الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة وأشهر رجالهم إلى عهد ابن تيمية
الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة
من الأمور المسملة لدى الأشاعرة وغيرهم أن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت في مسائل عديدة من مسائل العقيدة، وكل علم من أعلامهم حوت مؤلفاته ورسائله آراء توصل إليها إما باجتهاده أو تقليدا لأحد أعلام عصره أو مدرسته ممن تلقى على يديه العلوم والمعارف، فأصبح ذا منهج مستقل، ثم قد يرجع عن بعض أقواله في مؤلف أومؤلفات أخرى فتكثر الأقوال وتتعدد المناهج.
ويعتبر الأشاعرة مثل هذا الاختلاف أو التعدد في الأقوال اجتهادا داخل المذهب لا يؤثر عليه، ويجددون التفسير المناسب لمثل لذلك، فيقولون مثلا في بعض الصفات الخبرية، قال قدماء أصحابنا أو شيوخنا بإثباتها مع التفويض ونفي التشبيه، ثمن يذكرون القول الثاني بالتأويل تنزيها لله عن مشابهة المخلوقات، والقولان - عندهم - صحيحان ولا تعارض بينهما، والعجيب أن يتلقى الأشاعرة بعضهم عن بعض مثل هذا، لا يتوقفون عنده، ولا يثيرهم ما فيه من تناقض.
والحق أن التطور في المذهب الأشعري لم يكن في مسألة من المسائل بحيث لا يؤبه له، ولا يلفت النظر، بل كان تطورا في الأصول والمناهج، ويتعدى ذلك إلى مسائل عديدة في العقيدة، وقد كان أبرز مظاهر التطور في المذهب الأشعري ما يلي:
أ - القرب من أهل الكلام والاعتزال.
ب - الدخول في التصوف، والتصاق المذهب الأشعري به.
ج-- الدخول في الفلسفة، وجعلها جزءا من المذهب.
هذه أهم الخطوط العامة لما وقع من التطور فيه، وقد تكون هناك تطورات جزئية، لكنها تدخل ضمن أحد هذه الأمور، وهناك بعض الظواهر في المذهب الأشعري قد تلفت نظر المطلع، وذلك مثل ظاهرة ارتباط المذهب الشافعي الفقهي بالمذهب الأشعري، ومثله المالكي، ولكن هذه لا تعدو أن تكون دعوى يدعيها بعض المتحمسين للمذهب الأشعري، وأقرب الأمثلة على ذلك السبكي في طبقات الشافعية، فقد حاول أن يجعل من كتابه هذا ما يمكن أن يسمي بطبقات الأشعرية، ويلاحظ ذلك من يطلع على التراجم في هذا الكتاب وأسلوبه في عرض كل ترجمة، ولا شك أن المدارس النظامية وبعض أعلام الشافعية كان لهم أثر فيما يلمس من تبني جمهرة كبيرة من فقهاء الشافعية للمذهب الأشعري، ولكن ليس بهذه الصورة التي يدعيها هؤلاء، كما أنه ليس كل الحنابلة مثبتة على وفق مذهب السلف، بل فيهم أعداد مالت إلى مذهب الأشاعرة أو إلى ما هو أشد غلوا منه.
والجزم في مثل هذه الأمور - التي لا يمكن أن يحصر من لهم علاقة بها من الأعلام، على مختلف الأزمنة والأمكنة- نوع من المجازفة يأباها النظر الفاحص والتتبع الدقيق، ومع ذلك فظاهرة تبني بعض أعلام الشافعية للمذهب الأشعري مما لا ينكر.
وقد يرد في الذهن تساؤل عن أسباب حدوث هذا التطور في مذهب الأشاعرة، وهل كان المذهب يحمل في داخله دواعي مثل ذلك؟ ثم لماذا كان التطور في هذه الاتجاهات المنحرفة ولم يكن في الرجوع إلى مذهب السلف، والتخلي عن البقايا الكلامية والاعتزالية؟.
لعل في عرض النقاط التالية شيئا من التحليل والتعليل، والأمر قبل كل شيء بيد الله تعالى، فهو الذي يصرف قلوب عباده كما يشاء، ولو شاء لجمعهم على الهدى:
1-
إن الانحراف يبدأ في الغالب صغيرا، ثم يكبر، والمتتبع لأغلب المقالات، يجدها تبدأ صغيرة ثم يزداد انحرافها وغلوها مع الزمن، والمذهب الأشعري لما أن حوى منذ البداية انحرافا معينا سواء كان بالدخول في علم الكلام، أو تبني بعض آراء المعتزلة - وهذا كله مما يخالف مذهب السلف ومنهجهم -
أصبح قابلا للزيادة في هذا الانحراف من خلال التمادي في علم الكلام والتزام لوازم الأقوال الفاسدة، والاستسلام لبعض شبهات أهل الضلال، وعدم القدرة على رد باطلهم إلا بالتزام بعض الأقوال الفاسدة.
2-
كثرة مؤلفات مؤسسة أبي الحسن الأشعري، مع ما صاحب ذلك من كونه نشأ وعاش زمنا طويلا في ظل مذهب المعتزلة، وكان من آثار ذلك عدم استطاعته التخلص من المنهج الكلامي في عرض العقيدة، بل زاد على ذلك بأن التزم بعض أصولهم، وهذا كله بعد رجوعه، وقد كان من المفترض أن يكون رجوعه كاملا عن منهجهم وعقيدتهم إلى منهج وعقيدة السلف، لكن الذي وقع أنه ترك الاعتزال وتبني مذهب الكلابية، فإذا أَضيف إلى ذلك كثرة مؤلفاته ورسائله التي ألفتها بعد رجوعه واستخدامه في غالبها الاسلوب العقلي الكلامي، كما هو واضح في مثل كتابه " اللمع " وفي ما حواه كتاب ابن فورك " مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري "، مع تأخر كتابه الإبانة، وكونه كتابا واحدا في مقابل عشرات الكتب المنتشرة، فهذا يفسر ما وقع من تطور في مذهب الأشاعرة، مع قناعة أعلامهم بأنهم لم يخالفوا أقوال شيخهم الأشعري مخالفة أصولية (1) .
3-
إن المذهب لم يبن منذ البداية على منهج مؤصل؛ حيث لم يحدد له أصول واضحة في الاعتقاد أو كيفية التعامل مع النصوص، والأشعري في الإبانة كان صاحب منهج يختلف عن منهجه في كثير من كتبه، لذلك فالمذهب منذ البداية نشأ على التذبذب بين موافقة مذهب السلف، والرد على المعتزلة، وتأييد العقيدة بعلم الكلام، ولو نشأ المذهب واضح المعالم في الاستدلال للعقيدة أو الرد على المخالفين لكان ذلك مانعا من اجتهاد يأتي فيما بعد يؤدي إلى الانحراف، وهذا ما حدث بالنسبة لما كتبه أعلام السلف في ردودهم على الجهمية
(1) سبقت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن كتاب "المجرد" في آخر الكلام عن مؤلفات الأشعري، ويرى ابن بدران أن أتباع الشعري التقطوا مسائل كتبه التي رد بها على المعتزلة وجعلوها مذهبا له، وتركوا الإبانة التي صرح فيها بعقيدته، انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أزحمد (ص: 49-50) .
والمعتزلة، فعلى الرغم من المناقشات العقلية، والالزامات القوية للخصوم، في مؤلفات الأئمة مثل الإمام أحمد، والكناني، والدرامي، وابن قتيبة، وغيرهم، لم تؤد هذه الردود- التي بقيت وحفظت - إلى شيئ من الانحراف، بل على العكس كان لها دور في دعم مذهب السلف وإسكات خصومهم.
4-
رفض أهل السنة للمذهب الأشعري منذ البداية مما كان سببا في جعله مذهبا منعزلا عنهم، ولكا كان رفض أئمة الحديث والسنة له الأثر النفسي والواقعي في حياة الناس، حرص المتأخرون على الدفاع عن مذهبهم وعقيدتهم الأشعرية ودعمها بالأدلة، وبيان بعدها عن التشبيه والتجسيم الذي قد يصمون به أهل الإثبات، والمعارضة القوية من جانب علماء السلف لمذهب الأشاعرة ورمي معتنقيه - أحيانا - بأنهم نفاة ومعتزلة، يؤدي إلى ردود فعل نفسية من جانب هؤلاء فيؤدي إلى اتساع دائرة البعد بين الفريقين.
5-
ومن الأسباب أيضا فشو التقليد في أصول العقيدة وفروع الأحكام فقد يقلد شيخه في إحدى المسائل؛ ظنا منه أنه - وهو العالم المشهور- ما قال بها إلا هي حق، ثم يضطر في النهاية إلى التزام لوازم هذه المسألة، وقد تكون لوازم باطلة، لكنه التزمها التزاما لأصلها الذي أخذه تقليدا، وقد يكون شيخه قال بهذه المسألة بناء على وجه معين وهو يرفض لوازمها لو ألزمها.
6-
وهناك أسباب أخرى مثل الهوى، والتعصب لطائفة أو لمذهب، وحرص أهل الباطل على التفريق بين المسلمين بإثارة الفتن بينهم، وغيرها.
* * *
بعد هذه المقدمة ننتقل إلى عرض مجمل لترجمة ومنهج أهم أعلام الأشاعرة إلى عصر بان تيمية مع ذكر جوانب التطور التي حدثت في المذهب الأشعري عن طريقهم، وسيتم هذا العرض على المنهج التالي:
1-
الاقتصار على ذكر أعلام الأشاعرة الذي كان لهم دور في المذهب، وذلك من خلال مؤلفاتهم وكتبهم التي ساعدت على دعم أو تطوير المذهب الأشعري.
2-
لما كان كل علم من هؤلاء بحاجة إلى دراسة مستقلة- وكثير منهم كتبت عنهم مؤلفات ورسائل علمية - فسيقتصر العرض على مايلي:
- ترجمة موجزة للعلم، وأهم شيوخه وتلاميذه.
- آثاره العلمية المتعلقة بمذهب الأشاعرة.
3-
مجمل منهجه وعقيدته، وبيان جوانب التطور عنده إن وجدت، مع التركيز على بعض شخصيات الأشاعرة المشهورة.
* * *