الإمام أحمد الذين يأنس بهم ويقدمهم - " أصول السنة عندنا التمسك
(1) التسعينية (ص: 256-257) .
(2)
أشار إلى ذلك شيخ الإسلام في المصدر السابق (ص:257) .
بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ويقول شيخ الإسلام في معرض الرد على الغزالي، مبيناً منزلة الصحابة:" وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة، وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم، ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة (2) ، ولا تجد إماماً في العلم والدين كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، ومثل الفضيل، وأبي سليمان، ومعروف الكرخي، وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدي بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب، والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية، وهم أهل الحديث والسنة العالمون بطريقتهم، المتبعون لها، وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر، فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين لم يذكرهم أبو حامد "(3) .
ونقل شيخ الإسلام عن الشيخ أبي الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه " الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول " لما تحدث عن التأويل الذي قد يرد عن السلف، مثل استوى: استقر: (وهو معكم) أي علمه، قال: " إن كان السلف صحابياً فتأويله مقبول، متبع، لأنه شاهد الوحي والتنزيل، وعرف التفسير والتأويل، وابن عباس من علماء الصحابة، وكانوا يرجعون إليه في علم التأويل.. فأما إذا لم يكن السلف صحابياً نظرنا في تأويله فإن تابعه عليه الأئمة المشهورن (4) من نقله الحديث والسنة ووافقه الثقات الإثبات تابعناه، وقبلناه ووافقناه، فإنه لم يكن إجماعاً حقيقة إلا أن فيه مشابهة الإجماع، إذ هو سبيل
(1) مجموع الفتاوي (4/155) ، وانظر النص في رسالة عبدوس بن مالك - مع ترجمته في طبقات الحنابلة (1/241) .
(2)
الذين ذكر الغزالي أن فرق الطالبين للحق انحصرت فيهم، وهم: المتكلمون والباطنية، والفلاسفة والصوفية، انظر المنقذ من الضلال (ص:89) .
(3)
شرح الأصفهانية (ص: 89) .
(4)
في المخطوطة: المشهورين.
المؤمنين، وتوافق المتقين، الذين لا يجتمعون على الضلالة" (1) .
وفي مكان آخر يبين شيخ الإسلام أن الصحابة كانوا أعلم الناس بالقرآن ومعانيه (2) ، وأنهم كانوا يجادلون أهل الأهواء ويفحمونهم بالحجة والبرهان (3) ، وأنهم كانوا يسألون عما يشكل عليهم، ويذكر نماذج عديدة لذلك (4) ، كما بين الصحابة إذا تنازعوا فإنهم يردون ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، ويذكر لذلك بعض الأمثلة المشهورة (5) ، والصحابة كان منهجهم التسليم ولم تكن تلك النصوص والأخبار التي يتلقونها عن الله ورسوله تعارض معقولاتهم، ولو وقع شيء من ذلك لأوجب الحيرة والألم والفساد (6) .
2-
أن السلف عموماً - وفيهم الصحابة - أكمل الناس علماً، وأدقهم نظراً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وإذا كانوا كذلك فإليهم وإلى أقوالهم يجب الرجوع:
أ - يقول شيخ الإسلام: " ومن تدبر كلام أئمة السنة والمشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظراً، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة:176) ، ولهذا قال الإمام أحمد
(1) نقض التأسيس المخطوط (3/216-217) .
(2)
انظر: نقض التأسيس المخطوط (2/71-71) .
(3)
انظر: تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل، لابن تيمية، قطعة منه نقلها ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص: 31) .
(4)
انظر: درء التعارض (7/45-55) .
(5)
انظر: المصدر السابق (1/272-273) .
(6)
انظر: الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوي (13/29) ، وانظر درء التعارض (7/44-45) .
في أول خطبته فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية: " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب.. "(1) ، وقد قام هؤلاء - وفيهم الإمام أحمد - بواجبهم في الدفاع عن مذهب السلف، ومقاومة أهل البدع فرحمهم الله جميعاً.
ب - ويقول شيخ الإسلام في معرض رده الطويل على الرازي حول المحكم والمتشابه: " أهل السنة وأهل المعرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والطائفة المتبعون لذلك هم أكمل علماً وعملاً من غيرهم، فهم أعلم الناس يقيناً ومعرفة لاتباعهم، متابعة الرسول لهم بكلامه، وعلمهم بذلك ونطقهم به "(2) .
جـ - ويقول أيضاً: " وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علماً، وأبر قلوباً، وأقل تكلفاً، وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم، وقبلوا الحق وردوا الباطل "(3) .د - ويشرح شيخ الإسلام سبب كونهم أعلم وأحكم فيقول: " وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم، وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو، فنبين ذلك بالقياس المعقول من غير احتجاج بنفس الإيمان بالرسول، كما قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت:53) ، فأخبر أنه
(1) انظر: درء التعارض (2/301-302)، وكلام الإمام أحمد في أول الرد على الزنادقة والجهمية (ص: 52) ، ضمن عقائد السلف، (ص:85) ت عميرة.
(2)
نقض التأسيس المخطوط (2/319) .
(3)
انظر: درء التعارض (3/454) ، وانظر أيضاً (7/387) .
سيريهم الآيات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق، ثم قال:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)، أي بإخبار الله ربك في القرآن وشهادته بذلك فنقول: من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى، مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة، والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق، ونحو ذلك، ونحو ذلك، وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهمن فراسةً، وأصدقهم إلهاماً، وأحدّهم بصراً ومكاشفةً، وأصوبهم سمعاً ومخاطبةً، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً، وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل، فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم
كذلك ممتعين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه، قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} (محمد:17)، وقال:{فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً* وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً* وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء: 66-68)(1)، ثم بين شيخ الإسلام أن ذلك يعلم بعدة أمور:
- تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم حيث يتبين أن الحق معهم.
- وتارة بإقرار واعتراف مخالفيهم: إما برجوعهم إلى مذهب السلف أو بشهادتهم على مخالفي مذهب السلف بالضلال.
- وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض.
- وتارة باعتصام كل طائفة بهم فيما خالفت فيه الطائفة الأخرى (2) .
(1) نقض المنطق (ص:7-8) .
(2)
انظر: المصدر السابق (ص:8) وما بعدها.
3-
أن أهل الحديث من السلف قاموا بمهمة كبرى، وتحملوا مسؤولية عظمى كان من آثارها أن تميزت هذه الأمة بميزة لم تكن لغيرها من الأمم، وذلك بما صار للمسلمين من خاصية الإسناد والرواية، التي حفظت بها معاني القرآن من أن يدخل فيها بالتحريف والتبديل، وحفظت بها السنة من أن يدخل فيها بالزيادة أو النقص، فنشأ علم الجرح والتعديل، وصدقهم أو كذبهم، ومعرفة الرواة ونقد الرجال أو فسقهم، بل فوق ذلك فيما يتعلق بقوة ضبطهم وحفظهم أو خفة ضبطهم ونسيانهم التي يتفاوت فيها حتى أهل الصلاح والتقوى، والعمل الصالح، فأهل الحديث بهذه الميزة صاروا - بتوفيق الله لهم - هم الأمناء على تبليغ وحي الله تعالى وحفظه، وإذا كانوا كذلك فهل من المعقول أن يعاملوا كغيرهم من الناس أو أن ينظر إلى علمهم وفقههم في دين الله كما ينظر إلى من عداهم ممن ليس له في تلك الجهود العظيمة نصيب، يقول شيخ الإسلام: " أقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان..
وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيها لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة، ما هو عن أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب، وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمر حببه الله إليهم وحلاه ليحفظ بذلك دين الله كما جعل البيت مثابة للناس وأمناً، يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أموراً مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال، حكمة من الله يحفظ بها الدين، ليهدي المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون" (1) ، ثم يقول: " وأهل العلم
(1) مجموع الفتاوي (1/7-8) .
المأثور عن الرسول أعظم الناس قياماً بهذه الأصول لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم، بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه، ويتكلم في أحب الناس إليه.. ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح من السعي المشكور والعمل المبرور، ما كان من أسباب حفظ الدين، وصيانته عن أحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات: منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه..
ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظمون نقلة الحديث حتى قال الشافعي رضي الله عنه: إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، وإنما قال الشافعي هذا لأنهم في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم (2)". فهذا الإمام العظيم - الشافعي -الذي تنتسب إليه طوائف عظيمة من الأشعرية هو الذي يحمل لأهل الحديث هذه المنزلة، بل إنه يقول فيهم: " لولا أصحاب الحديث لكنا بياع القول " (3) ، وهو الذي يقول لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل وأصحابه: " أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني إن شاء يكون كوفياً أو بصرياً أو شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً " (4) ، وهؤلاء الذين يقول فيهم الشافعي هذا الكلام ويعترف لهم هذا الاعتراف هم الذي يصمهم بعض الأشعرية بأنهم حشوية.
وأهل الحديث لاشتغالهم بخدمة السنة وروايتها فهم: " أخص بمعرفة ما جاء
(1) رواه البيهقي في المدخل (ص: 391) ، ورقمه (689) ، وفي مناقب الشافعي (1/477) ، كما رواه أبو نعيم في الحلية (9/109)، ورواه أيضاً الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 46) ، لكن بلفظ:" إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حياً ".
(2)
مجموع الفتاوي (1/10-11) .
(3)
مناقب الشافعي (1/477) .
(4)
المدخل للبيهقي (ص: 172-173) ، ورقمه (173-174) ، ومناقب الشافعي (47641) ، وآداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي (94-95) ، وأبو نعيم في الحلية (9/170)، وابن عبد البر في الانتقاء (ص: 75) ، وتذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص: 29) ، وانظر أعلام الموقعين (2/288) ، ت الوكيل.
به الرسول، ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته، ليس له معرفة بذلك، ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأمثلة لكان في الشرع مثل آحاد الجهّال من العامة" (1) . والسلف المتقدمون أعظم تحقيقاً ممن جاء بعدهم، " ومن أتاه الله علماً وإيماناً علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف، لا في العلم، ولا في العلم، ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات والعمليات علم أن مذهب الصحابة دائماً أرجح من قول من بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ وكان الصواب قد سبق إليه من قبله " (2) .
فهؤلاء هم أهل الحديث وهم أعلام السلف، نقلوا السنة وفهموها، وكان علمهم بها بلغ منزلة لا يمكن أن يصل إليها من جاء بعدهم، وهذا في كل ما نقلوه من أحاديث الأحكام والعقائد والآداب وغيرها.
4-
وجوب الرجوع إلى كلام الصحابة والسلف في فهمهم للعقيدة وشرحهم لها، وهذه من القضايا الأساسية في باب العقائد، لأن القرآن الكريم وصل إلينا دون تحريف، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلت إلينا، وميز الصحيح منها عن الضعيف، ولكن من الذي يشرح نصوص الكتاب والسنة ويفسرها، ويوضحها للناس، ويستخلص منها ما يجب اعتقاده، هل يترك هذا لكل متكلم برأيه وهواه وفهمه القاصر أن يقول فيها ما يراه حقاً وصواباً؟ ثم حين يقع الاختلاف بين الناس في فهم بعض النصوص فمن الذي يرجع إليه في بيان الحق من الباطل؟.
لقد أولى شيخ الإسلام وهو يرد على أهل الكلام - من الأشاعرة وغيرهم - هذه المسألة اهتماماً كبيراً، فبين أن تفسير النصوص - خاصة ما وقع فيه خلاف بين المتأخرين، - يجب الرجوع فيه إلى فهم الصحابة والسلف، وإلا انفتح لكل متأوّل وفيلسوف وقرمطي وصوفي غال أن يفسر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يشاء، وقد جاء تقرير شيخ الإسلام لذلك كما يلي:
(1) انظر: درء التعارض (7/32) .
(2)
الإيمان (ص: 417) ، ط المكتب الإسلامي.
أ- بيانه أن الصحابة والسلف كانوا عالمين بتفسير النصوص، عارفين بدلالاتها، وأنهم بلغوها وعلموها من جاء بعدهم، يقول شيخ الإسلام في الحموية: " ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك: إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع:
" أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، أعني بيان ما يجب اعتقاده، لا معرفة كيفية الرب وصفاته، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى - الذي هو من أقوى المقتضيات - أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة، في مجموع عصورهم؟ هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدني والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟ ".
" وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم "(1) .
وقد واجه شيخ الإسلام بهذا الكلام أشاعرة عصره الذين كانوا في وقتهم يعولون على تأويلات الجويني والغزالي والرازي والآمدي في كتبهم الكلامية، التي خالفوا فيها مذهب الصحابة والسلف، وأتوا بتأويلات لنصوص الصفات وغيرها لم يعرفها السلف وخير القرون.
ب - أنه يجب الرجوع إلى ما قاله الصحابة والسلف حول النصوص، لأن أقوالهم هي التي تفصل الخلاف في هذا الباب، يقول شيخ الإسلام - في معرض الرد على الرازي -: " والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف
(1) الحموية، مجموع الفتاوي (5/7-8) .
ألفاظه الصحيحة، وما فسرها به الذي تلقوا عنه اللفظ والمعنى، ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها، وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات " (1) . ومعنى ذلك أنه لابد من ثلاثة أمور:
- معرفة الألفاظ الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتمييزها عن الأحاديث والألفاظ الضعيفة والباطلة.
- ثم بمعرفة ما فسرها به الصحابة الذين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظ النصوص ومعانيها، فهم أعرف الخلق بها.
- ثم ونحن نتلقى ما قالوه في تفسيرهم وشرحهم للنصوص لابد من معرفة اللغة والمصطلحات التي كانوا يتخاطبون، حتى لا تختلط بالمصطلحات الحادثة التي جاءت عند المتأخرين وهي تحمل معاني ودلالات خاصة.
وبهذا الفهم والتدرج في تلقي عقيدة السلف، وتفسيرهم لنصوص الكتاب والسنة، نأمن من الخطأ والزلل في تفسير النصوص، أو تحميل أقوالهم وعباراتهم ملا تتحمله من المعاني الفاسدة.
جـ - ولما كان شيخ الإسلام في مصر - إبان محنته المشهورة - سنة 712هـ، حصل نزاع بين بعض المغاربة المالكين حول صفات الله والعلو على العرش: هل يجب معرفة هذا والبحث عنه، أو أنه يكره، والقائل به مجسم حشوي، وما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو على العرش؟ (2) .
وقد أجاب شيخ الإسلام بجواب عظيم سمي بالقاعدة المراكشية، وهي من القواعد المهمة والنادرة لشيخ الإسلام، وقد بين فيها أن الصحابة والتابعين تلقوا العلم والعمل جميعاً، وأنهم كانوا أشد الناس حرصاً على تفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بهما، وكيف لا يكونون كذلك وأبو عبد الرحمن السلمي
(1) نقض التأسيس المطبوع (1/159) .
(2)
انظر: القاعدة المراكشية (ص: 23-24) ، محققة.
يقول: " لقد حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله ابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً "(1) ،وأقام عبد الله بن عمر في تعلم البقرة ثماني سنين (2) .؟
ثم قال شيخ الإسلام: " وهذا معلوم من وجوه:
"
أحدهما: أن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن المنزل عليهم، لفظاً ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قدعلم أنه من قرأ كتاباً في الطب أو الحساب أو النحر أو الفقه، أو غير ذلك فإنه لابد أن يكون راغباً في فهمه وتصور معانيه، فكيف بمن قرأوا كتاب الله المنزل إليهم الذي به هداهم الله، وبه عرفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشد والغي، فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثاً فإنه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه؟ بل ومن المعلوم أن رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعريفهم معاني القرآن العظيم أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود إذ اللفظ إنما يراد للمعنى ".
" الوجه الثاني: أن الله قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (صّ:29) ،
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (5/410) ، والحاكم في المستدرك (1/557) ، والطبري في تفسيره (1/80) ، ط شاكر، كلهم من طريق عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي، كما صححه أحمد شاكر في حاشية الطبري، ولكن الهيثمي قال في مجمع الزوائد (1/165)،: " في إسناده عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره (انظر في ترجمة عطاء الكامل 5/1999، وميزان الاعتدال 3/70، والكاشف 2/265، وتهذيب التهذيب 7/203) ، ومما يلاحظ أن الذين رووا عن عطاء عند أحمد والحاكم والطبري هم شريك، وجرير، وابن فضيل، وهؤلاء ذكر ابن حجر وغيره أنخم رووا عن عطاء بعد اختلاطه - انظر التهذيب - حيث نص على ذكر جرير وابن فضيل، وأدخل معهما من كان في طبقتهما، وشريك من طبقتهما، والحديث يتقوى بالطريق الآخر الذي رواه ابن جرير، قبل الحديث السابق - عن الأعمش عن شقيق عن ابن سعود - وقد صححه أحمد شاكر.
(2)
رواه مالك في الموطأ كتاب القرآن، باب ما جاء في القرآن (1/205) .
وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24)، وقال تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون:68)، وقال تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82) ، فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره على أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكو ذلك ممكناً للمؤمنين، وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم".
"
الوجه الثالث: أنه قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2)، وقال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف:3) ، فبين أنه أنزله عربياً لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه".
" الوجه الرابع: أن ذم من لا يفهمه: فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} (الاسراء:45-46) ، وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء:78) ، فلو كان المؤمنون لا يفقهوه أيضاً لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله به ".
"
الوجه الخامس: أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (البقرة:171)، وقال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:44)، وقال:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد:16) ، وأمثال ذلك، وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفهموا، وقالوا: ماذا قال آنفاً؟ أي الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله، فقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد: 16) ، فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله عليه".
"
والوجه السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم فسروا للتابعين القرآن، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أوقفه عند كل آية وأسأله عنها (1)، ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به (2)، وكان ابن مسعود يقول:" لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته "(3) ، وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقلوا عنه من التفسير ما لم يحصه إلا الله، والنقول في ذلك عن الصحابة والتابعين معروفة عند أهل العلم بها " (4) . فهذه الوجوه دالة على أن الصحابة كانوا أعلم الناس بما دلت عليه النصوص ولذلك فإليهم المرجع في تفسير النصوص وفهمها.
د - أن ما وجد من خلاف بين الصحابة في تفسر القرآن لم يكن من اختلاف التباين الذي تتعارض فيه الأقوال، وإنما هو من اختلاف التنوع حيث يصدق الأقوال بعضها بعضاً، يقول شيخ الإسلام:" عامة تفاسير السلف ليست متباينة، بل تارة يصفون الشيء والواحد بصفات متنوعة، وتارة يذكر كل منهم من المفسِّر نوعاً، أو شخصاً على سبيل المثال لتعريف السائل، بمنزلة الترجمان الذي يقال له ما الخبر فيشير إلى شيء معين على سبيل التمثيل "(5)، ويقول أيضاً جواباً لاعتراض يقول: أن الصحابة اختلفوا في تفسير القرآن اختلافاً كثيراً ولو كان ذلك معلوماص عندهمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا فيه - يقول شيخ الإسلام: " يقال: الاختلاف الثابت عن الصحابة، بل وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره لا يخرج عن وجوه:
"
أحدهما: أن يعبر كل منهم عن معنى الإسلام بعبارة غير عبارة صاحبه..
(1) رواه الطبري في تفسيره (1/90) رقم 108.
(2)
رواه الطبري في تفسيره (1/91) رقم 109.
(3)
رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورقمه 5002، فتح الباري (9/47) .
(4)
القاعدة المراكشية (ص: 29-32) .
(5)
نقض التأسيس المخطوط (2/67) ، وانظر أيضاً (2/347-352) .
ومثال هذا في التفسير كلام العلماء في تفسير الصراط المستقيم، فهذا قول: هو الإسلام، وهذا يقول: هو القرآن أي اتباع القرآن، وهذا يقول: هو السنة والجماعة، وهذا يقول طريقة العبودية، وهذا يقول: طاعة الله ورسوله (1) ، ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها، ويسمى بهذه الأسماء كلها، ولكن كل منهم دل المخاطب على النعت الذي يعرف به الصراط وينتفع بمعرفة ذلك النعت ".
" والوجه الثاني: أن يذكر كل منهم من تفسير الاسم بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب، لا على سبيل الحصر والإحاطة..".
" الوجه الثالث: أن يذكر أحدهم لنزول الآية سبباً، ويذكر الآخر سبباً آخر لا ينافي الأول.. "(2) ، وبعد أن فصل شيخ الإسلام الكلام حول هذا الموضوع في مكان آخر (3)، يقول معقباً:" وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جداً، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين، ومع هذا فلابد من اختلاف مخفف بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الإحكام "(4) .
هؤلاء هم السلف من الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، وهذه حالهم علماً وفهماً، وحرصاً على تبليغ هذا الدين لمن بعدهم، فكيف لا يكونون هم الأعلم والأحكم، وكيف لا يكون طريقهم هو الطريق الأسلم، بل كيف يجرؤ أن يقول قائل: إنه قد يأتي أحد ممن جاء بعدهم يكون أعلم في دين الله وبما يجب لله منهم؟.
(1) انظر: تفسير " الصراط المستقيم " من سورة الفاتحة في تفسير الطبري، وابن أبي حاتم، مطبوع على الآلة الكاتبة، وابن الجوزي، وابن كثير، والدر المنثور للسيوطي.
(2)
القاعدة المراكشية (ص: 32-34) .
(3)
انظر: مقدمة في أصول التفسير (ص: 38-54) .
(4)
مقدمة في أصول التفسير (ص:54) .
رابعاً: أن علم الكلام (1) مذموم.
من أصول منهج ابن تيمية الكبرى في الرد على الأشاعرة أنه وصمهم بنهم قد اتبعوا أهل الكلام المذموم في أقوالهم التي خالفوا فيه الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وكان من أهم المسائل الكلامية التي خاض فيها الأشاعرة مخالفين لمذهب أهل السنة والجماعة.
- مسألة إيجاب النظر، وأنه أول واجب على المكلف.
- ومسألة دليل حدوث الأجسام على إثبات الصانع.
- نفي ما عدا الصفات السبع عن الله تعالى من الصفات الفعلية والخبرية. وقولهم بنفي التجسيم الذي رتبوا عليه نفي الصفات.
- تقديم العقل على الشرع عند توهم تعارضهما.
- الميل في باب القدر إلى مذهب الجهمية، وفي باب الإيمان إلى مذهب المرجئة.
- دعوى أن أخبار الآحاد لا تفيد العلم فلا يحتج بها في العقائد.
- وضع المقدمات العقلية والفلسفية في كتبهم ومباحثهم العقدية.
وقد تفرعت عن هذه الأصول الكبار مسائل متعددة متفرقة كانوا في كل واحدة منها سالكين ومتابعين لأقوال طائفة أو فرقة من الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة.
(1) ذكر المتأخرون عدة أقوال في سبب تسميته بعلم الكلام، منها: أن مبناه على الكلام في المناظرات، أو لشبهه بالمنطق، أو أن العلماء بوبوا لهم بقولهم: الكلام في كذا، أو لأن أهم قضية في مباحثه مسألة كلام الله، انظر في ذلك: مقدمة ابن خلدون (ص: 429) ، - ط الشعب، وشرح المواقف (1/60) ، وشرح المقاصد (1/6) ، ورسالة التوحيد لمحمد عبده (ص/ 21) ، - ت أبو ريه، وتمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مصطفى عبد الرزاق (ص: 265) ، والفرق الكلامية الإسلامية: مدخل ودراسة لعلي المغربي (ص: 15) ، ودراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، عرفان عبد الحميد، (ص: 136-137) ، وتاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، محمد علي أبو ريان (ص: 130) ، وغيرها.
وقد ركز شيخ الإسلام في مناقشاته الكثيرة المتعددة على هذه المسألة وبين أن ما جاءوا به مما هو مخالف لدين الإسلام فإنما هو من الكلام المذموم والبدع المحرمة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما حذر منها الصحابة وأئمة أهل السنة، ويمكن عرض موقف شيخ الإسلام من هذه المسألة كما يلي:
أ - تحقيقه في نشأة مصطلح " المتكلمون " أو " أهل الكلام " فقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل أن المعتزلة طالعوا كتب الفلاسفة " حين نشرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فناً من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام؛ إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي هذا النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان"(1) ،وقد استشهد صفي الدين الهندي في مناظرته - مع أصحابه الأشاعرة - لابن تيمية بكلام الشهرستاني، فحين قال:" أول مسألة اختلف فيها المسلمون: مسألة الكلام، وسمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك، وكان أول من قالها عمرو بن عبيد"(2) .
عقب شيخ الإسلام بقوله في المناظرة: " قلت: الناس مختلفون في مسألة الكلام في خلافة المأمون وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير، في زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانيةن ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والإحكام والوعيد " - فاعترض صفي الدين الهندي قائلاً: - " هذا ذكره الشهرستاني في كتاب الملل والنحل " فرد شيخ الإسلام بقوله: " الشهرستاني ذكر ذلك في اسم المتكلمين لم سموا متكلمين لم يذكره في اسم المعتزلة.. وأيضاً فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين، فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم قبل تنازعهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء: إنه متكلم ويصفونه بالكلام ولم يكن الناس اختلفوا
(1) الملل والنحل (1/30) .
(2)
مناظرة حول الواسطية: مجموع الفتاوي (3/183)، العقود الدرية (ص: 235) .
في مسألة الكلام" (1) .
وإذا فعلم الكلام الذي ذمه السلف شامل لكل الانحرافات التي وجدت منذ عهد التابعين، وأبرز فرسانه أهل التهجم والاعتزال.
ب - بيانه أن السلف رحمهم الله تعالى مجمعون على ذم الكلام وأهله (2)، ويقول شيخ الإسلام عنهم في ذلك طويلة جداً - وهي مشهورة - وقد نقل عن الإمام الشافعي -وذمه الكلام مشهور - أنه قال:" البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: " نعمت البدعة هذه " (3) ، هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل (4) .. "(5) ، ولا شك أن من أعظم البدع المخالفة للكتاب والسنة ما جاء به أهل الكلام في مسألة الصفات والقدر والإيمان، ولذلك اشتد نكير السلف عليهم، بل وجعلوه من أبواب الإلحاد والزندقة.
وقد حرص شيخ الإسلام وهو يرد على الأشاعرة أن يقرر أن ما ابتدعوه هو من علم الكلام الذي ذمه السلف، وتعددت نقوله عن أئمتهم كالشافعي، وأحمد وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف (6) ، بل ذكر أن بعض العلماء أفردوا
(1) مناظرة حول الواسطية: ومجموع الفتاوي (3/183-184)، العقود الدرية (ص:235-236) .
(2)
انظر عن مواقف بعض السلف من علم الكلام ما سبق (ص:47-49) .
(3)
رواه البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب فضل فضل قيام رمضان، ورقمه 2010، فتح الباري (4/250) .
(4)
المدخل للبيهقي (ص: 206) ، ورواه أيضاً في مناقب الشافعي (1/468-469) ، ورواه مختصراً أبو نعيم في الحلية (9/113) .
(5)
انظر: درء التعارض (1/249) .
(6)
انظر مثلاً: نقض التأسيس المخطوط (2/347) ، ومجموع الفتاوي (5/261-6/243، 16/472-476)، والنبوات (ص:298) ، ودرء التعارض (5/218-8/277)، والتسعينية (ص: 204-207) وغيرها.
كتاباً في ذم الكلام، منهم أبو عبد الرحمن - محمد ابن الحسين - السلمي والشيخ أبو إسماعيل الأنصاري، ونقل من كتابيهما نصوصاً عديدة (1) ، كما نقل أقوال غيرهما كابن عبد البر (2) ، وأبي العباس بن سريح (3) ، والخطابي (4) ، وأبي المظفر السمعاني (5) ، بل وعرض أحياناً لحكم الرواية عن أهل البدع (6) ، وحكم شهادتهم (7) ، ومنهج أهل السنة في هجرهم (8) .
وهذا كله يدل على أجماع السلف على ذم الكلام المبتدع، وأن أحداً منهم لم يقل: إن شيئاً مما ابتدعه هؤلاء في باب العقائد موافق للسنة أو ليس كلاماً مذموماً، والمطلع على أحوال المتكلمين بعلم:" أن جميع ما ابتدعه المتكلمون وغيرهم مما يخالف الكتاب والسنة فإنه باطل، ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة أن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل "(9) .
جـ - أن الأشاعرة قد خالفوا أئمتهم -وأئمة أهل السنة - الذين ثبت عنهم أنهم نهوا عن الكلام، ولابن تيمية في ذلك نص منهم، أظهر فيه غاية الإنصاف حين ضرب المثل بالشافعية والمالكية الحنابلة الذين خالفوا هؤلاء الأئمة الذين ينتسبون إليهم: يقول شيخ الإسلام - بعد كلامه عن الآراء المحدثة والفرق بين البدعة والسنة، وأن الخوارج المارقين هم أول من ضل في هذا الباب، يقول: " وليس المقصود هنا ذكر البدع الظاهرة التي تظهر للعامة أنها بدعة، كبدعة الخوارج والروافض ونحو ذلك، لكن المقصود التنبيه على ما وقع من ذلك في
(1) ذكرهما في منهاج السنة (2/490) ، المحققة، وفي درء التعارض (7/145) ، ونقل عن كتاب الهروي في نقض التأسيس المطبوع (1/269-280)، والسبعينية (ص: 11) ، كما نقل عن كتاب السلمي في التسعينيى (ص: 204-206) .
(2)
انظر: التسعينية (ص: 206) .
(3)
انظر: المصدر السابق الصفحة نفسها.
(4)
انظر: درء التعارض (7/316-317) .
(5)
انظر: نقض التأسيس المطبوع (1/132) .
(6)
انظر: منهاج السنة (1/40-41) ، المحققة.
(7)
انظر: التسعينية (ص: 67) .
(8)
انظر: مجموع الفتاوى (10/376-377) .
(9)
انظر: النبوات (ص:191) .
أخص الطوائف بالسنة، وأعظمهم انتحالاً لها، كالمنتسبين [إلى الحديث مثل مالك والشافعي وأحمد، فإنه لا ريب أن هؤلاء أعظم..] اتباعاً للسنة، وذماً للبدعة من غيرهم، والأئمة كمالك وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي، وغيرهم، يذكرون من ذم المبتدعة وهجرانهم وعقوبتهم ما شاء الله تعالى، وهذه الأقوال سمعها طوائف ممن اتبعهم وقلدهم، ثم إنهم [يخلطون] في مواضع كثيرة السنة بالبدعة، حتى قد يبدلون الأمر، فيجعلون البدعة التي ذمها أولئك في السنة، والسنة التي حمده أولئك هي البدعة، ويحكمون بموجب ذلك، حتى يقعوا في البدع والمعاداة لطريق أئمتهم السنية، وفي الحب والموالاة لطريق المبتدعة، التي أمر أئمتهم بعقوبتهم، ويلزمهم تكفير أئمتهم ولعنهم والبراءة منهم.." (1) ، ثم قال شيخ الإسلام ممثلاً لذلك: " واعتبر ذلك بأمور:
أحدهما: أن كلام مالك في ذم المبتدعة وهجرهم كثير، ومن أعظمهم عندهم الجهمية، الذين يقولون: إن الله ليس فوق العرش، وأن الله لم يتكلم بالقرآن كله، وإنه لا يرى، كما وردت به السنة، وينفون نحو ذلك من الصفات. ثم إنه كثير في المتأخرين من أصحابه من ينكر هذه الأمور، كما ينكرها فروع الجهمية، ويجعل ذلك هو السنة، ويجعل القول الذي يخالفها - وهو قول مالك وسائر أئمة السنة - هو البدعة، ثم إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالك، فبدل هؤلاء الدين، فصاروا يطعنون في أهل السنة".
" الثاني: أن الشافعي من أعظم الناس ذماً لأهل الكلام ولأهل التغيير، ونهياً عن ذلك، وجعلاً له من البدعة الخارجة عن السنة، ثمن إن كثيراً من أصحابه عكسوا الأمر حتى جعلوا الكلام الذي ذمه الشافعي هو السنة وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله، وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها".
" الثالث: أن الإمام أحمد في أمره باتباع السنة ومعرفته بها ولزومه لها، ونهيه عن البدع، وذمه لها ولأهلها، وعقوبته لأهلها بالحال التي لا تخفى.
(1) انظر: الاستقامة (1/13-14) .
ثم إن كثيراً مما نص على أنه من البدع التي يذم أهلها صار بعض اتباعه يعتقد أن ذلك من السنة، وأن الذي يذم من خالف ذلك، مثل كلامه في مسألة القرآن من مواضع: منها تبديعه من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وتجهيمه لمن قال: مخلوق. ثم إن أصحابه من جعل ما بدعه الإمام أحمد هو السنة، فتراهم يحكمون على ماهو من صفات العبد - كألفاظهم وأصواتهم وغير ذلك بأنه غير مخلوق، بل يقولون: هو قديم، ثم إنهم يبدعون من لا يقول بذلك، ويحكمون في هؤلاء بما قاله أحمد في المبتدعة، وهو فيهم، وكذلك ما أثبته من الصفات التي جاءت بها الآثار واتفق عليها السلف، كالصفات الفعلية من الاستواء والنزول والمجيء والتكلم إذا شاء، وغير ذلك، فينكرون ذلك بزعم أن الحوادث لا تحل به، ويجعلون ذلك بدعة، ويحكمون على أصحابه بما حكم به أحمد في أهل البدع، وهمن من أهل البدعة الذين ذمهم أحمد، لا أولئك. ونظائر هذا كثيرة، بل قد يحكي عن واحد (1) ، من أئمتهم إجماع المسلمين على أن الحوادث لا تحل بذاته، لينفي بذلك ما نص أحمد وسائر الأئمة عليه من أنه يتكلم إذا شاء، ومن هذه الأفعال المتعلقة بمشيئته، ومعلوم أن نقل الإجماع على خلاف نصوصه ونصوص الأئمة من أبلغ ما يكون، وهذا كنقل غير واحد من المصنفين في العلم إجماع المسلمين على خلاف نصوص الرسول، وهذه المواضع من ذلك أيضاً، فإن نصوص أحمد والأئمة مطابقة لنصوص الرسول صلى الله عليه وسلم (2) .
ومعلوم أن بعض الحنابلة انحرفوا عن الإمام أحمد وأقواله، إما بميل إلى التشبيه بالاحتجاج بالأحاديث الضعيفة، أو ميل إلى الاعتزال والمذهب الأشعري، ومع ذلك فاتباع الإمام أحمد على العموم أكثر إثباتاً وإتباعاً للإمام أحمد من غيرهم من أتباع المذاهب الأربعة.
د - ولكن الأشاعرة يجيبون عما هو ثابت من ذم الشافعي وغيره لأهل الكلام بأن ذمهم إنما هو منصب على بدع القدرية ونحوهم أو أن فائدة علم الكلام
(1) كذا ولعل صحة العبارة: عن غير واحد.
(2)
الاستقامة (1/14-16) .
حراسة عقيدة العوام فقط. وغرضهم من ذلك أن لا يدخل في الذم الذين يقولون بدليل حدوث الأجسام، أو نفي حلول الحوادث وغير ذلك. وقد عرض شيخ الإسلام ابن تيمية لأقوالهم وتعليلاتهم وناقشها، ومن هؤلاء:
1 -
البيهقي الذي قال بعد ذكره لبعض الروايات عن الشافعي في ذك الكلام: " إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصا الفرد وأمثاله من أهل البدع، وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده "[ثم روى البيهقي بإسناده إلى ابن الجارود قال] : " دخل حفص الفرد على الشافعي، فكلمه، ثم خرج إلينا الشافعي فقال لنا: لأن يلقي الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول بخلق القرآن "(1) .
وقال البيهقي أيضاً: " وإنما ذم الشافعي مذهب القدرية، ألا تراه قال: بشيء من هذه الأهواء، واستحب ترك الجدال فيه، وكأنه سمع ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم - الحديث (2) ، أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه، وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه، فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على إثبات القدر لله تعالى، وإنه لا يجري في ملكوت السموات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته، وكذلك في سائر مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة
(1) مناقب الشافعي للبيهقي (1/454)، وقد نقله عنه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص: 341) ، ونقله شيخ الإسلام في درء التعارض (7/249-250) .
(2)
رواه أحمد (1/30) ، ورقمه عند أحمد شاكر (206) ، ورواه أبو داود عن الإمام أحمد، كتاب السنة، باب في القدر ورقمه (4710-4720) ، ط الدعاس، والبيهقي في السنن الكبرى (10/204) ، والحاكم في المستدرك - شاهداً - (1/85) ، وابن أبي عاصم في السنة رقم (230) ، وابن حبان في صحيحه رقم (79) ، انظر صحيح ابن حبان (1/148) ، تحقيق الحوت، وأيضاً (1/246) ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وحسين أسد، وضعفاه، كما ضعفه الألباني في تخريج السنة، وضعيف الجامع رقم (6306) ، لأن في سنده شريك بن حزام مجهول، أما أحمد شاكر فقد صحح الحديث في تحقيق للمسند، كما أنه وثق الحكيم ابن شريك في تحقيقه لصحيح ابن حبان (1/237) .
على إثبات القدر لله تعالى، وإنه لا يجري في ملكوت السموات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته، وكذلك في سائر مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم.." (1) ،
ثم يقول البيهقي: " وفي كل هذا دلالة على أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة، فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة، ويبين بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة، تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم "(2) ، وغير الشافعي كأبي الحسن الأشعري، وللبيهقي رسالة مشهورة في الدفاع عنه وعن خوضه في المعقولات وأنه قصد الدفاع عن عقيدة أهل السنة (3) .
2 -
ابن عساكر الذي قال في تبيين كذب المفتري: " فإن قيل: غاية ما تمدحون به أبا الحسن أن تثبتوا أنه متكلم، وتدلونا على أنه بالمعرفة برسوم الجدل متوسم، ولا فخر في ذلك عند العلماء من ذوي التسنن والاتباع، لأنهم يرون أن من تشاغل بذلك من أهل الابتداع، فقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم الكلام، ولو لم يذمهم غير الشافعي رحمه الله لكفى، فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم، وأنتم تنتسبون إلى مذهبه، فهلا اقتديتم في ذلك به "(4) ، ثم ساق ابن عساكر روايات ذم الكلام عن أبي يوسف وعن الشافعي نقلها عن ابن أبي حاتم في كتابه مناقب الشافعي، ثم روى ابن عساكر عن ابن أبي حاتم " ثنا الربيع، قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال: إما أن تجاورونا بخير، وإما أن تقوموا عنا "(5) . قال ابن عساكر معلقاً على هذه الرواية: "
(1) مناقب الشافعي للبيهقي (1/260-261)، ونقله عن ابن عساكر في التبيين (ص: 344) ونقله ابن تيمية في درء التعارض (7/250-252) ..
(2)
مناقب الشافعي للبيهقي (1/467)، والتبيين (ص: 351) ، ودرء التعارض (7/253) .
(3)
سبقت الإشارة إلى هذه الرسالة مع ذكر مصادرها (ص: 621)، وانظر: درء التعارض (7/78-101) .
(4)
تبيين كذب المفتري (ص: 333) ، ودرء التعارض (7/242-243) .
(5)
آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي (ص: 182)، والتبيين (ص: 336) ، درء التعارض (7/245) .
وقد بين زكريا بن يحيى الساجي في روايته هذه الحكاية عن الربيع: أنه أراد بالنهي عن الكلام قوماً تكلموا في القدر (1) ، ولذلك حكم بالتبديع، ويدل عليه ما أخبرنا [وساق بإسناده إلى يونس بن عبد الأعلى قال:] جئت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد فقال: غبت عنا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط، ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام " (2) ،
قال ابن عساكر: " فالشافعي إنما عني بمقالته كلام حفص القدري وأمثاله "(3) ، ثم أيّد هذا بنقول عن البيهقي في مناقب الشافعي - سبق نقل بعضها -.
فالبيهقي وابن عساكر يريان أن ذم الشافعي لأهل الكلام إنما عنيّ به القدرية، وسيأتي بعد قليل مناقشة ابن تيمية لهم.
3 -
الغزالي: وقد نقل في إحياء علوم الدين كلاماً طويلاً عن ذم السلف لأهل الكلام، وقد ذكر أولاً الخلاف فيه وأن الناس من قال: إنه بدعة محرم، ومنهم من قال: إنه واجب على الكفاية، والأعيان، وقال:" وإلا التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف.. "(4) ، ثم ذكر نماذج عديدة من أقوالهم في ذمه، وبعد أن ذكر رأي الطائفة الأخرى المجوزة وحججها (5) قال: فإن قلت فما المختار فيه فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه في كل حال أو بحمده في كل حال خطأ.. فالأولى والأبعد عن الالتباس أن يفصل، فنعود إلى علم الكلام ونقول: إن فيه منفعة وفيه مضرة، فهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام.
(1) ذكر هذه الرواية عن الساجي البيهقي في مناقب الشافعي (1/460) .
(2)
تبيين كذب المفتري (ص: 336) ، ودرء التعارض (7/245-246)، وانظر: آداب الشافعي ومناقبه (ص: 182) ..
(3)
التبين (ص: 237) ، ودرء التعارض (7/246) .
(4)
إحياء علوم الدين (1/94-95)، وانظر: درء التعارض (7/146) .
(5)
انظر الإحياء (1/94-95)، وانظر: درء التعارض (7/146-162) .
أما مضرته: فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، فذلك مما يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد الحق، وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه.
وأما منفعته: فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه (1) ، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد الغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى تناسب نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام، بل منفعته شيء واحد وهو: حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام، وحفظها عن تشويهات المبتدعة بأنواع الجدل " (2) .
هذه خلاصة أقوال بعض أئمة الأشعرية في علم الكلام المذموم، وقد ناقشهم شيخ الإسلام بما يلي:
1 -
أما البيهقي وابن عساكر فقد علق على أقوالهم ببيان أمرين:
"
أحدهما: أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام - كالبيهقي وابن عساكر، وغيرهما - وقد عرفوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام- ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع، وقالوا: إنما كان يعرف
(1) يلاحظ أن الغزالي يقول هذا الكلام بعد عزلته التي ارتضى فيها وبعدها طريق أهل الكشف والتصوف.
(2)
الإحياء (1/96-97)، وانظر: درء التعارض (7/162-164) .
في عصرهم بكلام أهل البدع، وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله، وإنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابهاً، وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث، وزعموا أن الأخبار التي حملت إليهم لا تصح في عقولهم، قام جماعة من أئمتنا، وبينوا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول، وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول، وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة.. " (1) ، ثم قال شيخ الإسلام: " وهذا اتفاق من علماء الأشعرية - مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف - على أن الكلام المذموم عند السلف، كلام من يترك الكتاب والسنة، ويعول في الأصول على عقله، فكيف بمن يعارض الكتاب والسنة بعقله؟ وهذا هو الذي قصدنا إبطاله، وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذي وافقوا المعتزلة في ذلك، وأما الرازي وأمثاله، فقد زادوا في ذلك على المعتزلة، فإن المعتزلة لا تقول: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، بل يقولون: إنها تفيد اليقين، ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء " (2) .
ولاشك أن متأخري الأشاعرة كان خوضهم في علم الكلام ومخالفتهم للكتاب والسنة أعظم وأشد من متقدميهم، وشيخ الإسلام بين أن هؤلاء قرروا أمرين: أحدهما: اتفاق السلف على أن علم الكلام مذموم، والثاني: أن من الكلام المذموم الاعتماد على أدلة العقول والقول بأن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين.
والأمر الثاني: أن البيهقي وابن عساكر زعما أن الشافعي قصد في ذم أهل الكلام حفصا الفرد لأنه قدري، وقد رد عليهم شيخ الإسلام بقوله: " قلت: حفص الفرد لم يكن من القدرية، وإنما كان على مذهب ضرار بن عمرو
(1) درء التعارض (7/273-274)، وقد سبق نقل هذه العبارات عنهم (ص: 252) ، وهي في مناقب الشافعي للبيهقي (1/461-462)، والتبيين (ص: 344-345) .
(2)
درء التعارض (7/274-275) .
الكوفي، وهو من المقبتين للقدر، لكنه من نفاة الصفات، وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية " (1) - ثم نقل عن مقالات شيخ الأشاعرة أبي الحسن الأشعري مذهب الضرارية، قال: " والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة قوله: إن أعمال العباد مخلوقة، وأن فعلاً واحداً لفاعلين: أحدهما خلقه وهو الله، والآخر اكتسبه وهو العبد، وإن الله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة، وهو فاعلون لها.. وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر: أنه ليس بجاهل ولا عاجز، وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه" قال الأشعري:" وقد تابعه على ذلك حفص الفرد وغيره "(2)، وقال شيخ الإسلام معلقاً:" قلت: فهذا الذي ذكره الأشعري من قول ضرار وحفص الفرد في القدر هو مخالف لقول المعتزلة، بل هو من أعدل الأقوال وأشبهها، وقوله إلى قول الأشعري وأصحابه في القدر والرؤية أقرب من قوله إلى قول المعتزلة، بل هو في القدر أقرب إلى قول أهل الحديث والفقهاء وسائل أهل السنة، وأعدل من قول الأشعري، حيث جعل العبد فاعلاً حقيقي، وأثبت استطاعتين، ونحو ذلك مما أثبته أئمة الفقهاء وأهل الحديث "(3)، ثم شرح شيخ الإسلام حقيقة عقيدة حفص الفرد الذي ذمه الشافعي فقال: " حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر، فهو من نفاة الصفات القائلين بأن الله تعالى لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل، وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض..
فإن القرآن كلام، والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال لا يقوم إلا بجسم، والجسم محدث، فكان إنكار الشافعي عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا، لم تكن مناظرته له في القدر، ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ مبيناً، فإن الناس كلهم نقلوا مناظرته له
(1) درء التعارض (7/246) .
(2)
مقالات الإسلاميين (ص: 281-282) ، - ت ريتر (10/313-314) ، عبد الحميد، ودرء التعارض (7/246-247) .
(3)
درء التعارض (7/247-248) .
في القرآن: هل هو مخلوق أم لا؟ (1) ، ثم أعاد شيخ الإسلام توضيح ذلك فيما بعد (2) .
فشيخ الإسلام بين أن ذم الشافعي لأهل الكلام ومناظرته ليس لأجل القدر - كما زعمه هؤلاء - وإنما لأجل بدعهم وتجهمهم في نفي الصفات، كما فعل ذلك الإمام أحمد وغيره، والجهمية والمعتزلة نفوا الصفات، وتبعهم الأشعرية في نفي ما يتعلق بمشيئة الله من صفات الأفعال، والخلاصة أن الشافعي ذم علم الكلام وأهله الذي تلبس به شيوخ الاشاعرة كابن كلاب والأشعري ومن سايرهم.
2 -
أما كلام الغزالي في الإحياء حول ذم الكلام، ورأي الغزالي في علم الكلام وهل فيه منفعة أو مضرة - فجاء تعليق شيخ الإسلام عليه من جانبين:
الجانب الأول: ما في شهادة الغزالي - على إجماع السلف على ذم الكلام - من الحق. يقول شيخ الإسلام: " فهذا كلام أبي حامد - مع معرفته بالكلام والفلسفة، وتعمقه في ذلك - بذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلامن ويذكر خلاف من نازعهم، ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد، امتنع أن يكون معارضاً لها، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضاً للكتاب والسنة وما كان من ذلك مناقضاً للكتاب والسنة وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين، لا من السلف والأئمة، ولا من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة، وما يقبل من ذلك وما يرد،
(1) انظر: درء التعارض (7/250) .
(2)
انظر: المصدر نفسه (7/275-278)، وفي النبوات (ص: 216) ، يقول شيخ الإسلام:" من الناس من يظن أنهم (أي السلف) إنما أنكروا كلام القدرية فقط كما ذكره البيهقي وابن عساكر في تفسير كلام الشافعي ونحوه - ليخرجوا أصحابهم من الذم - وليس كذلك، بل الشافعي أنكر كلام الجهمية كلام حفص الفرد، وأمثال هؤلاء كانت منازعتهم في الصفات والقرآن والرؤية لا في القدر".
وما يحمد وما يذم، وأن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء" (1) ، وكلام الغزالي - الذي سبق نقل بعضه قريباً - فيه شهادة كما يقول ممن خبر الكلام وغاص فيه وبلغ منتهى درجة المتكلمينن وشهادته لها وزنها وأهميتها.
أما الجانب الثاني: فشيخ الإسلام يعلق على قول الغزالي: " بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام "(2) ؛ بقوله: " وأما حراسة عقيدة العوام فيقال: أولاً: لابد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أخبر به لأمته، فأما إذا كان المحروس فيها ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به ليصدقوا به، ويكذبوا بنقيضه، ويعتقدوا موجبه، قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك، والرد على من يخالفه، فإذا كان المتكلم الذي يقول: أنه يذب عن السنة، قد كذب هو بكثير مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقد نقيضه؛ كان مبتدعاً مبطلاً، متكلماً بالباطل فيما يخالف خبر الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن ما وافق فيه خبر الرسول فهو فيه متبع للسنة، محق متكلم بالحق، وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم عن مخالفة السنة، ورد لبعض ما أخبر به الرسول، كالجهمية، والشمبهة، والخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة ".
"
ويقال بأنها لابد أن تُحرس السنة بالحق والصدق والعدل، ولا تُحرس بكذب ولا ظلم، فإذا رد الإنسان باطلاً بباطل، وقابل بدعة ببدعة كان هذا مما ذمه السلف والأئمة، وهؤلاء - كما ذكره أبو حامد - يدخلون في هذا وكلام السلف في ذم الكلام متناول لما ذمه الله في كتابه، والله سبحانه قد ذم في كتابه الكلام بالباطل، والكلام بغير علم، والأول كثير، وأما الثاني فقد
(1) انظر: درء التعارض (7/165) .
(2)
سبق نقل كلامه قريباً.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (لأعراف:33)، وقال تعالى:{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} (آل عمران:66)، وقال:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء:36)(1) .
والعقيدة التي أشار أبو حامد الغزالي إلى أنها عقيدة العوام وأنه ترجمها لهم هي التي ذكرها في الإحياء باسم " الرسالة القدسية " أو "قواعد العقائد"، وفيها كثير مما يخالف مذهب أهل السنة والجماعة، مما هو موافق لمذهب جمهور الأشاعرة، ولذلك قال شيخ الإسلام: يجب تمييز ما يوافق خبر الرسول مما يخالفه قبل حراسته التي ادعى الغزالي أنها مهمة علم الكلام.
هـ - أن السلف ذموا من الكلام الكلام المخالف للكتاب والسنة ولم يذموا جنس الكلام، كما لم يذموه لما فيه من الاصطلاحات الحادثة، وكثيراً ما يشير شيخ الإسلام إلى أن القرآن الكريم جاء بالدلائل العقلية والأمثلة المضروبة، وأن الصحابة والسلف ناظروا أهل الباطل، وبينوا ما في كلامهم من الفساد، كما أنهم قاموا بدعهم بمختلف الوسائل من منع وهجر، وتحذير للناس، ومناظرة.
يقول شيخ الإسلام: " وقد ظن بعض الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام وأهل الكلام كقول أبي يوسف.. [ونقل أقوال السلف المشهورة] .. وأمثال هذه الأقوال المعروفة عن الأئمة؛ ظن بعض الناس أنهم إنما ذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة، كلفظ الجوهر والجسم والعرض، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء (2) ، وغيره - وليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه،
(1) انظر: درء التعارض (7/182-183) .
(2)
انظر إحياء علوم الدين (1/95) .
فذموه لاشتماله على معانٍ باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً، ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك " (1)، ويقول أيضاً: والكلام الذي ذموه نوعان:
أحدهما: أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب، فإن أصدق الكلام كلام الله.
والثاني: أن يكون فيه مفسدة، مثل ما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن مجالسة أهل البدع، ومناظرتهم ومخاطبتهم، والأمر بهجرانهم، وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم، فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي (2) ، وكما كان المسلمون يفعلونه.. " (3) ، وبعد أن ضرب أمثلة أخرى يقول\ شيخ الإسلام: " والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال، وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة أخرى، وفي الجملة: جنس المناظرة والمجادلة: فيها محمود ومذموم، ومفسدة ومصلحة، وحق وباطل " (4) ، ومناظرات السلف لأهل البدع مشهورة وإمام أهل السنة " أحمد رضي الله عنه قد رد على الجهمية وغيرهم بالأدلة السمعية والعقلية، وذكر من كلامهم وحججهم ما لم يذكره غيره، بل استوفى حكاية مذهبهم وحججهم أتم استيفاء، ثم أبطل ذلك بالشرع والعقل " (5) .
(1) درء التعارض (1/232) .
(2)
سبق التعريف به وبقصته (ص: 56) .
(3)
درء التعارض (1/172) .
(4)
المصدر السابق (1/174) .
(5)
درء التعارض (7/149) ، ذكر أن عبد العزيز الكناني من مشاهير متكلمي أهل السنة.
وكثيراً ما يردد شيخ الإسلام في كتبه أن السلف ذموا الكلام لما فيه من الباطل المخالف للكتاب والسنة، أو لأن فيه رد بدعة ببدعة (1) .
ومسألة المصطلحات الحادثة سبق بيان منهج شيخ الإسلام فيها (2) ، والذي تعلق بالموضوع هنا ما يذكره بعض أهل الكلام من الأشاعرة ونحوهم من أن السلف من الصحابة وغيرهم وما واجهوا البدع الحادثة والمصطلحات التي جاء بها أهل الفلسفة ومن سلك سبيلهم، وأنهم لو أدركوا هذه المصطلحات لتكلموا فيها كما تكلم فيها المتأخرون، وهذا فيه مغالطة واضحة، ولذلك ناقشه شيخ الإسلام مفصلاً فقال:" قول القائل: " إن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا ذلك " (3) ،
فيه تفصيل: وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل، فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد، وطفرة النظام، وامتناع بقاء العرض زمانين، ونحو ذلك، فهذا لا يخطر ببال الأنبياء والأولياء من الصحابة وغيرهم، وإن خطر ببال أحدهم تبين له أنه كذب، فإن القول الباطل الكذب هو من باب مالا ينقض الوضوء، ليس له ضابط، وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل أنه باطل ودفع، وصار هذا كالنهي عن المنكر، وجهاد العدو، فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه، ومع هذا فلا يقطع على كل صحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل، ويعرفوا بطلانها، فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان، وكان بهذه البلاد من الكفار والمشركين والصابئين وأهل الكتاب من كان عنده من كتب
(1) انظر مثلاً: الصفدية (1/163) ، ودرء التعارض (1/178، 2/205-207،7/170/ 176، 181، 183، 184،8/408) ، ومجموع الفتاوي (3/306) ، والكيلانية، مجموع الفتاوي (12/460-461) ، والفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوي (13/147) ، وغيرها.
(2)
انظر: (ص: 297) ، وما بعدها من هذه الرسالة.
(3)
القائل هو ابن عقيل الحنبلي في جواب سؤال حول قراءة علم الكلام، حيث ذكر الجواهر الفرد، والطفرة، والأحوال، والخلاء والملاء والجوهر والعرض.. ثم قال:" فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه.." انظر درء التعارض (8/48)، وانظر: كلامه في تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 82) ، ط منيرية، وقد ذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوي (4/105) ، عن الرازي أنه يزعم في مواضع أن الصحابة لم يعلموا شبهات الفلاسفة وما خاضوا فيها..
أهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة، فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات، وبينوا بطلانها لمن سألهم، والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال، ويسألونه عن أنواع من المسائل، ويوردون عليه أنواعاً من الأسئلة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه ".
" والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة قد ناظروا أنواعاً من الجهمية أهل الكلام، وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل، ولكن من عرف طرق المناظرين لهم والمسائل التي ناظروهم فيها، علم ما كانوا يقولونه "، ثم يقول شيخ الإسلام - بعد مناقشة - " ففي الجملة: المعاني الصحيحة الثابتة كان الصحابة أعرف الناس بها، وإن كان التعبير عن تلك المعاني يختلف بحسب اختلاف الاصطلاحات. والمعاني الباطلة قد لا تخطر ببال أحدهم، وقد تخطر بباله فيدفعها أو يسمعها من غيره فيردها فإن ما يلقيه الشيطان من الوساوس والخطرات الباطلة ليس له حد محدود، وهو يختلف بحسب أحوال الناس " (1) .
وشيخ الإسلام - مما سبق - بين أنه يجب التفريق بين:
- الكلام المذموم، والكلام الحق الموافق للكتاب والسنة.
- المصطلح الحادث المخالف للكتاب والسنة، والمصطلح الحادث الذي لا يخالفهما.
- الجدال والمناظرة المذمومة التي ذمها السلف، والجدال والمناظرة التي أثرت عن السلف.
كما أنه يجب أن يعلم أن الحق واحد، واضح، ولذلك فهو معلوم، وأن الباطل متعدد، متنوع، يلتبس بالحق أحياناً، ولذلك فلا يمكن حصر أنواعه ومصطلحاته ووسائله في زمن أو مكان محدد.
و نعى شيخ الإسلام على المتكلمين من الأشاعرة حين ظنوا أن الفقه من باب الظنون، وأن علم الكلام من باب القطعيات، يقول: " إن طوائف كبيرة من أهل الكلام من المعتزلة.. كأبي علي، وأبي هاشم، وعبد الجبار،
(1) انظر: درء التعارض (8/51-54) .
وأبي الحسين وغيرهم، ومن اتبعهم من الأشاعرة، كالقاضي أبي بكر، وأبي المعالي، وأبي حامد، والرازي، ومن اتبعهم من الفقهاء يعظمون أمر الكلام الذي يسمونه أصول الدين، حتى يجعلون مسائله قطعية، ويوهنون من أمر الفقه الذي هو معرفة أحكام الأفعال، حتى يجعلوه من باب الظنون لا العلوم، وقد رتبوا على ذلك أصولاً انتشرت في الناس، حتى دخل فيها طوائف من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث، لا يعلمون أصلها ولا ما تؤول إليه من الفساد، مع أن هذه الأصول التي أدعوها في ذلك باطلة واهية.. ذلك أنهم لم يجعلوا الله في الأحكام حكماً معيناً، حتى ينقسم المجتهد إلى مصيب ومخطئ، بل الحكم في حق كل شخص ما أدى إليه اجتهاده، وقد بينا.. ما في هذا من السفسطة والزندقة، فلم يجعلوا لله حكماً في موارد الاجتهاد أصلاً، ولا جعلوا له على ذلك دليلاً أصلاً، بل إن ابن الباقلاني، وغيره يقول " (1) ، ثم ناقش بعض المسائل التي يوردونها في أصول الفقه ثم يقول: " والمقصود هنا ذكر أصلين هما: بيان فساد قولهم: الفقه من باب الظنون، وبيان أنه أحق باسم العلم من الكلام الذي يدعون أنه علم، وأن طرق الفقه أحق بأن تسمى أدلة من طريق الكلام. والأصل الثاني في بيان أن غالب ما يتكلمون فيه من الأصول ليس بعلم ولا ظن صحيح، بل ظن فاسد، وجهل مركب " (2) .
فأهل الكلام جعلوا أصولهم الكلامية - الخاطئة والتي يعارض فيها بعضهم بعضاً - أصولاً قطعية، وجعلوا أحكام الشرع من باب الظنون، وهذا قلب للحقائق. كما أن إدخالهم للمسائل الكلامية في أصول الفقه هو من الانحراف الذي ابتدعه أهل الكلام (3) .
ز - وأخيراً فإن من أهم ردود شيخ الإسلام على أهل الكلام وبيان ما فيه هذا العلم من الباطل أن شيوخه وأعلامه رجعوا عنه وحذروا منه، وهذه مسألة مهمة سيأتي تفصيلها في فقرة مستقلة ضمن منهجه العام في الرد على الأشاعرة.
(1) الاستقامة (1/47-49) .
(2)
انظر: المصدر السابق (1/54) .
(3)
انظر: المصدر السابق (1/50-69)، وانظر:" تنبيه الرجل العاقل " عن العقود الدرية لابن عبد الهادي (ص:33-35) .