الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ذلك رسائل مختلفة، وسرعان ما تشتهر وتنتشر بين الناس، وهذا بخلاف ابن كلاب الذي كانت مؤلفاته قليلة، ولم تكن تلقى قبولا بسبب موقف أئمة أهل السنة منه، بل وصل الأمر إلى أن يتستر الكلابية بما عندهم كما حدث لتلامذة ابن خزيمة الموافقين لابن كلاب، لم يستطيعوا أن يظهروا ما عندهم فضلا عن أن ينشروه أو يدرسوه.
5-
وأخيرا يأتي دور تلاميذ الأشعري، ومن جاء بعدهم من تلامذتهم في ترسيخ نسبة المذهب إليه في دروسهم وكتبهم، إضافة إلى دورهم في نشره والدفاع عنه، يقول القاضي عياض عن الأشعري: " فلما كثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه، وتفقهوا في طريقه (1) ، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة، فسموا باسمه، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم فعرفوا بذلك، وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمثبتة، سمة عرفتهم بها المعتزلة؛ إذا أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه، فبهذه السمة أولا كان يصرف أئمة الذب عن السنة من أهل الحديث كالمحاسبي، وابن كلاب، وعبد العزيز بن عبد الملك المكي، والكراسي، إلا أن جاء أبو الحسن، وأشهر نفسه، فنسب طلبته والمتفقهة عليه في علمه ونسبه، كما نسب أصحاب الشافعي إلى نسبة وأصحاب مالك وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة إلى أسماء أئمتهم الذين فكذلك أبو الحسن، وتفقهوا بطرقهم في الشريعة، - وهم لم يحدثوا فيها ما ليس منها - فكذلك أبو الحسن، فأهل السنة من أهل المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثني عليه غير واحد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقة (2) .
-
أسباب انتشار المذهب الأشعري:
لاشك أن مذهب الأشاعرة انتشر في أنحاء العالم الإسلامي، حتى كاد يستقر في بعض الأزمنة أن مذهبهم هو مذهب أهل السنة والجماعة، ومع
(1) هكذا في ترتيب المدارك.
(2)
ترتيب المدارك (5/25) -ط مغربية -.
أن هناك مواقف لكثير من العلماء من المذهب الأشعري إلا أن هذه المواقف كثيرا ما تأخذ شكل صراع مذهبي تنتقل بسببه القضية إلى إطار آخر، ومن ثم يكثر الخصام وتتعدد الاتهامات، ويحمل كل فريق على الآخر، ثم قد يصاحب البعض الهوي والتعصب المذهبي، فيزاد في الكلام وينقص، ويحمل على غير محامله، ويسيء كل طرف الظن بالطرف الآخر، ولذلك قلما تنتهي مناقشة من هذه المناقشات إلى اتفاق على رأي واحد يكون مبنيا على أسس سلمية من مذهب ومنهج أهل السنة والجماعة حيث يدعي الطرفان أنهم لا يخالفونه.
وهذا تفسير لما حدث، وإلا فالواجب أن يكون رائد كل مسلم الوصول إلى الحق بالأدلة الصحيحة. ومذهب أهل السنة والجماعة إنما هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومن ثم فعلى كل عالم أن لا يجعل الانتساب إلى طائفة أو جماعة - غير أهل السنة - شعارا له يفاصل عليه ويوالي ويعادي من أجله.
وقد يقول قائل: إذا كان مذهب الأشاعرة فيه ما فيه من هنات وعليه ما عليه من ملاحظات فلماذا انتشر في العالم الإسلامي؟ ولماذا تبناه جمهرة من جلة العلماء من أهل الفقه والحديث؟ يجيب على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من وجوه:
" أحدهما: كثرة الحق الذي يقولونه، وظهور الإثارة النبوية عندهم.
الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية، بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يمكن التمسك بالإثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه.
الثالث: ضعف الإثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات، والموضحة لسبيل الهدي عندهم.
الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث، تارة يروون مالا يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور" (1) .
أما أهم أسباب انتشار مذهب الأشاعرة في العالم الإسلامي فيمكن تلخيصها في الأمور التالية:
1-
أفول نجم المعتزلة، مع ظهور المذهب الأشعري كخصم لمذهبهم (2) .
2-
نشأة المذهب في حاضرة الخلافة العباسية " بغداد "، ولا شك أن أنظار الناس في شتى الأقطار تتجه في الغالب إلى دار الخلافة، ففيها الفقهاء والمحدثون والمقرئون، كما أنها من أهم البلدان التي يرحل إليها العلماء ليسمعوا الروايات أو يحدثوا فيها بمروياتهم، فلما نشأ المذهب الأشعري في بغداد وهي على هذه الحالة كثر المتلقون لهذا المذهب، الناقلون له إلى كل مكان، وهذا - مثلا - بخلاف مذهب الماتريدي الذي نشأ في زمن الأشعري لكنه كان في بلاد ما وراء النهر فلم ينتشر كانتشار المذهب الأشعري (3) .
3-
تبني بعض الأمراء والوزراء لمذهب الأشاعرة واحتضان رجالهم له، ومن أبرز هؤلاء:
- الوزير نظام الملك (4) ، الذي تولى الوزارة لسلاطين السلاجقة، فتولى الوزارة لالب أرسلان وملكشاة مدة ثلاثين سنة، من سنة 455-485هـ،
(1) مجموع الفتاوي (12/33) .
(2)
انظر علم الكلام: الأشاعرة (ص: 68) .
(3)
انظر علم الكلام: الأشاعرة (ص: 28) .
(4)
اسمه الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي، أبو علي، ولد سنة 408هـ، وقتل سنة 585هـ، انظر: الروضتين (1/25) ، والمنتظم (9/64-68) ، وطبقات السبكي (4/309-328) ،
والسلاجقة جاءوا على أثر البويهيين الشيعة الذين كانوا يوالون الدولة الفاطمية الباطنية، ولما استولى السلاجقة على بغداد وقضوا عليهم سنة 447هـ لم تمض سنوات قليلة حتى حدثت فتنة البساسيري - أحد القواد الأتراك الموالين لبني بويه - وكان ذلك سنة 450 هـ، وكان من آثارها أن احتل بغداد وأعلن الخطبة للخليفة المستنصر بالله العلوي العبيدي، وأمر بأن يؤذن بحي على خير العمل، وعزل الخليفة العباسي القائم بأمر الله وكتب عليه عهدا أن لا حق له في الخلافة ولا لبني العباس وأرسل العهد إلى الخليفة الفاطمي في القاهرة، وقد استمرت فتنة البسايري سنة كاملة حتى قضي عليها السلاجقة وأعيد الخليفة العباسي. لذلك جاءت دولة السلاجقة لتنصر أهل السنة ضد أهل الرفض والبدعة، والوزير نظام الملك من اعظم وزرائهم أثرا وخطرا وكانت له جهود عظيمة في حرب الحركات الباطنية والإسماعلية وتحدث عنها طويلا في كتابه المشهور سياست تامة أو سير الملوك (1) ،
ومن أهم آثاره المدارس النظامية التي أنشئت في مدن عديدة منها: البصرة، أصفهان، وبلخ، وهراة، ومرو، والموصل، وأهمها وأكبرها المدرسة النظامية في نيسابور وفي بغداد، وقد جعلهما مع أوقافهما وقفا على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا (2) ، وكان نظام الملك معظما للصوفية وللقشيري والجويني وغيرهما من أعلام الأشعرية، وقد كان هؤلاء يلقون دروسهم في هذه المدارس على المذهب الشافعي، ويدرسون أصول العقيدة الأشعرية، فكان لذلك دور عظيم في نشرها (3) .
- المهدي بن تومرت، مهدي الموحدين، توفي سنة 524 هـ، فقد دعا إلى المذهب الأشعري وتبناه وكان له دور عظيم في نشره (4) .
(1)(ص: 234) - وما بعدها - وانظر عن فتنة البساسيري: الكامل (9/640-650)، والتاريخ الفارقي (ص: 152) ، وتاريخ دولة آل سلجوق (ص: 16-20) ، وزبدة التواريخ للحسيني (ص: 59-63) ، وسياسة الفاطميين الخارجية (ص: 179) ..
(2)
انظر: المنتظم (9/65-66)، وتاريخ الفكر الفلسفي -أبو ريان:(ص: 213)، والتاريخ السياسي والفكري للمذهب السني (ص: 211-234) .
(3)
انظر: المنتظم (9/65) ، وطبقات السبكي (4/316) .
(4)
انظر: المعجب (ص: 275) ، والخطط للمقريزي (2/358) ، وظهر الإسلام (4/97-98) .
ج-- نور الدين محمود بن زنكي، الذي جاهد الصلبيين، وقد ولد سنة 511 هـ وتوفي سنة 569هـ (1) ، وكان من آثاره أنه بنى أكبر دار للحديث في دمشق ووكل مشيختها إلى ابن عساكر صاحب " تبيين كذب المفتري"(2) ، كذلك أنشأ في حلب سنة 544هـ المدرسة النفرية النورية، وكانت للشافعية، وتولى التدريس فيها قطب الدين مسعود بن محمد النيسابوري (3) ، وكان أحد أساتذة المدرسة النظامية في نيسابور، وكان أحد أعلام أهل الكلام على المذهب الأشعري، وفي عهد نور الدين بدأت صلة قطب الدين مسعود بصلاح الدين الأيوبي، وتوثقت فيما بعد - كما سيأتي -.
ولا شك أن لهذه المدارس، والمدارس النظامية (4) ، متمثلة بأولئك العلماء الذين درسوا فيها أثرا عظيما في مقاومة التيار الباطني الإسماعيلي، ومعلوم أن من أعظم آثار نور الدين وصلاح الدين القضاء على الدولة الفاطمية الباطنية في مصر، حيث حلت محلها دولة سنية حكمها صلاح الدين الأيوبي نائبا لنور الدين ثم مستقلا بعد وفاته رحمهم الله.
د- صلاح الدين الأيوبي: يقول المقريزي: " وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعي من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عرفت بالشريفية"(5)،ثم يقول عن المذهب الأشعري: " فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح
(1) انظر: في ترجمته: الكواكب الدرية في السيرة النووية لابن قاضي شهبة (ص: 15) ، وما بعدها، والروضتين (1/28) وما بعدها، والتاريخ الباهر (ص: 95) وما بعدها.
(2)
انظر: التاريخ السياسي والفكري (ص: 261) .
(3)
انظر: المصدر السابق (ص: 252) ، وقطب الدين مسعود سبقا ترجمته.
(4)
لكن المدارس النظامية كانت خاصة بالشافعية فولد ذلك أنواعا من التعصب بينهم وبين الحنفية والحنابلة، أما المدارس التي أنشأها نور الدين وصلاح الدين فكانت متنوعة.
(5)
الخطط للمقريزي (2/343) .
الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني (1) ، على هذا المذهب قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك (2) ، وإذا كان قطب الدين مسعود قد ألف لصلاح الدين عقيدة (3) ، فإن الفخر الرازي قد ألف كتابه المشهور " أساس التقديس " - الذي نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية- للملك العادل محمد بن أيوب بن شادي أخو صلاح الدين. المتوفى سنة 615 هـ (4) ،
أما ابنه الأشرف بن العادل فقد مال إلى الحنابلة وأهل السنة في العقيدة، وجرت بينه وبي العز بن عبد السلام- وهو أشعري - مناقشة ومحنة طويلة (5) .
4-
ومن أسباب انتشار المذهب الأشعري أن جمهرة من العلماء اعتمدوه ونصروه، وخاصة فقهاء الشافعية والمالكية المتأخيرن (6)، والأعلام الذين تبنوه: الباقلاني، وابن فورك، والبيهقي، والإسفراييني، والشيرازي،
(1) وهو: مؤلف رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري - سبقت الإشارة إليها.
(2)
الخطط (2/358)، وانظر خبيئة الأكوان (ص: 48) ، ونظريات شيخ الإسلام، لاوست (1/141-142)، وابن تيمية لأبي زهرة (ص: 25) .
(3)
انظزر سيرة صلاح الدين لابن شداد (ص:7) ، وطبقات السبكي (7/297) .
(4)
انظر أساس التقديس (ص: 3) ، وسير أعلام النبلاء (22/120) ..
(5)
انظر طبقات السبكي (8/218)، والتاريخ السياسي والديني (ص: 298) .
(6)
ومن المعلوم أن أبا الحسن الأشعري تجاذبه أصحاب المذاهب الأربعة، ولذلك ترجم له في طبقات الشافعية والمالكية والحنفية، أما الحنابلة فقد صرح هو في مقدمة الإبانة بانتسابه إلى إمام أحمد في الأصول.
والجويني، والقشيري، والبغدادي، والغزالي، والرازي، والآمدي، والعز ابن عبد السلام، وبدر الدين ابن جماعة، والسبكي، وغيرهم كثير، ولم يكن هؤلاء أشاعرة فقط، بل كانوا مؤلفين ودعاة إلى هذا المذهب، ولذلك ألفوا الكتب العديدة، وتخرج على أيديهم عدد كبير من التلاميذ.
كما انتشر في أنحاء عديدة بواسطة هؤلاء، ففي الحجاز انتقل إليه المذهب الأشعري بواسطة أبي ذر الهروي (1) ، كما انتقل عن طريقه إلى المغرب عن طريق المغاربة الذين كانوا يأتون إلى الحج، وكان ممن له أثر في نشره في المغرب بين المالكية أبو بكر الأبهري، والباقلاني وتلامذته (2) ، والباجي وابن العربي (3) ، وغيرهم، كما دافع كل من ابن أبي زيد القيرواني، وأبي الحسن القابس عن الأشعري (4) .
ويذكر المقريزي أنه قد انتشر في العراق نحو سنة 380هـ وانتقل منه إلى الشام (5) ، وممن انتشر على يديه في الشام أبو الحسن عبد العزيز بن محمد الطبري المعروف بالدمل (6) .
وفي العصور المتأخرة كان لتبني كثير من دور العلم والجامعات عقيدة ومذهب الأشاعرة دور في نشره، ومن أهمها الجامع الأزهر في مصر مع ماله من مكانة علمية في العالم الإسلامي.
(1) انظر: صون المنطق (1/122) ، ودرء التعارض (1/271، 2/101) .
(2)
انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 120، 121، 410)، والتطور المذهبي بالمغرب (ص: 28-30) .
(3)
انظر: نشأة الفكر الفلسفي- النشار (1/284) .
(4)
انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 123-124)، ولأبي نصر السجزي في رسالة من أنكر الحرف والصوت تعليق معهم على ذلك (ص: 298-304) .
(5)
انظر: الخطط (2/358) .
(6)
انظر: التبيين (ص: 195) .
هذه أهم أسباب انتشار المذهب الأشعري، وهي تدل على مدى تغلغل هذا المذهب بين الناس، وإن كانت الجمهرة الغالبة للمسلمين تؤمن بهذا الدين وعقيدته بإجمال وتعظم السلف ومنهجهم، لأنه لا تعرف المداخل الكلامية والقضايا العقلية التي يعتمدها أهل الكلام.